عمر بن الخطاب والأدلة السرية الأمريكية
منى محمد العمد
في طريقه إلى دار الخلافة وقعت عينا الخليفة الراشد الثاني و الصحابي الجليل وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه , وقعت عيناه على حد من حدود الله ! رأى عمر ألا يحدث أمرا قبل استشارة أصحابه , وتابع طريقه إلى دار الخلافة , ثم جمع أهل الحل والعقد وسألهم مستشيرا : ما ترون في أمير المؤمنين يرى حدا من حدود الله ؟
كان كل الصحابة يعرفون صدق عمر فهو الذي استخلفه عليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهو الذي قال عندما خوفه بعض الصحابة من استخلاف عمر خشية أن يكون شديدا مع الرعية , ذلك لما عرف عنه من شدة في الحق , قال له بعضهم : ماذا تقول لربك حين تلقاه وقد وليت عمر على الرعية ؟ قال أبو بكر في حزم : أتخوفونني بالله ؟ أقول له قد استخلفت عليهم خيرهم .
ولكن , هل قدره عند الله وعند رسوله بل وعند رعيته يجعل له هذه الخصوصية ؟ هل يجيز له وضعه كأمير للمؤمنين أن يأخذ أحدا من الرعية مكتفيا بشيء رآه ؟
وهنا جاء الرد وفيه ما فيه من الجرأة والشجاعة الأدبية والحكمة , قال علي بن أبي طالب : البينة أو الحد يا أمير المؤمنين !!
لم يغضب عمر ولم يثر , ولم يستنكر تمسك مستشاريه بحق المدعى عليه أن يكون للمدعي بينة تسوغ اتهامه ثم محاكمته , ولم يحاول ليّ أعناق النصوص وتطويعها لتكون في خدمته , ولم يغير دستور الدولة متذرعا بالمصالح العليا للرعية , بل تفهم عمر كما تفهم الصحابة أن خليفة المسلمين هو واحد منهم , مهما كانوا يثقون بعدالة عمر , وأن المسألة تشريع لهم ولمن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة . وأنه لا يمكن ضمن حدود شريعتنا الغراء أخذ إنسان بذنب إلا بدليل يعلن على الملأ لا يدع للمتهم حجة أو حتى شبهة حجة يدفع بها عن نفسه .
فأين هذا الدرس من الساسة الأمريكان الذين وافقوا على اعتبار الأدلة السرية والاعتماد عليها في الحكم , وهم الذين لا يزالون يتشدقون ويتكلمون بملء أفواههم عن حقوق الإنسان بالرغم من فضائحهم التي لم تعد تخفى على أحد من جوانتانامو إلى أبو غريب إلى السجون السرية الأخرى التي بدأ التحدث عنها على استحياء في أوروبا وفي غيرها تلك التي لايعلم أحد أي عذاب هون يخفونه وراء جدرانها معتمدين في أحكامهم الزور على رؤاهم وخيالاتهم المريضة بالحقد الأسود .
يكفي حسب قانونهم الجديد ــ كما شهدت محامية أمريكية من جلدتهم ــ تقول : يكفي أن يتصل أحد ما ( وليس أميرهم أو وزيرهم ) بالشرطة فيقول : " إن هناك على ناصية شارع كذا يوجد مطعم تركي ــ على سبيل المثال ــ لا أرتاح للذين يعملون فيه " , فتكون هذه العبارة وحدها كافية لسجنهم وربما تحويلهم بعد ذلك إلى جوانتانامو لإذاقتهم فنون العذاب , وقد يعترف أحدهم هناك أنه قتل أباه وأمه والناس أجمعين لما يروا من هول تشيب له الولدان مما شاهدنا وشاهد ( العالم الحر ) بعضا منه , وسمعنا في تقرير كوفي عنان الذي صحا من نومته متأخرا ربما لاقتراب نهاية فترة ولايته ولأنه أيس من جزرة أمريكا أو أمن من عصاها , سمعنا بعضا وربما كان ما خفي أعظم , وإن أنس لا أنسى شابا عراقيا شاهدته بأم عيني على شاشة إحدى القنوات الفضائية بعد خروجه من أبو غريب وقد سأله المذيع عما فعل به في السجن , بدا أنه يريد أن يتكلم لكنه غطى وجهه بيديه وأخذ يبكي ويردد : ( ما أقدر أقول ما أقدر أقول ) فأي هول رأت عيناه وأي عذاب احتمل وبأي حقوق الإنسان تمتع وراء قضبان ذلك السجن الرهيب ؟!! هذا ولا تزال أمريكا تصر على أنها ما جاءت إلى العراق إلا من أجل نشر الحرية والديمقراطية ليتمتع بها الشعب العراقي المنكود الذي انتقل من واقع أليم إلى واقع أشد ألما وأكثر قسوة حتى أصبح " ظلم ذوي القربى أخف مضاضة " من حرية أمريكا وديمقراطيتها .
يا لهذا الإنسان كم يتعرض للظلم والمهانة باسم حقوق الإنسان !!
أكثر من ذلك , فقد دخل أبو لؤلؤة المجوسي على عمر وكان صانعا محترفا , وطلب إليه عمر أن يصنع له رحى , فقال المجوسي : لأصنعن لك رحى تتحدث بها العرب , ولما مضى قال عمر لمن حوله وقد أدرك بفراسة المؤمن ما تنطوي عليه كلمة هذا الخبيث قال : لقد توعدني الرجل آنفا , وعلم أنه ينوي به شرا بل إنه ينوي قتله , فلم يعتمد فراسته دليلا لأخذ الرجل بالنية , ولم يأخذه بدليل سري ولم يسجنه دون محاكمة كما فعل المتحضرون اليوم الذين يدرسوننا نحن المسلمين حقوق الإنسان !!
واستشهد عمر رضي الله عنه وبقيت قيمه وقيم هذا الدين خالدة إلى يوم القيامة .
حري بنا أن ننسج بخيوط من ذهب قولة عمر بن الخطاب الخالدة , بل حري بنا أن نعيها وندرسها للعالم أجمع , فنحن الذين ما تغيرت قيمنا مهما اعتدي علينا وثبتنا على منهجنا سواء في حالتي النصر والهزيمة : يالها كلمة تصلح أن تتخذ شعارا
" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟! "