تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (من المنافقين والكفار وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين)
المقال الخامس
من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة النساء(3)
[ الآية 153 ]
( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً).
نلمح القرآن الكريم يندد دائماً بمواقف أهل الكتاب من اليهود من الرسل والرسالات، فهم دائماً متعنتون معه في طلب الدلائل على نبوتهم، ورسالاتهم.. ولَيْتهم بعد ذلك يؤمنون.. فهم لا يؤمنون بل يهزأون ويسخرون ثم يقتلون الأنبياء.
وفي هذا الموقف، في هذه الآية ، يعاجزون النبي صلى الله عليه وسلم ، فيسألونه أن ينزل عليهم كتاباً من السماء.. يريدون أن يلمسوه بأيديهم بعد أن يرَوه يدنو منهم نازلاً من السماء.. ويرى النبي عليه الصلاة والسلام من سؤالهم هذا وقاحة ما بعدها وقاحة، فالإيمان لا يعتمد على الحواس فقط، إنما يعتمد على التصديق بالعقل، والثبات في القلب، إنما هو عمل بالأركان وقناعة الجنان وتفاعل الوجدان.
لكنهم في مسيرتهم، منذ أن وُجِدوا إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة يُكذِّبون الرسل والدعاة، ويسخرون منهم ويبطشون بهم، ويطلبون منهم ما لا يطلبه عاقل.. ولَيْتهم بعد طلبهم هذا يؤمنون.. ولكنهم خبثاء، طويّاتهم فاسدة، مَرَدوا على الفساد ومخالفة الحق، والبحث عن الباطل بين ظلمات الأحابيل الشيطانية.
فلا تأْسَ - يا رسول الله- ولا تحزن، فلك بموسى عليه السلام ومن بعده مواساة، ولعله إن عرفت ما فعلوه مع موسى والأنبياء بعد- وهذا غيض من فيض- تأكدْتَ .، أن أحفاد القردة والخنازير، جُبِلُوا على المراوغة، والكذب والإيذاء والكفر، لقد سألوا موسى عليه السلام أكبر مما سألوك، فسألوه أن يروا الله جهرة، وهم الذين يدعون أنهم آمنوا به، فهو نبيهم وقائدهم ومنقذهم، فهم غلاظ لا يؤمنون إلَّا بالمحسوسات، مُتَعنِّتون فلا يُسلمون إلا تحت القهر والضغط.
يغدرون إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكيف يرون الله؟! وهل يستطيع الكليل الضعيف، أعشى البصر، أن يحيط بالنور الباهر والضوء الساطع؟ !! وهل يحيط مَنْ هو جزء من الوجود أن يحيط بمن أوجد الوجود؟! وأنَّى للضعيف أن يعرف الكمال المطلق؟! لكنهم لِجهلِهم واستكبارهم سألوه أن يروا الله عياناً، فكان الجوابُ لتطاولهم صاعقةً أحرقتهم، ولا جواب لمن لا يعرف حدوده فيتجاوزها ظلماً وعلواً إلَّا أن يعاقب العقاب الأليم جزاءً وفاقاً، وفي رواية أخرى أنهم أصيبوا بالرَجْفة.
أما إخوانهم وأبناؤهم فلم يستطيعوا الارتفاع إلى مقام التوحيد، لِلُصوقهم بالأرض وأوحالها، وحقارة نفوسهم، فعبدوا العجل الذي صنعه السَّامريُّ، فهم لا يؤمنون كما ذكرنا إلا بالمحسوسات- إن آمنوا- فكان عاقبة المجرم الأول، السامري، أن مات شريداً طريداً لا يمسُّ شيئاً، ولا يمسه شيء، إلا أخذته الرجفة، وأصابته القشعريرة، فهو ينادي بملء صوته أينما ذهب، وحيثما حل، لا مساس، لا مساس. وما أسوأها من حياة!!
وشملهم الله دونه، بعفوه وكرمه، فسامحهم وتجاوز عن خطأهم، ويا له من خطأ فهو الإشراك بالله بعد أن جاءهم نبيهم بالبينات والشريعة الواضحة.. لكنَّ الدونية التي رضعوها وجبلوا بها
لا يستطيعون عنها فكاكاً.
واليهود لهم طبعٌ متمردٌ، ونفس لا تلتزم إلَّا إذا قُهرت وأُخذت بالقوة، فآتى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام سلطاناً عليهم، يخافونه، وزرع في قلوبهم المهابةَ له، والرضوخَ أمامه، وسخَّر له كثيراً من أدوات القهر الحسي.
فهذه الألواح التي حملها معه حين قفل راجعاً من لقاء ربه جل وعلا، لم يستسلموا لها ويرضوا بالعمل بها إلا حين رأوا الجبل العظيم، وقيل الصخرة العظيمة، معلقاً فوق رؤوسهم يهددهم بالوقوع عليهم، إذا هم لم يستسلموا، ولم يتعهدوا بأخذ ما أعطاهم الله من العهد، وما كتب عليهم من التكاليف في الألواح.
عندئٍذ فقط استسلموا وأخذوا العهد، وأعطوا الميثاق المغلَّظ الموثَّقَ أن يدخلوا بيت المقدس سُجّداً، وأن يعظموا السبت الذي طلبوا أن يكون لهم عيداً.
