فقه المقاصد في فكر الإمام البنا ( 1 )
يقتضى البحث في هذا الموضوع ( فقه المقاصد في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، رحمه الله تعالى ) ضرورة الإجابة على هذه الأسئلة:
1- هل للإمام البنا رحمه الله دور واضح وملموس في علم المقاصد؟
2- وإن كان له دور فلماذا لم يذكر ضمن علماء المقاصد كغيره من العلماء أمثال العلامة ابن عاشور مثلا وغيره من العلماء السابقين والتالين له؟
3- وهل كتب كتابا أو مقالة يتحدث فيها عن علم المقاصد حتى نعده من علماء المقاصد؟
من خلال القراءة الواعية والفاحصة لكتاب واحد فقط مما كتب الشيخ الإمام وهو مجموعة الرسائل، وبعض الرسائل القليلة التي كتبها ولم تطبع مع كتاب الرسائل، وفي أكثر من ثلاثمائة صفحة تزعم هذه الدراسة أن للإمام البنا رحمه الله دور بارز وملموس، بل ومتميز في هذا العلم،
أما لماذا لم يذكر الإمام البنا ضمن علماء المقاصد على الرغم من الثورة الفكرية والفقهية حول علم المقاصد خاصة في السنين الماضية.
فإن حركية الإمام البنا وعداء كل سلطان له ولحركته، وتأسيسه جماعة ما زالت في خصومات سياسية حادة بين النظم أثرت علي بل ومنعت الكتابات التي تحاول أن تبرز الإمام الشهيد كعالم شرعي، وفقيه مقاصدي متميز.
إن كثيرا من المثقفين، وبعض المتخصصين ينظر إلى الإمام البنا على أنه زعيم سياسي أسس جماعة تعارض السلطان، واستشهد بسبب ذلك ، ولا ينظر إلى هذا الرجل على أنه في الأصل والتكوين عالم وفقيه، والسياسة جزء من مشروعه الفكري.
وقد كان طريق تعميق النظر المقاصدي عند الإمام البنا ناتج عن عنايتة بـ:
1- تدبر القرآن الكريم والسنة المشرفة وما فيهما من تعليلات شتى.
2- استقراء أحاكم الشريعة بما تنطوي عليه من قيم ومثل ومصالح.
3- فحص مؤلفات الأئمة العلماء الذين اعتنوا بالمقاصد قديما وحديثا.
4- معايشة رموز العلماء المعاصرين الذين نزلت منهم الفكرة المقاصدية منزلة ظاهرة!
وقد كانت هذه المعايشة لهؤلاء الأعلام مقرونة بالعناية بقضايا الأمة وهمومها والنوازل التي أحاطت بها في هذا العصر الرهيب.
أمرين يعكسان الروح التجديدية المقاصدية للإمام حسن البنا، هما:
1- مراجعات والتجديد في إطار الكليات.
2- المراجعات التجديدية في المقاصد عموما.
وقد تم رصْد عدد من الملامح التجديدية الناتجة عن مراجعات الإمام البنا رحمه الله التي طالت الكليات والمقاصد العامة عموما، ونحب أن نجملها في نقاط:
1- توسيع دائرة ما به يتم حفظ العقل؛ كفريضة طلب العلم، وفريضة الرحلة له، وفريضة المداومة على طلبه... إلخ. وتوسيع دائرة تحريم ما به يغتال العقل؛ من مثل: المخدرات العقلية من السحر والكهانة، والعرافة... إلخ.
2- توسيع ما به يتم حفظ المال؛ ليطال مناطق العمل والكسب والحث عليهما، وتقدير العمال، ورفع أقدارهم... إلخ.
3- إضافة (العرض) ليكون كلية سادسة تنضاف إلى المشهور من أمر الكليات الخمس، صحيح أنه تابع لعدد من الأصوليين القدماء؛ إلا أنه يدعو إلى توسيعها لتشمل مفاهيم: السمعة والكرامة، وهو ما نطقت به نصوص الشريعة في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله"، وهو حديث صحيح، يظهر فيه اقتران العرض بالدم، وتقدمه على المال.
وقد حدد الإمام البنا رحمه الله مقاصد خلق الإنسان في نظرته المقاصدية في ثلاثة هي (العبادة، والعمارة، والخلافة).
وإجمالا
وفيما يتعلق بتجديداته رحمه الله في المقاصد عمومًا، فيمكن تلخيصها في نقاط ثلاثة كما يلي:
أولا- اعتبار المقاصد من ركائز الفقه الحضاري.
ثانيا- اعتبار المقاصد الجماعية جنبًا إلى جنب مع المقاصد الفردية.
ثالثا- إجمال المقاصد الأساسية للإسلام في ستة مقاصد تدور حول: بناء الإنسان الصالح والأسرة الصالحة /والمجتمع الصالح / والأمة الصالحة / والدولة الصالحة / وتحقيق خير الإنسانية.
أما لماذا لم يكتب الإمام البنا رسالة أو كتابا يعرف فيه بعلم المقاصد، فكما لا يخفى على طالب علم - فضلا عن المتخصص - أن ثمة فرقا واضحا بين من يتحدث عن اللفظ أو المصطلح وبين من يعيش له وبه حتى لو لم يرد على لسانه.
فالصحابة رضوان الله عليهم لم يتحدثوا عن المقاصد، وكذلك فقهاء التابعين، والأئمة الأربعة وغيرهم ولا يشك دارس في أن فهمهم للمقاصد، واستيعابهم له، وعملهم به كان يفوق ما نحن عليه الآن.
وقد قُدِّمت أطروحات علمية عن الإمام مالك وابن تيمية وغيرهما، ودورهم في علم المقاصد حتى لو لم يرد هذا اللفظ على ألسنتهم .
والإمام حسن البنا رحمه الله يختلف عن غيره من العلماء الذين عاصروه أو جاؤا بعده أو قبله في أنه لم يقف بالفكرة عند حد التنظير والتأصيل النظري، لكنه خطا بها خطوات فساح نحو التطبيق العملي.
