خاطرة
امرؤٌ سارت به عجلة الزّمن ثمانين حولا حتّى الآن ،وخطّ قلم القدَر في كتاب عمره ما خطّه من أبواب وفصول . وهبّت عليه عواصف الزّمن ورياحه ، فحملتْ إليه ما حملتْ من خير وشرٍّ، كما قدّر له ربّ العالمين. فتراه حيناً مشرق الوجه بنور السّرور والطمأنينة ، وتراه أحياناً كثيرةً متجهّمَ الوجه ،تعلوه مسحة الأسى وظلام الكآبة ، فلا يدري غيب قدره أشرّاً أُراد به ربّه ، أم أُراد به خيراً ؟!
وحين يبتسم له القدر ، يدوّن في كتاب عمره ما يهبُ حياته نضرةً وإشراقاً، ومتعةً تُجري في العروق نشوةً ولذّةً ، فتقرّ عينه بما تبصره من جمال رياحين الجنّة ، وما تجده من متعة وسعادة في الحياة معها ، وهي تنفحه بأريج الطّفولة الطّاهرة البريئة ،في ظلال الأبوين الحبيبين ،ويعزف السّرور على أوتار القلب أتحان السّعادة ، وتنشد الرّوح الأغاريد ،فتطرب لها الأيّام ، وتحفظها في شريط الذّاكرة كيلا يطويها النّسيان !!
ثمّ تسير عجلة الزّمن بهذا الإنسان ، فيتعثّر جريها بما تلقاه في دربها من صعوبات قاهرة تشيع التّوجّس ، وتثير القلق والاضطراب ، فيجد الشّيطان مدخلا له إلى النّفوس ، ويحتدم الصّراع بينهما ، وتكون الحرب بين كرٍّ وفرّ ، وانتصارٍ وهزيمة ، حتّى يأذن الله بالفرج، فتخفق رايات الحقّ ، ويعلو هتاف الإيمان ، وتشتدّ عزيمتّه ، فيخنس الشّيطان ، وتتنكّس أعلامُه ، ويهيّئ الله – سبحانَه – مَن يعين على الزّمن وصروفه ، ويمهّد الطّريق ، ويأخذ باليد ، ويهدّئ النّفس ، ويطبّب القلب بما وهبه الله من شمائلَ طاهرةٍ طُهرَ روحه ،وخصالٍ مؤرّجةٍ بأريج قلبه ، وهمّةِ عاليةٍّ علُوَّ طموحه !!
ومَن يكون هذا سوى فلذة كبده ،وقرّة عينه ، ورجاء قلبه ،ذلك هو ولده الجبيب محمّد أبو صالح !! فها هو يقود مسيرتنا لأداء العمرة في أوّل بيت مبارك وُضع للنّاس في مكّة المكرّمة، إنّه المسجد الحرام الّذي جعله الله مثابة للنّاس وأمنا ، إنّه المسجد الّذي يحضن الكعبة المشرّفة، قبلة المسلمين في شتّى بقاع الغالم، الكعبة الّتي زيّن الحجر الأسود أحد أركانها ، ومنه يبدأ طواف الطّائفين ، ويتنافس في تقبيله المتنافسون من غير مدافعة ولا مشاحنة ولا سوء معاملة !
وإنّ وجودك بين الطّائفين والرّكع السّجود ، لَيسمو بك إلى آفاقٍ عليا من الإيمان والخشوع لله - تعالى – وإنّك لَتذكرُ هناك ، وأنت تلتفّ بثوب الإحرام – تذكر يوم البعث والنّشور ليحاسب الله - تعالى – الخلق بما عملوا في الحياة الدّنيا ، ففريق في الجنّة ، وفريق في النّار ، فنسأل الله - عزّ وجلّ – النّجاة من النّار ، والفوز بالجنّة مع الأبرار !!
وإنّك لترى هناك من آيات الله ماترى " ومن آياته خلق السّماوات والأرض ، واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، إنّ في ذلك لآياتٍ للعالِمين " !!
