المتناقضات في حياة الشعب السوري
المتناقضات في حياة الشعب السوري
نجدت الأصفرى
منذ نعومة اظفاري شاركت وكنت في السنة الاولى الابتدائية مع كافة طلاب المدرسة وبإشراف جميع هيئة التدريس في مدرسة نور الدين الشهيد بعيد الشجرة، قمنا بغرس اشجار في حفر مربعة جاهزة موزعة على طرفي الشارع الرئيسي في البلدة ثم صفقنا لشيء ما عرفت معناه ، عدنا بعدها الى بيوتنا ، في عصر ذلك اليوم اختفت الغرسات التى احتفلنا بزراعتها فى الصباح ، ثم تكررت العملية كل عام في نفس المكان والشارع ولا تزال الحفر فارغة بدون اشجار حتى تاريخ هروبي من سوريا نجاة بنفسي من انياب الاسد المتوحش. وحتى هذا التاريخ لم اعرف سببا مقنعا لذلك.
المدرس الذي كنا نبجله( خوفا منه) كان في نظرنا الاسوة الحسنة يأمرنا دائما بالمثاليات لكننا سرعان ما نراه يفعل عكس ما يقول، يشرب الخمر ، يدخن، ويلعب الميسر...الخ وتشاع حوله الاشاعات.
عندما رزقت بالولد الاول احببت ان ازرع فيه كل الخصال المثالية التي درسناها في بطون الكتب القيمة، حرمت عليه اخذ ما ليس له إلا بإستئذان صاحبه، ان لعب مع اصحابه بلعبه فليكن كريما ، اما اذا كان ذلك بلعبهم فعليه بالاستئذان ثم عليه أن يعيدها كما هي سليمة ونظيفة ويشكرهم على السماح له بإستخدامها، حذرته أن يضرب احدا أو يعتدي على غيره..... وإذا بي الاحظه يبكي حرقة كلما لعب مع اترابه عندما يشاركهم اللعب سواء عندنا او عندهم يستأثرون بألالعاب ويمنعوه او يضربوه.عبثا توصلت الى حل فقد رأيت أهلهم ليس لهم دور في توجيه اولادهم او الانتباه اليهم ليردعوهم اذا اخطأوا. حاولت تعليمه ان يعاملهم كما يعاملوه، ويضربهم اذا ضربوه، لكن ذلك لم ينفع ايضا ، فالاولاد يضربوه ثم يسبقوه ليشتكوه لاهلهم قالبين الحقيقة فيبادر اهلهم للومه وتأنيبه.
عدلت التوجيهات وطلبت منه ان يبادر ويضربهم قبل ان يضربوه ويؤلمهم قبل ان يؤلموه ثم تراجعت خوفا ان ينقلب الى مجرم فأخسره.
خالي كان استاذا يدرسنا مادة الزراعة .. حضر مرة حصة اللغة العربية بديلا لزميله الغائب فأعطانا واجبا موضوع انشاء عنوانه (صف الحصان العربي الاصيل) وما عهدت بنفسي انني اقرض الشعر لكنني ومن باب الفخر امام خالي انطلقت قريحتي فكتبت الموضوع بعدة ابيات شعرية، ولم اكن اعرف عن الشعر شيئا سوى ان بيت الشعر شطرين وله وزن موسيقي جميل وتنتهي ابياته بقافية واحدة.
اخذني الغرور بنفسي فأنا على يقين بأن احدا من زملائي لن يقدر ان يكتب شعرا.
