الخاطرة ٢٠٤ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٧
خواطر من الكون المجاور
ذكرنا في المقالة الماضية أنه بعد صعود عيسى إلى السماء وموت يهوذا الأسخريوطي ، أصبح عدد تلامذة يسوع (١١) تلميذا فقط ، فوجب عليهم إختيار تلميذا آخر بدلا من يهوذا الأسخريوطي ليكتمل عددهم إلى (١٢) . هنا سنتكلم بشيء من التفصيل لنشرح حقيقة ما حصل ليتضح لنا علاقة بولس بعلوم يوسف .
كان تلامذة يسوع بحكمة إلهية قد إختاروا إثنين من أتباع يسوع الذين كانا معه في معظم تجولاته ، الأول هو متياس والثاني هو يوسف ، لذلك قرر التلامذة أن يصلوا ليساعدهم الله في إختيار التلميذ المناسب ، وبعد الصلاة قاموا بإجراء القرعة وكانت نتيجتها إختيار متياس ليأخذ مكان التلميذ رقم (١٢) . الحكمة الإلهية هنا في هذه الحادثة أن القرعة أتت في إختيار متياس ليكون التلميذ الظاهر المناسب لمستوى الإدراك الروحي للمسيحيين في ذلك العصر ، أما الثاني يوسف فكان أسمه رمز لذلك الشخص الذي سيختاره الله ليكون التلميذ الثاني عشر ، والذي سيكون رمز لعلوم يوسف المادية (القسم اليساري من يوسف) التي ستندمج مع تعاليم يسوع لتستطيع الديانة المسيحية دخول الأمم الأوربية التي ترمز للقسم الغربي من العالم . لذلك فرغم أهمية دور التلميذ رقم (١٢) نجد ان الكتب المقدسة للعهد الجديد لا تذكر أي معلومة على الإطلاق عن متياس الذي إختاره تلامذة يسوع ، سوى كلمات قليلة لا أهمية لها لفهم حقيقة دوره . ولهذا معظم المسيحيين حتى اليوم لا يعلمون شيئا عن متياس ، والسبب أن الحكمة الإلهية كانت قد إختارت شخصا آخر (الذي رمزه يحمل أسم يوسف) وكانت تهيئ له الظروف منذ سنوات عديدة ليكون هو الشخص المناسب تماما للمواصفات التي ستشرح حقيقة دور التلميذ رقم (١٢) في تكوين الأمة المسيحية . وسنحاول هنا ذكر بعض من تلك الحقائق الإلهية التي وضعها الله في شخصية التلميذ رقم (١٢) وبعض الأحداث التي مرت معه التي تؤكد صحة ما ذكرناه عنه .
قبل ظهور المسيح بسنوات عديدة وفي مكان بعيد عن فلسطين وبالتحديد في مدينة طرسوس التي تقع في منطقة كيليكيا في جنوب آسيا الصغرى ، كان هناك رجل يهودي غني إستطاع بأمواله شراء الجنسية الرومية ، وكونه يحمل هذه الجنسية كانت حقوقه كمواطن تختلف كثيرا عن حقوق اليهود في أشياء عديدة وأهمها حق المشاركة والنقاش في جماعة الكهنة ، حق الحصول على الميراث ، حق في رفع دعوى أمام المحكمة الرومية ، حق الدخول في الأعمال القانونية ، حق دخول روما والسكن فيها . هذا الرجل اليهودي حامل الجنسية الرومية ، أنجب الطفل الذي أختاره الله ليكون فيما بعد التلميذ رقم (١٢) .
