ليالي الشمال 4

عائد إليها

ليالي الشمال 4

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

صباح الخير يا رام الله، صباح الخير أيها الياسمين، أعانق دروب الحبيبة وشوارعها، بعد أن عدت من عمان الهوى، فأصبحت بين المدينتين "كالمضيع بين فراشتين"، فكيف لا والهوى ينازعني بينهما، فما أن أكون في عمان حتى ينازعني هوى رام الله، وما أن أعود لرام الله حتى يقفز عبق الماضي العابر للمستقبل، من زجاجة عطر ياسمين عمان ودفلاها وشيحها، فتعبق البراعم شذا في الروح، عبقا في النفس، حبا يغمر النفس ويجول فيها.

 في عمان كنت بين ألم وفرح، فرح اللقاء وألم الفراق، في اللقاء كنت أشعر بكل براعم الورود تصطف وتهتف: يا هلا.. يا هلا..، وفي الفراق كنت اشعر بعيون الياسمينات تقطر قطرات من ندى اللافندر، فتعبق الروح بها بين دمعة فرح لقاء ودمعة ألم فراق، فما زال عبق الياسمين على أصابعي، وشذاه يتغلغل في خلايا الروح، فهو جنون الياسمين تتراقص أوراقه طربا، تعزف على قيثارة الماضي حلم اللقاء، فتتفجر البراكين تقذف حممها، فيستعيد الحلم نكهة الياسمين وبرعمه المتوهج، على أنغام عزف الطيور وهدآت الليل، وشدو فيروز تناقلني من شدو لآخر، وكأنها تبث أنغامها لتصف اللحظة، فكان في العبق الحلم و الرؤى، وفي الرؤى تجدد الأمل، وفي الأمل كان شلال الهوى، يأبى إلا أن يبقى مندفعا ثائرا بجنون، فيحمل معه عشقا تتراكم أوراقه في الطرقات، تغلق الدروب إلا من هوى، حلم السنديان الذي بقي يتجدد عبر العصور، لم تزلزله الأقدار ولا ألاعيب الزمن.

 ما بين الذكرى والذكرى تعود الروح لاستذكار رحلة الشمال واستكمال بعضا مما رسمته تلك الرحلة من جمال يأبى أن يفارق الروح، يصر أن يبقى شلالا لحديث وحروف، فما أن غادرت حاضرة جامعة فلسطين التقنية "خضوري"، حتى كنت أقود السيارة مغادرا طولكرم باتجاه محور الكفريات، والروح تكاد تقفز من الجسد شوقا لبلدة الزيت والزيتون والأجداد "جيوس"، شاعرا رغم الحر الشديد بصوت شاعر جيوس المرحوم عبد الرحيم عمر وهو ينشدها: "جيوس يا قريتي الخضراء حيى على الصلاة"، وما أن أصبحت على حافة طولكرم حتى فوجئت بسيارات جيش الاحتلال تغلق الطريق بنشاط أمني، تمنع التوجه للكفريات والعودة لطولكرم، وأشار لي الجند بالتوجه إلى طريق لا اعرفها، لأعرف لاحقا أنهم يجمعون السيارت القادمة من طولكرم فيها، وهي مدخل بلدة فرعون، وبعد مناقشة قصيرة مع الجندي وحين رأى الكاميرات بجواري، سألني إن كنت أعمل في الإعلام، وحين أجبته: نعم، سمح لي بالعودة باتجاه طولكرم، فدخلت مسجدا قريبا صليت فيه الظهر حتى غادروا المنطقة وعدت باتجاه محور الكفريات.

