أرض الأحلام 1

الفصل - 1 -

من الأشياء الرائعة في هذه الدنيا..الأسماء الجميلة،والأروع من ذلك أن يكون الباطن أجمل من الظاهر أو أقل شيء مثله،لا تكفي المظاهر وحدها واللباس الأنيق والكلمات المعسولة الحلوة،والأكثر روعة أن يتجلى الجمال في أعمال المرء وتصرفاته، وتعامله مع الآخرين وعمل الخير والابتعاد عن الشر والأذى.

بعد أن ترك مصر التي ولد فيها وهاجر إلى الغرب.. هناك حمل اسماً جميلاً غير الاسم الذي كان له على أرض الكنانة،رغم أن بلاد النيل جميلة ورائعة، مزارع جوها هاديء وعزب وغيطان وأنهار وترع ومياه..الريف المصري كون آخر غير المدن الصاخبة،تحلو فيه الإقامة ويروق فيه العيش الهانئ السعيد.

مع كل ذلك إلا أن أسرته تعاني من قصر ذات اليد فوالده يعمل اسكافياً.. دخلهم قليل وليس عندهم أراضي وعقارات ،لذلك لم يستطع أن يكمل دراسته الجامعية لقلة المال واضطراره للعمل في أي شيء كي لا يجوع ويعرى، وهو كما كان يقول عنه أستاذ المدرسة أنه يتمتع بذكاء ونباهة وألمعية.

عند تغربه عن مسقط رأسه الاسكندرية ومولده فيها عام١٩٢٤ رجع يتلو على نفسه صفحات الماضي.

عندما قامت -دولة إسرائيل- على أرض الميعاد فلسطين نشط كثيراً  بتحركاته داخل بيئته.. صار يحرض على ترك مصر والذهاب إلى تلك الأرض الجديدة.. للعيش الرغيد ضمن الكيان الحديث الفتي،وبين هؤلاء أهله مما جعل والده وثلاثة من إخوته يسعون سريعاً إلى هناك.

في تلك الحقبة انضم-إيلي- إلى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني داخل مصر، شارك مع تلك الشبكة المشبوهة بأعمال تفجير لمنشآت أمريكية بقصد توتير العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة المصرية.

أغدقت عليه المنظمة من فضلها بمال وفير فتحسن وضعه وانتعش حاله.

فقد كان يذهب واثنان من العملاء في منظمتهم في جنح الليل أحياناً وأحياناً أخرى في وضح النهار وفي غفلة من رجال الأمن وحراس الدوائر فيضعون العبوات الناسفة الموقوتة عند الهدف المقصود،وبهذا يحقق لشبكته نجاحاً باهراً في طور التخريب ،أما على حد زعم رئيسه إبراهام قد قام بعمل جبار يحسد عليه بين أقرانه وأترابه:

- سلمت يداك-إيلي- لقد حققت نصراً كبيراً لشعب الله المختار.

- شكراً ..شكراً لك سيدي الرئيس.

- إلى الأمام إيلي..كلما فعلت أحسن كانت مكافأتك أجزى،إنك تنفذ وتخطط بإحكام باهر..لذلك جاءتك اليوم رسالة تحية وترفيع من الغرفة العليا ونلت وسام الشرف الرفيع..ولسوف يأتيك لاحقاً.

إيلي يبتسم فرحاً مسروراً، بينما يطلق الرئيس ضحكة صاخبة يشاركه إيلي فيها.

وأما إبراهام دار فقد سبق أن وصل مصر لإدارة شبكة تجسس يهودية إرهابية.

وعلى مر الأيام جاءت فضيحة-لافون- تلك من جريرة أعمالهم الإرهابية فتم اعتقاله ضمن مجموعة من أصدقاء أعمال التخريب،زجت المجموعة تلك في السجن وثبتت عليهم التهم الموجهه إليهم فيما عداه هو،المحقق يقول له:

- أسمك إلياهوبن شاؤؤل كوهين.

يجيب إيلي:                                                                                                                                              - نعم.

- أنت متهم بالقيام بأعمال تفجير يا إيلي.

يجيب إيلي بدهاء:                                                                   - غير صحيح..أنا لم أعمل شيئاً من هذا.

- اعترفوا عليك.