فقد عاش الإمام البنا في فترة هامة من تاريخ أمتنا العربية والإسلامية، كانت الأمة فيها على مفترق طرق شتى بعد سقوط الخلافة الإسلامية سقوطا رسميا سنة1924م وإن كانت سقطت سقوطا عمليا وفعليا قبل هذا بسنوات
ومن هنا كانت الأمة الإسلامية بحاجة إلى من يرشدها ويذكرها بانتمائها المناسب، وبهويتها الإسلامية حتى لا تضل الطريق فتفقد الوعي والإدراك وتتفرق بها السبل.
قام الإمام حسن البنا مع من سبقه من المصلحين كأمثال الإمام محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا رحمهم الله بدور فاعل في تذكير الأمة بهويتها، والعودة بها إلى المنابع الصافية من القرآن الكريم والسنة والمطهرة .
غير أن الامام البنا-رحمه الله -، قدم ملامح مشروع متكامل على المستوى النظري والمستوى
فعلى سبيل المثال خطا الإمام البنا خطوات عملية من خلال ما قام به من مشروعات محلية تعتمد على ما يدخره العامل الذي يكون شريكا في العمل ينال من ربحه بالإضافة لما يأخذه من راتب
وهذه المشروعات وإن كانت صغيرة، بيد أنه يظهر فيها فقه الأولويات، ومراعاة الجانب المقاصدي من تنمية المال واستثماره، والترتيب الصحيح للضروريات والحاجيات والتحسينيات.
ومن هذا الباب أيضا فقد ركز الإمام البنا رحمه الله في رؤيته لاصلاح الاقتصاد على أمرين غاية في الأهمية هما:
أ - التخلي عن الغطاء الذهبي للنقود، وهذه مشكلة المشاكل في العالم كله بصفة عامة، والعربي والإسلامي بصفة خاصة، بعد أن استطاعت الدول الرأسمالية الكبرى أن تلغي هذا الغطاء الذهبي وتستبدل به أشياء أخرى حتى تحكم سيطرتها وهيمنتها على الشعوب العربية والإسلامية، وقد حذر علماؤنا في الماضي والحاضر من مغبة التخلي عن غطاء الذهب .
ب - الأمر الثاني: سيطرة الشركات الأجنبية، وهيمنة رأس المال الأجنبي على الاقتصاد المحلي، وهذا ما نعاني منه الآن ونستطيع أن نقول إن الشعوب العربية والإسلامية قد استبدلت الاستعمار السياسي بالاستعمار الاقتصادي، وهو لا يقل خطرا عن الاستعمار السياسي، بل إن الاستعمار السياسي يحفز الشعوب ويحثها على الثورة والانتفاض للتخلص من المستعمر، لكن الاستعمار الاقتصادي يضمن للمستعمر إحكام السيطرة والهيمنة على الشعوب.
**************
المقاصد هي:
الغايات التي تهدف إليها النصوص، من الأوامر، والنواهي، والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين أفرادا وأسرا وجماعات"، على ما جاء في كتاب: دراسة في فقه مقاصد الشريعة – للدكتور يوسف القرضاوي التي تتجاوز فيها الاهتمام بالفرد، وهو المشغلة القديمة للمقاصديين، إلى العناية بالمقاصد الجماعية والاجتماعية، من الأسرة والمجتمع والدولة والأمة.
ويتبنى العلامة القرضاوي التقسيمات التالية للمقاصد الشرعية وتوزيعها على: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، بحيث يكون أمر الضروريات متعلقا بما يرد من أحكام مشددة، وعقوبات مغلظة، ثم تنزل الحاجيات لتستوعب أحكام الوجوب والتحريم غير المغلظة، ثم تتراجع التحسينات لتتعلق بأحكام الندب والكراهة.
وتعليل الأحكام هو الأساس الذي تنبني عليه المقاصد الشرعية، ويتأسس على إثباتها إثبات القول بالمقاصد الشرعية.
نموذج من الفكر المقاصدي
للإمام البنا
الأصل الخامس من الأصول العشرين لركن الفهم-
بين النصّ والمصلحة
يقول الإمام حسن البنا في الأصل الخامس من ركن الفهم:
(ورأي الإمام ونائبه فيما لا نصّ فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد).
أنواع الأحكام من حيث مصدرها
تنقسم أحكام الفقه الإسلامي من حيث مصادرها إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: أحكام مصادرها نصوص صريحة قطعية في ثبوتها، وقطعية في دلالتها على أحكامها، وهذه أحكام لازمة وعلى كل مسلم اتباعها ولا يجوز أن يختلف المسلمون فيها، كافتراض الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكإيجاب الايفاء بالعقود واشتراط التراضي في البيوع. فآي القرآن الصريحة القطعية الدلالة، والسنة المتواترة القطعية الدلالة يجب اتباع حكمهما دائما.
النوع الثاني: أحكام مصادرها نصوص ظنية في الدلالة على أحكامها.
وهذه فيها مجال للاجتهاد لكن في حدود تفهم النص ولا يخرج عن دائرته، وعلى المجتهدين أن يرجحوا باجتهادهم أن الحكم الذي يدل عليه النص هو ثبوت الخيار للمتبايعين في المجلس أو عدم ثبوته، وافتراض مسح الرأس كله في الوضوء أو بعضه، وتحريم الذبيحة لمجرد ترك اسم الله عمداً أو لذكر اسم غير الله عليها.
وما يترجح للمجتهد يكون هو حكم الله في الواقعة على غلبة ظنه، وعليه أن يعمل به وعلى من يستفتيه أن يتابعه في العمل به، ويجوز التقنين للأمة بمجموعة من هذه الأحكام التي لا تخرج عن حدود النصوص الظنية الدلالة.
ويجوز أن يكون الحكم في بلد إسلامي أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، وفي بلد آخر أن عدة المطلقة ثلاث حيضات. ولله الحكمة في أنه صاغ النص محتملا للدلالة على أكثر من حكم.