أسم المدينة (طرسوس) التي ولد فيها هذا الطفل، ليس صدفة ولكن حكمة إلهية لأن أسمها يعني في اللغة اليونانية (رسغ القدم) وهو رمز جنوب إيطاليا التي لها شكل قدم حيث هناك فتح بيثاغوراس مدرسته لتكون علامة إلهية توضح دور بيثاغوراس ، ومدينة طرسوس كانت رمز له معنى يشير إلى أن هذا الطفل عدا أنه سيكون التلميذ الروحي ليسوع هو أيضا التلميذ الروحي لبيثاغوراس الذي عيد أسمه -كما ذكرنا في حديثنا عن بيثاغوراس- في يوم (قديس كل الأشياء) ، فمدينة طرسوس في تلك الفترة كانت من أهم المدن الثقافية في منطقة أسيا الصغرى فكان فيها العديد من المدارس الفلسفية وكان يحدث فيها مجامع كبيرة لمناقشات القضايا التي تتعلق بالفلسفة .
الطفل منذ ولادته كان يحمل الجنسية الرومية ، لذلك كان له اسمين ، شاول أسمه اليهودي ، وبولس اسمه اليوناني . الحكمة الإلهية أختارت له هذين الاسمين لتوضح حقيقة دوره ، فأسم (شاول) في اللغة اليهودية له معنيين : المعنى الأول هو (المستعار) لأنه سيحل محل يهوذا الأسخريوطي الذي حل محل النبي يحيى ففشل ، والمعنى الثاني يأتي من لفظه فيُسمع في اللغة اليهودية وكأنه فعل (سُئل) معنى هذا الأسم سينطبق عليه تماما عندما ستحصل معه أهم حادثة في حياته والتي ستحوله من أعداء يسوع إلى تلميذه الثاني عشر، هذه الحادثة سنذكرها بعد قليل .
أما الاسم اليوناني (بولس) فمعناه الصغير، فكما حدث مع إسكندر المقدوني الذي إستطاع بجيشه الصغير الإنتصار على أقوى إمبراطورية في ذلك الوقت ، وهذا الصغير(بولس) هو أيضا سينتصر على الأمبرطورية الرومية التي كانت أقوى دولة في تلك الفترة ليحول ديانتها الرسمية من وثنية إلى دولة مسيحية ولكن هذه المرة ستكون دون إستخدام أي سلاح أو أي وسيلة عنف فقط بالمحبة والسلام والتسامح التي هي عماد تعاليم الدين المسيحي. الحكمة الإلهية أشارت إلى دور بولس (الصغير) في إنجيل متى الإصحاح ١١ الآية ١١ " الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه " ، والمقصود ب(الأصغر) هو بولس (الصغير) .
أسم (بولس) أيضا يحوي في داخله معاني رمزية تدل على حقيقة صاحبه ، فأسم بولس في اللغة اليونانية يتألف من هذه الحروف (ΠΑΥΛΟΣ) ، القيمة الحرفية لهذا الأسم في النظام الرقمي البسيط هو الرقم (٨١) الذي له شكل خطوط كف اليد اليسرى للإنسان فهذا الرقم يمثل اليد اليسرى للديانة المسيحية ، لهذا السبب يعتبره المسيحيون الشخصية الثانية بعد يسوع في دينهم ، لأن يسوع هو رمز اليد اليمنى لهذا الدين . أما القيمة الرقمية للأسم بولس (ΠΑΥΛΟΣ) في نظام الكابالا اليونانية فهو الرقم (٧٨١) وهو نفس القيمة الرقمية لكلمة الحكمة (صوفيا ΣΟΦΙΑ) في اللغة اليونانية ، فأسم بولس في اللغة اليونانية يحمل في مضمونه (علوم الحكمة) ، وعلوم الحكمة هي سلاح بولس التي سيستخدمها في تلك الثورة التي سيقوم بها ضد الروم ليس بقصد قتلهم والقضاء عليهم كما كان يريد يهوذا الأسخريوطي ولكن عن طريق إنقاذهم من تعاليم ديانتهم الوثنية لتحل محلها تعاليم ديانة سماوية. الله عز وجل وضع هذه الحقائق في بولس منذ ولادته لتكون كالمصباح لينير بصيرة علماء الدين عند بحثهم في شخصية هذا الرجل لتساعدهم في فهم حقيقة الدين المسيحي .