- كذب..إنهم يكيدون لي..كراهية لي لأني مصري وطني، أحب مصر وأحرص على أمنها.

- أنت تعمل تحت إمرة إبراهام دار.

قال مستغرباً:                                                                             - من هذا إبراهام دار؟! لأول مرة أسمع بهذا الإسم؟!

- رئيس الشبكة الإرهابية..رئيسك..أما تعرفه؟

- كلا..وليس لي رئيس غير رئيس مصر...

فقد استطاع بذكائه ودهائه إقناع المحققين بعدم علاقته بأي من تلك الأعمال مما أدى إلى براءته والإفراج عنه في العام١٩٥٤. 

ثم يطوى التحقيق دون ثبوتيات تدينه بعدما تعرض له عدة مرات دون تغيير في الإجابات، والإصرار على ذات الأقوال.

رغم ثبوت أعمال فضيحة لافون على اليهود، إلا أنه جاءت أوامر من فوق بلصق أعمال التفجير تلك بالإخوان المسلمين، من أجل ملاحقتهم واعتقال عدد من أفراد الجماعة،تحت عنوان القيام بتفجير مؤسسات أمريكية ومراكز يهودية !! ويا للعجب على تلك الفبركات والتلفيقات....

منذ أن قامت دولتهم عام١٩٤٨ لم تنقطع صلته بالموساد،ثم توطدت علاقته أكثر بعد خروجه من مصر..هناك توثقت العلاقة مباشرة مع عناصر ناشطين مسؤولين في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي:

- تم ضمك إلى الوحدة١٣١ كي تعمل من خلالها.

- شكراً لكم.

- وقد ترفعت مرتبتك الآن، عليك أن تكثف جهودك في خدمة إسرائيل.

- وليكن ذلك.

- سنعيدك إلى مصر..عملك هناك.

- أنا جاهز.. لأي عمل أكلف به.

الفصل - 2 -

أعيد إيلي إلى مصر ليمارس جاسوسيته فيها على الجيش المصري، إلا أن مهمته لم تكلل بالنجاح حسبما أرادها معلموه، لأنه بقي تحت عيون المخابرات المصرية بسبب سابقته في قضية -لافون- التي لم يثبت تورطه فيها لكنه ظل محل الشك والريبة.

ما إن بدأ العدوان الثلاثي على مصر في-أكتوبر-١٩٥٦ حتى قام الأمن المصري باعتقاله والتحفظ عليه من باب الحيطة والحذر.

ظل إيلي في سجنه إلى أواسط عام ١٩٥٧ حتى انجلت الغمة وزالت بعض من آثار العدوان،فأفرج عنه وأطلق سراحه ليسرح ويمرح وليس كما يشاء ويرغب فهو تحت العيون.

آخيراً جاء القرار بمغادرته مصر بلا عودة وبما أن وجوده فيها لن يفيد شيئاً إلى جانب أن عائلته صارت هناك في وطنها الجديد خرج إلى أوروبا ومنها رتب مع أصحاب الشأن بالذهاب إلى إسرائيل.

ما إن وطأت قدماه ( أرض الميعاد)،حتى تيسرت له وظيفته محاسب في إحدى الشركات العاملة هناك،لم يدم عمله فيها طويلاً إذ تضارب العمل المكتبي مع عمله في الموساد فأهمل واجباته في الشركة مما أدى لطرده منها.

على وجه السرعة أوجدوا له عملاً في وزارة الحرب-الدفاع- وظيفة مترجم، استمر فيها إلى أن تعرف على امرأة يهودية من أصل عربي تدعى ناديا.

قدم استقالته من الوزارة،وتزوج ناديا التي تتكلم العربية مثله ..ليكون التلائم والتطابق في الواجبات والمهمات.

المخابرات الإسرائيلية جهاز قوي، لديه خطط جهنمية ولا يبرح تتفتق عبقريته عن إطروحات فيها مصالح الكيان الذي أنشأه لهذا الغرض الخبيث.

لقد وجدوا في إيلي مشروعاً رطباً للجاسوسية وقد قاموا بإعداده ليقوم بهذا الدور في مصر،إلا أنهم عدلوا المشروع بعدما تبين لهم أن من السهل كشفه في مصر موطنه الأصلي وسابقته هناك.