النوع الثالث: أحكام لم تدل عليها نصوص لا قطعية ولا ظنية، ولكن انعقد عليها إجماع المجتهدين في عصر من العصور، كتوريث الجدات السدس، ومنع توريث إبن الإبن مع وجود الإبن، وبطلان زواج المسلمة بغير المسلم، وهذه لا مجال للاجتهاد فيها ويجب على المسلم أن يعمل بها، لأن المجتهدين إذا أجمعوا على حكم فهو حكم الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلالة، ولأنهم أولو الأمر التشريعي والله أمرَ بإطاعة أولي الأمر من المسلمين. ولكن يجب التحقق من أن الحكم انعقد عليه إجماع المجتهدين في عصر من العصور ولا يكفي مجرد ادعاء هذا الإجماع.
النوع الرابع:
أحكام لم تدل عليها نصوص لا قطعية ولا ظنية ولم ينعقد إجماع عليها من المجتهدين في عصر من العصور كأكثر الأحكام الفقهية التي زخرت بها كتب الفقه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والشيعة الإمامية.
فهذه الأحكام ما هي إلا استنباطات لأفراد من المجتهدين استنبطوها حسب ما وصلت إليه عقولهم وما أحاط بهم من الظروف والأحوال والملابسات، وليست أحكاما لازمة لوقائعها.
فيجوز لأهل الاجتهاد في عصرهم وبعد عصرهم أن يخالفوهم في استنباطهم كما جاز للمجتهدين المتعاصرين أن يخالف بعضهم بعضا وكما جاز للمجتهد الواحد أن يرجع عن اجتهاده السابق إلى اجتهاد لاحق.
مصالح العباد
ومصلحة العباد، ورفع الحرج عنهم هي أصل الشريعة.. (وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج - 78،
بنيت شريعة الله على ذلك فلا يوجد نصّ في الكتاب والسنة يصطدم بمصلحة العباد، قال تعالى: ( النبـي الأمي الـذي يجدونـه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف - 157.
ولقد قسّم الفقهاء المصالح إلى ثلاثة أنواع:
- مصالح معتبرة : وهي التي أعطاها الشارع الحكيم درجة الاعتبار ونصّ على حِلّها كالزواج، والبيع والشراء، وكل ما أمر الله به فعلاً للمأمور وتركًا للمحظور، ولايمكن أن يكون هناك حكمٌ من الله يضاد مصلحة العباد على القطع.
وهي مصالح ضرورية لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا إذا فقدت لم تحصل المصالح وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
ومصالح حاجية وهي التي توسع على المكلفين وترفع الضيق الذي يؤدي إلى الحرج (كرخصة السفر، والفطر في المرض، وقصر الصلاة، وإباحة الصيد.. الخ).
ومصالح تحسينية كستر العورة، والزينة، وآداب الأكل...الخ).
- ومصالح مهدرة: أي غير معتبرة وهي المصالح التي أعطاها الشارع الحكيم درجة الإهدار ونصّ على حرمتها بالرغم من أن فيها بعض المنافع للناس فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وغير ذلك كثير.. (كالذي يأمر بالإفطار في رمضان لمصلحة الإنتاج، أو يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث، أو يقيد الطلاق ويحدد عدد الزوجات بواحدة.... الخ)
وهي مصالح مهدرة لأنها تصطدم إما بقاعدة شرعية أو نص.
- ومصالح مرسلة: وهي التي أرسلها الشرع فلم ينصّ عليها باعتبار أو إهدار، ولا تصطدم بقاعدة شرعية مثل :
لا ضرر ولا ضرار.
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
الضرر يدفع بقدر الإمكان .. وهكذا.
وهذه المصالح المرسلة مثل :
زراعة صنف معين كالذرة أو القمح أو القطن لحاجة البلاد، والصناعات المختلفة، وكل شيء فيه مصلحة للناس لم ينص عليها الشرع كالترع والمصارف والجسور والمشافي والمدارس وغيرها..
قال القرافي:
(ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف، وترشيح أبي بكر لعمر للخلافة، وكذلك ترك الخلافة شورى، وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن وغير ذلك مما عمله الصحابة لمطلق المصلحة).
في القديم والحديث حاولت بعض الجماعات أن تنال من قدسية النصوص تحرّف الكلام عن مواضعه باسم المصلحة..
في هذه الأيام (على سبيل المثال) تعقد المؤتمرات الكثيرة تحت اسم العولمة وحقوق الإنسان وغيرها من الأسماء.. وكلها تركز على ضرورة تطوير النص القرآني بما يتناسب مع حقوق الإنسان.. ففي رأيهم أن الزواج بأكثر من واحدة.. وإعطاء المرأة نصف ميراث الرجل.. مما يتناقض مع حقوق الإنسان.. الأمر الذي يتطلب تعديل النصوص حتى يتمكن الإسلام من مسايرة الحياة العصرية.
وكذلك حاول البعض الآخر الاستناد على بعض الحوادث في سيرة الأصحاب مدعيا أن النصوص عُطّلت من أجل المصلحة، مثل ذلك ما ذكر أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقف العمل ببعض النصوص، لأنه رأى المصلحة في ذلك!
وهذا كلام خطير، معناه أن النص القرآني قد يخالف المصلحة العامة، وأن البشر لهم -والحالة هذه- أن يخرجوا عليه أو يوقفوا العمل به.
قالوا: منع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم الزكاة أن يُصرف للمؤلفة قلوبهم بحجة أن الإسلام استغنى عن تألفهم. وفَهمُ صنيعِ عمر على أنه تعطيل للنص خطأٌ بالغٌ، فعمر حَرَمَ قوما من الزكاة لأن النصّ لا يتناولهم لا لأن النص انتهى أمده.
لقد رفض سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل تألفا لقلوبهم أو تجنبا لشرورهم، بعدما استطاع الإسلام أن يهزم الدولتين الكبريين في العالم، فهل يظل على قلقه من أولئك البدو النهابين أمثال عباس بن مرداس والأقرع بن حابس؟
إن مصرف المؤلفة قلوبهم باق إلى قيام الساعة يأخذ منه من يحتاج الإسلام إلى تألفهم، ويُذاد عنه من لا حاجة للإسلام فيه.
ولا يستطيع بشر مهما كانت منزلته أن يعطل النصّ.
وزعموا : أن عمر رضي الله عنه عطّل حدّ السرقة عام المجاعة! ونقول إنّ الجائع الذي يسرق ليؤكِل أولاده لا قطع عليه عند جميع الفقهاء فما الذي عطّله عمر؟!
إن قطع يد السارق المعتدي هو حكم الله إلى آخر الدهر، ولا يقدر بشر على وقف حكم الله.
ولإقامة الحدّ شروط مقرّرة، فمن سرق دون نصاب، أو سرق من غير حرز لم تقطع يده، ولا يقال: عُطّل الحد، بل يقال: لم يجب الحدّ.
إن عمر درأ الحدّ بالشبهة -كما أمرت السنة الشريفة- عندما قال: أنّا لانقطع في عام جدب، وكما رفض قطع أيدي الغلمان الذين سرقوا ناقة لابن حاطب بن أبي بلتعة. لقد نفذ عمر رضي الله عنه الحد عندما وجب، ودرأ بالشبهة عندما لم يقم.
وقالوا: إن عمر رضي الله عنه حرّم الزواج بالكتابيات معطلا بذلك قوله تعالى: ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهنّ محصنين غير مسافحين) المائدة-5 .
فالزواج باليهوديات والنصرانيات مباح على الصفة التي ذكر الكتاب العزيز، من شاء فعل ومن شاء ترك، وقد تقوم حوافز على الفعل، أو على الترك لا تغير الحكم الأصلي.
فإذا رأى شخص أن ذلك الزواج وسيلة هداية إلى الحق فعل.
وإذا رأى أحد أنه يجعل سوق المؤمنات كاسدة ترك، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه.
تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر: خلّ سبيلها!
فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟
فقال عمر: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف على المؤمنات، أن تزهدوا فيهن ولا تقبلوا عليهن.
ونظرة عمر لا تلغي نصا كما رأينا، ولكنها تلفت النظر إلى مصلحة اجتماعية هامة.
رأي الإمام ونائبه
الأحكام كما رأينا أنواع:
أحكام مصادرها نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة على أحكامها،
وهي نهائية، ملزمة، لا مجال فيها للاجتهاد.
أحكام مصادرها نصوص ظنية في الدلالة على أحكامها.. وهذه فيها مجال للاجتهاد.
أحكام انعقد عليها إجماع المجتهدين في عصر من العصور.. وهذه لا مجال فيها للاجتهاد.
أحكام لم تدل عليها النصوص ولا أجمعت عليها الأمة.. فهي مجال للاجتهاد.
ولكن من الذي يملك حق الاجتهاد؟
الذين لهم الاجتهاد بالرأي هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية بالفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي.
ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة، إلا إذا توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته إلا بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي والاستنباط فيما لا نص فيه.
فإذا اختلف الفقهاء في مسألة ما فيها أكثر من رأي، فرأي إمام المسلمين ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات.
الأصل في العبادات التعبد
يقول ابن تيمية : إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان:
عبادات يصلح بها دينهم،
وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.
أما العبادات التي أوجبها الله لا يثبت الأمر بها إلا بشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاد الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله.
ويقول الإمام أحمد : إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله.
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه.
ومن هنا فإن القاعدة أن الأصل في العبادات التوقيف والتعبد بها لله سبحانه وتعالى، والأصل في العادات البحث في الحكم والمقاصد، فإن فهمنا حكمة الله في شيء حمدنا الله على ذلك، وإن عجز العقل عن إدراكها اتهمنا العقل بالعجز ولا نتهم الشرع بالنقص.
*****************************
نحو رؤية أصولية
للواقع الدعوي المعاصر
من المعلوم لدى الخاصة والعامة أن قوام الشريعة نصوص وألفاظ بحكم كونها مستندة على خطاب الوحيين - الكتاب والسنة، وهذا الخطاب بألفاظه ومعانيه بحاجة إلى تنزيل، كما هو مقتضى هذه الألفاظ، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
ومن المعلوم أيضاً أن نصوص الوحيين من حيث دلالاتها دائرة بين كونها قطعية وظنية الدلالة، وهذا بطبيعة الحال يقابله اختلاف في الأفهام، وتباين في العقول، وتقابل في المدارك، وتغاير في الطرق المتبعة للاستفادة من النصوص ودلالاتها، ولو ترك الباب مفتوحاً لأخذ الأحكام دون ضوابط أو قواعد أو معايير لحصل الاختلاط، واللبس، والفوضى الفكرية بل والمادية إن اشتط الأمر وتجاوز حده
وهذا التنزيل لا بد له من قواعد يُستند عليها، ولتحقيق هذه المقصد وضع علم أصول الفقه، فهذا العلم كما يحده الأصوليون: علم يبحث في أدلة الأحكام وقواعد الاستنباط وكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل والمستجدات.
ولا شك أن أجَّلَ مهمة يؤديها هذا العلم هو ضبط طرق الاستنباط، وتجليته للدليل الصحيح المناسب للوصول إلى الحكم الصحيح بعيداً عن الخرص والظن واتباع الهوى،
ولو نظرنا إلى حقيقة الدعوة إلى الله التي تسعى إلى إرجاع الناس إلى دين الله ، لوجدنا أنها من جنس أحكام الشريعة، وجملة تصرفات الدعاة والعاملين في هذا المجال لا تخرج عن تصرفات المكلفين.
من هنا كانت الحاجة إلى ربط الواقع الدعوي بالمناهج الأصولية.
وانطلاقاً مما سبق تظهر أهمية دراسة العلاقة بين علم الدعوة وعلم أصول الفقه؛ لما لكليهما من مكانة بلغت الغاية في الأهمية؛ لكونهما قوام المجتمع الإنساني،
فالأول يشكل وسيلة لتبليغ شرع الله إلى الناس كافة مستنداً في ذلك على قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}،
والثاني يمثل السبيل الذي به تستخرج الأحكام، وتعرف الفروع الفقهية، وتميز المواقف الشرعية في الحوادث والنوازل.
ارتباط الدعوة بالمصلحة الشرعية
الأصل الذي يمثل منطلقًا لارتباط الدعوة بالمصلحة الشرعية هي أن الشريعة إنما وضعت كما يقول الشاطبي: "لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا ".
وكما يقول ابن القيم: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل".