شاول (بولس) ولد حوالي ٢٠ عام قبل ظهور يسوع ونشره للدين الجديد ، في البداية درس في المدارس اليونانية في مدينة طرسوس ، وشاءت الأقدار في تلك الفترة أن تتزوج أخته من رجل يهودي من اورشليم وتذهب معه لتقيم هناك . عندما وصل (شاول) إلى عمر ١٦ عام تقريبا خاف أبوه عليه من أن يبتعد عن تعاليم دينه بسبب دراسته في المدارس اليونانية ، فأرسله إلى بيت أخته في يورشليم ليدرس الشريعة اليهودية ، ذهاب شاول إلى أورشليم كان حكمة إلهية لتكون علوم شاول علوم متكاملة (فلسفة في إطار ديني) . في أورشليم بقي حوالي ثلاث سنوات يدرس في مدرسة المعلم (غامالائيل) أفضل معلمين اليهود في ذلك الوقت . وقبل أن يظهر عيسى ليعلن عن ديانته الجديدة، كان شاول قد عاد إلى أهله في مدينة طرسوس وراح يعمل مع والده. لذلك لم يعلم شيئا عن يسوع أو عن تعاليمه .
بعد صعود يسوع إلى السماء بحوالي ثلاث سنوات ، عاد شاول إلى يورشليم ، عندها بدأ يسمع عما حصل في يورشليم أثناء غيابه ، فكانت قصة يسوع بالنسبة له تماما مثلما سمعها من اليهود ، بأنه ظهر رجل (دجال) يدعى يسوع أدعى أنه المسيح واراد أن يمحي الدين اليهودي ليأتي بدين جديد من خلال إقناع بعض اليهود بانه يستطيع صنع المعجزات ، ولكن تم القبض عليه وتمت محاكمته بصلبه فمات وإنتهى أمره. لذلك لم يعطي شاول اي أهمية لهذا الموضوع . ولكن كونه شابا شديد الإيمان بدينه وقوي البنية وحاد الذكاء ويملك الجنسية الرومية ، حاول بعض كهنة اليهود إستغلال هذه الميزات التي يملكها شاول في مساعدتهم بمطاردة أتباع يسوع والقبض عليهم لمحاكمتهم بسبب إثارتهم البلبلة في إيمان الشعب اليهودي ، ولأن شاول كان إنسانا صارما في إيمانه لدينه تقبل هذه المهمة برحابة صدر ، فأعطوه شلة من الرجال المتعصبين لدينهم ليساعدوه في مهمته ، وراح شاول يبحث عن أتباع المسيح في أورشليم ليقبض عليهم ليتم محاكمتهم ورجمهم بالحجارة حتى الموت لينشر الفزع في كل يهودي يرفض العودة إلى دينه الأول . وفي خلال فترة قصيرة أصبح أسم (شاول) يثير الرعب في نفوس أتباع يسوع المسيح .
في إحدى الأيام أخبر كهنة اليهود شاول أن جماعة من أتباع المسيح قد هربوا إلى دمشق وأنهم ينشرون ديانتهم في اليهود المقيمين هناك. وطلبوا منه أن يذهب مع رجاله إلى دمشق للقبض عليهم وإعادتهم إلى يورشليم لمحاكمتهم . في طريقه إلى دمشق حدثت مع شاول حادثة غريبة ، حيث برق أمامه فجأة نور شديد جعله يقع من على فرسه ، وعندما نظر إلى النور سمع صوت يسأله (شاول لماذا تضطهدني؟) هذه الحادثة توضح الحكمة الإلهية في إختيار أسم شاول لبولس الذي معناه (سُئل) ، ليكون اسمه حقيقة إلهية تؤكد صحة وقوع هذه الحادثة . فرد شاول على الصوت (من انت يا سيدي) ، فأجابه الصوت بأنه يسوع ، فسأله شاول من شدة حالة الخوف لما حصل معه (ماذا تريدني أن افعل يا سيدي؟) فأخبره الصوت بأن يقوم ويذهب إلى دمشق وهناك سيخبره بما يجب عليه أنه يفعله . من شدة النور الذي رآه شاول فقد بصره فحمله رجاله إلى دمشق ، وهناك بقي لمدة ثلاثة أيام اعمى لا يأكل ولا يشرب ولكن فقط يفكر في حقيقة ما حدث معه. فما حدث معه كان قد قلب الموازين في عقله رأساً على عقب .
