لله درك أيتها الأم
{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، واخْفِضْ لهُما جناحَ الذل من الرحمة ، وقلْ ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرا }
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً }
عن معاوية بن حيدة القشيري قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ من أبَرُّ؟ قالَ: ( أمَّكَ قالَ: قلتُ: ثمَّ مَن؟ قالَ: أمَّكَ قالَ: قلتُ: ثمَّ مَن ؟ قالَ: أمَّكَ قالَ: قلتُ: ثمَّ مَن ؟ قالَ: ثمَّ أباكَ ثمَّ الأقربَ فالأقربَ) .
ماأجَلَّه من وحي سماوي : ( وبالوالدين إحسانا ) .
وما أعذبه من هديٍ نبوي : كان جوابا لسائل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أَبَرُّ ؟ قال : ( أمُّك ) .
قضى الله سبحانه وتعالى بطاعة الوالدين ، وبرهما في حياتهما ، وبعد موتهما . ودوام التواضع لهما ، وحفظ منزلتهما لدى أبنائهما وبناتهما . والفطرة السليمة لاتنأى عن هذه القيم الراشدة ، ولا يجحد وصايا الله سبحانه ، وهَديَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم إلا فاسد عاق ، فالبارئ جلَّ وعلا توعد مَن عقَّ والديه بالعقوبة العاجلة والآجلة ، ورسولُه صلى الله عليه وسلم قدَّم خدمة الأم على أداء فريضة الحج ، فإذا رفت أجنحة الحنان والمودة والإيثار هبت نسائم الفطرة المباركة من قلب الأم ، تؤكد ما للأم من فضل ، وما قدَّمت من تعب ونصب وسهر لأولادها ، وحكاية الأم لايجهلها أحد ، بل إننا لنرى حنان الحيوانات على أولادها ، وذلك معلوم ومشهود وفيه حديث نبوي . ولقد أكدت وصايا نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على تقدير الأم واحترامها وخدمتها ،تقديرا لفضلها ، وعرفانا بما قدَّمت لأبنائها ، وما قاست في دروب ولادتهم ثم نشأتهم وتربيتهم حتى وقفوا علىقَدَمَيْ شبابهم ، ورأوا وجه الحياة الدنيا .
لله درك أيتها الأم ، ياموئل العطف الظليل ، ومراح السعادة الغامرة ، ويات أسمى صفحة ناصعة في أسفار النُّبل والتضحيات ، وهيهات هيهات نوفيك حقك ، أو ندرك فضلَ جملة الواجبات التي نحملها على عواتقنا نمحوك ، فلا يوجد شيءٌ نفيس يستحق تقديمه على مكانتك العالية ، وما أجمل قولَ مَن قال :
( ولو خيَّروني بين أمٍّ وجنَّةٍ ... تفيضُ بسحر العين لاخترتُ لي أُمَّا)
يا أغلى من كل غالٍ ، ويا أنفَسَ من كل نفيس ، ياباب رضوان الله تبارك وتعالى ، ويامفتاح جنته ، بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم برضاك تُفتحُ أبواب الرحمة الإلهية على مصاريعها للأوفياء لك ، والجنة تحت قدميك ، فتعس وخاب مَن قال لكِ : أُفٍّ ... أو نهرك بلفظ بذيء وضيع ، فأنت لاتستحقين إلا أزكى الكلمات ، وأعذب العبارات .
أُمَّاه ... ها أنذا أقلب صفحات أيامي السالفات ، من طفولتي بين يديك حتى هذه الأيام التي أنعم فيها بروح شبابي ، وأتأمل مغاني تلك الليالي الجميلات التي أغناها عطفك وحنانك ، وشملتْ رعايتُك أكنافَها ، فأجدها بستان حب أبدي ، وروض مودة لاتبلي الأيامُ محاسنَها مهما كانت تلك الأيام ، ولا تُدرس آثارُها رغم مرور العقود من السنين من عمري النضير . أشعر أنَّ فؤادي أضحى سفر حبٍّ يُنبئً عن حبك المكين في قلبي ، ويتغنى بعباراتٍ صاغها عن فضلك ، ويصوغ لمن يهوى أناشيد الوفاء ... أغلاها وأسماها وأعذبها .