فبل دخول الحصة سألني جاري عما كتبت وقال انه لم يكتب موضوعا ويخاف من الاستاذ لأنه قريبه من نفس العائلة
فكانت فرصة ان اتباهى امامه بقول ما افتخر به واريته ما كتبت وسارع بنقلها تجنبا للعقاب، وعندما دخل الاستاذ (الخال) سأل الجميع عما كتبوا ومن يريد ان يقرأ مقاله امام الطلاب فتسابقوا وانا معهم وجاري كذلك ووقع خيار الاستاذ على جاري فاحسن الالقاء وصفق له الجميع وحاز على ثناء الاستاذ .. وادهشني الاستاذ الذي هوى علي ضربا مبرحا عندما اشرت الى انه شعري وقد اخذه لتوه قبل الحصة بدقائق، بل ردعني عن الكذب بالضرب ليقينه بانني لست بالشاعر خصوصا لشعر موزون مقفى فيه عراقة فطاحل الشعراء وانفاسهم.
ثم بدأت الحياة تسير معنا في مختلف مناحيها فنكتشف ان لكل امر فيها وجهان: مثالي يتكلم به الواعظون والمرشدون ، وعملي واقعي يقدم عليه الجميع ليحققوا مطالبهم التي يتعذر تنفيذها الا بالكذب والاحتيال والنفاق والمحسوبية والواسطة، فكان كل واحد امام خيارين: اما ان يجرم نفسه او يصل اليه بالاسلوب الخاطىء المعوج .. ثم ضغطت الحياة القاسية على الخلق بتكاليف الحياة المادية الكبيرة واستحالة تأ مينها من عمل رب البيت وراتبه.. ولم تتوفر لدى الجميع فسحة زمنية يستغلها في عمل اضافي ولم يهده عقله الا لتقبل الرشاوي سدا لحاجاته ثم عمم الاسلوب فأصبح قاعدة بعد ان كان وزرا فأصبح الدخل جزءا بسيطا من الراتب ومعظمه من الدخل الحرام. وتفشت الرشوة علنا حتى ان ضابط الشرطة المسؤول عن منح رخص قيادة السيارات يبدأ يومه في العمل قبل ان يخطب في جميع المتقدمين
للحصول على الرخصة بقوله علنا: الاجازة الخاصة بثلاثة آلاف والعامة بخمسة والذي لا يملك هذا المبلغ في جيبه فليتوكل ويفارقنا وان احب احدكم ان يشتكي علينا دليناه على جميع المسؤولين وعناوينهم.
مدير المالية في احدى المحافظات له اسلوب لعين لم يكتشفه قبله حتى ولا الاباليس، ينزل الى السوق يتقصى التزام التجار بالقوانين الفرعونية النافذة ليعاقب المخالفين كي تستقر الاسواق وينعم المواطن برغد العيش ويحمي الفقير وأصحاب الدخل المحدود من جشع واستغلال التجار الذين تتزايد الاسعار عندهم طردا مع جشعهم .هذه مهمته النظرية المعلنة لكن الحقيقة عكس ذلك تماما فهو يتبع الاسلوب التالي:
يرافقه موظفان من دائرة المالية كشاهدين على نزاهة ومصداقية عمله فيدخل المحلات التجارية (وخاصة الجديدة منها) يتفحص ما إذا صاحب المحل قد نسي ان يضع التسعيرة القانونية على اي سلعة يعرضها ، او يحوي بضائع بدون فاتورة شراء رسمية ، او لديه بضائع مهربة ... الخ ماهنالك من تعقيدات لايمكن ان يهرب احد من مخالفة موجعة.
بعد أن يجيل النظر فيما يرى يسأل صاحب المحل عن سعر اية قطعة تستهويه ليشتريها فإن كان التاجر يعرفه من قبل او سمع بإسلوبه هان الوضع، أما اذا كان لا يعرفه سابقا يقع بين يدي جزار لايرحم.
