العيش في عالم سريع التغير
هايل عبد المولى طشطوش
[email protected]
لا شك أن العالم بدأ وبعد عام 1990
بات يشهد تغيرات سريعة وكثيرة ومتلاحقة لدرجة إن المرء أصبح يصحو كل يوم على حدث
أو اختراع أو اكتشاف أو تطور جديد، واللافت في الأمر إن التغيرات لم ولا تقتصر على
جانب واحد من جوانب الحياة اليومية بل هي شاملة عامة تكاد تغطي كافه مناحي الحياة
الإنسانية ،فهي تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وتقنية وأكاديمية ....
الخ ،ولعل أكثر هذه التطورات إثارة هي تلك التغيرات التقنية والثورة الكبيرة فيها ،
فهي ثورة هائلة في مجال الاتصالات والمواصلات ووسائل النقل والإعلام ،حيث شهدت
السنوات الأخيرة تحول الحركة البشرية اليومية إلى حركة ممزوجة بالتكنولوجيا
وأدواتها ،لدرجة أصبح معها المرء يشعر إن الحل لجميع ما يواجه من صعوبات يكمن في
التقنيات المعاصرة فهي المسؤولة عن إيجاد الحلول المستعصية لما يواجهننا من معضلات
وما يعترضنا من عقبات ، !! بل وصل الأمر بالبشر إلى أنهم أوكلوا مهمة معيشتهم
وتوفير غذائهم وتسهيل مواصلاتهم إلى الثورة العلمية التقنية التي اجتاحتهم بلا
هوادة ،والمعضلة الهامة في هذا العالم هو إن الجيل الذي ولد مع ولادة هذه الثورة لم
ير في حياته سوى التكنولوجيا وأدواتها ،فقد وولد يستخدم الهاتف النقال ويشاهد
الفضائيات ويستعمل الحاسوب ويعتمد في ثقافته وعلمه ومعرفته على الانترنت ،ويوكل كل
مهامه من طبخ أو كنس أو سياقه أو كتابة و علاج أو رسم أو حتى تفكير إلى الأدوات
الحديثة التي وفرتها له التكنولوجيا المعاصرة ،أن العيش في ظل هذه الأجواء يجعل
المرء يشعر انه يتحرك بعيداً عن الدوافع والحوافز والعواطف الانسانيه... بل إن
المحرك له هو الأتمتة وليس الأنسنة ،وهذا يفرز إنسانا جامدا بعيداً عن العواطف التي
لا غنى لبني البشر عنها ،فهي المسؤولة عن التراحم بين الناس وهي المسؤولة عن يقظة
الضمير التي تحرك الموظف في عملة وهي المسؤولة عن الغريزة التي تتحرك في أحشائه وهي
المسؤولة عن العلاقات الاجتماعية بينه وبين أخيه الإنسان ،فإذا بلغ الأمر إلى هذا
الحد أصبح وضع الإنسان في هذا العالم (المؤتمت) الخالي من الانسنة وضع خطير لأن
المصالح المادية الضيقة تصبح هي المحرك الوحيد لعلاقات البشر !!!.