في دمشق ظهر الصوت ثانية لشاول وأخبره بأن رجل أسمه حنانيا سيأتي ليعيد له بصره وسيقول له ماذا عليه أن يفعل، أسم (حنانيا) ليس صدفة ولكن له علاقة بالحادثة ، فمعنى أسم (حنانيا) مصدره في اللغة العبرية والعربية أيضا هو (حنان ،حنية) ويعني (الله يتحنن) ، فرغم ما فعله بولس بأتباع يسوع من تعذيب وقتل ،ولكن ومع ذلك يسوع لن ينتقم منه ولكنه سيسامحه وسيعيد له بصره ثانية ليرى العالم ، ولكن هذه المرة سيرى العالم بإدراك جديد مختلف تماما عن الإدراك القديم .
وعندما إنقضت الثلاثة أيام ذهب حنانيا إلى شاول وأخبره أن يسوع ظهر له في الرؤيا وطلب منه أن يذهب إليه ليعيد له بصره وليعمده ليتحول إلى الدين الجديد ، وأخبر حنانيا شاول أيضا أن يسوع يقول له بأن حياته من الآن فصاعدا ستكون بأكملها تعب وعذاب وشقاء فقط . ورغم ما سمعه بولس عما سينتظره في الأيام القادمة رضي بالأمر وطلب من حنانيا تعميده فوضع حنانيا يده على رأس بولس فاستعاد بصره ثم عمده ، وهكذا إعتنق شاول المسيحية وأصبح يستخدم اسمه اليوناني (بولس) فقط ليكون علامة على إعتناقه الدين الجديد.
قصة حياة بولس ورحلاته التبشيرية مذكورة بشيء من التفصيل في سفر أعمال الرسل ورسائله التي كتبها إلى بعض الكنائس في مدن مختلفة ، هنا سنحاول أن نذكر فقط أهم الأحداث التي توضح دوره الحقيقي في تكوين الأمة المسيحية .
في عام حوالي ٥٠ ميلادي شارك بولس ولأول مرة في مجمع أورشليم للنقاش مع بعض تلامذة يسوع عن الشروط التي يجب أن تطبق على الوثنيين في بداية إعتناقهم الدين المسيحي . فكان رأي التلامذة أنه يجب تطبيق شريعة موسى عليه الصلاة والسلام أولا ثم تعميدهم ليتحولوا إلى مسيحيين ، فكان رأي بولس بأن الإلتزام بهذه الشروط سيصعب الأمر كثيرا على الوثنيين ، لأن هناك أشياء كثيرة لن يقبلوا بها ولن يستطيعوا تغييرها لأنها جزء من تكوينهم التي فرضتها عليهم طبيعة البلاد التي يعيشون عليها ، وهنا كان بولس على حق فهذه الأشياء هي من الله وليست منهم هم ، فالقرآن الكريم يذكر (.... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ) ، وهذه الأشياء التي تركها كل نذير في كل أمة ، لا يمكن حذفها لأنها تحمل حقائق إلهية توضح ميزات هذه الأمة ، وبدونها تصبح الأمة بلا هوية ، وستتحول قصة التطور الروحي للإنسانية إلى تطور عشوائي لا يساعد في فهم المخطط الإلهي . لذلك حاول بولس إقناع بقية التلامذة بأنه يجب تحريم فقط ما يتعلق بتلك العادات والتقاليد التي تؤثر سلبا على الصفات الحميدة وسعادة المجتمع . بعد هذا التوضيح وافق تلامذة يسوع على رأي بولس .
