(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)

(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)

(1)

محمد رحماني

www.islamrahmani.jeeran.com

غبر الزمان عن أمور كانت تملك ناصية العقل وزمام اللسان ، تمشي بين أفواه الناس وكأنْ ليس لهم غيرها ، تقام لها المحافل والمجامع ، وتعقد من أجلها حلقات أهل العلم حول اسطوانات المساجد ، وهاهي اليوم وكأنها ما كانت تجول وتصول في حياة الناس ، وكم من العلماء من أوذوا في سبيل دحضها فأصبحت سلفا ومثلا للآخرين ، وتلك إن فكّر الإنسان حكمة الله Y في أرضه ، وسُنَّتُهُ التي قد خلت في عباده ، ابتغى من خلالها تمحيصَ الخبيث عن الطيب والعاملِ له والمخلصِ لغيره ، حتى يقول له يوم تمور السماء مورا وتصير الجبال كالعهن ] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ [ (2) « إِنَّكَ مَا عَمِلْتَ هَذَا لِوَجْهِي وَلاَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي فَاذْهَبْ إِلَى مَنْ كُنْتَ تُحَبِّرُ لَهُ الأَقْوَالَ وَتُزَيِّنُ لَهُ الأَفْعَالَ » وتلك الطامة الكبرى يوم لا تجد لنفسك حجةً أمام من أوجد الحجة وصَاحِبَهَا ، يوم لا تحرك لسانك لتعجل بأعذارك فأنت أمام الذي ] يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [ (3)  .

كل هذا في سبيل فكرةٍ مرّت بين الناس فلا عاقل يلجم عقالها ولا راد لجماحها وكأنها قد أوتيت من القوة ما لا يستطيع رده المحقق المدقق ، فمن قائلٍ بخلق القرآن وتجسد الرحمان وصدفة الأكوان ومصير الحيوان ، أكل الدهر على مثل هذه الأقوال وشرب ، وتلف أصحابها في قبورهم فكانوا في خوضهم يلعبون وما ظلت كلماتهم تجابه الشهور والليالي والأعوام بل وُئدت في مهدها من طرف الجبال الأعلام ، وتلك حال الكلمة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار ، وأصبحت كالشيء النادر في المتحف الجامع أقوال وأرآء وأفكار واتجاهات ، كلها ماتت وحُفظت جتثها في متحف التاريخ ، فليس لراغب العلم فيها أدنى منفعة ، يقول المؤرخ الكبير ابن خلدون : « وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا »(4) فهؤلاء قد كتبوا ودونوا ونالوا بها درجات العلى ، جعلوا كلامهم كحد السيف على ما خرج عن نطاق الحق والفهم الإسلامي الصافي الأنيق ، فكانوا يكتبون وروح القدس معهم إذ مما لا

 ينكره جاهل أن الجهاد بالكلمة كالجهاد بالسيف أو أكثر ، فرب كلمة أسرت في ليلة مالا يأسره السيف في أعوام ، وأولئك كتبوا ودونوا ونالوا بها رضا الشيطان وسخط الرحمان فيا لبعد ما بين الفريقين .

وتبقى الكلمة الطيبة فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، فقد كتب الله Y لها القبول في قلوب وعقول ومجلدات الناس فلا ترى لها نازعا ينازعها على ألسنة الناس وعقولهم وصفحات كتبهم ، على أن من لا يحسن صناعة الكلام في مسائل الخلاف التوجه إلى العمل لمزيد المنفعة المرجوة من عمله وفعله لا من قوله ، ألا ترى أن رسول الله r دعا بفعله قبل أن يدعوا بقوله وكلمته ، لا أن يتجه إلى ما لا يحسن ولا يطيق فيرد بعض الحق الذي لا يعلم له من سبيل في غير كلامه ، فيصير بين الأقوال غريبا فيفسد أكثر مما يصلح ، وقد حفظ لنا الشعر قول ثابت بن كعب العتكي في العصر المرواني ، هو الأنفع لمن يبغي دخول معترك لأقوال مضت وانمحت ، يقول :

فَإِلاَّ أَكُنْ فِيكُمْ خَطِيباً فَإِنَّنِّي   ø    بِسَيْفِي إِذَا جَدَّ الوَغَى لَخَطِيبُ

فعدم الإحسان في شيء لا يدل على عدم إحسان غيره وإلا لما كان تميز الإنسان عن غيره .

وكما جرت عادة العرب في الحرب من الكر والفر جرت عادة الكلمة في الدهر من الكر والفر فيُسَخِّر أناس أقلاما لبعث أفكار مالها على الناس من سلطان ولا رقيب فيحفرون قبورها ويرسلونها بين الناس ، غير أنها أفكار تمشي بأكفانها ورائحة الموت تسبقها يعرفها من له أدنى معرفة بالتاريخ .

وتلكم الإشارة من تلك العبارة ، فجاء هذا الزمان بأفكار بعضها قديمة عليلة رديئة ، وبعضها زُينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وبعضها ابتدعوه من غوائل الأفكار فبثوه بين الناس ، فمن قائل بعصرنة الإسلام ورؤية سيد الأنام وخرق شبكة الأسباب والكشف عن يوم الميعاد ، وكلها أفكار ما يردد أصحابها إلا ألفاظها على أسطح الألسن حتى يشبعوا إبليس نهما فيما أراد ، وإلا لما كان لها من شبر في الساحة الإسلامية، فقد اقتضت حكمة الله أن لا يدوم إلا ما كان خالصا « ما كان لله دام واتصل » وأن تُجْتَثَّ كلمةٌ أريد بها باطل فهي لغير وجه الله يتخللها إفساد وضرر بعقيدة العباد « وما كان لغير الله انقطع وانفصل» والعزيز في الأمر أن يلحظ الإنسان ما يلفظ ، فإنَّ على لفظه رقيبا عتيدا ورُبَّ كلمة لا يلقي لها المرء بالا تهوي به في نار جهنم سبعين خريفا .

فما الداعي للتقعر في الكلام والله واحد فرد صمد ، وما الداعي للكشف ورسول الله r حي في قلوب الناس وفي أعمالهم ، فهي على سنته ومنهجه ، وما الداعي إلى عصرنة الإسلام والإسلامُ أوّل من دعا إلى المحافظة على البيئة وجعل من مميزات الجنة نخلاً وشجراً على سبيل المثال فقط وإلا لغرق الإنسان فيما لا يعلم من دعوة الإسلام الإنسان إلى ما يكمل عيشه ويحسن خلقه ، وما الداعي لتأليب المرأة على دينها وتفهيمها بُذّاً لجوره عليها على العلم أنها ترث أقل من الرجل في أربع حالات فقط ومثله تماما في ثلاثين حالة وأكثر منه في عشر حالات ، أضف إلى ذلك أن هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها الرجل ، وما الداعي

للتشدد في لباس معينٍ وليس للإسلام زِيٌّ معين وإنما له قلب معين ]  إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [ (5) فاختلفت أشكال المسلمين وصفاتهم وأجناسهم وملابسهم ووظائفهم لكنها على قلب رجل واحد يدري ويعلم أن لا بقاء إلا للإسلام طال الدهر أم قصر .

       

*كاتب مغربي

1 –  سورة ق الآية 18 .

2 –  سورة الإسراء الآية : 56 .

3 –  سورة غافر الآية : 19 .

4 –  المقدمة  ص: 398 .

5 -  سورة الشعراء الآية : 89 .