رام الله بتحلى أكثر بشجرها الأخضر
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
عنوان صباح اليوم هو شعار حملة تشجير رام الله، هذه الحملة التي انطلقت في الأمس صباحاً من جوار مقر الرئيس الشهيد، حملة أطلقتها بلدية رام الله بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس البلدية لهذه المدينة العريقة، حملة ستزرع فيها آلاف الأشجار، وبدأت بزراعة الشجرة الأولى قرب ضريح الرئيس، زيتونة مباركة كهذه الأرض المباركة، مبادرة جميلة من مجلس البلدية ممثلا بالأخت جانيت ميخائيل رئيسة المجلس وأعضاء المجلس جميعاً وكادر البلدية، وبالتعاون مع القطاع الخاص وخاصة المصارف، فهذا القطاع بدأ يدرك كم له من دور في المساهمة بالتطوير، لا أن ينغلق على ذاته وعمله الخاص، وقد كان حفل انطلاقة حملة التشجير برعاية وزير الحكم المحلي، ورئيس ديوان الرئاسة ومشاركة وزير الزراعة والمحافظ وممثلي المصارف والقطاع الخاص، وضمن حشد كبير من المواطنين والمتطوعين لزرع الأشجار، فلعلنا نستعيد لرام الله غطائها الشجري ولونها الأخضر، وأن نستعيد زرع الشجر بجانب بناء الحجر، لا أن ندع الحجر يقتلع الشجر ويحل محله، وخاصة أن الاحتلال يضع نصب عينيه قلع الأشجار من بلادنا وتحطيمها، حتى بلغت الأشجار المقتلعة والمدمرة من الاحتلال ما يزيد عن مليون ونصف شجرة، المفترض أن نزرع مقابل كل شجرة عشرة أشجار، فالمعركة مع الاحتلال تشمل كل النواحي، فهو يستهدف البشر والشجر والحجر، فكلما دمر بيتاً علينا أن نبني بيوت، وكلما قطع شجرة علينا أن نزرع أشجاراً، وكلما استشهد لنا بطل شهيد، ستأتي "النشميات" بعشرة أبطال يكملون المسيرة، وقد سرني لقائي العديد من أصدقائي هناك، ومنهم صديقي التوأم الدكتور هاني الحروب، الذي استغل طريق عودتنا ليستعرض قدراته عليّ بالزراعة وطرقها وأساليبها، مستفيداً من معرفته أني رغم عشقي للشجر والنبات لم أعش يوماً في القرية وبالتالي لم أمارس الزراعة والفلاحة.
صباحك أخضر يا رام الله، صباحك الحب والجمال وشروق الشمس بعد موسم الثلوج التي لم يبقى إلا بقايا منها، صباحك أخضر بلون الربيع القادم والدائم، ربيع الأزهار والأشجار وربيع الحرية، كم كنت سعيداً وربما كنت كما قال لي الأخ سمير عميرة عضو مجلس البلدية، أسعد الموجودين بحملة التشجير ، حتى أني شعرت بالدفء يتسرب لكل خلايا جسدي، فنزعت معطفي رغم برد الجو وبقيت مرتدياً قميصاً بدون معطف ولا رداء صوفي، لعله الفرح برؤية الأشجار، وعودة بعض مما افتقدناه بث الفرح والدفء في روحي وجسدي، فمبارك لك يا رام الله ردائك الجديد، ومبارك لنا ولادة الأشجار الجديدة بعد أن شعرت بالأسى على أشجار قتلها تراكم الثلوج عليها، فلم تحتمل وخرت صريعة بعد أن صمدت مئات السنين، ومبارك هذا الجهد الرائع يا بلدية رام الله، ومبارك لنا جميعا مئوية تأسيس بلدية تعمل كل جهدها لتجعلنا نحب رام الله أكثر.
الفرح يستجلب الفرح، والشجر يستحضر الشعر، فكان المساء جلسة شعرية جميلة للشاعرة روز شوملي في المركز الثقافي الفرنسي الألماني، حيث ألقت مجموعة من أشعارها الجميلة والمؤثرة، وسط تفاعل من الحضور ومناقشات جميلة، أزالت الشعور بالبرد في الخارج، خرجت بعدها وسرت في الشوارع رغم البرد الشديد الذي كنا نقول عنه: "برد يقص المسمار"، كناية عن شدته، وبعد جولة لم تطل كنت بطريقي للصومعة أبحث عن قليل من دفء وأعد طعامي لليوم التالي، ومن ثم أتفقد بريدي وأقرأ قليلاً قبل النوم.
هي رام الله في هذا الصباح، فأستذكر ابنة لرام الله تقيم في المهجر والمنفى، قارئة جيدة لصباحات رام الله، خاطبتني يشدها الحديث الذي أتحدثه من الذاكرة عن المدينة، تشدها الصور التي تلتقطها عدستي، فيثور الحنين في روحها فتحدثني عن بيتها وطفولتها، ومن باب المصادفة أن تكون المنطقة التي أقيم بها حالياً، شهدت الكثير من طفولتها، فقالت: أنها بمقدار ما شعرت بالفرح، إلا أنها بكت حين بدأت أحاديثي تعيد وهج الذاكرة لها، فاستذكرت رام الله والطفولة والجمال، فهكذا هي رام الله تغرس بالذاكرة ولا يمكن نسيانها أبداً.