أيضا بولس هو أول من أطلق على أتباع يسوع لقب (المسيحيون) ، وكان ذلك في رحلته التبشيرية في مدينة أنطاكيا ، إن استخدام هذا مصطلح (المسيحيون) منذ تلك الفترة وحتى اليوم لم يكن صدفة ولكن حكمة إلهية تعبر عن عمق إدراك بولس لحقيقة الدين المسيحي ، هذه الحادثة حتى اليوم يذكرها علماء الدين المسيحي بمفهومها السطحي لذلك لم تظهر أبعادها الفلسفية حتى يتم فهم حقيقة الديانة المسيحية وكذلك حقيقة يسوع أيضا. لأنه لوفرضنا أن أتباع يسوع إستخدموا مصطلح (اليسوعيون) ليعبروا عن ديانتهم ، لكانت شعوب القارة الأوربية حتى الآن تتبع دياناتها الوثنية القديمة ، لأن التكوين الروحي لهذه الشعوب متناقض مع معنى (يسوع) وستكون طبيعة هذا الدين غريبة جدا عليهم بسبب عدم تطابقها مع تكوينهم الروحي . لأن أسم يسوع يعبر القسم الروحي المطلق لشخصية يسوع ، ولهذا السبب ولد فقط من فتاة عذراء وليس من تزاوج رجل مع إمرأة .فالمرأة بشكل عام هي الجزء الروحي للإنسانية ، أما الرجل فهو الجزء المادي لها. ولهذا الحكمة الإلهية في تصميم القرآن الكريم تذكر الآية " مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا . ٤٠ الأحزاب) . والمقصود أن رسول الله دوره تطوير الروح وليس الجسد .
لذلك فإن ظهور مصطلح (مسيحيون) يعبر تماما عن دور الديانة المسيحية ، فالمسيح عند اليهود هو من نسل النبي داود ، أي من نسل رجل ، لذلك كانت الديانة المسيحية هي ديانة الشعوب الغربية والتي أعطاها الله مسؤولية تطوير العلوم المادية ، فكل الإختراعات التي نستخدمها اليوم لتأمين الحاجات الإنسانية المادية من صنع العلماء الغرب وليس علماء الشرق . ( هذا الموضوع سنشرحه في المقالة القادمة إن شاء الله لنوضح أبعاده في فهم حقيقة إنقسام الإنسانية إلى شعوب شرقية وشعوب غربية) .
أيضا إختيار مدينة أنطاكيا ليظهر فيها مصطلح (المسيحيون) لم يكن صدفة ولكن حكمة إلهية لتكون علامة إلهية تؤكد أن الديانة المسيحية هي إستمرار للحضارة الإغريقية التي بدأت بالعقيدة الأورفيكية ووصلت إلى عصرها الذهبي بتعاليم الفيلسوف بيثاغوراس، فهذه المدينة أسسها أحد كبار ضباط إسكندر المقدوني (سيلقوس) مؤسس الدولة اليونانية السلوقية في القسم الشمالي من بلاد الشام بعد وفاة إسكندر عندما إنقسمت إمبرطوريته إلى أربعة دول . مدينة أنطاكيا كانت عاصمة الدولة السلوقية .
الحكمة الإلهية أعطتنا حادثة أخرى حصلت مع بولس لتؤكد صحة علاقة الدين المسيحي مع الحضارة الإغريقية . فعندما كان بولس في مدينة تراوس التي تقع في غرب آسيا الصغرى القريبة من الشواطئ اليونانية ظهر له في الرؤيا رجل يرتدي ثياب جندي مقدوني يقول له " إعبر إلى مقدونيا وأعنا . سفر أعمال الرسل ١٦ : ٩ "
في تلك الفترة التي عاش فيها بولس كان هناك الكثير من السحرة الذين أخذوا من علوم الحضارة الإغريقية وحولوها إلى ما يشبه سحر وشعوذة ليحتالوا على الناس ولتكون مهنة لهم في جمع الأموال . فكان دور بولس هو كشف أساليبهم المخادعة ليعرف الناس حقيقتهم ويبتعدوا عن تصديق هؤلاء الدجالين ليستطيعوا حل مشاكلهم بشكل منطقي بعيدا عن الشعوذة والسحر .
