في رحاب خضوري
ليالي الشمال 3
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
عمان في القلب كانت ولم تزل، صباح الخير يا ربة عمون، صباح آخر أجمل في لقاء هو الأجمل، في لقاء القلب والروح والياسمين، لقاء الرئة الأخرى من القلب، فهنا أفتح حقائب سفر القلب، حيث اعتدت أن أحمل فيها رام الله وعمان.
حين اجتزت النهر المقدس هبت رياح حارة، كأنها تقول: أنت الآن في أخفض بقعة في العالم، لكني شعرت بها نار الحب المتراكم عبر السنين، يملئ الطرقات ويتراكم في الدروب ياسمينات وجمال وهوى، يقول لي: أنت الآن في أكبر قصة عشق وأجملها، قصة عشق تبرعمت عبر العصور، فكانت نزفي الليلي وعبق الياسمين، فأفرك بين أصابعي برعم ياسمينة، أشتم عبقه على أصابعي، أتذوق شهده، فتهيم الروح عشقا وهوى.
من رام الله الحب إلى عمان الهوى، رحلة الأحد الماضي في زيارة مفاجئة لعمان، شدني فيها الشوق لمدينة سكنت الروح، وأم ما زلت ترقد على سرير الشفاء منذ بداية العام، تقف بين يدي المولى، فهو من بيده الشفاء أو الراحة، أم لها في القلب أكثر ما يمكن أن يكون لكل الأمهات من حب، فأنا أكتب الآن بعد تعب وإرهاق نفسي أكثر مما يكون جسدي، بعد وقفة بجوار سرير الوالدة من بعد ظهر الأمس إلى ما بعد منتصف الليل، فيا الله هي بين يديك ولا أرحم منك على عبادك، وليس من أحد غير الله أتوجه إليه بالرجاء والدعاء.
أجلس إلى شرفتي الجميلة، أفتح الستائر في الصباح المبكر، أستقبل الشمس وأتأمل قطوف العنب التي بدأت تكبر على داليتي التي رعيتها منذ سنوات، فكبرت وعلت حتى وصلت الشرفة في الدور الثالث أثناء غيابي الطويل عن عمان، فوجدتها تستقبلني بجمالها وطيبها، فتعيدني وأنا أتأمل بها إلى رحلتي في شمال ضفتنا، إلى طولكرم ولقائي في الثامن من هذا الشهر بربوع جامعة فلسطين التقنية، التي عرفت عبر تاريخها باسم معهد خضوري الزراعي، لقاء ترك في الروح ما ترك من أثر، فوجدت في الطلبة قطوف العنب التي بدأت تنضج لتعطي الطيب والحلاوة، وفي الهيئة التدريسية والإدارة دالية العنب التي غذت الطلبة من نسغها، حملتها ورعتها، حتى أصبحت قطوفا بين ناضجة وبين قطوف في طريقها للنضج، فمن يزرع يحصد، وها هو حصاد خضوري يعطي ثماره عاما اثر عام.
قرابة الحادية عشر صباحا من ذلك الأحد، كنت أقف أمام بوابة الجامعة، ليفتح حراس العِلم البوابة للسيارة ، متأملا أول ما رأت عيناي، يافطات مرسومة على الجدران دعوات لكتل انتخابية للطلبة، يافطة الجامعة تعلو المدخل، تحمل اسم الجامعة وسهم يشير لليسار، واسم جامعة النجاح وسهم يشير لليمين، فاستغربت وكان هذا السؤال الأول الذي ارتسم في داخلي، ليليه أسئلة أخرى التقطت الأجوبة عليها من بين شفاه الطلبة.
ما أن وصلت لساحة المبنى الرئيس، حتى كان أبنائي الطلبة من إدارة وأعضاء منتديات خضوري يقفون بانتظاري، نزلت من السيارة ليكون لقائي الأول معهم، فأنا لم أعرف منهم سابقا إلا الشاب الجميل المتدفق حيوية رامي أبو شمعة، وهو الذي كان قد اتصل بي منذ زمن من أجل أن أكون عضو شرفي في المنتدى، أشارك به بقلمي وأتفاعل مع قضايا الطلبة ضمن حدود ابن للوطن، لنبدأ جولة ابتدأت بالمكتبة وانتهت بها، مكتبة أكاديمية يطمح المشرفون عليها أن تصبح أكثر تنوعا وحجما ونوعا وتطورا، مكتبة كان أجمل ما فيها لقاء مع الأستاذ رائد الجوهري في لقاء حميم وحوار جميل بحضور العديد من الطلاب، وحقيقة لا أمتلك إلا أن أسجل إعجابي بهذا الإنسان بما يحمله بداخله من روح جميلة وحلوة، لأكمل الجولة فنلتقي بالأستاذ عامر ياسين في شؤون الطلبة، هذا الشاب المتدفق حيوية ومرحا، وحقيقة أقف باحترام خاص أمام رائد الجوهري وعامر ياسين، فالاثنين يعانيان من إعاقة حركية، لكنهما تمكنا من إحالة هذه الإعاقات إلى دافع أكبر للعطاء، فلم يستسلموا لها، وأصبحوا شعلة من العطاء والبذل، وحقيقة لا بد أن أسجل شكري الخاص للقاء الذي جمعني بإدارة الجامعة، فلقائي مع الأساتذة: ماهر قمحاوي ووجدي الجلاد ومحمد حمايدة وعزمي صالح ورشيد الراميني ترك في داخلي أثرا كبيرا، ليتوج اللقاء بلقائي مع الأستاذ منصور الحضيري "أبو الشهداء"، والد الشهيدان علي وعامر، نائب رئيس الجامعة للأمور الأكاديمية. فهنا وجدت علاقة خاصة ومتميزة بين إدارة وطلبة، لقاء مع نخبة تربوية وأكاديمية ونضالية، لا يمكن إلا أن يحفر أثاره في الروح والقلب، فباقة من ياسمين رام الله وباقة أخرى من شيح عمان ودفلاها لكل منهم.