فماذا كان منهم بمجرد أن ذهب عنهم الخوف وغاب عنهم القهر؟!! لقد تملصوا من الميثاق الغليظ الذي أُخذ عليهم ونقضوه، وحرَّفوا الآيات وكفروا بها.. وقتلوا أنبياء الله بغير حق، وتبجحوا حين قالوا: نحن لا نقبل الموعظة، فهي لا تصل إلى قلوبنا، لأن القلوب مغلقة ،بل إنها بعد الغلق مقفلة، فلا ينفذ إليها شيء مما يقوله الأنبياء.
هذه المقولة: " قلوبنا غُلف " التي قالوها بسوء أدب وإصرارٍ على المعصية، وضربٍ بكل العظات والعبر عرض الحائط أورثتهم غضب الله تعالى، فطبع على قلوبهم فصاروا كفاراً لا يعرفون للإيمان سبيلاً إلا من رحم الله وهم قليل، خالفوا طريق اليهود المعوج، وفتحوا قلوبهم للحق فكتب الله لهم الإيمان، وزينه في قلوبهم.
وهناك- بعد ذلك- أسباب عديدة استحقوا بسببها ما استحقوا من تحريم الطيبات عليهم في الدنيا ووعيد بالنار التي تنتظرهم في الآخرة، وساء المآل... منها:
ا- أنهم كفروا بنبوة عيسى عليه السلام حين جاءهم يصحح معتقداتهم ويخفف عنهم- بإذن الله- بعض ما عوقبوا به، كفروا بعيسى ووصفوا أمَّه الصِّدِّيقة بالزنا.. ذلك القول الذي يكررونه مع الأنبياء العظام، فيعقوب عليه السلام رمَوه بالزنا بزوج ابنه، بعد أن شرب الخمر، فسكر.. حاشاه أن يكون كذلك، فهو عبد الله و رسوله.
ولوطٌ سقته بنتاه الخمر فزنا بهما فولدتا سفاحاً.. وهل يقول بحق الأنبياء هذه المقالة الخبيثة إلا من سفه نفسه؟!!
أفلا يرمون الصديقة، وهذه عادتهم لعنة الله عليهم؟! وإذا كان الأبرار الأطهار والعفيفات الطاهرات لم يسلموا من أذى اليهود فما ظنك بسائر البشر!!!
2- لم يكتفوا بان كفروا برسالة عيسى، إنما حاولوا قتله، وكادوا يظفرون به لولا العناية الربانية التي رفعته إلى السماء، ليكون في حرز حريز. وأنَّى يصلون إليه، وقد كتب الله في سابق علمه أنه سيعود آخر الزمان يَدكُّ معاقلهم، ويحاربهم، ويقتلهم، ويفرض عليه الإيمان به نبياً يحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام؟! هذه الشريعة التي يكيدون لها، ولن يفلحوا ما دامت السموات والأرض، فالله حفظها بحفظه، وكلأها برعايته، وإنَّ مما يثلج الصدر أنه ما من كتابي يموت إلَّا وهو في حشرجة الروح يعرض عليه كفره فيموت مغموماً مهموماً يندب حظه العاثر، وكفره الذي أودى به المهالك.
3- أنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم، فاستحقوا غضب الله وناره، وظلموا غيرهم حين صدّوهم عن سبيل الله بالإرهاب المادي، والإغراء المعنوي، فهم يلمزون المؤمنين، ويسبُّونهم، ويشتمونهم، ويدفعون الأموال لأعوانهم وأزلامهم ثمناً لإبادة المسلمين، أو التضييق عليهم..
4- كما أنهم حاربوا الله علانية، إذ تعاملوا بالربا، وقد نهاهم الله عنه، بل يرون من العمل بالدّين- الدّين اليهودي المحرَّف- أن يقرضوا غير اليهودي بالربا، وأن يأكلوا أمواله بالباطل، وبكل طريقة، مهما كانت مجحفة وظالمة.
وهكذا يكشف الله تعالى حقيقة اليهود، ويفضح خبث طويتهم، وعداءهم للدين ورسله على مرِّ الدهور وكرِّ العصور.
ويوضح للمسلمين الطريق السديد في تعاملهم مع هذا الصنف الماكر، فلا يأمنون له، ولا يتعاملون معه إلَّا بالحذر والحيطة...أليسوا أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين؟!!
5- كما يؤكد سبحانه أن موقف اليهود من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم نبُوَّته هو موقفهم من سائر الأنبياء والرسل، وهذا لا يضير الرسول الكريم.
وإذا أتتك مَذمَّتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كاملٌ
ويرفع الله مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكره في مقدمة الأنبياء والمرسلين، فهو أعظمهم وإن جاء آخرَهم، فهو الخاتم لبناء التوحيد، وهو صاحب الدين الذي ارتضاه الله لعباده.
وهو صاحب الدين الذي لا يقبل الله إيمان عبده وإسلامه إلَّا به. ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (1).
والله يشهد أنَّ محمداً رسوله.. وهل بعد شهادة الله شهادة، اللهم آمنا بك رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً فتقبل منا إنك أنت السميع العليم.
(1) سورة آل عمران: الآية 19