جاء التحول بالفكرة إلى سوريا، ففي دمشق يمكن له أن يحقق النجاح الباهر وهو غير معروف لديهم هناك، فهاهو يتكلم العربية بطلاقة وقرينته أيضاً أصول موطنها عربية وتتكلم لغتها،فيمكن لهما التعايش ببساطة في المجتمع العربي والاندماج فيه وصعوبة اكتشاف يهوديتهما.

عندما  كان في الوزارة ضاق حاله فاعتزلها  وواظب على العمل مع المخابرات ،لكنه بعد زواجه أحس بالراحة والطمأنينة فأحب البقاء على هذه الأرض الجميلة الخضراء.

لكن رياح التغيير تريد أن تسير به على عكس التيار الذي يرغب ،فجاء القرار من فوق وهو لا يقدر إلا الاستجابة والرضا بما قسموه له من خيار.

حضر إليه من يدربه على إتقان اللهجة الشامية وتخلصه من اللكنة المصرية..خضع خلالها لدورة تدريبية مكثفة ونجح في نهايتها إلى حد مقبول.

تلتها قصة ملفقة ومحبوكة بسنارة الموساد وعليه أن يجيد تمثيلها.. ليتسلم الدور النهائي من المخرج بجدارة وكفاءة:

- الآن صار يحمل اسماً جميلاً -كامل أمين ثابت- من أصل سوري، فيما مضى ومنذ عام ١٩٤٦هاجر عمه إلى الأرجنتين للعمل هناك.. لحق به كامل وعائلته عام١٩٤٧ حتى عام ١٩٥٢ حيث توفي والده بالسكتة القلبية ثم لحقت به والدته بعد موته بستة أشهر ،بقي كامل في بلاد الغربة وحده يعمل بتجارة الأقمشة.

أيضاً خضع لتدريبات على استعمال أجهزة اللاسلكي والكتابة بالحبر السري.

نشط إيلي في دراسة أخبار سوريا يوماً بيوم وراح يحفظ أسماء سياسيها وتتبع من لمعت أسماؤهم في عالم الاقتصاد والتجارة..ثم صار يتعلم  القرآن وتعاليم الدين الإسلامي إلى أن صار على دراية بتلك الأمور.

ولعلها مسرحية تراجيدية يتقن الدور الرئيسي فيها ولم يعد ينقصه سوى الصعود إلى خشبة المسرح ليبدأ العرض الكامل بعد الانتهاء من(البروفات) .

في مطلع شباط عام ١٩٦١ غادر-إسرائيل- بدون عائلته حسب التعليمات، إلى زيورخ ومنها حجزبتذكرة سفر إلى سانتياغو باسمه الجديد الكامل المكمل- كامل أمين ثابت-،حطت الطائرة  في - بيونس أيرس-حسب رحلتها،وهناك تعمد التخلف عن موعد الانطلاق ضمن ترتيبات لدخول الأرجنتين دون تدقيق في شخصيته وأوراق وحقائبه.

استقبله العميل السري إبراهام الذي كان في استقباله مرافقاً إياه إلى مكان المبيت وأغدق عليه من الطعام والشراب والنصائح الإرشادية في ذات الوقت:

- أهلاً..إلياهو..مرحباً بك.

-أهلاً.. مرحباً.

-ها قد وصلت بالسلامة ودخلت الأرجنتين دون أي إشكالات.

-نعم..بجهودكم.

-الشكر للرب.قد ساعدنا في إنجاز المهمة.

-والشكر لكم أيضاٌ،لا شك أنكم بذلتم جهداً حتى تمت العملية.

-رائع إلياهو...أنت إنسان ذكي تقدر الأشياء بقدرها.

-شكراً لك معلم إبراهام.

-هيا بنا نتناول طعام العشاء.

-هيا كما ترى.

-بعد ذلك سأدعك للراحة..بالتأكيد أنت مرهق من السفر.

ينهضان إلى المائدة:

-قد آثرت جلب الطعام إلى هنا..ولا نجلس في مكان عام من باب الحيطة .. إلى أن تستقر أمورك بالبلد الجديد.

-جيد.. تمام...