 ما أن عبرت النفق الذي وضعه الاحتلال تحت طريق التفافي ليمنع التقاء السيارت الذاهبة باتجاه محور الكفريات مع سيارات المستوطنين، حتى بدأت أشعر رغم حرارة الجو بعبق طيب بلدتي يهب مع النسمات الحارة، فتحت النوافذ وأوقفت التكييف في السيارة، فقد كنت بحاجة أن أملأ رئتاي من عبق بلدتي ومحيطها، وسرت وأنا أترنم ببعض من مقاطع أغنيات لفيروز، حتى فوجئت بطابور طويل من السيارات يقف بدون حراك، وقفت خلفها ووقفت خلفي سيارات أخرى، وسيارات أصرت أن تتجاوز لمقدمة الطابور الذي لا أراه، سألت شابا متوفز الأعصاب ما الذي يجري، فأفادني أنه حاجز جبارة الاحتلالي، فقررت أن أحاصر الحصار، مستذكرا درويش وقصيدته "حاصر حصارك لا مفر، حاصر حصارك بالجنون، فإما أن تكون أو لا تكون"، فأخرجت من حقيبتي رواية للروائي الفلسطيني يحي يخلف وبدأت أقرأ بها، وبعدها أخرجت دفتري وبدأت أسجل ملاحظات وأفكار، وإن شعرت بنظرات الاستغراب ممن كانوا قد نزلوا من سياراتهم ورأوني، فقد كنت هادئ الأعصاب جدا، فقناعتي أن الاحتلال يفرض حواجزه المقرفة لتثوير أعصابنا والتمتع بتعذيب البشر وصلبهم ساعات تحت أشعة الشمس المحرقة ، فلما أسمح لهم بهذه المتعة؟، فنحن يمكننا أن نستغل الوقت بالقراءة وتجاهلهم.

 أخيرا بدأت السيارات بالحركة، لم يسألوا أحد عن بطاقة هوية ولم يفتشوا سيارة، فقط صلبونا تحت الشمس وهم يستظلون بالمظلات وخلف المكعبات الاسمنية، فهم يخشون حتى من شمسنا، فهي نار عليهم وبردا وسلاما علينا، تجاوزت هذه الوجوه التي لا تمت لأرضنا بصلة، وسرت بهدوء شديد مارا عبر البلدات المختلفة، حتى تجاوزت بلدة "كفر جمّال"، فتراءت "جيوس" تتلألأ تحت الشمس، وكأنها در منثور بين الأشجار، فأوقفت السيارة فقد اغرورقت عيناي بالدمع، نزلت وجلست إلى مقدمة السيارة متأملا إياها من بعيد، مستذكرا كل لحظة قضيتها فيها، من ماتوا ومن بقيوا، وبعد حوالي نصف ساعة كنت أقود السيارة من جديد، متألما أن الكاميرا الأساسية معي خذلتني منذ الصباح في خضوري، والأخرى كانت بحاجة لشحن للبطاريات، فلم أتمكن من التقاط صور هذه اللحظة التي لن تنسى.

 جيوس أخيرا.. زرت أول بيت لابنة عمتي في مدخل البلدة، وأكملت لبيت ابنة عمتي الأخرى، وهناك طلبت الطعام من أم عزمي هذه الإنسانة التي تفيض حنانا، فأكلت طعاما طيبا مطبوخا بالطابون يغرقه زيت الزيتون الشهي برفقه خبز الطابون، وبعد أن ارتحت قليلا بدأت بجولة زيارات للعم الأكبر الشيخ أبو الطاهر، ولابن عمي أبو خليل صديق الطفولة والدراسة في الجامعة والشباب والمشيب، وتجولت معه بعدة زيارات لأقرباء لنا، فزرت أبو زياد ابن عمي وصديق الشباب، حتى عدت لأكمل السهرة مع أبو عزمي على سطح البئر وأكواب الشاي من ماء المطر، لأصحو مبكرا بعد نوم عميق فأتجول بين ما تبقى من زيتون، فالجدار الاحتلالي البغيض التهم ثلاثة أرباع أراضي البلدة، وبعد وجبة إفطار جميلة كنت أتجه لغرب البلدة لزيارة مبنى المجلس البلدي وصديقي أبو الطاهر الرئيس الحالي للمجلس، الذي وضعني بصورة شاملة عن وضع البلدة، وكان الجدار قريبا منا، وقفت في ساحة المجلس أنظر إليه، وهو يتمدد كأفعى بشعة ملتهمة أراضينا وتعب الأجداد وعرقهم، ملتقطا بعض الصور والألم يعتصرني، لأكمل النهار ما بين زيارات وبين صلة رحم، أتأمل الوجوه فلا أرى إلا ألما يعتصرها، بشرات لوحتها الشمس وحفر القلق والألم أخاديد عليها، فالكل يعاني بعد أن التهم الجدار الأراضي، المياه وأبارها، والتصاريح للوصول للأرض قليلة يتحكم بها الاحتلال، فعم الفقر وأصبح كل واحد من هذه الوجوه حكاية، وكل الوجوه المتعبة تروي رواية، رواية الأرض التي استلبت، الجدار الذي التهم كل شيء ولم يترك إلا بيوت السكن، بيارات البرتقال والليمون التي جفت، الزيتونات الرومية التي لم يعد أحد "يقشبرها" لتحمل الحمل "الماسي" من جديد، وأصبحت الحكاية عيون ترقب الأرض من بعيد، من خلف جدار ينغرس رماحا سوداء في القلوب والصدور.

