نجوى أهل القلوب
قال الإمام الرفاعي رحمه الله تعالى:
أي بني ، اعلم أن أهل المعرفة يبكون إذا ضحك أهل الغفلة ، ويحزنون إذا فرح أهل الغِرَّة ، قال الله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وقوله : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } ، وأن الله تعالى ذكر من دلائل المعرفة ومن علامات العارفين كثرة البكاء وسيل الدموع ، قال : {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} ، وذم أهل الغفلة بالضحك وترك البكاء في قوله : {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ) .
واعلم أنّ البكاءَ بكاءُ العين ، وبكاءُ القلب ، وبكاء السرّ .
فأمّا بكاءُ العين فهو لأهل المعرفة من المنيبين ، وأمّا بكاء القلب فهو لأهل المعرفة من المريدين ، وأمّا بكاء السر فهو لأهل المعرفة من المحبّين .
واعلم أنّ لأهل المعرفة هموماً مخبوءة تحت أسرارهم ، مستورة عن أفكارهم ، فكلّما هاج من أسرارهم رياح خشية الهيبة ، ومن قلوبهم لهب نيران الأحزان ، أحرقت ما عليها من هشيم الغفلة والنسيان.
قال الإمام الروّاس :
وَتَمَلْمَلُوا لَيْلًا عَلَى مِحْرَابِهِمْ * * * بِمَدَامِعٍ كَسَوَاجِمِ الْأَمْطَارِ
فَكَأَنَّمَا نَوْحُ الْحَمَامِ زَجِيلُهُمْ * * * جُنْحَ الْدُّجَى بِعَجَائِبِ الْأَذْكَارِ
يَبْكُونَ قَدْ رَقَّ الْجَمَادُ لِحَالِهِمْ * * * خَوْفَ الْمُهَيْمِنِ لا لِخَوْفِ الْنَّارِ
وقال :
يتَمَلْمَلونَ توَجُّعًا وتَفَجُّعًا * * * وتَخَشُّعًا وتَخَضُّعًا والدَّمعُ دَمْ
يَبْكونَ حتَّى أن يمَلَّهُمُ البُكا * * * والحِلُّ يعذُرُهُمْ لذلكَ والحَرَمْ
تَشْتاطُ بالحزنِ المُلحِّ قُلوبُهُمْ * * * ويَحُفُّ أرجُلَهُمْ بموقِفِها الوَرَمْ
وإذا النَّهارُ بَدا ثَوَوْا فكأنَّما * * * لا الحربُ صارَ ولا أَخو الجُبْنِ انْهَزَمْ
وسوم: العدد 705