أنا معذور يا جاري

د. هوار بلّو /العراق

[email protected]

غزَتْ الشمسُ قريتَنا بأشعتها الذهبية صبيحة يوم نوروز ، و بدأتِ العصافير تشدو ألحاناً طرية فوق أغصان أشجار بيتنا الشرقي العتيق ولسان حالها يلهج باستقبال هذا اليوم الربيعي الجميل ، واستيقظتُ مِن نومي على إيقاع هذه الأجواء الخلابة فانتبهتُ إلى خواطرٍ وأحاسيسَ غريبة بدأتْ تراود مخيّلتي وارتأيتُ أنْ أدوّنها بريشتي في دفتري الخاص قبل أنْ أنساها وتتطاير في فضاء النسيان ، فأحضرتُ ريشتي ودفتري وجلستُ على كرسي متواضع خلف مائدة متواضعة في فناء البيت وأنا أتناول كوباً من الشاي الساخن أحضرْتُه لنفسي حتى أنسجم مع أجواء الكتابة كما هي عادتي .. و بينما أنا أستمتع بعمق المنحدر الذي هوَتْ إليه مخيّلتي صبيحة هذا اليوم المرتَقَب وجدْتُ جاري الكهل السليط اللسان يطلّ عليّ برأسه من فوق جدار البيت ليفسد عليّ بهجتي وسروري . قال لي وقد بدَتْ تجاعيد وجهه من شدة امتعاضه :

- ماذا دهاك أيّها الأستاذ الأحمق غير الواقعي؟ أهذه بدعة جديدة أخرى مِن بدعك التي صارتْ لا تُعدّ ولا تُحصى؟ ما هذه التصرفات البلهاء التي ترينا إياها رأس كلّ يوم من أيام الله؟ لماذا لا ترغب في العيش على نسق واحد مثل جميع الناس مِن حولك؟ لماذا يحلو لك دائماً أنْ تتمرّد على روتين الحياة؟ ما الذي يميّزك عنّا؟ ألا تحاول أن تتعظ بمن حولك؟ ألا ترى أنّ الناس كلهم مِن حولك يقضون حياتهم وفق نسق ثابت وإيقاع مرسوم لا يحيدون عنه؟ ألا ترى أنّ طبيعة الحياة عندهم مسيّرة غير مخيرة؟ ينامون ويستيقظون ، يروحون خماصاً و يغدون بطاناً كالعصافير تماماً .. أمّا أنت فلا ترضى دائماً أنْ تكون مثلنا ، فأنت شذوذ في شذوذ .. تمرّدٌ على المعروف وعدم اتساق مع المألوف .. تحاول أن تكون كل يوم في شأن مغاير من شؤون الحياة . فرغباتك ليست كرغبات الجيران ، و طموحك لا يدانيه طموح ، و طريقة عيشك لا تتسق مع طرائق عيش الناس من حولك؟

   فأطرقتُ قليلاً ثم قلتُ له بصوت هادئ لأهدّأ مِن روعه : وماذا أفعل يا جاري؟ أنا بنفسي قد انتبهت إلى هذا الشذوذ الذي يميّزني عنكم والتمرد الذي غدا قريناً لأيامي .. أنا في الحقيقة أرى هؤلاء الناس مِن حولي وأحسدهم على عيشهم البسيط .. و كمْ تمنّيتُ أنْ أتهاون مثلهم مع الأشياء أو أن تكون حياتي روتيناً كحياتهم .. كم تمنّيتُ أنْ أكون بدعاً مِن الناس .. و لكن ماذا بوسعي أن أفعل؟ فأنا معذور يا جاري إنْ اطّلعْتَ على قصتي .. أنا معذور يا جاري لجملة مِن الأسباب إنْ شئت أخبرْتُك إياها .. أولها أنّ عالمي يا جاري ليس كعالمكم .. فعالمكم ضيق صغير كقريتنا هذه وقد انتهيْتم من التجوال في ربوعه منذ أمدٍ بعيد وفي فترة قياسية ، و لم تعدْ لكم رغبة في التجوال أكثر .. ثانيها أنّ بصري ليس كبصركم .. فأنتم قد ابتُليتم بالقصور في بصركم منذ أن قذفَتْكم أرحام أمهاتكم  فلا ترون غير القريب الداني ، وليس لديكم رغبة سوى الوصول إلى هذا القريب ، وكم مِن السهل أن تصل إلى القريب حتى من غير أنْ تبذل أدنى جهد في سبيل الوصول إليه؟ أمّا أنا يا جاري فعالمي عالم فسيح مترامي الأطراف وها أنا ذا قد ناهزتُ الثلاثين من عمري و لم أنتهِ بعد مِن التجوال في ربع مساحته .. ما عادَ ليلي ليلاً ولا نهاري نهاراً على أمل أن أتجوّل في ثلاثة أرباع مساحته الباقية قبل أن أرحل عن هذه الدنيا .. وبصري يا جاري ما أعجبَهُ مِن بصر .. فقد ابتُلِيَ بِعلّة عجيبة منذ نعومة أظفاري على خلاف أبصاركم أنتم .. لقد غدا ثاقباً كالرمح يخترق الحجب ويجتاز الحدود ، وكلّي أملٌ في أن أنال ما يصل إليه بصري ، و لكم هو صعب أن تنال البعيد القاصي و لاسيما إذا كانت البحار والخلجان والجبال والصحاري تحول بينك وبينه أغلب الأحيان وأكثرها ، و لذلك تراني دائماً يا صاح ساعياً جاهداً كثير الحراك متخوفاً لا يهدأ لي بال كالذي صار رزقه بين أنياب السبع وهو يحاول انتزاعه منه . اعذرني يا جاري مرة أخرى على سلوكي هذا .. ولكنْ اطمئن في ذات الوقت ، فأنا أعدك بأنني سأغلق على نفسي الباب بعد اليوم ولن أزعجكم في شيء من أمركم .. فلا أتدخل في شؤونكم وروتينكم الممل الذي تعوّدْتم عليه ، ولن أفسد عليكم نشوة الانغماس في الجهل .. و لن أُفكّرَ في إدخالِ نمطي الخاص بعالمي إلى عالمكم .. ولا أدعوكم إلى الخروج عن عالمكم الضيق والحضور في عالمي الفسيح ، ولا أقص عليكم نبأ الأشياء التي أبصرها لوحدي والتي تَحولُ الحجب بينكم وبينها .. لست لأفعل هذا بخلاً مني ولكن رأفة بكم فأنتم ببساطة غير قادرين على أن تدخلوا هذا العالم وقاصرون في ذات الوقت عن التحلي ببصر حديدي كبصري . فلماذا أُحرِقكم شوقاً وأنا أعرف أنّكم عاجزون على أن تَحظوا بأمل في اللقيا .

     و لم أنتهِ من كلامي هذا حتى رأيت الرجل يدير لي ظهره ويبتعد عني وهو يهمهم في سخرية : لعمري حتى لهجتك التي تحاول أن تتكلّم بها ليست مفهومة عند أهل هذا الحي .