صاحب المحل (رغم وجود التسعيرة على القطعة المطلوبة) يبلغه السعر المناسب اتقاء شره فإذا كان السعر مثلا 1000 ليرة طلب منه 700 ليرة ولا يمكن ان يعرضها امام المرافقين بدون سعر لانها جريمة رشوة ، المدير العبقري فورا يدفع على مرأى من المرافقين قطعة نقدية فئة الالف ليرة قطعة واحدة .. يخصم التاجر القيمة
ويدفع له الباقي امام الشاهدين فيستلم المبلغ ويدسه في جيبه بدون التأكد ويأخذ البضاعة ويغادر ، فإذا كان التاجر لا يعرف الخطة وهذه اول مرة واعطاه 300 ليرة كان في اليوم التالي هدفا مقصودا من دوريات المخالفات التموينية التي تفصل فيها محكمة امن الدولة بمبلغ خيالي 000 15 ليرة سورية + سجن 3 الى 15 سنة لانه يتلاعب بأسعار السوق واستقراره مما يؤثر على الفقير ويزيد عذابه وآلام معيشته.. اما اذا كان التاجر ممن سمع بأسلوبه من زيارة سابقة او ممن خبرها وشرحها لغيره وتقوم على التالي:
يجب على التاجر ان يأخذ الالف ليرة ويفكها بقطع اصغر منها ولكن مئات ويعد له عشرة دون ان ينتبه المرافقان ويعيد المبلغ كاملا دون اي نقص وهو عندما يتأكد بعد ذلك فيرى اما سلم التاجر او وقع بين انيابه..
- الموظفون يحتفظون تحت زجاج طاولاتهم في الدوائر الرسمية الآية الكريمة (ادفع بالتي هي احسن) مخرجينها من سياقها الكريم ليستخدموها لابتزاز المراجع، بدفع الرشوات.
- اذا استخدمت عاملا اتفق معك بحلو الكلام على عمل ما ثم نفذه بسوء الصنعة والتصرف.
- اذا رافقت صديقا او دعوته لبيتك وقعت تحت القول المأثور (اتق شر من احسنت اليه) فتوقع ان تكون في اقرب فرصة بين ايدي جهابذة المخابرات تتلوى تحت سياطهم، فقد تنكر ضيفك للعيش والملح الذي اكرمته به ودس عليك ما يؤذيك.
- اذا تعين احدهم مسؤولا كان هدفه الاول كيف يسرق ما يقع تحت يديه .. مدير مدرسة يستلم من الوزارة مبلغا ليشتري به احتياجات الفرق الرياضية : ملابس ، احذية، كرات، شبكات، مضارب... الخ.
يفاوض اصحاب المحلات المختصة بالادوات الرياضية ان تعطيه فاتورة بقيمة هذا المبلغ بدون أن يشتري اي شيء، وتكون الفاتورة غطاء للسرقة.
- في الاجتماعات الحكومية يتبارى المجتمعون في الكلمات الرنانة والتعابير الفارغة يسكبوها بأحلى من العسل بينما يتقاسمون بدم بارد وجشع كل ما تقع عليه ايديهم باسلوب حرام.
اصبحت الامهات يعلمن اولادهن الهرب من المواجهة بالكذب الصراح تحت غطاء (كل ام تبكي ولا امي تبكي).
الآباء ينصحون ابنائهم باتباع الذين اثروا واصبحوا من ملاك الثروات حتى ولو كان ذلك بأساليب ملتوية تحت جناح احد المسؤولين بغض النظر عن المؤهلات والكفاءات.
ننتهي الى واقع مؤلم خلخل البنية الاجتماعية ونخر فيها سوئه حتى نكاد نيأس من امكانية الاصلاح فقد قلبت المفاهيم :
الحرامي = قد حالو، النصاب = شاطر،الكذاب = حسن التصرف، المرتشي = رجل، السارق = حلال عليه
نحن نحمل هويتين ونتكلم بلسانين ونكيل بمكيالين ونزن بميزانين ونظهر بوجهين ونتصرف بأسلوبين بل احيانا نحمل اسمين وهويتين.. نبدأ الحديث بما يرضي الاخرين ولو كان مخالفا لما نحمله داخلنا من فلسفة و حكمة ونعتبر الموافقة نوعا من الحنكة . والسياسة نوعا من اقتناص الفرص.فكيف حصل هذا؟ ولماذا؟
في رأيي يعود السبب الاول لغياب الديموقراطية من حياة الاسرة والمجتمع، فالابوان يرشدان ولدهما لمجاراة الوضع وعدم المعارضة والتصرف بالمسموح والبعد عن المجابهة معتمدين على ( لا نريد ان نقيم الدين في مالطا) وان الامور خربانة كلها من الاساس.. فهل انت قادر على ان تصلحها؟ (دنب الكلب اعوج ولو وضع في القالب مائة سنة)
إن استقامة الشخص ستضعه بمواجهة جميع الحرمية الذين سيضطره المستقبل للتعامل معهم ، فإن عارضهم دمروه وان وافقهم افسدوه.
