هل تذوقت متعة السرقة الحلال؟؟
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء) أن مالك بن دينار دخل عليه لص، فما وجد ما يأخذ من متاع الدنيا، فناداه مالك: لم تجد شيئا من الدنيا، فترغب في شيء من الآخرة ؟ قال: نعم.
قال: توضأ، وصل ركعتين، ففعل ثم جلس، وخرج معه إلى المسجد، فسئل مالك: من ذا ؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه.
إن ممارسة السرقة الحلال بالمفهوم الذي مارسها به مالك بن دينار رحمه الله، من أنبل مهام العبد المؤمن الذي أدرك غايته في الحياة، وأشرف المقامات التي ينال بها شرف الإتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويسلك بها السبيل الأقوم الذي ارتضاه الله عز وجل له ولأمته حيث قال:((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ))(يوسف:108).
لذلك كان الحرص على هداية الناس، والرغبة الصادقة في إنقاذهم من مهاوي الضلالة ، وبراثن الغواية، ودركات الغفلة، وفورة الشهوة، وورطة الشبهة، وظلمة المعصية، والانتقال بهم إلى نور الإيمان، وجمال الإحسان، وجلال الهداية، وصدق اليقظة، وسمو التوبة، وبركة الطاعة، وتنبيههم من رقدة الغافلين، وانخراطهم في قوافل السائرين إلى الله، من الخصال التي ميزت حياة النبي الهادي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه بأنه:((عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))(التوبة: 128)
وقد كان يشتد هذا الحرص به صلى الله عليه وسلم حتى يشفق عليه مولاه عز وجل ويقول له:((فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) (فاطر: 8)، ويقول له كذلك:((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا))(الكهف: 6).
وقد تجلى هذا الحرص في العديد من المواقف النبوية الكريمة، من بينها موقفه من ذلك الشاب اليهودي كما روى أنس رضي الله عنه أنه:((كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار))( رواه البخاري)، وفي رواية للبيهقي:((الحمد لله الذي أنقذه بى من النار)) .
وأيضا موقفه من قبيلة دوس عندما رجع إليه الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه يائسا من إيمانهم بعدما أرسله إليهم ليدعوهم إلى الإسلام فآذوه ولم يستجيبوا له، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، فرفع يديه إلى السماء فقال الصحابة عليهم الرضوان: هلكت دوس ــ وهم يعتقدون أنه سيدعو عليهم استجابة لطلب الطفيل ــ، لكن الحرص النبوي على هداية الآخرين كان أسبق مما اعتقده الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم أهد دوسا وآت بهم(رواه البخاري)، وكان الأمر كذلك.
وقد كانت مواقف الحرص النبوي هذه القائمة على منهج ((الحمد لله الذي أنقذني به من النار)) أكثر من أن تحصى في سيرته صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة المهداة الذي جاء أصلا لهداية الناس، وأرسل لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وكل فرد من أمته يكون نصيبه من ميراث النبوة بقدر ما يملك من رصيد من هذا الحرص المحمدي على هداية الناس وإيمانهم وأوبتهم إلى الحق، وتوبتهم من ضلالهم، وتطليقهم لحياة الجاهلية والغواية والشقاء، وإنقاذهم من النار.
هذا الحرص المصحوب بالكثير من الإصرار والمثابرة دون إصدار الأحكام المسبقة بهلاك الناس، واليأس من إصلاحهم وصلاحهم لمجرد كثرة تماديهم في معاصيهم، فقد ورد في الحديث:((إذا قال الرجل:هلك الناس فهو أهلكهم))(رواه مسلم) ، لأن:((القلوب ــ كل قلوب بني آدم ــ بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء))(رواه الترمذي) كما ورد في الحديث الآخر، ولأنه:((لن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة.. ولكننا لا نطلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرة الحب)) كما قال سيد رحمه الله.
ــ ولعل من صور هذا الحرص الذي هو من قبس النبوة البعيد عن اليأس من هداية الناس والجزم بهلاكهم، ما فعله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع التابعي الكوفي الثقة أبو عبد الله زاذان الكندي الذي كان يشرب المسكر ويضرب بالعود ويغني بالدف، وكان حسن الصوت ــ أي كان مغنيا أو فنانا بمصطلحات العصر ــ ولكن رغم ذلك لم يقل ابن مسعود عنه أنه مادام كذلك والبيئة الفاسدة التي هو فيها فهو ميؤوس من صلاحه وتوبته، ومن المستحيل سرقته السرقة الحلال ــ بمفهوم مالك بن دينار ــ من وسطه الموبوء الذي هو فيه، وأن مجرد المحاولة معه غير مجدية، وإنما لامس الناحية الخيرة ــ التي تحدث عنها سيد قطب ــ في أعماقه بروح الداعية الحريص، ولم يقطع حبل الأمل من إمكانية توبته ورجوعه إلى الحق، فقال له يوما وهو سادر في غيه يداعب عوده ودفه ويتباهى بصوته الحسن في الغناء: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله، فكان لهذه الكلمة الصادقة الهادئة الهادية الهادفة وقع السحر على نفس الرجل وقلبه وعقله، فكانت التوبة بحيث تاب من ضرب العود وكسره، ولازم من كانت توبته على يديه(ابن مسعود) حتى صار إماما في العلم.
ــ ومن صور هذا الحرص كذلك ما رواه عبد العزيز بن يوسف حين قال: لما أردت الخروج من البصرة ودّعت زهير بن نعيم الباني ــ وكان في مسجدها ــ فقلت له: هل من حاجة(رغبة في خدمته)؟
قال: نعم، إلا أنها مهمة
قال: ففرحت
فقال: اتق الله، فوالله لأن يتقيه عبد أحب إلي من أن تتحول لي هذه السواري كلها ذهبا.
ــ ومن صوره الجميلة أيضا ما روي عن الإمام إبراهيم النخعي الذي كان أعورا وتلميذه سليمان بن مهران الذي كان أعمش ضعيف البصر، فقد سارا يوما في أحد طرقات الكوفة يريدان الجامع، وبينما هما يسيران في الطريق قال الأمام النخعي لتلميذه: يا سليمان هل لك أن تأخذ طريقا وآخذ طريقا آخر؟
فإني أخشى إن مررنا بسفهائها(الكوفة) ليقولون:أعور ويقود أعمشا، فيغتابوننا فيأثمون.
فقال سليمان: يا أبا عمران وما عليك في أن نؤجر ويأثمون؟
فقال الإمام النخعي: يا سبحان الله، نسلم ويسلمون خير من أن نؤجر ويأثمون.
حيث جسد الإمام النخعي يهذا الموقف الجليل القائم على منهج:((نسلم ويسلمون)) المنبثق عن منهج :((الحمد لله الذي أنقذه بى من النار)) سماحة الداعية الحريص على سلامة الآخرين ــ وإن كانوا من السفهاء ــ وعدم إتاحة الفرصة لهم كي يأثموا بسببه وإن كان له في إثمهم وتجاوزهم في حقه الأجر والثواب.
بعد هذه الصور الرائعة التي أردنا أنم تكون نماذجا فقط للكثير من أمثالها التي تزخر بها كتب التراجم والسير، وذلك للتأصيل العملي للمسألة التي نحن بصددها، ودعوة للتأسي والإقتداء لكل من حمل ويحمل ويحلم أن يحمل لواء دعوة رب العالمين، ليمتلك هذه الروح السمحة الحريصة الحانية الباحثة بإخلاص عن خلاص الآخرين، والمنقبة عن نواحي وبذور الخير في نفوس الناس للمسها وتنبيهها وسقيها وتنميتها وتحريكها ووصلها بالشاحن الإيماني لتقوى وتظهر وتتضاعف وتطغى عن النواحي السلبية، وفتح أبواب الأمل أمامهم لينخرطوا في قوافل التائبين المقبلين على الله بحب وصدق، لتشملهم رحماته وألطافه ونفحاته كما شملت غيرهم من قبلهم، ليرتفعوا من دركات الحيرة والشقاء إلى مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
ليقوم كل من له علاقة بالدعوة إلى الله في ضوء هذه الصور من الحرص الدعوي والسرقة الحلال بجرد حساب مع نفسه ليجيب بصدق عن التساؤلات التالية:
ــ كم نصيبه من هذا الحرص الدعوي المبارك على هداية الناس، والرغبة الصادقة والحرقة الدافعة في ردهم إلى الله ردا جميلا؟؟؟
ــ وكم في رصيده ــ حقيقة لا إدعاء ــ ممن سرقهم سرقة حلالا على مذهب مالك بن دينار، فتابوا على يديه، وعرفوا طريق الحق بسببه بعد الله عز وجل، والتحقوا بالدعوة عن طريقه، وطلقوا حياة العبث والضياع بمبادرة منه؟؟؟
ــ وكم مرة في حياته الدعوية تذوق طعم:((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم))(رواه البخاري)، وهو يعلم يقينا أن هناك من تذوقها في هذا العصر ملايين المرات؟؟؟.