قراءة ما بعد العيد في رمضانيات مدريد

قراءة ما بعد العيد 

في رمضانيات مدريد

 (القراءة الأولى)

أحمد الزاويتي*ـ أربيل/ كردستان العراق

استغلت الكاتبة نوال السباعي شهر رمضان هذا العام لتكتب لنا رمضانيات اسبانية، وتطلعنا وباسلوبها الخاص على دقائق شهر رمضان هناك , وكل واحد منا يعيش رمضانه في بلاده ومدينته وبالشكل اليومي الذي كان يعيشه، مما اضطرنا الى المقارنة بين رمضاننا وبين رمضان الكاتبة، بين ما نراه في شوارعنا ومساجدنا في صلواتنا وقيامنا وبين ما كانت تراه الكاتبة هناك، فنستفيد ايما استفادة على الاقل في ان ننتبه الى ان هذا الشهر قد هبط على كل العالم ونحن مجرد جزء صغير من عالم يعيش رمضان، حينها نبادر مسرعين الى ان يكون لنا حظ أكبر مما نمارسه الآن في هذا الشهر مثل ما يفعل أولئك البعيدون عنا ويعيشون غربة لا نعيشها نحن ولهم حظ وافر من هذا الشهر حسب ما تصلنا اوضاعهم من خلال اسطر الكاتبة..

عندما كنت اقرأ رمضانيات الاستاذة نوال التي تنشر مقالاتها في الراية القطرية ، كانت اسطرها ترجع بي عقدين من الزمان حينما كنت في قمة حيويتي وشوقي لقراءة كتب اقدم جيل من الدعاة في القرن العشرين اولئك الذين صنعوا بكتبهم صحوة لايمكن لها ان تموت، صحوة يشعر من يهتم بها سواء من محب او كاره لها انها مشبعة بالحياة وفي عنفوان شبابها وكلما يمر عليها يوم تزداد شبابا، شبابها من نوع خاص حيث لايعرف الهرم، لذا لا نرى فيها الناموس الكوني الذي يجعل لكل شيء طفولة ثم شبابا فهرما وموتا!  نعم ذكرتني السباعي بأولئك الذين فقدناهم وفقدنا حيوية اسطرهم التي كانت تحرك قبل ان تثقف، وتحيي قبل ان تفلسف، وتوحي بالاخلاص في اداء الرسالة قبل ان تفنن مكلفة نفسها في ايصال شيء ما! حيث خلف من بعد أولئك خلف كتبوا وكتبوا فزادونا ثقافة وفلسفة دون ان يزودونا حركة وحيوية!

نعم كنت اشعر- واظن بان الآخرين كانوا يشعرون معي ونحن نقرأ الرمضانيات- بالحركة والحيوية قبل الثقافة والفلسفة التي ترافق الحركة والحيوية.

رمضان ذلك المهرجان الكبير الذي يحل علينا مرة كل عام، يخطئ البعض في جعله شهر الآخرة فقط، شهر الدين فقط، شهر الالتزام العبادي فقط، شهر العبادات فقط، فهو شهر الاسلام ومازال الاسلام يشمل كل الحياة ( دين ودولة، عبادة وعمل، دنيا وآخرة...) فرمضان هو كذلك، هو الذي يقربني للدنيا مثلما يقربني للاخرة، وللعمل مثلما للعبادة، وللدولة مثلما للدين، وهكذا فعلت رمضانيات اسبانية لكاتبتها نوال السباعي.

 

ففي أول قسم من رمضانياتها  تطرقت الكاتبة الى نقاط مهمة وملفتة للنظر ألخصها في الفقرات الخمس التالية:

1- نقلت لنا الكتابة واقعا خاصا برمضان اسبانيا حينما أشارت الى أن المسلمين هناك وهم يعيشون ثالوثا قاتلا وهو (الغربة , النأي، الحصار!.) لايموتون بمحاولة تقتيلهم من قبل هذا الثالوث,  بل يعيشون من جديد حين تشير الى واقعهم فتقول: (أننا نحاول أن نشق طريقا وننطلق نحو الأمام ولانبقى في أمكنتنا  مراوحين نندب حظنا العاثر) وهذه اشارة حكيمة ايما حكمة! تحتاج الى ان نسلط عليها الضوء ونشجع عليها اولئك الذين يحيون حياة ليست هي حياتنا، وواقعا ليس هو بواقعنا..

2- الكاتبة ارادت ان تشير الى نقطة مهمة وهي: ان الثالوث المميت قد صنع جيلا جديدا ,واقعه يقول : (كلما زاد الشعور بالغربة والنأي والحصار كلما ازداد تمسك الناس هنا بهويتهم يشدونها عليهم شدّ الاعرابي عباءته في ذلك اليوم شديد الرياح.) وان فسرنا هذا بشيء فلا يمكن ان يفسر الا بان ذلك هو ارادة الله التي اذا قضت اضمحلت أمامها القوانين والنواميس لانه اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون!