بولس أيضا حاول تنمية الشعور بالآخرين في اتباع الدين المسيحي . ففي مرة من المرات سمع بولس أن مجاعة قد حدثت في منطقة أورشليم وضواحيها ، فراح بولس من خلال ذكر الأحداث التي حصلت مع يسوع وتعاليمه ان يؤثر في نفوس الجميع لما يعانيه المسيحيين في منطقة أورشليم فجمع منهم العديد من التبرعات وأرسلها إلى أهالي أورشليم ، وبهذه التعاليم تحول جميع المسيحيين إلى عائلة كبيرة يتعاون أفرادها مع بعضهم البعض ويساعدون بعضهم البعض في السراء والضراء .
وكما ذكرنا في حادثة تحول بولس من أعداء يسوع إلى الإيمان به ، بأن حياته ستكون تعب وعذاب وشقاء ، هكذا تماما كانت حياة بولس ، ففي كل مرة يجتمع فيها مع الناس ليحدثهم عن يسوع وعن دينه الجديد كان اعداء هذا الدين يقبضون عليه ويتهموه بأنه يتكلم ضد الأمبراطور الروماني فكانوا يضربوه ويعذبوه ويرموه في السجن ولكنه كان دائما يخرج من السجن مرة كونه كان يحمل الجنسية الرومية ومرة أخرى بمعجزة تحصل ليراها الآخرون . وكل ذلك العذاب والتعب والشقاء التي كان المسيحيون يرونها أو يسمعونها عن بولس كانت تنمي فيهم قوة الصبر والإيمان بالله . في رسالة بولس الاولى إلى أهالي تسالونيكي الإصحاح الثاني توضح لنا دور بولس في هذا الموضوع :
٧ بَلْ كُنَّا مُتَرَفِّقِينَ فِي وَسَطِكُمْ كَمَا تُرَبِّي الْمُرْضِعَةُ أَوْلاَدَهَا،
٨ هكَذَا إِذْ كُنَّا حَانِّينَ إِلَيْكُمْ، كُنَّا نَرْضَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ، لاَ إِنْجِيلَ اللهِ فَقَطْ بَلْ أَنْفُسَنَا أَيْضًا، لأَنَّكُمْ صِرْتُمْ مَحْبُوبِينَ إِلَيْنَا.
٩ فَإِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ تَعَبَنَا وَكَدَّنَا، إِذْ كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ اللهِ، وَنَحْنُ عَامِلُونَ لَيْلاً وَنَهَارًا كَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ.
١٠ أَنْتُمْ شُهُودٌ، وَاللهُ، كَيْفَ بِطَهَارَةٍ وَبِبِرّ وَبِلاَ لَوْمٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ.
١١ كَمَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ كُنَّا نَعِظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَالأَبِ لأَوْلاَدِهِ، وَنُشَجِّعُكُمْ
بولس في نشره للدين المسيحي كما يقول في رسالته كان مثل تلك الأم المرضعة التي تربي أطفالها ، فالأم عندما تلد طفلا تصبح هذه الأم خادمة لأطفالها ، تنسى نفسها وحاجاتها لتؤمن لأطفالها كل ما يحتاجون إليه ليكبروا ويستطيعوا متابعة حياتهم على أفضل حال . حياة بولس بعد إعتناقه المسيحية أصبحت ملكا للآخرين وليس ملكا لنفسه. فرغم ما عانها بولس من عذاب وتهديد ، نجده في رحلاته التبشيرية قد إستطاع الوصول إلى إسبانيا . من يبحث فقط في اليونان سيجد عدد الكنائس في معظم مدنها تحمل اسم كنيسة بولس ، لأنه في مكان بنيت كنيسة تحمل أسمه هي إشارة تدل على أن بولس في هذا المكان جمع الناس وتكلم معهم عن يسوع وتعاليمه .