ثم المدرسة .. فالانفصام بين ما يحويه الكتاب من مثاليات وما يتحلى به الطلاب والاساتذة من اخلاقيات تعاكس المثالية. وكبت الرأي نوع من المداهنة والمصانعة.
المجتمع الذي يرى انه طبقات بعضها يملك كل شيء والاخرون لا يملكون شيئا، وان من ضاق ذرعا بهذا التقسيم الجائر انتهى امره الى الزنازين بجريمة زعزعة الامن والاستقرار.
الحكومة وعلى رأسها الحاكم فهو ليس الا كالرأس بالنسبة للجسد فإن صلح صلح الجسد، وان فسد فسد الجسد كله.. يلتف حول كل منهما بطانة تماثله مما ينعكس على المجتمع اما تدهورا او رقيا.
نحن منذ مئات السنين لم يرزقنا القدر حاكما عادلا يقر للشعب بحريته ويسمح له بممارسة ديموقراطية مخافة ان يكتشف الشعب انه ليس الحل المناسب فيطيح به وتلك كارثة لا يتحملها عقل الرئيس ولا تصوره ولا يسمح لفكره المريض حتى مجرد التفكير باعطاء (الرعاع) قدرا من الحرية ليتحكموا من خلاله بمستقبله.
اننا بحاجة ماسة لغسيل الدماغ للشعب كله ليستنير بحقه وحق غيره وان يتساوى مع جميع المواطنين في الحق والواجب وان وراء المواطنين قانون يحميهم ويسهر على مصالحهم. وتسن هذه القوانين سلطة تشريعية منتخبة يشارك المواطنون في انتخابها ليحمل مرشحهم احلام ناخبيه وآمالهم لتحقيقها ويكون مسؤولا امامهم ان فشل في تحقيق تطلعاتهم ويفصل المنازعات قضاء عادل لا يقوم الحق والعدل بين الناس بدونه. فمهما كان المجتمع راقيا او متخلفا لا بد ان تنشأ بين افراده خلافات بسبب الاطماع والجشع والنزعات الغرا ئزية في الانسان كالحسد والطمع....ولا يحسم الخلافات إلا قضاء نزيه.
ان مسرى الديموقراطية التي غابت عنا دهرا طويلا وسبقنا اليها دول عديدة تتمتع الان بخيراتها فإن تطبيق هذا النظام في مجتمعا له حسنات سيعيشها الجميع هنا نعما تعم البلاد والعباد بدلا من الاحتكام الى شريعة الغاب والعشيرة.
اننا بإختيارنا لنظام ديموقراطي جربه العالم الغربي قبلنا وطبقه على شعوبه المتعددة الاعراق والاجناس والاديان والمشارب والثقافات والاصول واللغات ، وعدلوا خلال تطبيقه ما دعت الحاجة العملية لذلك ، قطفوا ثمار الاستقرار والتطور فانعكس على الناس كلهم راحة واطمئنانا ورفاهية . فما الذي يمنعنا ان نحزو حزوهم ونأخذ منهم تجربتهم الناجحة ونوفر على انفسنا اضطراب تجارب تحتمل الفشل او النجاح فقديما قيل ( من استفاد من تجارب الاخرين الناجحة وفر على نفسه الكثير)