بعد انقضاء الوليمة ودعه إبراهام قائلاً:

-نلتقي في الصباح..لنبدأ ترتيبات المشوار.فالمشوار طويل..والرحلة هذه تحتاج إلى عناية وصبر..ها.

في صباح اليوم التالي التقيا على الموعد،تابع إبراهام إسداء نصائحه لرفيقه القادم من هناك كيانهم الموعود والتي أودع إيلي فيها عائلته المؤلفة من ناديا زوجه وبناته هن - صوفيا-إيرن- برفقتها ترعاهن أثناء غيابه لينفذ مهمته الوطنية العبرانية، وريثما ينتهي منها ومن ثم يعود إليهم..يعود وقد تتوج بوسام الشرف من الدرجة الأولى.

بادره إبراهام قائلاً:

- أول شيء لك تعلم اللغة الإسبانية لتغطي عليك ولا يرتاب بك أحد.

- أنا جاهز لأي شيء.

- سأرافقك إلى مركز تعليم اللغات ففيه دورات مختلفة،وبعد ذلك آخذ بيدك إلى شركة نقل ففيها عمل لك،كل شيء مُرتب ومؤمن.

راح يشق طريقه كرجل أعمال ولو ظاهرياً أمام عامة الجالية العربية على مدى عام كامل،وصار يتظاهر بالعمل التجاري في مجال الأقمشة،توطدت علاقاته كثيراً مع أبناء العرب المغتربين من خلال حفلات ومؤدبات طعام يقيمها  بين الفينة والأخرى، أما إبراهام لا يفتئ يمده بالمال لتغطية مصاريف مهماته المتعددة المتفرقة.

لم يفت إبراهام أن يلفت انتباهه إلى موضوع مهم جداً متوجهاً إليه بقوله:

- انتبه جداً إلياهو ِلما أقول...

- نعم.

- على أي مائدة فيها خمر..لا تحتسي الخمرة، وإن كان لابد فخذ قليلا منه مما لا يوصلك إلى حد الثمالة.

- ما قصدك؟

- الخمرة تذهب العقل وإذا ذهب العقل لا تعرف ساعتها بماذا ترغي بكلام يوقعك في شر عملك.. فتنكشف ويذهب عملنا كله سدى، وتذهب أنت أيضاً في ألف داهية.

- آ.. إذن .. ذلك ما تريد.

- نعم..يمكن أن نخسر كل شيء في ساعة سُكر وعربدة.

- لم يخطرعلى بالي.. شكرا لك معلم إبراهام.

- تذكره جيداً سواء كان هنا في الأرجنتين أو في سوريا عندما تذهب إليها كن حريصاً كل الحرص..واضح.. اتفقنا.

- نعم.... بكل تأكيد.

- وبالتأكيد..علينا أن نناديك كامل..أنت كامل أمين ثابت.

يقهقهان معاً، يتابع إبراهام:

-إذا التقيت بجمع محافظ أو متدين..فلا بأس أن تتكلم في الدين وقد سبق لك أن تعلمت بعضاً من قرآنهم..ها..واضح...

تمكن كامل العربي المغترب من التواصل مع الملحق العسكري السوري وضرب صداقة معه وهو العقيد أمين الحافظ.

وعلى مدى عام قضاه هناك صار كامل رجل أعمال سوري ناجح ورجلاً وطنيا يدافع عن قضايا العرب وبالدرجة الأولى بلده سوريا وفلسطين.

الفصل -3 –

قام بجولة بين عواصم أوروبية وتل أبيب حيث تزود بمعلومات من مديره، ثم غادرها إلى دمشق، هبط فيها ومعه أجهزته وتعليماته ليقضي مهمة أعد لها ردحاً من الزمن،وهو الحامل لجواز سفر مدون فيه أن مولد كامل أمين ثابت في حلب.

وكان في إيطاليا قد تعرف على رجل سوري عميل في المخابرات الأمريكية، التعرف والاتصال كان بواسطة المعلم إبراهام الموجود في الأرجنتين .

كان اللقاء في مدينة( جوا) قدم إليه بنفسه ثم قال:

- أنا ماجد..أريد أن أعرفك على زوجتي.. هي من شعب الله المختار.

