شام يا ذا السيف

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

فرح خاص يجتاح الروح وينشر في جنبات النفس شعور خاص، فهنا في عمّاني الأجمل عشت بالأمس لحظات الفرح بولادة ابنتي لحفيدتي الأولى، لأشعر لأول مرة في حياتي بشعور الجد وامتداد الحياة من خلال الأحفاد، فجاءت سيرين لتضفي إلى حياتي فرحا خاصا، لعله امتداد للفرح الذي شعرت به حين جاءت ابنتي ذؤابة للحياة في نهاية عام 1980، فكانت ولم تزل المدللة بين أبنائي، وحين أبلغت بالخبر السعيد كنت أجول مع زوار معرضي الأول للصور الفوتوغرافية، في جنبات مركز رؤى في عمّان فرحا برام الله وهي تتجلى بصورها في عمّان، فأضيف للفرح فرح آخر، وللروح سعادة جعلتها تحلق بفضائات أجمل وأرحب.  

هي عمان الهوى مرة أخرى، عمان الذاكرة والهوى والجمال، أجول في جنباتها كلما أتيح لي بعض من الوقت، فأستعيد ذاكرة وذكريات ضاربة جذورها في الروح، فعمان توسعت بشكل مذهل، وأصبح الاعتماد على استخدام السيارات العامة كطلبات للوصول إلى المناطق يهز ميزانية الجيب، وانتظار حافلات النقل عملية متعبة وخاصة لعدم توفرها بالشكل المتواصل ولكافة المناطق، وعدم وجود سيارة خاصة يساهم في الحد من الحركة، ففي الماضي كنت اسكن في جبل الأشرفية ومن ثم جبل التاج حيث قضيت فترة زمنية طويلة من عمري، حتى انتقلت وسكنت ضاحية خلدا التي كانت هادئة وافتقدت الهدوء أثناء غيابي الطويل عن عمان، ومن الأشرفية كانت الحركة أسهل وكانت عمان أصغر، وكان سن الشباب يلعب دوره بالقدرة أكثر على الحركة، فليس من مسؤوليات متعبة، وليس من تعب تأثيرات العمر أيضا.

في رام الله الحب والعشق لا أعاني من نفس الصعوبات، فرام الله مدينة صغيرة رغم امتداد مساحاتها في السنوات العشر الأخيرة، وطبيعة وجودي في قلب المدينة وقرب المراكز الثقافية من هذا القلب، وطبيعة مناخها الجميل يسهل الحركة كثيرا، وفي معظم الأحيان سيرا على الأقدام، فحركتي من صومعتي هناك إلى أي من أطراف المدينة لا يتجاوز النصف ساعة سيرا على الأقدام، مما يتيح الحركة اليومية بشكل مختلف عن الحركة في عمان وامتداداتها الشاسعة والكبيرة.

ومع هذا يبقى لعمان في الذاكرة جمالها الخاص وذكرياتها الأجمل، وقد أتاح لي معرضي صباحكم أجمل – رام الله، لبعض من الصور التي التقطتها عدستي لمدينة رام الله والذي سيختتم في الغد، المجال للحديث مع الزوار للمعرض عن الذاكرة العمّانية كما الذاكرة الراميّة، ووجدت ألما عند العديد من رواد المعرض من تدمير ذاكرة عمان ومبانيها القديمة التي رسمت تاريخها وذاكرتها، وحقيقة أن هذه المشكلة تواجهها كافة مدننا العربية بشكل عام، فهذه المباني بالأصل هي ملكية خاصة لأفراد، وليس هناك من قوانين تمنعهم من هدمها وبناء مباني تجارية أو عمارات سكنية تحقق لهم المرابح المادية، وبالتالي ليسوا معنيين كثيرا بالذاكرة والتراث، وليس هناك بالمقابل من جهات يمكنها أن تستملك هذه المباني وتبقي عليها بعد ترميمها كذاكرة تروي حكاية المدن وتحفظ ذاكرتها.

وفي نفس الوقت أتيح لي من خلال المعرض الالتقاء بالعديد من الأصدقاء القدامى الذين باعد بيننا الزمان، إضافة لبعض الذين جمعتني بهم علاقة الحرف والكتابة، فسعدت بحضور الصديقة الكاتبة دارين طاطور من الرينة في قلبنا المحتل منذ عام النكبة التي حضرت خصيصا للمعرض، وحضور صديق الحرف والكلمة القاص ناصر الريماوي والتعرف عليه، هذا الشاب المفعم حيوية، والشاعرة ماماس صاحبة الحرف الرقيق، فأضاف اللقاء المباشر إلى معرفة الحرف والقلم بعدا أجمل وأروع، فكان لمركز رؤى الفضل بتبنيه فكرة المعرض أن يتيح لي هذه اللقاءات، وللحقيقة لا أمتلك إلا أن أقدم كل شكر ومحبة لوسائل الإعلام المختلفة في الأردن على اهتمامهم الكبير وتغطيتهم للمعرض والكتابة عنه، وكان للقاءات اليومية التي أجرتها معي الصحافة ووسائل الإعلام أثر كبير وطيب في قلبي.