أول الأمس ومع سطوع الشمس بعد الثلوج، وجدتها فرصة للسير في شارع الإذاعة حتى وصلت لمسرح عشتار، فوجدتها فرصة لزيارة الأحبة هناك لأهنئهم مواجهة على المسرحية الرائعة "العشاء الأخير في فلسطين"، ومن هناك عدت ماراً بطريقي ببيت صديقي الكاتب جميل حامد، فجلسنا تحت شجرتي الجوز والسرو نحتسي القهوة، نستمع لزقزقة العصافير التي كانت فرحة بنور الشمس، فعدت بالذاكرة لتلك الفترة التي امتدت عامين من السكن في بيتونيا درست خلالها الثالث والرابع الابتدائيين هناك، قبل أن نرحل لرام الله بالسكن، وبقيت عاماً آخر درست فيه الخامس الابتدائي في نفس المدرسة، قبل أن انتقل لمدرسة البيرة الجديدة لدراسة الصف السادس الابتدائي في الأعوام 661967 ، فبيتونيا والمنطقة التي سكنا بها والتي كانت أقرب لرام الله بالمسافة منها لقلب بيتونيا، كانت غابة من الأشجار وخاصة السرو والصنوبر، وكانت العصافير تصدح باستمرار، وإن كنت قد تحدثت في المرات الماضية عن المنطقة وجمالها، وعن مدرسة بيتونيا وتأثيرها، فأني أستذكر الآن أنه إن كنت قد تعلمت الدرس الأول بالمقاومة بالحجر في مدرسة خليل السكاكيني في القدس، وكانت الثورة الجزائرية هي الموجه الأول لروح المقاومة في أرواحنا بتلك الفترة، إلا أن مدرسة بيتونيا كانت المعلم الأول لي بأسلوب نضالي جديد، المشاركة بالمظاهرات حيث شاركت أقراني وزملاء المدرسة، المظاهرة الأولى في حياتي احتجاجاً على تصريحات الرئيس الحبيب بورقيبة، أثناء زيارته للأردن والضفة الغربية من فلسطين، وإن لم تخني الذاكرة فقد كان ذلك في عام 1964، وفي تلك الفترة بدأت أطل من خلال مجلة آخر ساعة والمصور المصريتين على القومية العربية والقائد جمال عبد الناصر، وعلى ثورة السلال باليمن، فقد كان والدي كغالبية الناس بتلك الفترة من أشد المعجبين بناصر، وكان يحضر هذه المجلات فألتهمها التهاماً، وكنت أستمع لأحاديثه عن ناصر والسلال بإعجاب شديد، إضافة لتأثير بعض الأساتذة من أصحاب الفكر القومي علينا كطلبة صغار بالسن، من خلال أحاديثهم لنا عن القومية العربية والوحدة العربية من الماء للخليج.
أما الجانب الآخر من تأثير مدرسة بيتونيا على روحي، فقد كان حضوري مع طلبة المدرسة أول فيلم سينمائي في حياتي، فيلم جميلة بوحريد المناضلة الجزائرية المعروفة، فقد أخذنا أساتذتنا لحضور الفيلم في قاعة سينما دنيا في رام الله، هذه الدار الفاخرة للعروض والتي جرى هدمها قبل حوالي عشرة سنوات، لتتحول ساحتها إلى موقف للسيارات، ومن ثم إلى مشروع لمبنى تجاري ضخم يحمل نفس الاسم، وقد كان هذا الفيلم الأول في الذاكرة البداية لعشقي فن السينما واهتمامي به، وفي الجانب الآخر كانت المدرسة حريصة على إقامة حفل فني في نهاية كل عام دراسي، تتخلله مسرحية صغيرة من إعداد وتمثيل الطلبة، لذا نشأت على عشق المسرح ومتابعته عندما كانت تتاح لي الفرصة، وفي المرحلة التي تلت إنهائي الثانوية وبدء دراستي الجامعية، كنت من رواد المسرح الدائمين في دمشق وبغداد، وما زلت حتى الآن متابعاً للسينما والمسرح، ولعلي في مقالات قادمة أستذكر هذا الجانب من حياتي بتفصيل أكبر.
صباح آخر تفاجئني الأخبار فيه بتجدد العدوان على غزة وأهلنا هناك، فيستشهد تسعة ويتجدد الحصار، فالاحتلال لا يتوقف عن القتل سواء في غزة أو الضفة، والساسة ما زالوا لم يدركوا أن انقسامنا هو من يشجع العدو علينا، فإلى متى أيها السادة يستمر هذا الصراع؟
فنجان قهوتي وطيفي البعيد القريب الساكن الروح، هديل الحمام على نافذتي، شمس مشرقة وجو بارد، وشدو فيروز يشدني ككل صباح:
"بظل فيه اتنين، عيون حلوه وإيد يعمروا ضيعتي الخضرا على مد العين، وصغيره ومسيره على الغيم، بتزوغ وبتحكي عصافيرها، شو بيمرق عليها رياح وضيم، وبتظلها تلاقي نواطيرها".
صباحكم أجمل.