- وأنا كامل أمين ثابت..هل حفظت اسمي،أما زوجتي فهي ناديا العراقية..وأنا سوري..هه سوري لكني مغترب...

يأخذ بيده:

-تعال أعرفك على زوجتي الرائعة.

يقبلان نحوها:

- هذا كامل سوري مغترب مثلي وزوجته ناديا من العراق..،قريبة لك.

كامل يصافحها:

- مرحباً.

-مرحبا..-أهلين- .

ثم يخاطب زوجه:

- ألا تضيفينا مشروباً  من يديك الناصعتين قبل أن نجلس.

- حاضر-أوكي-

تذهب في الحال والصاحبان يقعدان، سأزودك بأجهزة الاتصال من هنا، وعندما تصل بيروت خبرني..كي أنسق مع رجل في المخابرات السورية  ليسهل لك دخولك  البلد بسهولة،ودون تفتيش،هو صديق لي..أيضا رائع مثل زوجتي..هه هه.

يتضاحك ثم يشاركه كامل الضحك،قعد معهم أياماً.

وبعد الانتهاء من الترتيبات غادر كامل إيطاليا بحراً قاصداً لبنان، وصل بيروت و اتخذ طريقه إلى فندق يقيم فيه ريثما يجهز أموره للانطلاق إلى العاصمة السورية دمشق.

قام بشراء سيارة أوبل - موديل- 1962 وأرسل إشارة إلى صديقه في إيطاليا ماجد، يخبره بجاهزيته من أجل السفر إلى سوريا.

لقد رأى كامل في بيروت شبهاً ببعض المدن الأوروبية،لذلك أعجبته وتمنى الإقامة فيها،لولا أن مهمته في البلد المجاور لظل هاهنا، إنها بكل المقاييس بلد تميل وتتجه نحو الغرب.. الغرب رائع طالما أن ماجد ولورين فيه.. وهذه بيروت على ذات النمط،ولوأنه أمكنه القعودفي بيروت لكان استدعى إليها ناديا وبناتها وعاشوا فيها، لكن نداء الواجب يثنيه عن ذلك.. ووطنه ذاك.. يناديه.

لا ريب أنه سيجد في لبنان ناساً من ديانته يتعايش معهم لولا مهمته والتي نذر نفسه لها من أجل إسرائيل... أرض الميعاد التي صارت في حوزتهم هذه الأيام،عندما يكمل مهمته ويرضي الرب سوف يعود إليها ويلتقي بزوجه وبناته ويهنأ بالعيش السعيد معهم في الديار المقدسة، عندما يسود حلم اليهود ويسيطرون على المنطقة كلها ولن ينسى لا هو ولا الكهنة إقامة الهيكل هناك في( أورشليم).لقد خططوا لهدم معبدهم..ليحظوا هم اليهود بالحائط -حائط المبكى- تلك وعود التلمود إنه هو بالذات عنصر مهم في المشروع المنشود.

هو كان قد اطلع على بروتوكلات الحكماء.. حكماء صهيون لذلك وطد نفسه على العمل لخدمة إسرائيل الحبيبة،إنه يضحي بأشياء كثيرة من أجل تحقيق أهداف نبيلة.

واجبه الآن أن يسعى مع غيره من أصحاب الديانة..وكما  رسم الحكماء سابقاً على أن يركب اليهود الآميين من الشعوب الأخرى وهم الحمير الذي سخرهم الإله ليركبها -الإسرائيليون-.هكذا راح يفكر. دم اليهود مميز مقدس حتى أسماؤهم  مميزة..هو إلياهو كوهين وإن كان اسمه كامل مؤقتاً، سيظل إلياهو إلى الأبد.. ويطلّق الاسم العربي بعد الركوب على ظهور العرب.

كل الأمور مرتبة وفيها تسلسل من مصر إلى - إسرائيل- إلى أوروبا

وحتى أمريكا اللاتينية وثم طريق العودة حتى وطأ أرض لبنان من ديار الشرق الأوسط، أما الشام فعما قريب يجوس فيها ويدوس بساطها.

إنه في انتظار إشارة ترده من إيطاليا،ولم يلبث طويلاً حتى جاءه الاتصال من العميل ماجد بالانطلاق نحو الحدود السورية في الصباح الباكر فالرجل ينتظره هناك.