3- اصبح الهاربون منا ومن بلداننا الاسلامية الى هناك الى حيث بلاد الغربة ,  يمثلون سواء ارادوا ام ابوا اسلامنا نحن، لذا تقول الكاتبة في اول رمضانياتها : ( كل واحد منا هاهنا يعتبر نفسه ويعتبره الاسبان رغم أنفه ممثلا عن العرب والمسلمين أجمعين) اذن يجعل الله لهذا الدين اصحابا ورجالا في كل زمان وكل مكان وتلك هي مشيئة الله في الحفاظ على هذا الدين ( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) ليس في الحفاظ عليه فحسب بل في نشره  كما نشره اول مرة على يدي حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكما نشر بعده وكما ينشر الآن! .

4- مراسيم صلاة التراوايح اصبحت بحد ذاتها ديناً ودنيا فعندما يتقربون بها الى الله يرسلون رسالة اعتراض الى من يخصه الأمر مفادها بتلخيص انهم قد اخطؤوا حتى الآن في التعريف بهؤلاء فعليهم ان ينتبهوا اليهم ويعرفونهم على حقيقتهم قبل ان يفوتهم قطار التعريف بهؤلاء فيندموا، حيث تقول: ( هبّ الناس الى المساجد لصلاة التراويح وكأنهم في مهرجان اعتراضي سِلميّ على كل الظلم والاذى الذي لحقهم من الشارع الاسباني ووسائل اعلامه , كنا نصلي التراويح تحت حراسة مصفحات الشرطة التي تعاطفت مع المسلمين في مدريد وقد عايشتهم لأول مرة عن قرب فاكتشفت أنهم بشراً وليسوا أغوالا تريد أن تنهش اللحوم والأكباد!.) وسيبقى من يصور المسلمين على غير حقيقتهم حتى يقوم المسلمون بانفسهم بتعريف انفسهم الى الآخرين!

5- واذا كان حال المسلمين في رمضانالعام الماضي – عام احداث سبتمبر - كما اشارت اليه الكاتبة في النقطة السابقة، فحالهم افضل بكثير في عامهم هذا فهم في ازدياد وحماس وروح تؤهلهم أكثر لدور مهم في غد لناظره قريب، حيث تقول : (فلقد بلغت أعداد المصلين ليلة الأحد الماضي في المركز الاسلامي السعودي في مدريد- والذي يعتبر احد أكبر المراكز الاسلامية في اوربة  من حيث الحجم والمساحة -أن اضطر القائمون عليه الى فرش أرض الممرات الداخلية وأروقة المدرسة الملحقة بالمركز بالسجاد لتتسع للأعداد الهائلة من المصلين , وصلّت النساء في طابقين , الناس تريد أن تفرّ الى الله , العرب والمسلمون يريدون أن يتظاهروا ضد الظلم والكراهية والقهروالعنصرية) إذن قد أدى هؤلاء دورهم ووصلت الرسالة ولذا لابد ان نتسم نحن بالامل والطمأنينة مع الحركة المستمرة في مسار ايصال رسالة الاسلام وتمكينها في الارض.

في ختام القسم الاول من رمضانياتها تريد الكاتبة ان تبشرنا بنصر آت، وهو نفس النصر الذي بشر به محمد صلى الله عليه وسلم صحبه عندما كانوا ضعفاء وينهزمون بدينهم من الموت الذي كان يركض وراءهم من بني جلدتهم، فلم يسعهم مكان بين ابناء جلدتهم الا ان وصلوا الى ما وراء البحار في بلاد الحبشة حيث اناس لا من لغتهم ولا من دينهم , ولكن عندما يريد الله ان يهيء دعوة ورسالة ويقدر لها النصر فهو يهيء لها المكان الذي يحتمون به، فتختم الكاتبة رمضانياتها الأولى بالفقرة: (رمضان هذا العام وعلى الرغم من الجراح والقهر والظلم والشقاق والنفاق ...طعمه طعم النصر الآتي , طعم الارادة الحرة والأجيال الفتية التي تجاوزتنا في كل شيء والتي لم تسكت وعرفت كيف تعبر عن رفضها والتي عرفت الحق والتزمته , طعم رمضان هذا العام في اسبانية  طعم الغدّ المقبل بالأمل والأفراح وكل الورود البيضاء الطاهرة والحمراء القانية التي روّت بها هذه الأمة تربتها بدم شهدائها في كل مكان , لتنتش البذور وتزهر باذن ربها صحوة وانتفاضة وفجراً آتيا على دروب المحن , وان غداً لناظره قريب.)

عندما يشعر اولئك بهذا النصر فيجب علينا قبلهم ان نشعر نفس شعورهم الذي لابد ان يكون.. كي تدوم المسيرة.

ــــــــ

* أديب وناقد وصحفي ومراسل قناة الجزيرة من منطقة كردستان العراقية