التدين الفكري !!
يقول الإمام الغزالي – يرحمه الله - : (( اعلم أن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن ، و حركات الجوارح ثمرات الخواطر ، و الأعمال نتائج الأخلاق ، و الآداب رشح المعارف ، و سرائر القلوب هي مغارس الأفعال و منابعها ، و أنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها و تحليها . و من لم يخشع قلبه ، لم تخشع جوارحه ، و من لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلٰهية ، لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية )) .
إن ما قاله الإمام الغزالي لهو كلام دقيق و عميق ، أوحى لي بما قد يكون مفتاحاً لحل مشكلة الانفصال الذي يعيشه المسلم أحياناً بين سلوكه و عقيدته ، أو بعبارة أخرى الانفصال بين التدين الفكري و التدين العملي ؛ فلماذا لا يعطي الإيمان أو العلم الشرعي أحياناً ثمراته ؟ ما هي الموانع يا ترى ؟ ، فلإيمان كما يقول سيد قطب : (( قوة دافعة ، و طاقة مجمعة ، فما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل ، و لتحقق ذاتها في الواقع ، و لتوائم بين صورتها المضمرة و صورتها الظاهرة ، كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها ، و تدفعها في الطريق .. )) .
لابد أن نتفق ابتداءً على أن العلم المجرد لا يأخذ باليد ؛ فالعلم بلا عمل جنون ، و العمل بلا علم لا يكون ، إذن فلابد من العلم و العمل معاً . يقول الإمام ابن القيم : (( العمل لقاح العلم ، فإذا اجتمعا كان الفلاح و السعادة ، و إن انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئاً )) . و قال الخطيب البغدادي في كتابه القيم " اقتضاء العلم العمل " : (( ثم إني أوصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه ، و إجهاد النفس على العمل بموجبه ، فإن العلم شجرة ، و العمل ثمرة ، و ليس يُعَدُّ عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً .. ، فلا تأنسْ بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم ، و لا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل ، و لكن اجمع بينهما و إن قَلَّ نصيبك منهما .. ، و ما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمَه لفساد طريقته ، و جاهلٍ أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته )) .
كم إلى كم أغدو إلى طلب العلـ طـالـبـاً مـنه كل نوع و فنٍّ و إذا كـان طالب العلم لا يعـ إنـمـا تـنـفع العلومُ لمن كا | م مُـجِـدّاً فـي جَمْعِ ذاك و غـريـبٍ و لستُ أعملُ شيّا مـلُ بـالـعلم كان عبداً شقيّا ن بـهـا عـامـلاً و كان تقيا | حَفيا
و العلم لا يُطلبُ لذاته ، و لا للتجمل و التباهي به بين الخلق ، و إنما هو وسيلة إلى البر و التقوى الذي به يستحق المسلم الكرامة عند الله و السعادة الأبدية . قال الثّوري : (( إنما يُتعلم العلم ليتقى به الله .. )) ، و قال : (( زينوا العلم ، و لا تزينوا به )) ، و قال أبي بن كعب : (( تعلموا العلم و اعملوا به ، و لا تتعلموه لتتجملوا به ، فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يُتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه )) .
تـفـقـه فـإن الـفقه أفضل هـو العلَمُ الهادي إلى سَنن الهُدى فـإن فـقـيـهـاً واحداً متورعاً | قائدٍإلـى البر و التقوى و أعدلُ هو الحصن ينجي من جميع الشدائد أشـد على الشيطان من ألف عابد | قاصد
هذا هو جوهر المسألة ؛ أن العلم وسيلة و ليس غاية ، فقد قال عليه و آله الصلاة و السلام : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة " [ صحيح ، الألباني – صحيح الترمذي : 2646 ] ، إذن فالعلم وسيلة و طريق إلى الجنة ، و لا يكون هذا إلا بالعمل بمقتضى هذا العلم . و قال تعالى : ﴿ و لِيعْلَمَ الَّذينَ أُوتُوا العلْمَ أَنَّهُ الحقُّ مِن رَّبِّكَ فيُؤْمِنوا بِهِ فتُخْبِتَ لَهُ قُلوبُهُمْ .. ﴾..{ الحج : 54 } : علم فإيمان فإخبات ؛ أي خشوع و سكينة و انقياد ، فعندما تخالط بشاشة العلم القلب ، يدرك ما فيه من حقيقة و صدق . فكيف لنا أن نصل بالعلم إلى درجة الخشوع و الانقياد ؟ كيف لنا أن ننتقل من عالم الأفكار إلى عالم السلوك العملي ؟ فالسلوك يكمن وراءه دوافع رسخت و تعمقت في نفس الإنسان ، فكيف لنا أن نترجم هذه الدوافع إلى واقع عملي ملموس ؟ .
يقول الإمام الشاطبي : (( إنما يكون العلم باعثاً على العمل إذا صار للنفس وصفاً و خلقاً .. ، على أن المثابرة على طلب العلم ، و التفقه فيه ، و عدم الاجتزاء باليسير منه ، يجر إلى العمل به و يلجئ إليه )) . هذه هي القاعدة التي يمكن أن تلخص كل ما يمكن أن يقال في هذه المسألة . و لكن كيف يصير العلم للنفس وصفاً و خُلُقاً ؟ ما هي السبيل التي ينبغي أن نسلكها في طلب هذا العلم ؟ .
يقول الإمام أبو حامد الغزالي : (( .. العلم عبادة النفس ، و في لسان الشرع عبادة القلب ، فلا يصح إلا بطهارة القلب عن خبائث الأخلاق ، و أنجاس الصفات .. فإن قلتَ : فكم طالب رديء الأخلاق حصل العلوم ؟ .. فما أبعدك عن فهم العلم الحقيقي الديني الجالب للسعادة !! فما يحصله صاحب الأخلاق الردية حديث ينظمه بلسانه مرة ، و بقلبه أخرى ، و كلام يردده ، و لو ظهر نور العلم على قلبه لحسنت أخلاقه ، فإن أقل درجات العلم أن يعرف أن المعاصي سموم مهلكة )) . و قال ابن عاشور – يرحمه الله - : (( ليس العلم رموزاً تُحَل ، و لا كلمات تُحفظ ، و لا انقباضاً و تكلفاً ، و لكنه نور العقل و اعتداله ، و صلوحيته لاستعمال الأشياء فيما يحتاج إليه منها ، فهو استكمال النفس ، و التطهر من الغفلة و التأهل للاستفادة و الإفادة ، و ما كانت العلوم المتداولة بين الناس إلا خادمة لهذين الغرضين ، و هما : ارتقاء العقل لإدراك الحقائق ، و اقتدار صاحبه على إفادة غيره بما أدركه هو . إذن فالعلوم التي تدرس إن لم تكن الغاية منها ما ذكرنا فهي عبارة عن إضاعة العمر و امتلاء الدماغ ، و لا يكاد يبلغ المتعلم الغاية المذكورة إلا متى تلقى العلم بيقظة ، و راقب غاياته في أعماله ، كمراقبة قواعد النحو في التكلم ، و قواعد الفقه في المعاملة .. ، فإن هو لم يفعل و تعاطى العلم عن ذهول بما تقرر كان قد أضاع زمناً في التعلم من غير استثمار إلا ألفاظاً حفظها )) . و قال الإمام الشافعي : (( الطبع أرض ، و العلم بذر ، و لا يكون العلم إلا بالطلب ، فإذا كان الطبع مساعداً زكا ريع العلم و تفرعت معانيه )) . و يقول سيد قطب : (( فالعلم الحق هو المعرفة .. هو إدراك الحق .. هو تفتح البصيرة .. هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود ، و ليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن و لا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى ، و لا تمتد وراء الظاهر المحسوس .. و هذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي و المعرفة المستنيرة .. القنوت لله )) .