 وفي الليل كنت أرقب الغرب والساحل القريب، أذكر حديث الأجداد عن امتداد الأرض للساحل، أتأمل الأنوار وأمتع الروح بالهواء المشبع برائحة البحر، وبعد إصرار مني نمت على السطح وعيناي باتجاه الساحل، رافضا عروض أبو خليل ابن عمي أن أنام في داخل البيت بعد عشاء في الهواء الطلق، فمنذ الذي يتاح له دوما أن يفترش الأرض ويلتحف بهواء الساحل الغربي، حاملا معه عبق "بيارات جيوس والمروج والهدفة والواد والحليص والمنطار" وغيرها من أراض استلبها الجدار والاحتلال، لأغادر إلى طولكرم فرام الله في الصباح ومع قطرات الطل والندى وفي القلب حسرة وفي العين دمعة، مارا من أمام خضوري ملقيا نظرة حب، حاملا في القلب وعلى سنان القلم ليالي الشمال التي لا تنسى.

 صباح آخر لرام الله.. صباح آخر بعد عودتي أول الأمس من عمان، تاركا أما تعاني مرضها وإقامتها الطويلة في المشفى، قاطعا طريق لا تحتاج ساعتين بثماني ساعات، تغلبت عليها بقراءة مجموعة منى ظاهر "خميل كسلها الصباحي"، وإعادة قراءة نصف مجموعة راوية بربارة "شقائق الأسيل"، تاركا خلفي قلبا ملوعا بالفراق، محملا بعبق الياسمين.

 في عمان ويوم الخميس الماضي كنت على مدرج الجامعة الأردنية أحضر تخريج ولدي المعتز بالله وتكريمه أيضا لتفوقه الرياضي، فقد تخرج من كلية الرياضة، وهو البطل الدولي في رياضة التايكوندوا، وفي الأمس كنت أشارك الصديقة المناضلة عبلة سعادات فرحتها بتخرج أبنتها صمود وابنها غسان من الجامعة، فأتذكر كيف حُرمت من الفرحة بتخرج أبنتي ذؤابة وابني مصطفى قبل سنوات، وأنا أسير رام الله بدون مغادرة، فأرى الفرحة المنقوصة في عيون عبلة الزوجة وصمود وغسان الأبناء، وهم ينظرون الزوج والأب أحمد سعادات خلف قضبان سجون الاحتلال، محروما من الحرية ومن مشاركته أبنائه الفرح.

 صباح آخر أفرح فيه للشمس ورام الله وهديل الحمام، أخشى فيه فراق آخر وتذوق حسرة أخرى، فما زال قدري أن افرح قليلا لأواجه ألما أكبر، فهكذا القدر كان ولم يزل، فأجول شوارع المدينة وأحضر صحيفتي، أحتسي القهوة مع طيفي الساكن الروح وحروف خمسة، استمع لشدو فيروز رفيقة الصباحات منذ الطفولة:

 "سوى ربينا، سوى مشينا، سوى قضينا ليالينا، معقول الفراق يمحي أسامينا، ونحن سوى سوى ربينا، أنت وأنا سرنا على كل الأبواب حبينا وكبرنا بموسم العناب، ونطرنا الجنى بليالي الجنا، وقطفنا الفرح من علالينا، قولك بعد الرفقة والعمر العتيق، نوقع مثل ورقة كل من على طريق، وينسانا السفر في ليل السهر، ويسألوا عنا أهالينا".

صباحكم أجمل.