وادي العِشْق .. !
محمد عبد الشافي القوصي
لقد كنتُ حريصاً -غاية الحرص- على ملاقاة الخضر!
وحرّضتني نفسي اللوّامة بمواصلة السيْر، أملاً في الوصول!
لكن هذه المرة كانت السماء ممطرة، فلم يحتمل جسدي النحيل شدة العواصف، وتساقط الثلوج .. ففزعتُ إلى ركنٍ بعيد .. حتى أظلم الأفق، وأرخى الليل أسداله .. فانتابتني رعشة شديدة .. وإذا بصوت باكٍ حزين، يقول:
ولـمّـا ذكرتُ الحبَّ قالت وما الحبّ حتى يُلْصَقَ الجلدُ بالحشا وتـهـزلَ حتى لا يُبقِي لكَ الهوى | كذَبْتنيألـسـتُ أرى منكَ العظامَ كواسيا وتـخـرسَ حتى لا تُجيب المناديا سـوى مُـقْلةً تبكي بها وتناجيا ! |
فنظرتُ من وراء الكثبان الرملية العالية؛ فإذا بشاب بهيّ الطلعة، جميل المُحيّا، وما القمر إلا قطعة من وجهه .. رأيتُ الدموع تتقاطر على وجنتيْه، كأنها حبات اللؤلؤ .. وكان مرتدياً ثوباً خفيفاً جداً، ومسبحته تكاد تلامس الأرض!
قلتُ له: ألا تُبالِ ببرودة الجو؟
قال: حرارة الشوق تذيب الثلج!
قلتُ: ألا تخشى على نفسكَ يا مسكين؟
فقال: لا تشغل نفسك .. إنّي تحصّنتُ بحماية كفاية وقاية حقيقة برهان حِرز أمان لذّة مناجاة ]أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ[!
ثم سألته: ما اسم هذا المكان؟
قال: أنتَ في وادي العِشْق!
ظننتُ أنه يهزأ، فقلتُ: وأين هم العشّاق؟
فقال: ها هي ساحة (ابن الفارض) وعلى مقربة منها روضة (الجُنيْد البغدادي)! ثم أشار بيمينه، وقال: كانت (رابعة) هناك .. قبل أن تذهب إلى خلوتها البعيدة!
قلتُ: وأين (ابن عربي) إذن؟ فبدتْ عليه ابتسامة، وقال: الشيخ الأكبر يسكن في آخر الوادي .. ومنذ قليل؛ كان في صحبته (أبو الحسن الشاذلي، وجلال السيوطي، والشعراوي)!
قلتُ متعجباً: أأنت تعرف الشيخ الشعراوي؟!
فضحك حتى أضحكني معه، وقال: منذ سنين بعيدة؛ وهو يرتاد مجلسي لأُعلّمه تفسير ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[!
فصحتُ به: من أنتَ الذي وجهكً لا يأتي إلا بالخير؟
فطأطأ رأسه، وقال بتواضع شديد: أنا أستاذ (إبراهيم بن أدهم)!
فوقعتُ على وجهي هائماً، فحملني من على الأرض، وفجأة ... وجدتُ نفسي في الحضرة!
وما إنْ فتحتُ عينيّ .. فإذا بمئات، بلْ آلاف العبّاد والزهّاد الذين يشع النور من وجوههم، كأنهم ملائكة مقرّبون!
* * *
لقد رأيتُ هناك ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت .. الكلّ مشغول بالذكر والاستغفار، والتسبيح والتحميد والتهليل ... ثم وقف رجل منهم يقال له (السيد أحمد البدوي) فسكت الجمع عن بكرة أبيهم، وراحوا يردّدون وراءه صلوات كثيرة، لم أتذكّر منها إلا هذا المقطع:
]اللهمّ صَلِّ على سيّدنا مُحمّد بحر أنواركَ ومعدنِ أسراركَ ولسانِ حُجّتكَ وعروس مملكتكَ وإمام حضرتكَ وطِراز مُلْكِكَ وخزائن رحمتكَ وطريق شريعتكَ المتلذّذ بتوحيدكَ إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود عين أعيان خَلْقِكَ المُقدَّمِ من نور ضيائكَ صلاةً تدوم بدوامكَ وتبقى ببقائكَ لا منتهىَ لها دون عِلْمكَ صلاةً ترضيكَ وترضيهِ وترضى بها عنّا يا ربَّ العالمين[!