المسيحيون الذي عاشوا في البلاد الأوربية ولم يروا ولم يعلموا شيئا عن حياة يسوع ، رأوا يسوع في شخصية بولس ، فدخل الإيمان في قلوبهم بأفضل اشكاله ، فأصبحوا هم أيضا للذين سيأتوا بعدهم صورة لشخصية بولس . فما حصل للأمة المسيحية من بعد صعود يسوع إلى السماء ، بفضل تلامذته وأهمهم بولس كان بمثابة معجزة إلهية ، فلمدة أكثر من ٣٠٠ عام كان المسيحيون من أضعف خلق الله مكانة في المجتمع ، فكان كل شيء فيهم مكروه بالنسبة للوثنيين الذين يحكمون البلاد ، كان المسيحي مضطهد فقط لكونه مسيحي ، لذلك كان يخفي إيمانه لأن كشف سره قد يؤدي به إلى السجن والتعذيب ، وقد يؤدي به أيضا إلى رميه إلى الحيوانات المفترسة الجائعة في حلبات المصارعة ليتسلى بها الوثنيون برؤيتهم لتلك الحيوانات المفترسة وهي تنهش لحمهم ، ليسخروا منهم ومن دينهم . في آخر رسالة لبولس (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس الإصحاح رابع) يشبه نفسه بتلك الذبيحة التي ستقدم قربانا لله :
٦ : فاني انا الان اسكب سكيبا ووقت انحلالي قد حضر
٧ : قد جاهدت الجهاد الحسن اكملت السعي حفظت الايمان
٨ : و اخيرا قد وضع لي اكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل و ليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره ايضا.
معظم تلامذة يسوع كانت نهايتهم مأساوية ، بولس تم إعدامه بقطع رأسه في عام ٦٨ في روما ، بعد أن أحرق الإمبراطور نيرون روما ليستمتع بمنظر النيران وهي تحرق بيوتها، وحتى يرفع التهمة عنه إتهم المسيحيين بحرق روما، وأصدر أمر في البحث عنهم وإعدامهم .(في المقالة القادمة إن شاء الله سنشرح معنى قطع الرأس ليوحنا المعمدان وبولس)
إن حقيقة ما فعله بولس وتلامذة يسوع في تلك الفترة لم يفهمه لا علماء الدين ولا علماء التاريخ ولا علماء الإجتماع ، لذلك لم يذكرها أحد ليفهم حقيقة دورهم في التطور الروحي للإنسانية ، فقط رجال الدين المسيحي ذكروها بعبارة واحدة (يسوع أتى ليحمل على عاتقه خطايا الإنسانية جميعها لتبدأ مرحلة جديدة ). معنى هذه العبارة حتى الآن لا يقنع أي عالم غير مسيحي لأن معناها السطحي لا يشرح شيء .
في المقالة القادمة إن شاء الله سنشرح أكبر الإختلافات بين الدين المسيحي والدين الإسلامي ، (هل يسوع إله كما يقول المسيحيون ، أم أنه نبي ورسول كما يقول المسلمون ؟) جوابي على هذا السؤال من الآن هو : لا يوجد أي إختلاف بين الديانتين ولكن هذا الإختلاف يحدث بسبب إختلاف زاوية النظر ، فهذا الإختلاف هو حكمة إلهية وليس تحريف في أي دين ، الله عز وجل هو الذي أمر الطرفين ليؤمن كل طرف بما يؤمن به. الخطة الإلهية في التطور الروحي للإنسانية ومعاني آيات الكتب المقدسة للديانات السماوية أعمق بكثير مما يتصوره علماء الدين . لذلك أتمنى من القراء عدم التعليق على هذه الفكرة حتى يتم شرحها وبالتفصيل إن شاء الله في المقالة القادمة .
وسوم: العدد 805