أُمَّاه ... لم أجد أقدسَ ولا أجلَّ من أمر الله تبارك وتعالى حين أنزل على حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، واخْفِضْ لهُما جناحَ الذُّلِّ من الرحمةِ ، وقلْ ربِّ ارحمْهُما كما ربياني صغيرا } 23/24/ الإسراء . ( وبالوالدين إحسانا ) لأن الإحسانَ عنوانُ معجمٍ لأفضل أعمال البر والمودة والإيثار في حياة النفس البشرية . يقف عند هاتين الكلمتين القلب واجفا من خشية الله ، خوفا من أن تجري على اللسان كلمة نابية ، أو تصرفٌ أهوج مقيت ... وعند ذلك يسقط قائل الكلمة أو فاعلُ التصرف الأهوج من علياء مكانته الكريمة التي يجب أن يحافظ عليها إلى مستنقع الخسران والوبال . أي إلى مهاوي الشقاء والحرمان والخذلان ، ويالها من خسارة في تجارة المقت والعصيان . والجدير بي وبكل إنسان ذكرا كان أم أنثى أن يكون سعيه طلبا لرضاك ، ممتثلا أمرَ ربِّه سبحانه ، وهيهات هيهات أن يسعد مخلوق إذا اختار طريق الشقاء !!!
أُمَّاه ... أنا بين يديك كالطائر المشتاق إلى ظل عشه المكين ، حيث الأمن والطمأنينة ، ووجدته على بساط مودتك الثابتة ، وعندئذ أردد أنقى الأغاريد وأعذبها ، لأرى وأنا بين يديك المباركتين وحهك تغمره البسمات الحانية ، ولسانك يزجيني أحلى عبارات الرضوان .
أُمَّاه ... كم توجهتُ إلى خالقي سبحانه ، وجناحاي ذليلان بين يَدَيْ عفوه ، أسألُه لك الرحمة والرضوان والسعادة الأبدية التي تشتاقها أرواح الصِّديقين والشهداء والصالحين ، وأُلح في الدعاء بين يَدَي ربي ساعة أشعر بلذة قربي من جوده ، وأنا على يقين بأنه سميع الدعاء ، ولا يرد مَن رفع إليه يديه ، إنه سميع الدعاء ، وهو أرحم الراحمين ، إذ ذاك يتهلل قلبي فرحا ، وتجري دموع عينيَّ شوقا ، ويفيض صدري بالأشواق إلى مآثرك الوريفة التي ساقتني إلى هذه المناجاة بين يدي ربي سبحانه وتعالى . وصديقيني يا أمي أني أنطلق بعد هذا في دروب الحياة فيستقيم سلوكي ، وتتحسن صورة سيرتي ، ففي وصاياك التي لاأنساها ، وكأنها مشاعل من نور ، لاأضل الطريق ولا أحيد عن الصراط المستقيم حيث الخير والرشاد .
أُمَّاه ... تتقلب القلوب ، وتتغير الأحوال ، وتتبدل الوسائل والغايات والطموحات ، ويبقى نداء حنانك علي قنديل نورٍ بهيج يدفع عني الأكدار ، فأشعر وأنا في الظلمة كأني في ليلة قمراء ، حيث النور والأنس ، وحيث الأمل العذب الذي يتمناه كلُّ مَن توجه بصدق إلى الله رب العالمين . فينأى الظلام ، ويزول القلق ، وأشعر بيد تقودني إلى موطن الإيمان واليقين بنصرة الله لي في كل ميدان . فأثبُ بتوفيق الله ، وأسعى في ظلال دعائك لي حيث لايحجبه الغمام وهو يصعد إلى السميع العليم ، وتفتح له أبواب السماء ، وهنا ومن فيء تربيتك لي ودعائك كان انتمائي لقيم أنزلها المولى تبارك وتعالى على أنبيائه الكرام صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين ، فأنت مَن سقيتني كأسَ هذا الوفاء ، وأرشدتِني إلى هذا الطريق . فالحمد لله الذي هداني على يديك الطاهرتين المتوضئتين ، فكنتِ أنتِ المعلمَ الأولَ لي ، فأحببتُ خالقي وأطعته إذ أمر بطاعة الوالدين والإحسان إليهما ، ولم أنس أبدا أن أقول : ( رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .
وسوم: العدد 1006