وبحكم كون الدعوة من جنس أحكام الشريعة كما أسلفنا لذلك هي مرتبطة بتحقيق مصالح العباد جلبًا لها ودرءًا للمفاسد عنهم.
وحري بنا ونحن في سياق تأصيل للمفاهيم أن نؤصل لمفهوم المصلحة؛ لنقف على حقيقة الارتباط بينه وبين مفهوم الدعوة. ونعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع.
ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم.
فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة ".
والصحيح الذي عليه جماهير العلماء: أن المصلحة المرسلة حجة معتبرة، وهي في حقيقتها مندرجة ضمن مقاصد الشريعة، وهي وإن لم ينص على اعتبارها دليل خاص، إلا أن الاستقراء التام لنصوص الشرع يدل على قيام الشريعة كلها على جلب المصالح واعتبارها، ودرء المفاسد وإلغائها أو تخفيفها.
وقد قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الشريعة: "جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.
وقد أبرز العلماءُ الأمثلة التي تدل على مشروعية الأخذ بهذا النوع من المصالح، ومنها: جمع صحف القرآن في مصحف واحد وجمع المسلمين عليه، وتضمين الصناع، وقتل الجماعة بالواحد، وتعريف الإبل الضالة، ومنع صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وحد شارب الخمر ثمانين، وغير ذلك.
ولو تأملنا المصالح الدعوية ونحن في سياق ربطها بالمصلحة الشرعية، فنجد أن المصالح الدعوية ألصق بالمصالح المرسلة منها بغيرها.
أن تلكم المصالح تحتاج إلى استحداث الوسائل المعينة على تبليغ الدعوة ونشرها طالما أنها تصب في المصلحة المقصودة، واعتبار مثل هذه المصالح الدعوية يؤكد مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
ضوابط المصلحة الدعوية:
يكتسب الحديث عن ضوابط المصلحة الدعوية والقيود الواجب استحضارها في مراعاتها واعتبارها أهمية بالغة كون الضوابط في منزلة المصلحة من حيث الأهمية.
ولذلك كان لزامًا بيان تلكم الضوابط، وتحديدها وتعيينها؛ لتكون إطارًا محدَّدًا للمصلحة الدعوية:
أولاً: اندراجها في مقاصد الشريعة:
ومعنى هذا أن تكون مندرجة في مقاصد الشرع: أن تكون حافظة ومحققة لمقاصد الشارع الخمسة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة.
ثانيًا: عدم معارضتها لنصوص الوحي:
ومقتضى ذلك: ألا تكون المصلحة المُتوخَّاة مصلحة موهومة، كأن تعارض نصًّا قاطعًا، أو ظاهرًا جليًّا أو غير جليٍّ، أما إذا كان النص قطعي الدلالة، فلا وجه لمعارضة المصلحة له؛ لأنها تكون عند ذلك مظنونة محتملة.
ثالثًا: عدم معارضتها للإجماع:
الإجماع يعتبر حجة شرعية في إثبات الأحكام، وهو دليل يلي النصوص في القوة والاحتجاج؛ لأنه يستند إلى دليل شرعي وإن لم يصلنا هذا الدليل، وإنما وصلنا الحكم المستنبط منه، لذلك ذهب جمهور العلماء إلى أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل بها.
والإجماع إما أن يكون قطعيًا، وإما أن يكون ظنيًا، فالقطعي كالإجماع على العبادات والمقدرات، وعلى نحو تحريم الجدة كالأم، وتحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدة للأب مع الجدة للام وغيرها.
فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة حتى وإن ظهرت مشروعيتها، فالمصلحة المعارضة للإجماع القطعي ليست مصلحة معتبرة، ولا يمكن وصفها بأنها قطعية؛ لأن هذا التوصيف يفضي بنا إلى التعارض بين القطعيات وهذا محال، فلا يعدو الأمر كونه دعوى القطع لمصلحة موهومة.
أما الإجماع الظني الذي يكون مقتضاه أحكامًا متغيرة بتغير الزمان والمكان والحال، فهذا يمكن أن تتغير صورته بموجب المصلحة الحادثة؛ كونه في أصله قائمًا على مصلحة ظرفية ناسبت إنشائه، أما مع تغيرها فلا وجه لثباته، والواقع أن التعارض هنا بين الإجماع المبني على المصلحة الظرفية وبين المصلحة الحادثة هو في حقيقته تعارض بين مصلحتين، فينظر عند ذلك أيهما أرجح.
رابعًا: عدم معارضتها للقياس:
خامسًا: عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها:
يقول ابن عاشور: "الشريعة تسعى إلى تحقيق المقاصد في عموم طبقات الأمة بدون حرج ولا مشقة، فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع.
فهي تترقَّى بالأمة من الأدون من نواحي تلك المقاصد إلى الأعلى، بمقدار ما تسمح به الأحوال ويتيسر حصوله، وإلا فهي تتنازل من الأصعب إلى الذي يليه مما فيه تعليق الأهم من المقاصد ".
من هنا فإن الشريعة راعت بما وضعته من أوامر ونواهي حفظ مقاصد الخلق ومصالحهم، وهي متنوعة ومتعددة بحسب اعتباراتها المصلحية، فباعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى الكليات الخمس المشهورة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويتفرع من كل كلية ما هو ضروري وحاجي وتحسيني، وما مكمل لها، وباعتبار عمومها وخصوصها تكون المصلحة خاصة أو عامة، وباعتبار القطع والظن تكون حقيقية أو وهمية، وتكون قطعية أو ظنية، وباعتبار شهادة الشارع وعدمها تكون معتبرة وملغاة ومرسلة.
وبهذه الاعتبارات تتحدد المصالح وتترجح عند التعارض إذا تعلقت بمحل واحد، فيقدم حفظ الدين على النفس، وحفظ النفس على حفظ العقل وهكذا، ويقدم ما هو ضروري على ما هو حاجي، وما هو حاجي على ما هو تحسيني، ويقدم ما هو عام على ما هو خاص، وما هو قطعي على ما هو ظني، وما هو ظني على ما هو وهمي.
