التدخين تجربة لا تستحق المحاولة
التدخين تجربة لا تستحق المحاولة
صالح أحمد البوريني
عضو رابطة الأدب الإسلامي
مناوشـات ( لُـولُـو ) :
كان زهر العمر يتفتح على الحياة ، ومراتع الطفولة والصبا تضج بالحيوية التي امتلأت بها أصواتنا وحركتنا وعبثـنا البريء ، وكان يوما ربيعيـا جميلا ، خرجت فيه إلى ( الحارة ) بعد العودة من المدرسة لأجد رفاقي حيث تواعدنا مـن قبل ، وإذا بهم يتهامسون بصوت خافت وقد تراصت أجسادهم النحيلة على شكل حلقة ضيقة وكأنهم يخفون شيئا عن عيون الناس ، وبخفة سنجاب إفريقي صرت جزءا من الحلقة التي انعقدت حول سيجارة ( لولو ) ؛ أرخص أنواع السجائر التي كانت تنتجها شركة التبغ والسجائر الأردنية في الستينيات ، ودارت السيجارة بين أفواه الرفاق دورة كاملة حتى وصلتني ، فرفضتها وأنا أقاوم فضولا دفينا يدفعني إليها ، فضحكوا مني :
ـ أبوك يدخن !!
ـ وآباؤنا كلهم يدخنون !!
ـ تخاف من سيجارة ؟ !
ـ هذا ( لولو ) خفيف ..
ـ أخف من ( الهيشة ) التي ( يلفها ) أبوك ..
صفعته ، فقالوا : ـ اسكتوا .. لا تفضحونا ..
وبدأت المناوشات ؛ أخذت السيجارة بين أصابعي المرتعشة ، فمززْتُ حتى مـلأت فمي دخانا ثم نفثـته ، قال أحدهم : ( ابلع يا غشيم ) . ازدردتُ فصـعدتْ رائحة الدخان إلى أنفي ونفـثْتُ .. قال أحدهم : ( اسحبْ نفَسَـك ) .. ملأت فمي وسحبت نفسا عميقا . شعرت فجأة باختناق شديد وكأن حريقا قد شب في جوفي وطفقت أسعُلُ بشدة .. انفرط عقد الصبية ، وفَـرّ أحدهم ببقية السيجارة ، وبقي المشهد محفورا في الذاكرة .
التخطيط لمناورة جديدة :
انتـقلنا من التعليـم الابتدائي إلى الإعدادي ، كانت حرية التدخين مكفولة لغير الطلاب ، وكان كثير من المعلمين يدخنون أثناء التدريس ، أما الإدارة التعليمية فكانت تعاقب الطالب الذي يدخن ، وكان بعض الطلبة يلوذ بسور المدرسة ليدخن سيجارته ، وربما دخل بها إلى دورة المياه ، وكثيرا ما كنا نرى أعقاب السجائر في زوايا الساحة المدرسية حيث يتجمع بعض المغامرين من الطلبة المدخنين ، وكان شم رائحة فم الطالب من أساليب اختبار المتهمين ، أضف إليه الاستجواب والتهديد والوعيد وتفتيش الحقائب والجيوب والاستماع لأقوال الشهود وصولا إلى ( العلقة الساخنة ) ثم استدعاء ولي الأمر الذي كان الإجراء الأشد الذي يسبق النقل التأديبي إلى مدرسة أخرى .
لم تكن العودة إلى السيجارة محببة إلى نفسي ؛ وبخاصة سيجارة ( لولو ) التي تركت حرارة في فمي ومرارة في حلقي واختـناقا في رئتي لا ينسى مدى الأيام . بيد أن لتلك المرحلة التي ناهز أصحابي فيها البلوغ خصوصيتها ؛ إذ انفتحت العيون على آفاق جديدة رحبة ، ومع امتداد القامات اتسعت مساحة المكشوف وانطلقت طاقات العقل وتفجرت ينابيع التفكير ، وبدأت رحلة جديدة من محاكاة ومناقشة ونقد سلوك الكبار تنطوي على كثير من المغامرة والمجازفة .
