عالم وأمير
[ منقول بتصرّف عن مجلة الأمة 1404 هـ ]
أما العالم فهو الفقيه الزاهد طاووس بن كيسان اليماني الهمداني، من علماء التابعين، ومن أصحاب ابن عباس. توفي بمكة في المزدلفة سنة 106هـ، وله بضع وتسعون سنة.
وأما الأمير فهو هشام بن عبد الملك، عاشر خلفاء بني أمية، حكم من 105-125هـ. وفي أيامه وقعت معركة بلاط الشهداء في بواتييه على أبواب فرنسة.
وأما المكان فهو مكة المكرمة في موسم الحج.
* * *
ارتفع صوت هشام بن عبد الملك يسأل غاضباً:
- أين هو؟ هل رفض الحضور مرة أخرى؟
خف إليه الوزير قائلاً:
- لا تغضب يا أمير المؤمنين، بعد قليل سيكون ماثلاً بين يديك، أرسلت من يحضره بالحيلة.
وسكت الوزير لحظة، ازدرد خلالها ريقه ثم استطرد قائلاً وهو يتصنع الابتسام ليبدد سحب الغضب التي ظللت بغيومها سماء المكان:
- يعرف أمير المؤمنين جيداً طباع تلك القلة من الناس، وهذا الرجل منذ أربعين سنة وهو يصلي الصبح بوضوء العشاء، ولا يخشى في الله لومة لائم.
- من أجل هذا طلبت حضوره.
- سيحضر، إن شاء الله، سيحضر.
وراح يتحدث عن صلاح الرجل وتقواه، ويؤكد كلامه بقصص يتناولها الناس عنه، حتى أقبل أحد الخدم، يعلن عن قدوم رجل يدعى "طاووس بن كيسان اليماني"، فانبسطت أسارير وجه الوزير، ونسي في غمرة الفرحة آداب اللياقة، فلم ينتظر حتى يأذن هشام للقادم بالدخول، وهتف منتشياً:
- أدخله، دعه يدخل.
اختفى الخادم، وما لبث أن عاد يتبعه رجل مهيب الطلعة، يضيء نورُ الصلاح محياه، قال وهو يتقدم الخادم الذي توقف عندما اقتربا من مجلس أمير المؤمنين:
- السلام عليك يا هشام، كيف حالك؟
ولم ينتظر لتحيته ردّاً، خلع نعليه، وجلس بجانبه.
ذُهل هشام، دُهش، استشاط غضباً، هَجمَ عليه، همّ بقتله، لكن الوزير الذي تعجب هو الآخر من سلوك الرجل، أسرع إلى هشام قائلاً:
- لا تنسَ يا أمير المؤمنين أنك بمكة، أرض الله الحرام.
تراجع هشام على الفور، ردد بعض آيات القرآن لتهدئ من ثورته، ثم قال موجهاً الحديث إلى طاووس بعد أن هدأت نفسه:
- ما الذي حملك على ما صنعتَ؟
قال طاووس بهدوء، وطيف ابتسامة يتربع على شفتيه، غير حافل بما حدث:
- ماذا صنعتُ؟
قال هشام وهو يجاهد في كبح جماح غضبه:
- خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تجلس بين يديّ، ولم تقبل يديّ، ولم تقل: السلام عليك يا أمير المؤمنين كما يقول غيرك، وسميّتني باسمي ولم تكنّني.
قال طاووس والبشاشة لم تفارق وجهه:
- أما ما فعلتُ من خلع نعلي بجانب بساطك، فإني أفعل ذلك كل يوم خمس مرات بين يدي الله في بيته فلا يعاقبني ولا يغضب عليّ، وأما عن عدم قولي لك يا أمير المؤمنين حين سلمت عليك، فليس كل المسلمين راضين بإمرتك عليهم، فخشيت أن أقع في الكذب، وأما كوني لم أكنّك، فالله تعالى كنّى أبا لهب عدوه، ونادى أصفياءه بأسمائهم المجردة فهم أحباؤه فقال تعالى: يا داوود، يا يحيى، يا عيسى، وأما عن جلوسي بجانبك، فإنما فعلته اختباراً لعقلك، فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول: يُختَبَرُ عقل الأمير بجلوس آحاد الناس بجانبه، فإن غضب فهو متكبر من أهل النار.
وقام من مجلسه، وانتعل نعليه، وغادر المكان، بينما انتابت هشام رعدة مفاجئة.
وسوم: العدد 650