أن الإيقاعات السريعة التي يعيش في
ظلها عالم اليوم تفرض على كل من يحيا فوق هذه الأرض إن يتأقلم وبسرعة مع هذه
الإيقاعات فإذا عجز كانت الطامة الكبرى ،ولنا في التغيرات السياسية والاجتماعية
والاقتصادية التي يشهدها العالم مثلاً على ذلك ،حيث شهدت نهايات القرن العشرين
تغيرات سريعة ومتلاحقة في المجال السياسي أيضا كما هو الحال في المجالات الأخرى
،فقد تغير شكل النظام الدولي بسرعة وانتقل من مفهوم النظام الثنائي القطبية الذي
ساد في الكون حوالي خمسين عاما وقد عنى ذلك أشياء كثرة أولها انتهاء ما كان يعرف
بالحرب الباردة التي كانت تدور رحاها في كافة أرجاء المعمورة بإدارة من القوتين
العظميين الولايات المتحدة والاتحاد لسوفيتي ،والتي كان لها دور كبير في توتير
أجواء الأمن ولسلم في العالم بسبب التسابق الكبير والتنافس الشديد في الحصول على
تكنولوجيا متقدمة في مجال الأسلحة الفتاكة والمتطورة ،لقد انهار الاتحاد السوفيتي
في عام 1991 وانتهى معه النظام الاقتصادي والسياسي الاشتراكي وهيمنت قوة واحدة على
عرش العالم وبداء يسود في العالم نظام آحادي القطبية يتخذ من الرأسمالية نظاما له
ويتخذ من الليبرالية ايدولوجية له أيضا ،إن هذا التغير الكبير كان له أثاره على
العالم حيث بدأ العالم يشهد موجة جديدة من المطالب الاجتماعية والاقتصادية ونشطت
منظمات المجتمع المدني المعنية بترسيخ مفاهيم جديدة كمفاهيم حقوق الإنسان
والديمقراطية والحرية الفردية وتحرير الأسواق وحرية التجارة وإزالة العوائق التي
تقف في وجه الأفراد والبضائع ورؤوس الأموال وإنهاء كل القيود المفروضة على التجارة
الدولية وقد عززت الثورة العالمية والتكنولوجية وتطور وسائل الأعلام ونظم الاتصال
والمواصلات هذه التغيرات وساهمت في انتشارها وقد كان اكبر المتأثرين من هذا التغير
هو دول العالم الثالث التي تعاني من القيود والحدود ونقص الديمقراطية وغياب حقوق
الإنسان وتعاني من الفقر والحرمان والجوع والأمراض ... فاستدعى ذلك فرض هذه
المفاهيم والتغيرات عليها بالقوة مما أحدث خللا كبيرا في مفهوم الأمن والسلم
الدوليين ولعل الأحداث التي شهدها العالم منذ عام 1991 إلى اليوم تعزز ذلك .
إن العالم اليوم يعيش في ما يسمى
العولمة والتي تعني ذوبان الحدود وانهيار القيود التي تحول دون انفتاح الأفراد
والجماعات على بعضها البعض ،وقد دخلت النظم الحياتية كافه في عالم العولمة وتأثرت
المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية والإعلامية ...بالعولمة شاءت
أم أبت حيث لم يعد لدى الدول القدرة على ضبط الحدود ولم يعد بمقدورها تشديد القيود
لان ما يمنع دخوله من الباب أصبح يدخل من الشباك فقد انتشرت الفضائيات والانترنت
وأصبح بامكان الفقير والغني على حد سواء وفي كل أنحاء العالم إن يمتلك هاتفا نقالا
يتكلم فيه بحرية وسهولة مع كافه أرجاء المعمورة ، وأصبح بامكان الفرد إن يشاهد
العالم كله ويطّلع على ثقافة وحياة الآخرين بسهولة ويسر من خلال شاشة صغيرة قد لا
يتعدى قطرها بضعه انشات ، لقد أدى ذلك إلى تغير أنماط معيشة الناس وتحولت إلى أنماط
استهلاكية فقط وخاصة في العالم الثالث ،وأصبحت الدولة القومية في خطر لان سيادتها
لم تعد مطلقه كما أرادها (جان بودان) فقد أصبح العالم قرية صغيرة يسهل التجوال
فيها!!.
إن هذا الواقع يحتاج منا إلى التأقلم
وبسرعة مع الإيقاعات السريعة التي يعيش في ظلها العالم وألا تخلفنا عن الركب وبقينا
ثابتين في أماكننا نرقب العالم وهو يتطور ونحن نتراجع لأننا متلقين فقط ،إن تأقلمنا
مع هذه الإيقاعات الكبيرة السريعة يجب إن لا ينسينا هويتنا وثقافتنا ومبادئنا
وأخلاقياتنا لأنها ضرورية في عالم غابت فيه القيم وتلاشت الأخلاق وأصبح المحرك
الرئيسي لنشاط البشر فيه هو المصلحة المادية والمنفعة الخاصة فقط ،فلو كان بمقدورنا
إن نمزج ما بين التطورات الايجابية التي تقذفها الحضارة المعاصرة مع أصالتنا
وتراثنا لأحرزنا التقدم واستطعنا تحقيق العيش الكريم في عالم سريع التغير.