سادسًا: النظر في المصالح من حيث الأصل إنما وهو وظيفة العلماء والفقهاء:
يقول ابن عاشور: "ليس كل مُكلَّفٍ بحاجةٍ إلى معرفة مقاصد الشريعة، فحقُّ العامِّيِّ أن يتلقَّى الشريعة بدون معرفة المقصد؛ لأنه لا يحسن ضبطه ولا تنزيله، وإذا كانت بعض معاني الشريعة ظاهرة بينة، والمصلحة فيها قطعية لا خلاف فيها بين العلماء مهما اختلفت الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة - كسائر القطعيات في الشريعة.
فإن هناك من المعاني ما يتردد بين كونه صلاحًا تارة وفسادًا تارة أخرى، فهذه لا تصلح لاعتبارها مقاصد شرعية على الإطلاق، ولا لعدم اعتبارها كذلك، بل المقصد الشرعي أن توكل إلى نظر علماء الأمة وولاة الأمور الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد، لتعيين الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره صلاحًا أو فسادًا".
وقد كان هذا النهج سبيلاً لكبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان أبو بكر - رضي الله عنه - يجمع رؤوس الناس ويستشيرهم فإذا اجتمع أمرهم على أمر قضى به، ومثله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي إذا أعياه إيجاد الحكم في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قد قضى به قضاء، فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.
فقه مآلات الأفعال
وأثره في مسيرة الدعوة الإسلامية المعاصرة
فقه المآلات من أنواع الفقه الدقيقة ؛ لأنه ينبني على قراءة عميقة للواقع، والبحث في القرائن والأمارات والعلامات الدالة على كون الفعل يؤول إلى مصلحة راجحة أو مفسدة راجحة، ذلك أن النظر في المصلحة يجب أن يمتد إلى ما تؤول إليه من نتائج مصلحية أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ للمصلحة على وقتها دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان دون اعتبار الأماكن، أو على شخص دون اعتبار بقية الناس، وخصوصاً في الفتاوى والأنظمة العامة.
فالأولى تقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعاً والأطول بقاء على غيرها من المصالح،
والقاعدة الشرعية المتعلقة بفقه المآل نص عليها الشاطبي في موافقاته بقوله: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة "،
ومؤدى هذه القاعدة أن مقصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع.
والفعل الذي ينظر إلى مآلاته في الواقع لا يخلو من حالات عدة:
الأول: أن يكون الفعل مشروعاً في الأصل ويفضي إلى مصلحة راجحة فعند ذلك يكون موافقاً لقصد الشارع، فيبقى على أصله المشروع.
الثاني: أن يكون الفعل مشروعاً في الأصل ولكنه يفضي إلى مفسدة راجحة، والحكم في هذه الحال المنع ؛ لأنه يكون مخالفاً لمقصود الشارع التفاتاً إلى المآل.
الثالث: أن يكون الفعل غير مشروع في الأصل، إلا أنه يفضي إلى مصلحة راجحة أو دفع مفسدة أعظم من مفسدة أصل الفعل، فيكون مآله موافقاً لمقصد الشارع، فيتغير وصف الفعل من كونه غير مشروع إلى المشروعية، استناداً إلى قاعدة المآل وإعمالاً لها.
الرابع: أن يكون الفعل غير مشروع في الأصل ويفضي إلى مفسدة راجحة، وهذا يبقى على أصله غير المشروع.
وقد فصل الشاطبي هذه الأحوال في النظر إلى المآلات وزادها بياناً باستقراء الأدلة الشرعية، فقال - رحمه الله - بعد أن نص على القاعدة المتقدمة في المآلات: " وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ؛ مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف مما قصد منه ؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك.
القواعد المتعلقة بفقه المآل:
ينبني على هذا الأصل جملة من القواعد التي لها الصلة الوثقى بمآلات الأفعال، ومنها:
أولاً: قاعدة الذرائع:
وقد عرف ابن القيم الذرائع بأنها ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء، وهو يشمل ما يسمى سد الذرائع وفتحها[21]، قال القرافي: " اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح ؛ فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج،
موارد الأحكام على قسمين:
مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها،
ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها. وقد أقام ابن القيم تسعة وتسعين دليلاً من الكتاب والسنة وعمل الصحابة لإثبات صحة هذه القاعدة، منها::
- قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}،
فمنعهن الله من الضرب بالأرجل وإن كان جائزاً في نفسه ؛ لئلا يكون سبباً إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فالله عز وجل نهاهم أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير ؛ لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب، يقصدون فاعلاً من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها سداً لذريعة المشابهة ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - تشبهاً بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.
- أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح ؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة.
- ما أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ".
قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه ؟
قال: " يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه ".
فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل ساباً لاعناً لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
- جمع عثمان - رضي الله عنه - المصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة - رضي الله عنهم -.
ثانياً: قاعدة الحيل:
حقيقة هذه القاعدة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع،
قال ابن القيم: " وبالجملة فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام. والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها.
ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبين الحيل وباب سد الذرائع أعظم التناقض.
بعض الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم الحيل وبطلانها:
أولاً: الحيل المحرمة مخادعة لله، ومخادعة الله حرام:
أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين - وهم أعلم الأمة بكلام الله ورسوله ومعانيه - سموا ذلك خداعاً، وأما الثانية فإن الله ذم أهل الخداع، وأخبر أن خداعهم إنما هو لأنفسهم، وأن في قلوبهم مرضاً، وأنه سبحانه خادعهم، وكل هذا عقوبة لهم، ومدار الخداع على أصلين:
أحدهما: إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له.
الثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له.
وهذا منطبق على الحيل المحرمة، وقد عاقب الله سبحانه المتحيلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد جنتهم وإهلاك ثمارهم، فكيف بالمتحيل على إسقاط فرائض الله وحقوق خلقه؟.
ثانياً: قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [32]، والمعنى أنهم باشروا رميها يوم السبت دون إخراجها، وإنما فعلوا ذلك تأويلاً وتحايلاً ظاهره ظاهر الاتقاء، وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا مسخوا قردة ؛ لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دينَ الله بحيث لم يتمسكوا إلا يما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاء وفاقاً.