جولة جميلة في ربوع خضوري وحاضرتها، لم يترك الطلبة زاوية لم نتجول فيها، كانوا يشرحون ويتحدثون، استمعت منهم لطموحات جميلة ورائعة، انتماء لجامعتهم ومدينتهم، حلم بأن تتطور محافظة طولكرم لتصبح قبلة للزوار، حلم بأن تكون مدينتهم نقطة استقطاب للنشاطات الثقافية والفنية، أن تعود طولكرم كما كانت منارة مشعة بالثقافة والفن والجمال، يحلمون بمدينة نظيفة بدون مجمعات حرق القمامة على مداخلها الاثنين، شوارع مشجرة تفوح منها روائح الورود بدلا من غازات حرق القمامة، شوارع معبدة بدون حفر ولا مطبات، مدينة منظمة الشوارع والحركة والأرصفة، يحلمون بدار للسينما ومسرح ومكتبة عامة كبيرة وضخمة، أحلامهم كبيرة ومشروعة على المستوى العام للوطن الذي يحلمون بحريته والمدينة، وأحلام مختلفة على مستوى الجامعة وتوقهم للتحديث والتطور فيها، وقد أجاب أحدهم على سؤالي الأول حول وجود اسم جامعتين على المدخل قائلا بمرح لا يخلو من ألم: جامعتنا تعاني من ثلاثة احتلالات، الاحتلال الإسرائيلي باقتطاعه قسم من ارض الجامعة وإقامة مبنى الارتباط عليه، فأصبح محتلا ولم يتم إعادته، واحتلال من وزارة وسلطة الطاقة بإقامة المحولات الضخمة على جزء آخر من أرض الجامعة، واحتلال من جامعة النجاح، حيث تستولي على نصف الجامعة تقريبا لإقامة مشاريع زراعية فيها.
أنهيت زيارة دامت عدة ساعات في خضوري، ودعت الطلبة والمشرفين والإدارة، عشرات الطلبة الذين رافقوني، كنت أتمنى أن أذكرهم بالاسم هنا، لكن ضيق المجال لا يترك الإمكانية لتحقيق الرغبة، فأكتفي بتحية لهم جميعا، طلاب الجامعة وأعضاء منتديات خضوري، فقد غادرتهم وأنا أترك في رحاب الجامعة بعض من قلبي وروحي، وفي لحظات المغادرة صهلت فرس أصيلة هناك، فوقفت للحظات فقد شعرت بهذا الصهيل إشارة إلى صرخة التغيير القادمة، صهيل الحرية القادم على الوطن، صهيل المستقبل الآتي مزلزلا ليكون لنا جميعا الفرح، غادرتهم وأنا أحلم بالغد القادم، فهذه السواعد الشابة هي قوة التغيير وتمزيق سدل العتمة.
صباح آخر يمتد من رام الله إلى عمان، صباح آخر يحمل الحب والهوى والحلم والأمل، طيف يسكن القلب والروح، حروف خمسة ترف من حولي فتسكب عطر اللافندر والياسمين في روحي، تشد من أزري، فيروز رفيقة الصباحات تشدو:
" أمي يا أمي الحبيبة نفح الرياحين والورود، أين ابتسامتك الرطيبة تسمو باشراقة الوجود، ولأسم أمي الجميل لحن في القلب أحلى من النسيم، لا وجه قد لاح فيه حسن يرقى إلى وجهها الكريم، هل لي سوى حبك العظيم أحيا به الوعد بالنعيم، روحاُ بأرجائه أهيم طفلا لأحضانه أعود، أمي و هل لي سوى يديك أرجوهما منة السماء، أبوابها طوع راحتيك إن تسألها يسمع الرجاء، يا من حلا باسمها النداء يا من تسامى بها العطاء، إن رمت جوداُ من السماء، من غير نعماك لا تجود، ألقاك في نجمة الصباح، في مبسم الزنبق الرطيب، في زرقة البحر في الاقاح، أمي و في دمعة الغريب، و الشمس تدنو من الغروب، كأنها وجهك الحبيب، يا وجه أمي لا تغيب، أماه أنشودة الخلود"
صباحكم أجمل.