اسطنبول.. لقطات من المسير الليلي
م. عبد القادر زيزان
من عمق الليل الدامس يولد الفجر الباسم .. ومن عمق الظلم البائس يولد الحر النابغ ..
هذه هي اسطنبول خرجت من ظلام الليل حتى أضحت بلد النور وبلد الحريات ..
تسير في شوارعها تقول أنها لم تخرج من رحم حضارة الماضي المجيد .. قبب ومآذن في كل مكان .. أينما اتجهت .. أراض مرصوفة كالفسيفساء .. خضار يعانق الماضي ولا يفارقه.. ماضي لا يمكن إزالته على الإطلاق .. متأصل في الجذور ..
وحداثة يشار إليها بالبنان .. إلى أي مكان تريد أن تذهب فلا حرج عليك .. ليس المطلوب منك أن تكون من مالكي السيارات .. بل تمتع بالركوب في الحافلات أو القطارات الكهربائية، بل الأدهش من ذلك قطاراتها الكهربائية السريعة تحت الأرض.. كل هذه الحداثة لم تؤثر على رونق الماضي على الإطلاق وكذلك لم يؤثر الماضي المتأصل على ركوب قافلة الحداثة بل كمّله وأضفى عليه جمالاً فوق جماله ..
كل ذلك يدعونا إلى مراجعة ذاتنا .. دراسة حال اسطنبول كيف كانت وكيف آلت .. الآثار والعمران القديم لم يقف حجر عثرة أمامها بل أعطاها الدافع لأن تسير في ركب تطوير شبكة ضخمة من المواصلات .. تخدم سياحتها وكذلك اقتصادها .. حتى أصبحت وجهة سياحية واقتصادية معا .. أضف إلى ذلك شبكة من آلات التصوير المنتشرة في كل الأحياء والشوارع وتعطيك نوعاً من الراحة والاطمئنان .. حيث تشعر أن كل شيء مراقب أمنياً .. ومن هذا المنطلق (المنطلق الأمني المستقر) تجد وجهة الأوروبيين والآسيويين والعرب كلها متجهة نحو اسطنبول .. البلد السياحي الأوفر حظاً من بين كثير من الدول السياحية في تلك المنطقة من العالم ..
كل هذه الميزات وغيرها تجدها في اسطنبول ، ولكن يوجد شيء واحد يعكر صفو ليلها ، بعدما تنطفئ أنوار المحال التجارية والأسواق تظهر لنا أنوار البارات والنوادي والملاهي الليلية ، مُنارة بقوة لأنها الوحيدة تبقى مستيقظة في الليل ..
المحزن في هذه النقطة أنك عندما تسير في الطريق يعترضك أشخاص يتكلمون معك بالعربية ويبادرون بالسلام ، تعتقد بالوهلة الأولى أنه يريد منك خدمة أو مساعدة ، وبعدها تكتشف أنه سمسار لخدمات خسيسة ، يحاول إقناعك أن لديه أفضل الفتيات ويسرد لك جنسياتهم : العراق ولبنان ، سوريا وروسيا ، وهذه الجنسيات للأسف أكثرها تداولاً على ألسنتهم ، بالتركيز عليها تجد عوامل مشتركة بين كل جنسيتين مثل التركيبة السكانية ، الحالة الاجتماعية والاقتصادية ، والحالة السياسية الأمنية .. لا أريد التفصيل ، أترك ذلك لك عزيزي القارئ لكي تقارن وتقدر..
وأدهشني أحدهم بإتقانه العربية والكردية والتركية والفارسية والروسية ، ويحمل جنسية عربية، للأسف سخّر هذه المهارة اللغوية في غير موقعها الصحيح.
في اعتقادي أن هذه الصورة المحزنة هي بقايا أمور كانت فاضحة في الماضي القريب وهي تسير نحو الزوال ، حيث قال أحد الكبار الخيرين : لم أكن أستطيع المشي في اسطنبول بسبب الصور الفاضحة الخليعة الضخمة ، تملأ الشوارع وتغطي واجهات العمارات .. كان ذلك بالسبعينيات من القرن الماضي ..
عموماً تبقى مدينة المآذن شامخة بعراقة ماضيها المجيد وإشراقة مستقبلها الجديد ، بمآذن اياصوفيا والسلطان أحمد مروراً بالسلطان بايزيد والسلطان محمد الفاتح رحمه الله ..
وكلمة شكري الأخيرة لباني مجدها الحاضر ، السائر بخطى الفاتحين :
الطيب أردوغان.. تشكرات أفندم..