أم "الشرايط"

أم "الشرايط"

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

ما يزيد عن الأسبوع ونحن نعاني من موجة حرارة عالية تضرب المنطقة والعالم، كان الجو وما زال حارا الى درجة الاختناق، حتى في الأمسيات بالكاد نحظى ببعض النسمات الناعمة، وفي الصباح تبدأ درجات الحرارة بالارتفاع بشكل سريع، والجو مشبع بالرطوبة، وهذه مسألة لم يعتاد عليها سكان رام الله ذات الجو المعتدل، وبالتالي كنت أضطر لاختصار تجوالي الصباحي اليومي، وان كنت لم أتوقف عن هواية المسير المسائي تحت نور القمر، حيث يمكن استيعاب الجو قليلا، فلجأت مرة إلى متنزه بلدية رام الله جالسا قرب النافورة مع أصدقاء، أحدثهم عن ذكريات هذا المتنزه بطفولتي، والتقينا صدفة بالسيدة نهلة قورة أمينة مكتبة رام الله العامة، هذه المرأة المناضلة والتي يرتبط اسمها دوما بهذه المدينة، والتي أصرت على استضافتنا وتحدثنا عن المدينة وهمومها، وفي أمسية أخرى كنت مدعوا لافتتاح القاعة الجديدة لمكتبة مؤسسة قطان، ورغم أن الموعد كان مبكر والحر شديد، إلا أني كنت حريصا على الحضور، فافتتاح مكتبة مسألة لا يمكن تفويتها، وان أسفت لعدد الحضور القليل ربما بسبب حرارة الجو، وكانت فرصة للقاء بعض الأصدقاء، وفي الافتتاح قدمت احتجاجا للصديق وسيم الكردي بأنه لا يوجد لوحة تبين التصنيفات في المكتبة، فأخذني من يدي ليريني اللوحة معلقة قرب السقف، فصرخت بمرح: يا صاحبي انزلوها قليلا لتناسب قصار القامة من أمثالي، فلست أزيد عن 168 سم، ولست بطول المشرف والمشرفة على المكتبة، وما يزيد من الاختناق أيضا هو ارتفاع درجة الصراع الداخلي ووتيرته، فالإجراءات والتصريحات المتبادلة بين رام الله وغزة، تكرس القطيعة لا اللقاء، الفرقة بدلا من الوحدة، وكل طرف متمسك بمواقفه وكأن هذه المواقف قرآن منزل، والوطن يكتوي بنار الصراع، والمواطن يدفع الثمن من حلمه وأمله، حتى أن هذا الصراع بدأ يطغي ويغطي على ممارسات العدو المحتل، الذي وجد في هذا الصراع الذي ساهم بتأجيجه، الفرصة التاريخية ليكمل إجراءاته بهدوء وصمت، فغابت القدس رغم كل إجراءات التهويد، وغاب الجدار الذي يمزق الوطن، بالكاد أحد يذكر الشهداء والأسرى.

أشتم في الأفق رائحة مؤامرة تستهدف فكرة الكيان الفلسطيني بالكامل، وإن كنت أدرك أن الحلم الفلسطيني مهما تأخر، ومهما زرعت في طريقه من عقبات، لا يمكن أن يموت أبدا، فهذه "الأرض التي تمتص جلد الشهداء، تعد الشمس بقمح وكواكب"، اعتادت على طرد الغزاة والطامعين وشذاذ الأفق، لذا أجد نفسي في ظل كل هذه العتمة متفائلا بالفرح القادم.

   وفي محاولة للتغلب على الاختناق تجمعنا في الصومعة مجموعة أصدقاء على عشاء ليلة الأمس، ضم صديقي الشاعر عبد السلام العطاري، والشاعر محمد حلمي الريشة الذي أطلق عليه العطاري لقب "كائن العزلة، إضافة لأصدقاء آخرين في مجال السينما والإعلام، فكانت سهرة لطيفة أنهاها العطاري بالمواويل والعتابا والميجنا، فخرجنا من قرف الجو العام بشقيه الطقس والسياسي قليلا بمناقشات وحوارات حلوة.