أما الصديق المخابراتي فلم يخلف موعده.. وجده كامل في انتظاره فتعارفاً حسب الأوصاف.. ومركبته الحديثة علامة بارزة تدل عليها وعند اللقاء عرف بنفسه:

-أنا كامل أمين...                                                       - أهلاً بك.. وصلت، أنا نصر الدين أعمل في جهاز الأمن.

- أنا سوري مغترب.. عائد إلى وطني.

- الشام وسوريا كلها ترحب بك، اعطني أوراقك كي أقوم بالإجراءات اللازمة.

ناوله كامل الجواز وأوراق المركبة معها المعلوم من المال.

لم يغب الرجل طويلاً عاد وقد ختم الوثائق بعدما اقتسم المبلغ مع موظف من ضعاف النفوس.. تحت مسمى أن المغترب معه أغراض لا يريد خضوعها لرسوم الجمرك.. وهو على عجلة من أمره..كيلا ينتظر دور التفتيش.

وهكذا كان.. وعبر كامل الحدود بعربته وما فيها من أجهزة بسهولة ويسر.

دخل البلاد يوم ٨\١\١٩٦٢ لتكون له فيها قصة من أطرف القصص وأكثرها جاذبية.. لكنها تحت ستار من السرية التامة.

الفصل -4 –

دمشق نائمة على بساط من حرير نسجت خيوطه دودة القز،من على أوراق شجر التوت اليانع.

مالك يا مدينة التاريخ والأمجاد غافية على ذراع رخو طري، والماء يجري من تحت أنهارك السبعة الرقراقة والمتفرعة من بردى الندي النابع من السهول الرائعة الجميلة عند الزبداني وسفوح مصايف بلودان ،ومياه بقين الصحية المعدنية في تلك الأطراف معبأة بعبوات تجارية.

لتنتشر قي طول البلاد وعرضها وعند دول الجوار، والحدث يجري بسهولة وبساطة،دون أن يدري أحد من سياسيك المخضرمين ..أو العسكريين المتصارعين عن السر الخطير والحبر السري شيئاً ،أو بأي اتجاه التقية تسير.

أما بالنسبة  لكامل باسمه الجديد الذي حل فيه على ثرى هذه الأرض الجديدة بالقياس له ،وفي ذات اليوم مباشرة، منطلقاً إلى مزرعة ذلك الشخص السوري المتعرف عليه حديثاً، شارك كامل في حفل أقيم هناك تلك الليلة العامرة ..في الحفل الساهر تعرف على شخصيات  بارزة في المجتمع السوري وفيه أيضاً بعض سفراء عرب للأردن والكويت، تلك تباشير الخير له للمهمة القادمة معه في جعبته..وأول المطر طل.

منذ يومه الأول في دمشق قصد فندق-صفرا- حيث استأجر فيه غرفة أعجبته من حيث سعتها وإطلالتها، أودع  فيها حقائبه ومستلزمات عمله.

بعد سفرغيرمرهق وسهرطويل قارب الفجراستفاق في وسط النهارالتالي ليهبط السلم بعد ارتدائه ملابسه الشتوية،احتواه  برد الشارع والسماء تحجبها غيمات سمراء غير ممطرة،توجه باحثاً عن مطعم يذوق فيه فول الشام..يملأ معدة أظهرت خاوية ودماغه متروسة بأفكار مسمومة وخطط مدسوسة،لذلك يريد بداية أن يستطلع المدينة التي حل بها حديثاً ولطالما سمع عنها وعن أهلها وإبداعهم في كل شيء..لا أحد يسابقهم في أصول التجارة وحتى الصناعة فهم أناس مخضرمون حاذقون..معروفون بذلك وعلى مر الأزمان ،فهل يفلح هوإلياهو كوهين بن شاؤول في خداعهم وتمريرحيلته عليهم،يا ترى هل هم مغفلون تنطلي عليهم حيلة ولا يكشفون شخصيته المزورة،وهو قد أُعد للمهمة إعداداً جيداً ..إنما عليه الحيطة والحذر دائماً وفي منتهى  الإيجابية.

