تداعيات الهوى

صباحكم أجمل

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

   الملم أوراقي وأستعد للسفر باتجاه الرئة الأخرى من الصدر، رام الله الياسمين المتعربش على الحيطان، والدروب الموشاة بالزهر والحب، صومعة الراهب وأصدقائها من كتاب وعشاق حرف وفن وإبداع، أفتح حقيبة سفر القلب، ابدأ بتوضيب ذاكرة المدينة فيها، فعودتي لعماني التي أهوى بعد غياب طويل، جمعت الكثير من الأحاديث وأضافت ما أضافت لتلافيف الذاكرة، فأصبحت الذاكرة تحمل وجها آخر لعمان لم أعرفه من قبل، وجه ممتد على مساحات شاسعة، مزين بأنفاق وجسور وأشجار وحدائق وشوارع متسعة، يختلف كثيرا عن الوجه الذي عرفته منذ الطفولة حتى سن الشباب والرجولة، لكل وجه مزاياه وطبيعته وجماله، ولكن تبقى الأصالة في الوجه القديم، والحداثة في الوجه الجديد.

   هو الصباح العماني ونسمات ناعمة قبل أن تشتد الحرارة في الجو، أصوات عصافير تزقزق بفرح ومتعة ككل صباح، تتنقل بين أشجار متنوعة في حديقة المبنى الذي أسكن أحد الشقق فيه، أشجار زرعتها على مدى عشرة سنوات من إقامتي في بيتي العماني، فقسم منها نما وترعرع في وجودي، والباقي في غيابي الذي طال، أتأملها بفرح الأب الذي يغيب فيرى أبناؤه قد كبروا.

   أقف لشرفتي مستذكرا حفاوة اللقاء مع أصدقاء جمعني بهم القلم والحرف في عمان، وأصدقاء قدامى عشنا فيها عمان سويا والتقينا من جديد، مستذكرين الكثير من الجمال والكثير من الذكريات، فنعود لبعض الأوقات إلى مرحلة من الشباب وأواسط العمر وتلك الأيام التي تركت في الروح ما تركت من جمال، وأجول كلما أتيح لي وقت في بعض من أرجاء عمان، أستعيد ذكريات جميلة وبعض من شواهد باقية تشهد على مرحلة كبرنا فيها مع عمان.

   في الجمعة الماضية وبدعوة طيبة من صديقي الكاتب والطبيب د. فوزي بيترو، كنت أحضر احتفال "موسم النبي صالح" في جمعية الرملة الخيرية في جبل الحسين، فسررت أيما سرور لمبادرة الجمعية بإحياء بعض من تراث وذاكرة، لها في ذاكرة فلسطين ما لها من ذكرى، فأنا كنت وما زلت أؤمن أن أي وطن بلا ذاكرة وطن قابل للشطب، لذا كان وما يزال من الضرورة أن لا تفقد الشعوب ذاكرتها، فكيف بشعب شرد وطرد من أرضه، وقد سرني وجود عدد كبير من الحضور يشمل كافة الأجيال، فمن كبار العمر الذين عايشوا هذه الذكريات، إلى أطفال وشباب لم يعرفوا عن هذه المناسبات التي كان يحتفل فيها كل عام، إلا ما سمعوه من الآباء والأجداد، وقد تمكن القائمون على الجمعية من خلال استخدام الأغنية الشعبية والعروض للصور من وضع الحاضرين بصورة الموسم كما كان تقريبا، حتى الخلاف التقليدي بين أهل الرملة واللد على إدخال الرايات إلى المقام، هذا الخلاف الذي كان في الماضي سمة تترافق كل عام في الموسم المشهود، حتى يجري الاتفاق على إدخال الرايات متعانقة بوحدة واحدة وتدخل معا في لحظة واحدة، تعبيرا عن وحدة الشعب في تلك الفترة، في الوقت الذي كان أهل الرملة يرحبون بضيوفهم وضيوف الموسم بالغناء:

"يا رملة حيي ضيوفك، يا رملة يا بنت الجود، يا رملة هلي بالضيف، يا رملة يا كحل العين، هلي بأهل فلسطين، إسلام ومسيحية، هلي بللي زارونا، جابوا الجميز والتين".