لم تفلح محاولات التزيين والوسوسة والعروض السخية من أقراني في إغرائي بمشاركتهم في التدخين ، ولكن إعادة التجربة ضمن معطيات جديدة ومغرية كان خيارا ممكنا لجأت إليه حين استبد بي الفضول وحملني على اصطياد فرصة لإجراء مناورة آمنة ولكن مع صنف جديد من السجائر .
الانسحاب بأقل الخسائر :
انتشار السجائر كان أوسع من انتشار الخبز الذي لم تكن تجده إلا في المخابـز ، بينما كان الحصول على السيجارة متيسرا من البقالات والدكاكين ومن باعة الأرصفـة وحيثما كانت أسواق ومتسوقون . لم تكن ثمة مشكلة في حصولي على السيجارة بل في العثور على الزمان والمكان لتدخينها ، وظل نداء الفضول والرغبة المكبوتة يدعوني إلى معاودة التجربة حتى وجدت الفرصة المناسبة حين خلا المنزل من الأهل .
( كمال ) كان صنفـا أرقى من ( لولو ) وأرفَـعَ سعـرا ، وكنت قد خبأت سيجارتين من ( كمال ) لهذه التجربة المحكمة ، سارعت إلى المطبخ والتقطت علبة الكبريت وهبطت درجات قليلة تؤدي إلى حديقة صغيرة حول البيت حتى لا أفاجأ بدخول أحد ، وأخـذت موقعا مستورا عن العيون وأشعلت السيجارة الأولى . ساعدني حذري وهدوئي على تجـاوز صدمة سيجارة ( لولو ) ، كان للسيجارة الجديدة نكهة مقبولة ، جربت كل أشكـال حمل السيجارة المشتعلة بين أصابعي التي لم تكف عن الحركة ؛ حتى كأن السيجارة بهلـوان يتـقـافـز على الحبال في خيمة سيرك ، وقبل أن أشعل الثانية مـن الأولى أحسست بدوار خفيف كأنه الوسن .. شيء ما صرخ في داخلي : إنها هي .. لقد عثرت عليها .. هذه لذة التدخين .. ضغطَتْ شفتاي على فلتر السيجـارة وتجرأْتُ على السحب بقوة ، كنـت أخشى أن يداهمنـي أحدهم فألححْتُ في الاستزادة من اللـذة .. توقعـت أن أتمكـن من مضاعفة الشعور بالمتعة فخاب أملي ، ومع بدايات السيجارة الثانية شعرت كأن غيمة داكنـة تغشاني وغثيانا ثـقيلا يجتاحني ، وأحسست بحاجة قوية للتـقيء .. ألقيت بالسيجارة أرضا ، واطمأننت بدفنها في التراب كأختها ، وتشبثت بساق الشجرة التي كنت أستند إليها ، وانسحبت من هذه التجربة بأقل الخسائر لتترسخ قناعتي بأن تجربة التدخين لا تستحق المحاولة .
حصار السجائر :
هبط بي طائر الترحال على ثرى الكويت ، وانطلقتْ عجلة الكد والعمل تطوي بنا الأيام ، توسعَتْ حدود الخريطة الاجتماعية لتشمل مع الإخوة وذوي القرابة كثيرا من جيران المسكن وزملاء العمل ، وأكثرهم مدخنون . وازداد شعوري مع الأيام بأن السجائر تحاصرني في كل مكان إلا في سيارتي الخاصة التي يستحيل أن أتخذ منها مكانا للإقامة الدائمة .
تعاقبت السنوات وقناعتي بشأن التدخين راسخة الأركان ثابتة الدعائم ، إنها تجربة لا تستحق المحاولة ، وخبرة لا تضيف إلى مشاعر الإنسان إلا ألما ومعاناة . ولم تكن السيجارة تعني لي أكثر من حريق مصغر يدشنه المدخن للتسلية راضيا بكل آثاره المزرية والضارة بنفسه وبغيره .
