بين الحياء وقلة الأدب
أحمد النعيمي
زعموا أن أعرابياً من بلاد الشام انطلق للحج على دابته ، وسار قاطعاً الصحراء باتجاه مكة المكرمة ، وفي الطريق التقى برجل تقطعت به السبل فلا ماء ولا طعام ولا دابة ، فحمله على دابته حتى وصلا إلى واحة ، فقام بتقديم الطعام والشراب للغريب ، حتى إذا اطمأنت نفسه وهدأت غافل صاحب الدابة وركبها وانطلق هارباً ، دون أن يترك هذا المعروف والإحسان أي انطباع في نفس هذه الغريب ، وقبل أن يختفي عن الأنظار ناداه صاحب الدابة ، فالتفت إليه الغريب ، فقال له صاحب الدابة : ليس مهماً أن تأخذ دابتي ولكن لا تخبر بفعلتك أحداً حتى لا تنعدم المروءة بين الناس ، وانطلق الغريب لا يلوي على شيء .
ومن أيام وأنا أحاول أن أتواصل مع أحد أصدقائي ، أصابني الملل وأنا أدق عليه ، ولا يجيبني سوى صوت الحسناء ، وهي تخبرني بأن الرقم المطلوب إما أن يكون خارج نطاق التغطية وإما أن يكون مغلقاً ، لله درها لا تكل ولا تمل ، ومرت أيام وأنا على محاولاتي وهي على جوابها ، بعدها قررت أن اذهب إليه لأطمئن عليه ، ولأعرف منه خبر هاتفه وقصة تلك الحسناء التي أثارني هدوئها ، ووجدت صديقي الطيب فوق العادة ، سليماً معافى ، وكلما ما في الأمر أنه قد خسر هاتفه ومحفظته الشخصية ، فقد استنجد به أحدهم وطلب منه مكاناً ينام فيه وبعض الفلوس ، فما كان من صاحبي إلا أن وفر له طعاماً وشراباً ومبيتاً ، ووضع أم عامر في بيته واطمئن لها ، ولم يستيقظ إلا واللئيم قد ذهب وبحوزته جهازه ومحفظته ، وباب مغلق خلفه .
موقف صديقي الطيب مع أمهات عامر كثيرة ، كان يقابله بحمد الله وشكره ، وكان يدفعني إلى أن أعاتبه على طيبته وحيائه ، ولكنني أتذكر قصة الرجلان اللذين كان يعاتب احدهما الآخر على حيائه ، وهو يقول له : إنك تستحي ، وكأنه يريد أن يقول : إن الحياء قد أضر بك ، فزجره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال : " دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير " ( متفق عليه ) فأتوقف وامسك ، فصديقي ، وسط ملاحظة عابرة بألا يثق بإنسان إلا بعد تجربته ومعرف أخلاقه ، مدركاً أن حيائه هذا لا يأتيه إلا بالخير ، فحيائه هذا لم يكن يمنعه من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فأينما وجدته يأمر بالمعروف وينهى بالمنكر ، وكثيراً ما تجد كلماته تلقى طريقها إلى القلوب وتعمل عملها في النفوس ، فإذا ركب سيارة أو استقل حافلة طلب من صاحبها أن يغلق الأغاني ، وإذا رأى رجلاً يدخن في مكان عام أو بداخل حافلة ، يأمره وبكل أدب أن يتخلص من سيجارته ، مرفقاً ذلك بعبارات لطيفة ، وتذكرة بضرر هذا السم على المدخن وغيره ، وإذا مرت به فتاة محجبة قد أظهرت قدمها بدون أن تقوم بتغطيتها ، فيمر بجانبها وبدون أن يلتفت إليها ويكلمها : يا أختاه بارك الله بك لا يجوز أن تكشفي عن قدمك فهي عورة . والأصل في إظهار القدم التحريم ، وهذا أمر شاع بين أخواتنا المحجبات ، فبتنا يخرجن وأقدامهن مكشوفة غير مستورة ، بينما هذا مخالفة واضحة وبينة للشرع فالقدم عورة والكشف عنها أمر محرم عند جميع المذاهب ، ولا خلاف فيه البتة عندما ذهب إلى أن الوجه والكفين عورة أو من ذهب إلى أنهما ليسا بعورة . وكأن حال صاحبي الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، والصابر على ما أصابه ، كما قال الإمام النووي – رحمه الله – : " وأما كون الحياء خيراً كله ، ولا يأتي إلا بخير ، فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحق من يجله ، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة ، وجواب ذلك ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح – رحمه الله – : إن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز وخور ومهانة وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف ، أطلقوه مجازا لمشابهته الحياء الحقيقي ، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ، ويمنع التقصير في حق ذي الحق ، ونحو هذا " شرح النووي على مسلم 1 / 112 ، فلله در حيائه ، ولله ما أروعه في إكرامه للناس ، وإحسان الظن بهم ، وما أبهاه وما أصبره :
يُغضي حياء ويًغضا من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم
وإما انتم يا أمهات عامر ، يا عديمي الشرف وفاقدي الكرامة ، يا من لا تعرفون معنى أن يكون الإنسان صاحب حياء وصاحب مروءة ، يا من أمرتم بالمنكر ونهيتهم عن المعروف ، فيكفيكم قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْىِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ " رواه البخاري ، ورحم الله المتنبي ، عندما قال :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. وان أنت أكرمت اللئيم تمردا