ولم يفت القائمون على الجمعية من الانتباه إلى تقديم الكنافة الرملاوية المتميزة بطيبتها، وتقديم حلوى "الكعكبان" والتي نسميها "حلاوة النبي صالح"، فكل الشكر والتحية لجمعية الرملة ولأهل الرملة وأهل اللد الذين ساهموا بنجاح الاحتفال، وأتاحوا لي والحضور قضاء وقت جميل مع الذاكرة في ذكرى اقتراب يوم احتلال فلسطين ونكبة الشعب الفلسطيني والعرب.

   في الصباح كنت أقرأ في كتاب للصديقة المبدعة منى ظاهر فراشة الناصرة الرقيقة، كنت أجول في كتابها الجديد "خميل كسلها الصباحي"، الذي وشحته بإهداء رقيق، وابتسم لتصاريف القدر، فهذه الكاتبة التي جمعنا الحرف سويا في وطن واحد منذ سنوات، لم نتمكن من اللقاء في الوطن إطلاقا بسبب الاحتلال، حتى جمعتنا عمان للمرة الأولى، وكان لمركز "رؤى" جمال آخر من جماله حين جمعنا في أروقته.

   أقف لشرفتي وفنجان قهوة ونغمات فيروز، أستعيد الأيام التي قضيتها في عماننا الجميلة، أستذكر كل الأحبة والأصدقاء الذين غمروني بزهر اللوز وجمال أرواحهم، شعراء وكتاب ومحبين وعشاق، أصدقاء لم يتح الوقت أو الظرف أن نلتقي، آخرون تمنينا لو وجد الوقت لنلتقي أكثر من مرة، جمعنا جميعا عشق الجمال وحب عمان ورام الله التي لها في ذاكرة بعضهم ولو لمحات، وآخرون عرفوها وجالوا في دروبها من خلال ما كتبت ومن خلال ما التقطت عدستي من صور، أصدقاء قدموا لي من خدمات ما لا يمكن أن أنساه العمر أبدا، وآخرون لم أراهم أبدا فعلاقاتهم معي كانت ترتبط بمرحلة معينة لهم فيها مصالح وغايات، وما أن انتهت مصلحتهم معي لم اعد أمثل في ذاكرتهم شيئا.

   يقطع خلوتي وكتابتي صديق طفولة يسكن مني الروح منذ عرفته ونحن أطفالا على مقاعد الدراسة في إعدادية الأشرفية بعد هزيمة حزيران، فكان وما زال صديق لم تفرقنا لا المنافي ولا الشتات ولا الظروف الصعبة، يصر عليّ أن نذهب لتناول الإفطار سويا في مطعم "الكلحة" الشهير، لنستعيد بعضا من ذاكرة طويلة من الطفولة حتى المشيب، فلا أمتلك رفضا لرغبة مشتركة.

   أستعد لمعانقة رام الله من جديد، ويدي لم تفارق خاصرة عمان برقصة حب وهوى، وفي ذهني برنامج للتجوال في أجزاء من الوطن يمكن الوصول إليها، بعد أن حرمت من ذلك أعواما طويلة، فيا راميّ في كل لحظة أنا اشتاق لقائك كما تلتقي الشواطئ بالموجة، تاركا للمستقبل وزيارات قادمة ممارسة عشق قديم لعمان وزيارة أحياء لم أتمكن من زيارتها، ومدن اشتاق إليها كمدينة مأدبا واربد وصنوبر عجلون وتفاح الشوبك وبتراء التاريخ وشواطئ العقبة ومعان حارسة الصحراء، والتي لها في ذاكرتي زيارتي لها طفلا وإقامتي ما يزيد عن شهر فيها، بعد فيضانها الشهير في منتصف ستينات القرن الماضي، الكرك وأصدقاء لا أعرف إن كانوا أو شتتهم الزمان وسنوات البعد والفراق.

   صباحك أجمل عمان.. صباحك أجمل رام الله.. صباحكم أجمل أيها الأحبة هنا وهناك، صباح أجمل لكل أحبتي على خارطة الوطن الكبير من محيطه إلى خليجه، صباحك أجمل أيتها الغالية وفنجان قهوتنا ولفافة تبغنا أنت أنا كلانا، صباح أجمل مع أشواق تتجدد وشدو فيروز في الصباح الجميل:

"يوم ويومين وجمعة وشهر وشهرين، تعبت في عيني الدمعة وين غايب وين، شهر وشهرين وبعدك بعدك بتقول، بتقول محافظ عا وعدك والوعد يطول، وقلبي الناطر على بعدك باله مشغول، مشغول وليل بعدك صاير ليلين".

صباحكم أجمل..