دخان السجائر يطاردني ، يستفزني ، يبحث عني حيثما أكون مع الناس ، يـزورني مع الزائرين وينتظرني عند المزورين ، في الأفراح والأتراح ولقاءات السمر ورحـلات التنزه ، حتى في النوادي الرياضية والعيادات الصحية برغم وجود الملصقات التحذيرية والتـنفيرية من دخان السجائر ، إلا أن رائحته تعبق بها أجواء المجالس العامة والخاصة ، وانجذابه الدائم إلى الأعلى يعقد هالات فوق الرؤوس ويلبد الجو كأنه سحاب مركوم .
خداع المظاهر :
كان ـ ولعله ما يزال ـ من مكملات المظهر الشبابي والرجولي عند كثير من الناس حيازة علبة السجائر المستوردة غالية الثمن مع ولاعة غازية فاخرة فضية اللون أو ذهبية أو بينهما ، وقد كانتا من لوازم متعة رفاقي في الشقة التي نسكنها في منطقة ( النقرة ) في الكويت ، واسمحوا لي أن أعترف بأن مظهر علبة السجائر الرشيق مع الولاعة الأنيقة الفاخرة في جلسة رخية على شاطئ السالمية تحت أبراج الكويت الشامخة مع ثلة من الشباب قد سحر عيني أياما معدودات وإن زدت قلتُ أشهرا معلومات ، وعلى مذهب المثل غيـر الحكيم الذي يقول ( إذا انْجَنّـوا ربعك عقلك ما ينفعك ) عاد إلي هاجس محاولة التدخين مرة أخرى ، فأضفْتُ إلى مقتنياتي المتواضعة علبة السجائر الفاخرة وولاعة زهيدة الثمن .
وانقلب السحر على الساحر :
وبدأت مشوارا جديدا في البحث عن لذة التدخين في أحضان السجائر الأجنبية المطعمة بنكهات التبغ المتنوعة ، وجربت أكثرها بريقا وسحرا وأغلاها ثمنا حتى ذلك المسمى بالسيجار ، ولم أعثر على لذة ولا متعة تستحق كل هذا العناء أو تبرر كل هذه الخسارة المادية والجسمية والاجتماعية والبيئية . إذا دخّنْتُ سيجارة قبل الطعام ؛ وجدْتُ مرارتها في الحلق وحرارتها في الصدر وأعقبتني جفافا في الفم لا يطفئه كوب الشاي ولا يزيده فنجان القهوة إلا اشتعالاً . وإذا دخنتها بعد الطعام ؛ ذهبَتْ بلذته وأتت على نكهته وأفسدت عليّ هضمَه واعترى معدتي منها انقلاب واضطراب .
وعاد إليّ اليقين أشد رسوخا مما كان ؛ التبغ لن يكون إلا تبغا ولو خلط بالمسك والكافور ولو مشج بالنعناع والريحان . وانقلب السحر على الساحر ، فبعـد هذه التجربة المـُرّة ؛ بدت لي صورة علب السجائر الجذابة وملحقاتها من المصاصات المفلترة والولاعات الجميلة والمنافض اللامعة والنارجيلة المزركشة و( معسّلاتها ) المتنوعة وملحقاتها التراثية ودعايات التدخين المصورة الفاتنة كأنها أدوات نصب واحتيال ليس لصانعها غاية إلا سرقة أموال الناس .
كنت أشهد معاناة بعض الإخوة والأصدقاء الشباب من آثار التدخين وسعالهم المؤلم وأصواتهم المتحشرجة وأنفاسهم المتلاحقة مع أقل جهد يبذلونه فأرثي لحالهم ، وأحمد الله تعالى الذي عافاني مما ابتلوا به . لقد بخلت بعلبة السجائر عن أصحابي ، وألقيت بها في أقرب حاوية للنفايات ، واختزنت هذه التجربة إلى أن جاء وقت الإفصاح عنها وعرضها على القراء الأعزاء .
وبعد ، فقد حاولت أن أستمتع بالتدخين فلم أنجح ؛ ألأن التجربة الأولى كانت سلبية ؟ أم لأن التدخين ليس فيه لذة ولا استمتاع ؟! أيا كان السبب ؛ فإنـي قد أبيت أن أخسر أكثر مما خسرت في سبيل تحصيل متعة التدخين الموهومة ؟