قدوة القيادة في الإسلام 37
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة السابعة والثلاثون:
مشاركة القائد لجنوده ، وعملُه معهم
د. فوّاز القاسم / سوريا
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً بين جنوده وإخوانه طيلة حياته المباركة .
لم يتعرضوا لأمر ، أو يعملوا عملاً ، إلا كان معهم ، ومشاركاً لهم .
ولم يكن حضوره لمجرًد قصّ الشريط ، ووضع حجر الأساس ، والإيذان ببدء المراسيم ، على أنغام النشيد الوطني .
ثم يغسل يديه الناعمتين ، وينفض عن بدلته الأنيقة ما علق بها من غبار ، وسط تصفيق الجماهير المحتشدة ..! لا …أبداً …
إنما كان حضوره ليشارك فعلاً ، ولقد كانت له حصة مستقلة من الأعمال التي يكلف بها إخوانه ، بل كان يستأثر بالمهام الصعبة ، والأعمال الشاقة ، التي يعجز عنها أصحابه .!
ففي بناء المسجد الشريف ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً مشاركاً ..
قال ابن اسحاق : … فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغِّب المسلمين في العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، ودأبوا فيه ، فقال قائلهم :
لئن قعدنا والنبيُّ يعملُ لذاك منَّا العملُ المضَلِّلُ
وكان المسلمون يرتجزون وهم يعملون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعمل ويرتجز معهم :
لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة اللهم ارحمِ الأنصارَ والمهاجرة .
وفي حفر الخندق يوم الأحزاب ، كان معهم كذلك ، ولقد كان حضوره بينهم ، ومشاركته لهم ، دافعاً عظيماً للعمل والثبات والطمأنينة ، في ظروف عصيبة لا يمكن لأي قلم أديب ، أو أية ريشة فنان في الدنيا ، أن تصورها ، بأروع مما صورها به القرآن العظيم ، إذ قال : (( إذ جاؤُوكم من فوقكم ، ومن أسفلَ منكم ، وإذْ زاغتِ الأبصارُ ، وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ ، وتظنُّون بالله الظنونا ، هنالك ابتُلي المؤمنون ، وزلزلوا زلزالاً شديداً )). الأحزاب (10)
ففي مثل هذه الظروف المُزَلزِلة يلمع دور القائد …
ويكون حضوره بين إخوانه ، ومشاركته لهم ، رسول طمأنينة وثبات لتلك القلوب الخائفة ، والنفوس المُزَلزَلَة …
قال ابن هشام : فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أي بالأحزاب ) ، وما أجمعوا له ، ضرب الخندق على المدينة …
وعمل فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ترغيباً للمسلمين في الأجر ، وعمل معه المسلمون ، فدأبَ ودأبوا …
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يداعبهم أثناء العمل ، ليخفف عنهم أعباءه .
قال ابن إسحاق : وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه ، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين ، يُقالُ له جُعَيْل ، سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً ، فكانوا يرتجزون :
سمّاهُ من بعد جُعَيْلٍ عمراً وكان للبائسِ يوماً ظهراً
وكانوا كلما مرّوا بكلمة عمرو ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عمراً … وكلما مرّوا بكلمة ظهر ، قال : ظهراً … وهكذا …
ولقد ذكرنا أنهم كانوا يلوذون به كلما اعترضتهم مسألة صعبة ، أو واجهتهم مشكلة مستعصية .!
قال ابن إسحاق : بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدث :
أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كِدْية ، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا بإناء من ماء ، فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية ، فوالذي بعثه بالحق نبياً ، لانهالت ( تفتّت ) ، حتى عادت كالكثيب ، لا تردُّ فأساً ولا مسحاة .!
وقال أيضاً : وحُدِّثت عن سلمان الفارسي أيضاً ، أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلُظت عليَّ صخرةٌ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منّي ، فلما رآني أضرب ، ورأى شدّة المكان عليّ ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة ، لمعت تحت المعول برقةٌ ؛ قال : ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى ؛ قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى .
قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب !؟ قال : أوقد رأيت ذلك يا سلمان ؟
قال : قلت : نعم ؛ قال : أما الأولى فإن الله فتح عليَّ بها اليمن ؛ وأما الثانية ، فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب ؛ وأما الثالثة ، فإن الله فتح عليَّ بها المشرق .
قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم ، عن أبي هريرة ، أنه كان يقول ، حين فُتحت هذه الأمصار في زمان عمر ، وزمان عثمان ، وما بعده ، افتتحوا ما بدا لكم ، فو الذي نفس أبي هريرة بيده ، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة ، إلا وقد أعطى الله سبحانه ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، مفاتيحها قبل ذلك .
هشام 2 (216)
ولم يكن يشارك الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، أصحابه في الأعمال العامَّة فقط ، بل كان يشاركهم في الأعمال الخاصة أيضاً ، فلقد كان يشرف بنفسه على إنزال أصحابه في منازلهم ، ويشاركهم في أعمالهم ، ويراعي الضرورات الأمنية في سكنهم . طبقات ابن سعد ، (3/108)