فترى هناك الأبيض والأسمر والأحمر والأصفر في تفاوت درجات الألوان ، كما تسمع شتّى اللغات واللهجات ، فلكلٍّ لونُه ، ولكلٍّ لسانه ،فسبحان الخلاق العظيم !! ويجمع بين هؤلاء الوافدين إلى المسجد الحرام عقيدة التّوحيد لرب العالمين ، والخضوع والتذلل له سبحانه وتعالى ،وكلٌّ يسأل المولى – عزّ وجلّ - المغفرة وحسن الختام ، والفوز بالجنة بسلام ، كما يسأله من الخير كلّه عاجله وآجله ،إنّه على كل شيء قدير.
وكم من عبرةٍ وموعظةٍ تقرؤها في كتاب الزّمن وأنت تؤمّ البيت الحرام معتمراً أو حاجّاً أو مصلّياً ، فحين تشرب من ماء زمزم ـ يحكي لك قصّة إيمان عظيمة ،قصة خليل الرّحمن ، إبراهيم عليه السّلام وزوجته هاجر وولده اسماعيل حين وضعهما وحيدين في واد غير ذي زرع عند بيته المحرّم - سبحانه وتعالى –
كما يروي لك كتاب الأيام أنّ القوّة لله جميعا ، وأن ّ الله غالب على أمره ، وله جنود السماوات والأرض ، فأهلك أبرهة الحبشي الّذي أراد هدم الكعبة المشرّفة ، فقاد جيشه بعنجهيّة وكبرياء ، واستعان بأبي رغال الذي حان قومه ، ورضي أن يكون دليل أبرهة العادي على بيت الله الحرام ، فأهلكهم الله جميعا بأسراب من ضعاف مخلوقاته " ألم ترَ كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ،ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجّيل ، فجعلهم كعصفِ مأكول
وهكذا تحققت كلمة عبد المطّلب حين قال : إنّ للبيت ربّاً يحميه !!
يا لله ما أزكى الزّمن الّذي تقضيه في البيت الحرام بجوار الكعبة المشرّفة إذ تستذكر الزّمن الماضي بأحداثه الواعظة المعبّرة ، وتطهّر نفسك وفكرك من أدران الحياة ، سائلا المولى - عزّ وجلّ - التّوبة والمغفرة ، فتطهّر نفسك من أدرانها وخطاياها بدموع النّدم والتّوبة النّصوح ، وتصل حبلك من جديد بالله الغفور الرّحيم التّواب الكريم ،فتحلّق في آفاق الرّوحانية والعبوديّة الصّادقة لله الواحد الأحد الفرد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد !!
إنّها لساعاتٌ مضت سريعا كلمح بالبصر ، ولكنّها ساعات عبادة صادقة مباركة ، وهي ساعات مضيئة مشرقة ، تضيء لنا الطّريق يوم الحساب " يوم لا يخزي الله النّبي والذين آمنوا معه ،نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، يقولون ربَّنا أتمم لنا نورنا ، واغفر لنا ، إنّك على كلّ شيءٍ قدير " !!
وهل العمر الحقيقي المبارك إلا ما انقضى في طاعة الله – تعالى – والعمل الصّالح ، وما تقوى به حسّاً ومعنى لتستمرَّ صلتك بالله ربّ العالمين . ومن هذا أن تسير في الأرض فتنظر ماذا خلق الله – تعالى - في هذا الكون النّاطق بعظمة خالقه الواحد القدير العزيز القهّار " وإن من شيءٍ إلا يسبّح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم" !!
وودعنا المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة في 20\1\ 2012
والعيون مغرورقة بدموعٍ تترجم تمنياتنا لو يطول بنا زمن اعتكافنا وعبادتنا فيه، ولكن ليس للإنسان ما تمنى، وكما قال الشّاعر :
وإنّ عزاءَنا أن تبقى الرّوح طائفةً راكعة ،ساجدة لخالقها ، فهي طليقة الجناح ، تحطّ حيثما أراد لها أن تكون ، فلله الحمد على كل حال ، وجزى الله عنّا ولدنا الحبيب كلّ خير ، فهو الذي حملَنا بجناح بِرّه ،ونبض حبّه ،وصدق إحساسه ومشاعره ، وحطّ بنا في المسجد الحرام، فأدّينا عمرة مقبولة – إن شاء الله تعالى - ، ثمّ هيّأنا أنفسنا للسّفر إلى جدّة عروس السّعوديّة على البحر الأحمر ، وودّعنا غرفتنا في الدّور الثّالث والثّلاثين من فندق زمزم ، وحملنا ذكرياتنا في خزائن أذهاننا ،ونبضات عروقنا، مترجمة بقليل من الصّور ، تُري ومضةً من ومضات زمن يسير قضيناه في المسجد الحرام .