ثالثاً: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة "،
وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق، فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيلاً على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع، فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها.
رابعاً: إجماع الصحابة على تحريم الحيل وإبطالها، وإجماعهم حجة قاطعة، بل هي من أقوى الحجج وآكدها، ومن جعلهم بينه وبين الله فقد استوثق لدينه.
خامساً: ومما يدل على بطلان الحيل وتحريمها أن الله تعالى إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومعادهم، فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لا بد لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به، فإذا احتال العبد على تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله وتعطيل ما شرع الله كان ساعياً في دين الله بالفساد من وجوه:
أحدها: إبطاله ما في الأمر المحتال عليه من حكمة ونقض حكمته فيه ومناقضته له.
والثاني: أن الأمر المحتال به ليس له عنده حقيقة، ولا هو مقصوده، بل هو ظاهر المشروع، فالمشروع ليس مقصوداً له، والمقصود له هو المحرم نفسه، وهذا ظاهر كل الظهور فيما يقصد الشارع، فإن المرابي مثلاً مقصوده الربا المحرم، وصورة البيع الجائز غير مقصودة له، وكذلك المتحيَّل على إسقاط الفرائض بتمليك ماله لمن لا يهبه درهماً واحداً بل حقيقة مقصوده إسقاط الفرض، وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودة له.
الثالث: نسبته ذلك إلى الشارع الحكيم وإلى شريعته التي هي غذاء القلوب ودواؤها وشفاؤها، ولو أن رجلاً تحيل حتى قلب الغذاء والدواء إلى ضده، فجعل الغذاء دواء والدواء غذاء، إما بتغيير اسمه أو صورته مع بقاء حقيقته لأهلك الناس، فمن عمد إلى الأدوية المسهلة فغير صورتها أو أسماءها وجعلها غذاء للناس، أو عمد إلى السموم القاتلة فغير أسماءها وصورتها وجعلها أدوية، أو إلى الأغذية الصالحة فغير أسماءها وصورها، كان ساعياً بالفساد في الطبيعة، كما أن هذا ساع بالفساد في الشريعة، فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان، وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصورها.
ثالثاً: قاعدة مراعاة الخلاف:
ومقتضى هذه القاعدة يجليها الشاطبي في موافقاته بقوله: " وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت فلا يكون إيقاعها من المكلف سبباً في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها، كالغصب مثلاً إذا وقع، فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله وكان ذلك من غير زيادة صح، فلو قصد فيه حمل على الغاصب لم يلزم ؛ لأن العدل هو المطلوب، ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة، وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته.
رابعاً: قاعدة الاستحسان:
الاستحسان من الأدلة التي اختلف الأصوليون في كونه دليلاً من أدلة الأحكام ؛ ومرجع ذلك فيما يظهر عدم تحديد معناه وتحرير مفهومه، فإن كان المعنى ينصرف إلى القول بما استحسنه الإنسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل قطعاً،
وأما تفسيره بأنه العدول عن دليل إلى دليل أقوى منه، فهذا مما لم ينكره أحد، وهذا الذي قرره الحنفية الذين توسعوا في الأخذ بهذا الدليل، حتى الشافعية الذين يقولون بأنه من الأدلة الموهومة لا ينكرونه بهذا المعنى؛ لأنهم لم يرفضوا الاستحسان بالمطلق، فقد عملوا بمضمونه ولم يطلقوا عليه هذه التسمية، إذ أنهم ينفون كونه دليلاً مستقلاً ويجعلونه داخلاً في دائرة القياس،
أما المالكية فقد جعلوه فرعاً من المصالح المرسلة، قال الشاطبي: " الاستحسان وهو - في مذهب مالك - الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس.
وتظهر صلة قاعدة الاستحسان بفقه المآلات من جهة أن الأخذ بمقتضى الدليل العام الذي يفيد الحظر يفضي إلى تفويت المصلحة المرجوة بخلافه، والوقوع في الحرج والمشقة، وفقدان حاجة أساسية للعامة، وهذا التعليل هو الذي استند عليه الشاطبي في ربط قاعدة الاستحسان بأصل المآل حيث قال في سياق ضربه لبعض الأمثلة الدالة عليه: " الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، وجمع المسافر، وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل يقتضي منع ذلك ؛ لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه، ومثله الاطلاع على العورات في التداوي، والقراض، والمساقاة، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع، وأشياء من هذا القبيل كثيرة ".
الواقع الدعوي المعاصر والموقف من فقه المآلات:
هل كان الواقع الدعوي المعاصر بنخبه الدعوية وأتباعهم مستحضراً قاعدة المآل في أفعاله وأقواله ؟
والإجابة على هذا التساؤل تقتضي منا الرجوع قليلاً إلى منتصف القرن الماضي الذي شهد ما سمي بالصحوة الإسلامية المباركة - وهي كذلك - حيث بدأت بوادر العودة إلى الإسلام، والاهتمام بالعلوم الشرعية تعلماً وتعليماً، إلا أن الملاحظ على الحركة الإسلامية التي كانت محور هذه الصحوة في ذلك الوقت غلبة الطابع السياسي عليها، ولا غضاضة في ذلك إلا أن غلبة جانب على جانب آخر يفضي إلى اختلال في التوازن في الجسد الواحد فضلاً عن تعدده،
ولندع أحد رموز تلك الحركة يتحدث عن طبيعة الدعوة في ذلك الوقت ويجلي لنا الموقف الذي اتخذته الحركة آنذاك، ويبين لنا الأخطاء التي وقعت فيها.
يقول الأستاذ محمد قطب: " لقد بين الله لنا طريق التمكين: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ... } .
فتلك شروط أربعة في أربع آيات متواليات من سورة واحدة، تبين الشروط الأساسية للنصر:
وجود مؤمنين صادقي الإيمان، متآلفة قلوبهم، متجردين لله، مستعدين للقتال حين تقتضي ذلك ظروف الجهاد.
فإذا نظرنا إلى واقع الدعوة في ضوء هذه الشروط فسنجد ولا شك أننا قطعنا شوطاً، ولكننا استعجلنا الطريق !