صباحك أجمل يا رام الله يا حلوتي، وعبق الياسمين يداعبني في هذا الصباح الجميل الناعم، بسبب وجود بعض من الغيوم في السماء رغم معدل الرطوبة المرتفع، إلا أن رام الله تبقى رام الله بجمالها، فأخرج من صومعتي وأقرر السير باتجاه حي "أم الشرايط"، فالطريق سهلة وليست بها تلك الحدة في الصعود والنزول، فأسير في شارع المستشفى حتى نهايته منحرفا إلى اليسار ثم اليمين، وفي خط مستقيم حتى دوار التلفزيون كما عرف بهذا الاسم، لوقوع الفضائية والتلفزيون الفلسطيني هناك ثم أقفل راجعا، وهذا الحي بغالبيته حديث العهد وفي الكثير من أنحاءه سادته العشوائية في البناء، واسمه غريب على الأذهان بشكل عام، إلا أن من يعود بالذاكرة ممن في سني أو أكبر قليلا يمكنه معرفة سر التسمية، فما زلت أذكر أنه وفي بدايات ستينات القرن الماضي، وفي ظل الظروف المادية الصعبة للمواطنين بشكل عام، كان المواطنون يجمعون مزق الملابس المهترئة، والتي ما عاد بالامكان الاستفادة منها وترقيعها، ويحتفظون فيها ويسمونها "شرايط" وربما تعود الكلمة إلى شريط وأشرطة، حيث كانت تمزق ليسهل الاحتفاظ بها، وفي موسم محدد كانت تأتي سيارة طحن هذه المزق وإحالتها إلى ما يشبه القطن، وكان سائق السيارة ومساعده يقيمون خيمتهم بجوار عين الماء في هذا الحي، وهي عين ماء كانت ممتازة بالعطاء ولكنها جفت مع الزمن، ولعلها قديمة العهد أيضا ففي المنطقة وجدت أثار رومانية وبكل أسف لم يحافظ عليها، وكان المواطنون من المدينة والقرى المجاورة، يحملون ما جمعوه من مزق الألبسة إلى هذه السيارة المطحنة، فمن يفوته الموسم عليه أن ينتظر حتى الموسم التالي، فالسيارة تبقى لفترة محددة وتغادر إلى محافظات أخرى، وما زالت صورة هذه السيارة بذهني بلون مقدمتها الأزرق، وتشغيلها بواسطة أداة يدوية للف ماكينة السيارة وجعلها تدور، والغبار المتطاير منها بعملية طحن الأقمشة، فالمواطن كان فقير الحال وليس بامكان الجميع شراء القطن الأبيض لصنع الفراش والأغطية والوسائد، فكانت هذه العملية تحل مشكلة وتمنح فراشا وثيرا نسبيا، فالإسفنج وغيره لم يكن معروفا، ولم يكن مسموحا الاستغناء عن الملابس الممزقة أبدا، فبعد أن تقوم بدورها وتتنقل من الأكبر للأصغر في الأسرة حتى تستهلك تماما، لا يكون لها حل إلا إحالتها إلى "فرشات صغيرة" تُصف بها مزق الأقمشة على طبقات وتخيط سويا، فيخرج منها فراش قاس كان اسمه "الجنبية"، والأوفر حظا من يوفر له فراش من القماش المطحون، أما "الجنبية" فهي قاسية وغير مريحة أبدا، ولا أذكر أني تخلصت منها وفتح الله لي طاقة الفرج، وحظيت بسرير معدني مع فراش من القماش المطحون إلا حين بلغت من العمر خمسة عشر عاما، وقد انقرضت هذه المهنة مع تطور الحياة ومنافسة الإسفنج ورخص أسعاره، فلم نعد نرى هذا السيارات والمطاحن المتنقلة وذهبت في ذمة التاريخ، ولم يعد يذكرها إلا من عايشها وشاهدها.  

أعود لصومعتي متأبطا صحيفتي الصباحية، اسقي حوض النعناع والزهور وأستمع للأخبار، فمن قرار من مجلس الأمن بإرسال قوة إلى دار فور في السودان مصحوبا بالتهديد والعربدة الامريكية، في مقدمة لسلخ الإقليم والسيطرة على ثرواته، إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب مع سيدتهم كونداليزا، والبدء بالإعداد لحرب جديدة في المنطقة ندفع ثمنها من أرواحنا وجيوبنا وثروات بلادنا المرهونة للقرار الأمريكي، مرورا بالضحايا اليومية بالعشرات على مذبح الاحتلال الأمريكي للعراق، فيجتاحني القرف من كل ذلك فما زالت نكبتنا بحكامنا، وما زلنا وسنبقى الضحية مع هكذا حكام.

لا أجد إلا أن اقفل التلفاز وأحتسي الشاي الأخضر بالنعناع، مستدعيا روح طيفي البعيد، أستمع لفيروز تشدو:

رجعت في المساء كالقمر المهاجر

حقولك السماء حصانك البيادر

أنا نسيت وجهي تركته يسافر

سافرت البحار لم تأخذ السفينة

وأنت كالنهار تشرق في المدينة

والريح تبكي تبكي في ساحتي الحزينة.