ثمّ وصلنا جدّة ، ونزلنا في غرفتين من فندق هلتون مطلّتين على البحر الأحمر ،وهذا الفندق قريبٌ من مسكن ولدنا محمّد حين كان يعمل في المستشفى التّخصصي في جدّة عام 2003
وهناك أدرنا شريط الذّكريات في جدّة حين زرت وابنتي نسرين ولدنا الحبيب وعروسه غادة مرج ابن عامر ، وكم سعدنا يومئذ بلقاء الأحبّة وكريم ضيافتهم ، وها هي زيارتنا الجديدة تعيد جمال تلك الذّكريات، وانطلقنا نجدّد ذكرياتنا على شاطئ البحر الأحمر ، وهناك صافحت أعيننا ما قد زرناه من قبل ، كالمسجد الذي يحضنه البحر مسبّحاً بحمد خالقه حمدا لا يفتر ولا ينتهي. وبما أنّ وقت إقامتنا في جدّة قصير، فقد أراد ولدنا الحبيب أن يُرَوّح عنّا ما ألمّ بنا من قلق وانزعاج، إذ نسي بطاقة إقامته في السّعوديّة – نسيها في فندق زمزم في مكّة المكرّمة، وكلّفه إحضارها خمسمئة ريال سعوديّ ، والحمد لله على كلّ حال .
وانطلقنا عصر يوم الأحد إلى استراحة تدعى – كنز أبحر – على شاطئ جدّة ، وهناك ركبنا في قارب خاض بنا عباب البحر ، وشاهدنا عظمة الله – عزّ وجلّ- في هذا البحر الّذي سخّره الله للإنسان ، فجرت فيه الفلك بما ينفع النّاس ، فيا لعظمة الله وقدرته ! ويا لروعة جمال خلقه ! هذا وإن البحر لآية كبرى من آيات الله العزيز القهّار الجبّار ، وكم من عبر وأحداث يتذكّرها المسلم وهو ينظر إلى هذا المخلوق الهائل العجيب ، ولو فتحنا باب الحديث عنه لاحتجنا إلى زمن طويل ٍ طويلٍ ونحن نبحر في بحر الحديث الزّاخر المتلاطم الأمواج ، ولما استطعنا أن نوقف مدّه وهياجه ،فنتوقّف هنا عن خوض عباب بحر الحديث عن هذا المخلوق العظيم !!
ونعود إلى حديث نزهتنا إذ قضينا زمنا قصيرا على متن الزّورق الخائض بنا عباب البحر ، والموج يتلاطم من حولنا ، وزبد البحر يهتف بنا أن سبّحوا بحمد ربّكم العظيم القدير الذي سخّر لكم هذا لتشاهدوا آية من آيات الله في هذا الكون العظيم ، فسبحان الذي سحّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين ، وإنا إلى ربّنا لمنقلبون !!
وامتزجت بهجتنا بركوب البحر بسرور أحبّتنا بنا محمد وغادة وحفيدتنا الحبيبة الغالية رجاء وحفيدنا الحركي الذّكي النّشيط الحبيب صالح ، وقد قام الحفيدان بقيادة الزّورق بإشراف الربّان ، فحلّقا بنا في سماء السّعادة والسّرور ، وقد ترجمتْ بعض صور التقطناها جزءا يسيرا من سعادتنا المجنّحة بذكر الله - تعالى - وحمده وتسبيحه، ثمّ عاد بنا القارب ليرسو على شاطئ السّلامة ، والحمد لله حمدا كثيرا غلى ما منّ علينا وأعطى ، وهناك ونحن غلى شاطئ البحر قدّر الله أن يتّصل بنا الحبيب إسلام ،فدعونا الله -تعالى - أن يحسن خلاصه ويطلق سراحه ، فنصاحبه بزيارة الحبيب محمّد ، فتتم فرحتنا بإذنه - تعالى –
ثمّ تهيّأنا للعودة إلى مدينة الرّياض عبر الجو ، ووصلنا سالمين بحمد الله تعالى السّاعة التّاسعة والنّصف من ليلة الإثنين ، وجزى الله ولدنا الحبيب وأسرته كل خير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين !!
وسوم: العدد 804