هناك ثلاثة أسباب رئيسة أدت إلى التعجل في الحركة المعاصرة:
أولاً: عدم التقدير الدقيق لمدى بعد الأمة عن حقيقة الإسلام.
ثانيًا: الانخداع بحماسة الجماهير، والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهي قريبة المنال.
ثالثًا: عدم التقدير الكافي لرد فعل الأعداء ".
ظاهر مما سبق أن العلة التي أصيبت بها الحركة هي عدم تقدير مآلات الأفعال، فكان ذلك سبباً فيما وصلت إليها من نتائج وآثار، وهي لو أحكمت سيرها، وتبينت طريقها، لما أصابها ما أصابها، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة،
ولكن ونحن في سياق بيان الأسباب التي أدت إلى فشل الحركة الإسلامية في نهضتها الأولى - إن صح التعبير - يحق لنا أن نتساءل: ما هو السبب الرئيس والمباشر الذي يعتبر جامعاً للأسباب الآنفة الذكر، وأفضى بالحركة الإسلامية إلى تلكم الآثار ؟
والقراءة الواعية تظهر لنا أن السبب الرئيس هو سياسة التعانف، فالحركة لجأت إلى سياسة العنف لتكون شعاراً للتغيير والإصلاح في الإطار الداخلي، والواقع أن اللجوء إلى سياسة العنف واستخدام القوة له ما يبرره.
فذلكم السبب يسهل تعاطيه فيكونوا في هذا قد اقتدوا بابن آدم الذي سهل عليه أن يقول لأخيه: {لَأَقْتُلَنَّكَ } ،
أما الأخذ بالأسباب المجدية التي تجعل المساعي ناجحة والأعمال متقبلة فإنه لا يقدر عليها إلا من أوتي خصلتين جمعهما الله تعالى في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ،
ولكن هل بعد ذلك فُهم هذا الدرس، وأُدركت معانيه أم لا ؟
الذي يظهر خلاف ذلك، بدليل أن العنف أصبح هو اللغة السائدة عند كثير من الشباب اليوم، وهو الذي أضحى الوسيلة الوحيدة للتغيير في أذهان كثير من الشباب، على الرغم من النداءات والتنبيهات للعلماء وطلبة العلم التي أظهرت خطأ هذا المسلك وخطورته، إلا أنه لم يكن ناجعاً حتى هذه اللحظة، وأضحى العنف المسلح بالفعل مرض العصر، وما أصدق ما قاله الأستاذ جودت سعيد في هذا السياق: " إن مرض العنف ليس مرض الشباب فقط، وإن كانوا أجرأ على حمله.
إن العالم كله مريض بتلك الجرثومة..
إن الموضوع يحتاج إلى انقلاب شامل في سلوك البشر، فنحن لا نزال في مرحلة التصديق لتهمة الملائكة لبني آدم بالفساد في الأرض وسفك الدماء ".
ولا شك أن التعانف والاحتراب أسوأ ما يمكن أن يلجاً إليه مجتمع ما في تسوية مشكلاته، وإصلاح أوضاعه، وقد دلت التجارب التاريخية والمعاصرة على فداحة المصائب التي يحصدها الناس من وراء اللجوء إلى القوة لتقويم ما بهم من اعوجاج، وكيف سيربحون معركة هم جنودها وضحاياها في آن واحد ؟!.
والنظرة الثاقبة في قراءة هذا المسلك ترشدنا إلى الآثار والمساوئ الوخيمة التي تجنيها الأمة والمجتمع المسلم من جراء اتخاذ العنف المسلح مسلكاً وسبيلاً للتغيير، وبدون أن يكون هناك أي تردد في القول بأن هذا المسلك الخطير قد جانب بحق فقه المآلات وقواعده الشرعية.
ولعل من أبرز تلكم المساوئ:
- إذا كان المقصود من العنف حمل الناس على تطبيق الشريعة فإن ذلك وهم من الأوهام ؛ لأن طبيعة الدين تأبى ذلك وتجافيه، فالدين الحنيف مجموعة من القيم والمبادئ السامية، ومن طبيعة القيم أنها ترفض الإملاء والإجبار، فاعتناقها إنما يكون عن طريق القدوة الحسنة والمثل الطيب، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}.
- الجماعات التي جعلت بنيتها العقلية والثقافية والتنظيمية تتمحور حول العنف تواجه مشكلة كبرى عند انعدام من توجه العنف إليه ؛ فهي إن لم تجد من تقاتله - لسبب من الأسباب - وتفرغ طاقتها فيه وجهت تلك الطاقة إلى داخلها ؛ لتهضم نفسها بنفسها، والذي يستسهل تكفير الآخرين وقتلهم يستسهل تكفير بعض جماعته وقتلهم عند المخالفة.
- سياسة العنف تفضي إلى خنق كل الأنشطة الدعوية، ذلك أن استخدام القوة بشكل واسع سيفرز روح التوجس والتخوف، والاستعدادات لقبول التغيير الثقافي شبه معدومة، والفريق المعادي الذي وجه إليه العنف لا يمكن قطعاً أن يتقبل أفكار من يقاتله ويعلن كفره على الملأ.
- دلت التجربة على أن الذين يستخدمون القوة وسيلة للإصلاح لا يستطيعون الحفاظ على أهدافهم، ولا ضبط وتيرة تحركهم، فمن خلال المحاصرة والمطاردة لهم، يسرعون حركة المقاومة ؛ لتخرج عن الخطة السياسية، كما أنهم يقومون بأعمال يائسة لا تدل إلا على الإفلاس، وبالإضافة إلى ذلك فإن أعمالهم القتالية تتحول من استهداف إقامة الدين ومحاربة الفساد إلى المحافظة على وجودها واستمرارها ليس أكثر، أي تصبح بلا هدف، ومن ثم فإن دائرة القتل تتوسع ؛ لتشمل الأبرياء، ويحدث نوع من التوسع الفوضوي في الفتوى لإضفاء الشرعية على كل ذلك، وهذا كله يفرغ الحركة القتالية من مضامينها بالتدريج، ويزرع في داخلها أزمة الشرعية والافتقار إلى الرؤية الراشدة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
وسوم: العدد 686