من هذه الأقوال نلحظ أنه لابد من طهارة و استنارة القلب و تزكية النفس حتى يستقيم الخلق ، و ما الخلق إلا السلوك الناشئ عن أفكار متعمقة ثابتة و راسخة في النفس .. أي العلم ، و الخلق قابل لتأثير التربية الحسنة و السيئة فيه ، فإذا ما رُبِّيَ المرء و رُوِّضَ على حب الجميل و كراهية القبيح ، أصبح ذلك طبعاً له ، و صدرت عنه الأفعال الإرادية الجميلة و دون تكلف ، لأنه أصبح هيئة راسخة في النفس .
و استكمال فضائل النفس أمر يحتاج إلى مجاهدة ، و لكن في بعض الأحيان تكون بيئة المرء عائقاً يحول دون تحقيق ذلك ، فيحتاج الأمر هنا إلى العزلة الكلية أو النسبية ، و أحياناً إلى العزلة الشعورية ؛ فيجعل لنفسه عالماً آخر يعيش و يحلق فيه ، فهو له شأن و من حوله لهم شأن آخر ، يعيش معهم بجسده و لكنه يحلق في عالم وجداني و قيمي مختلف عما هم فيه ، فهذا سيعينه على الارتقاء ، كالعزلة الشعورية التي كان يعيشها الصحابة – رضي الله عنهم – في صلاتهم بالمجتمع الجاهلي . و في هذا السياق يقول الشيخ سعيد حوى – يرحمه الله – في شرح حكم ابن عطاء : (( قد يكون الإنسان في الأصل في بيئة سيئة ، فهذا يجب عليه أن يتخلص من شرورها و سيئاتها ، فما دام هو فيها و يخالطها فهو عاجز ، فلا حل إلا أن يعتزل الإنسان للخلاص منها . و قد تكون البيئة بيئة عادية فيها خير و فيها شر ، لكنه ما دام فيها فهو ينجذب إلى مواقف ، فالخلاص من هذا يقتضي نوعاً من أنواع الانقطاع )) .
لعل هذا الأمر هو ما دفع العلماء إلى اشتراط أن يتتلمذ طالب العلم على العلماء لا على الكتب ، حتى يسري إليه حال العلماء ، و يظهر عليه سمت العلم و أدب العلم و نور العلم . و هو كذلك ما دفع و يدفع الآباء و الأمهات إلى أن يدفعوا بأولادهم إلى المؤدبين و العلماء ليُحفظوهم القرآن ، و ليعلموهم العلم الشرعي ، حتى يقبسوا من أخلاقهم و آدابهم ، فيربطوا العلم و القرآن مع السلوك ، فطلب العلم كما يقول الشوكاني : (( له ركنان : أدب النفس ، و أدب الدرس )) ، و يقول أيضاً : (( .. و لعل اشتراط العلماء أن يكون طالب العلم قد تلقى علمه عن شيوخ لا عن كتب ، كي يتأكدوا من تخلقه بأخلاق العلماء ، و تحليه بأدبهم ، و هذا لا يحصل إلا بالمعرفة و المصاحبة و الاختبار ، و بعده يكون التوثيق و التعديل ، إذ العلم لا يؤخذ عن مجهول أو مستور )) . و لذلك قالوا : (( لا تصاحب من لا ينهض بك حاله ، و لا يدلك على الله مقاله )) .
بعد هذا نقول .. إن البقاء في مرحلة التدين الفكري ربما يؤدي إلى فقدان التوازن عند المرء ، فانفصال الفكرة عن السلوك يجعل صاحبه يحاول أن يجد مسوّغاً عقلياً بل و شرعياً أيضاً لتصرفه السلوكي ، و هذا أمر متعب للنفس ، لأنه لا يستطيع أن يعيش حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني و واقعه العملي ، فلابد من الصدق و الوضوح ، و هذا لا يكون إلا بانسجام الفكرة مع السلوك . يقول سيد قطب : (( .. فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان و اطمأن إليه و ثبت عليه ، لابد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب .. في واقع الحياة ، في دنيا الناس ، يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، و ما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور و واقع الحياة ، و لا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية الوضيئة التي في قلبه و حسه ، و الصورة الواقعية من حوله ، لأن هذه المفارقة تؤذيه و تصدمه في كل لحظة )) .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علمتنا ، و زدنا علماً .... ، اللهم آمين ، و الحمد لله رب العالمين .