راح يتجول في وسط المدينة من شارع النصر( جمال باشا) سابقاً إلى ساحة المرجة..ثم أخذ اتجاهه من البحصة حتى بوابة الصالحية مروراً منها إلى السبع بحرات..يتفحص المحال والأبنية ماشياً على الأقدام على شكل متسكع خالي الأشغال، وإن أعاقه معرفة شيء لايألوا جهداً أن يستوقف أحد المارة فيسأله:

- ماهذا المبنى يا عم؟

- هذا مديرية التجنيد..آلا تعرفه؟

- كلا..لكني أبحث عنها.

- هل لك شغل فيها.

- نعم..نعم..هي أريدها ..شكراً لك.

- لا شكرعلى واجب.

قطع الشارع المزدحم،اقترب قليلاً من المبنى..حقيقة كما قال الرجل ها هي اللوحة تنبئ بذلك، ما أغباك يا هذا..ضروري أن  تسأل.

واصل مسيره ها هي البحرات والنوافير أمامه تضخ الماء الزلال..رائع وجميل هذا المشهد،ليس من فراغ ولا عن عبث أطلقوا عليها الاسم ذاك.

كان قد حدثه عنها عامل الفندق وأشار عليه أن يذهب إلى هناك إنه قلب دمشق وروعتها.

أي مبنيين في صدر الساحة!! مبنيين متناسقين متطابقين إلى حد بعيد لا ريب أنه صنعتهما يد واحدة من جديد راح يسأل:

- ما هذه المباني الفخمة؟!

- ألا تعرفها؟!

- لا..أنا حديث عهد هنا.

- ألست من الشام؟!

- لا أنا من حلب.

ثم قال مستدركاً:                                                               - كنت أعمل في الغرب وعدت إلى بلدي من جديد وأحببت أن أرى دمشق.

- أهلاً وسهلاً..البلد بلدك والداردارك، ثم أردف الشاب مشيراً بيده نحو البناءين:

- هذه وزارة المالية..والثاني البنك المركزي..تفضل معنا.

- شكراً..شكراً.

يعود كامل بالسؤال:

- أقلك..إن كانت هنا المالية فأين توجد وزارات أخرى ..مثل الداخلية والدفاع..والخارجية؟

- لِم تسأل عن الدفاع؟!

- أريد أن استطلع كل شيء عن وطني الحبيب.

- الداخلية في المرجة،والدفاع أو رئاسة الأركان في ساحةالأمويين..والخارجية..يقاطعه قائلاً:

- الأمويين..آ..سمعت بها ..أحب أن أذهب إليها أيضاً.

-هي هناك غرب دمشق في طريق المزة..أو الربوة،اركب باص مزة كيوان..أو مزة حميدية يمر منها.

- وما هي الربوة؟

- منتزهات..أشجار وأنهار..ينفع أن تذهب إليها صيفاً فهي حلوة وجميلة.

- أسعدتني بذلك.

- أيضاً بالقرب من الأمويين..موقع مبنى التلفزيون إن كان لك مأرب فيه.

- لقد عرفتني بأشياء كثيرة..شكراً لك يا صاحبي.

- العفو.

ثم يفترقان، لكن كامل يواصل مسيرته، اتجه غرباً رغم أنه لا يدري ماهنالك،وصل شارع البرلمان..هاهو البرلمان أمامه..يمم جنوباً وهذا نادي الضباط،إنه يحلم أن يسهر فيه عليه أن يسعى لأجل ذلك وأن يختلط بضباط الجيش..هذا من مهمته الأصلية،أمام عدد من دور السينما..جيد سوف يرتادها،مخترقاً ساحة الصالحية مرة أخرى حتى وصل جسرفكتوريا.. صدم ناظره النهر المكشوف..راح يسأل عنه فعرف أنه بردى،مشى بجواره حتى صار بمحاذاة موقع معرض دمشق الدولي..على الطرف الآخر حدائق ومناظر رائعة أخاذة..لقد تعبت قدماه عليه العودة إلى الفندق ولسوف يواصل مسيرته في يوم آخر.

الفصل - 5 –

إذن هذه هي دمشق التي سمع عنها.. وقد حل اليوم  فيها زائراً وتاجراً بتجارة كبيرة هو بصددها رصدت لها الأموال وخطط لها باستعداد وطاقات مسخرة لأجل الهدف النبيل.. آلا وهي خدمة وطنه وشعبه المميز....