يعيدني الحديث عن ذاكرة عمّان ورام الله إلى ذاكرتي وسفري الأول إلى دمشق وأنا عائد من بيروت إلى عمّان، فقد تركت هذه المدينة اثر كبير في روحي، فقد قضيت وقتا طويلا أجول في أحيائها القديمة، هذه الأحياء الضاربة جذورها في التاريخ، فتجولت أزقة الساروجة وباب توما والميدان وغيرها الكثير من الأحياء، ساحات دمشق ومتاحفها، ساحة المرجة والصالحية، المتحف العسكري ومتحف الآثار ومتحف العظم، معرض دمشق الدولي وجامعة دمشق، وحرصت على زيارة المسجد الأموي وقبر القائد صلاح الدين الأيوبي، سوق الحميدية الجميل والذي أصبحت فيما بعد لا يمكنني أن أزور دمشق بدون أن أزوره، وأتناول بوظة بكداش وأتأمل العاملين وهم يصنعونها بواسطة الدق بالمدقات الخشبية الضخمة، أو أتناول إفطارا من الفول باللبن في مطعم المصري، أو أن أشتري كتابا من بسطات الكتب المنتشرة على الأرصفة وأذهب لمقهى الفاروقي أقرأه هناك، أو أجلس في مقهى الحجاز أرقب المسافرين والقادمين والمنتظرين من كافة المناطق بلهجاتهم المختلفة، أو أذهب لقاصيون أجالس الغوطة وجمالها من هذا الارتفاع، فأشعر بالجمال يتكوم في طرقات روحي ودروبها، فأخاطب حبا تركته في عمان عبر الروح.

بقيت على تواصل مع دمشق بعد هذه الزيارة، فأصبحت دمشق تسكنني، أصبحت بعض من روحي، فسكنت في فترة لاحقة في حي المزرعة الجميل، أمارس كل يوم هناك طقوس حب وعشق لدروب دمشق وحواريها، أتنشق ياسمينها ذو العبق المتميز، أغسل وجهي وروحي بمياه عيون الماء الواصلة مياهها لدمشق، والمنتشرة في أرجاء المدينة، أجالس حوافي بردى، ولم أتوقف عن معانقة دمشق حتى عام 1976 حين زرتها آخر مرة، فقد أتت ظروف أبعدتني ولم يتح لي أن أعانقها من جديد، وإن بقيت في الذاكرة لم تغادرها، أسائل من يزورها عنها وأحملهم السلام إليها، فيفاجئوني بالحديث عن حجم التغير الذي أصابها، فاشعر أني لو زرتها من جديد فلن أجد وجهها الجميل الذي تركته، وأني سأجد بدلا من ذلك وجها غطته المساحيق والألوان المستحدثة، فأشعر بألم يجتاح الذاكرة ويخدش جمال الذكرى.

صباحك أجمل عمّان، صباحك أجمل يا رام الله التي أشتاق إليها بجنون الشوق، فلا تفارقيني أيتها الجميلة، ابقي معي وعلى عهد حب اجتاحني عبر العصور، فقد كنت أنت حبي وستبقين، فدعينا رغم كل الصعاب وبرد الوحدة الموحش، نضع يدا بيد، نحلم معا بحب أجمل وصباح أجمل، نعوض ما فاتنا عبر السنين من بعاد وفرقة، فأنا احبك وأغار عليك حتى من نسمة الهواء، فاعذري قسوتي حينا إن قسوت، فهي من الم البعد وشدة الجوى، فان مت فادفنيني في حنانيك، وازرعي على مرقدي من ياسمينك، كي لا يفارقني عبقه وشذاه في رحلتي الأخيرة.

صباح آخر وحروف خمسة تلفني بالحب والجمال، فنجان قهوتنا المبلل بالدمع وآهات الجوى، فيروز تشدو لنا:

"شام يا ذا السيف لم يغب، يا كلام المجد في الكتب، قبلك التاريخ في ظلمة، بعدك استولى على الشهب، في ربيع فيك خبأته، ملئ دنيا قلبي التعب، يوم عيناها بساط السما والرماح السود في الهدب، تلتوي خصرا فأومي إلى نغمة الناي ألن تحب، أنا في ظلك يا هدبها أحسب الأنجم في لعبي، طابت الذكرى فمن راجع بي كما العود إلى الطرب".

صباحكم أجمل.