أيام الفقر في مدينة الباب
كنا نأخذ ( الطحنة ) إلى الطاحون على حمار الطاحون ، وكان في الباب طاحونة بيت قلة ، وطاحونة بيت بطحيش ، ومن يملك طحنة يرمق بإعجاب . كانت أمي وبقية الأمهات يعجن العجين في السهرة ويختمر خلال الليل ، وتبدأ النساء بشعل التنور بالبعر الطازج الذي نشتريه من سوق التبن والبعر خلف جامع الشيخ دوشل .
وما أن تطلع الشمس إلا وتكون الأمهات قد انتهت من خبز الخبز .. وهناك الكعك المقمر على بقايا النار ، وكان هناك بائعون لدواليب الهواء ينادي مناديهم : دولاب الهوا ياولد بكعكة ياولد ، كان الشراء بالخبز الطازج ، وكان غداؤنا في المدرسة في فترة الظهيرة الأغنياء والفقراء ( كعكة ورمانة ) أو ( كعكة وزبيب ) ، ومن كان أبوه غنيا ذهب واشترى ( قرون الشام ) أو ( بلاط جهنم ) وهو عبارة عن هريسة أسفلها أبيض وأعلاها أحمر ، وننتظر اﻵذن إسماعيل أفندي ليلقي بكناسة المدرسة فنبحث في التراب عن قلم صغير بحجم الإبهام أو ممحاة صغيرة ، كنت آتي بالصمغ من دولاب ( مزرعة )عمي إبراهيم على طريق الجبول ، وأذيب الصمغ بالشمس لاصنع منه بضع صفحات مدهونة بالصمغ وأبيعها للطلاب ، وعندما أتى الانجليز للباب لنجدة فرنسا الحرة كانوا يلقون بفضلات الطعام في حفرة عميقة قرب جب الست ، فكننا ننزل إليها وعمقها ثلاثة أمتار فناخذ علب المربى وعلب السردين الفارغة فتصبح هذه للملح وهذه للبهار .
رحم الله ذاك الزمان حيث كانت البركة ، وحيث كان النوم اجباريا بعد صلاة العشاء ، وكان الاستيقاظ باكرا لصلاة الفجر . وفي الساعات الأولى من الصباح تجد الكثير من الناس يتجهون لجلب الحليب ، وتنظر إلى طريق قباسين فترى البشر كالنمل حركة وسعيا كل متجه إلى عمله ، وبورك ﻷمتي في بكورها .
طارت البركة .. وصارت ست البيت تنام إلى قبيل الظهر .. والأولاد إلى المدارس يشترون الفطور من البوفية .. وانتشر الجوال وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وسوم: العدد 652