واجبه الآن أن يوجزالمهام وينجزدون إضاعة للوقت ما دامت قدمه قد وطأت الأرض التي قال عنها الرجل القادم من البادية:

- شام..شام زين.

وهو أي.. كامل قادم من العادية...

في ضحى اليوم التالي انطلق بمركبته ذات اللوحة اللبنانية يجوب أرجاء المدينة،وليس على قدميه هذه المرة فهو في عصر السرعة..وليست الصرعة،وقد استرق بالأمس بعض المعلومات من خلال تجواله وإستفساراته في الشارع..إنه يسأل عن كل شيء حتى عن القشة أو النملة..والبيضة من باضها وأين؟!

قد صار في الساحة الكبيرة..ساحة الأمويين..يا إلهي إنه ميدان كبير ورائع جداً ..يدور فيه جولتين ثم يتمهل في الجزء القبلي منها..ذاك في الركن الشمالي إلى الزاوية الشرقية يجثم المبنى الكبير ولا ريب،أنه القيادة العامة للجيش،هذا هو بيت القصيد.

راح ينادي بأعلى صوته:

- يا عم..ياعم.

يقترب الرجل من المركبة الفخمة الحديثة.

- نعم يا بيك.

- سلام..مرحباً.

-   -أهلين-.

- أسألك بالله أن تفيدني.

- أنا حاضر.. تفضل قل ما تريد؟

- أين توجد شقة أستأجرها في هذه المنطقة..ترى أنا قادم من خارج البلاد ولا أعرف شيئاٌ.

- آ....أنت مغترب يعني؟

- تماماً.

العم يشير بيده:

- اذهب من هناك في ذلك الشارع من جانب رئاسة الأركان...؟

- نعم ..وما اسم الشارع؟

- إنها منطقة( أبي رمانة)..هي للأكابر..فيه تجد ما تطلب.

- والنعم منك يا عم ومن أبو رمانة.

- والسبع تنعام منك..أهلاً بك في الشام.

- وبك يا عم..شكراً لك.

ينطلق حيث دله العم يبحث عن شقة للإيجار،لم يضنه البحث طويلاً حيث اهتدى إلى شقة في مبنى قريب من القيادة بواسطة دلّال حاذق..دس في يده الليرات المطلوبة بعد توقيع العقد مع المالك،أموره ميسرة والطريق أمامه مفتوح وسهل..المال عصب الحياة..كل شي بالمال يهون وتصبح الأمورعلى ما يرام.

يستطيع الآن ترتيب أوضاعه داخل الشقة..كل شيء في مكانه المناسب وليستقر فيها وقد استأجرها لعام كامل.

أنزل حقائبه ومعداته بيديه،لم يستعن بأحد..مصعد العمارة مساعد آلي كهربائي وكفى.

المال الموفورزاده فيدفع غيرمبالٍ، والشقة المفروشة مريحة وناجعة بالنسبة له،قدلامست شغاف قلبه الغبطة وانشرح صدره تماماً لما صار إليه حالياً.. رغم ما يكن في داخله من ضغائن سوداء لهذا البلد وأهله.

عندما رتب أغراضه داخل البيت وعلى رأس هرمها أجهزته الحساسة صار بمقدوره التفرغ للعمل وإجراء الاتصالات مع مسؤولين وكبراء في البلد.

اتصل بأحد الشخصيات المرموقة من معارفه الجدد.،ليلة سهرة المزرعة وقد احتفظ بعنوانه للحاجة ..الآن وقت الحاجة..حان الوقت ودقت ساعة العمل.

كما أنه لم تنقطع صلته برجل المخابرات الذي سهل له اجتياز نقطة الحدود بسهولة ويسر،علاقاته تنمو وتتصاعد باستطراد..سهراته متنوعة شطر منها في ملاهي زبائنها بعض الكبراء وآخر في نادي الصباط.. ناد ما برحت عيناه ترمقه منذ اليوم الأول..يوم وطأت قدمه المدينة الضاربة الجذورفي التاريخ الهانئة الوادعة على أنهار رقراقة وبساتين خضراء،يا لها من مدينة عظيمة..جمعت بين الماضي الغابر والحاضرالعامر، أهلها متحضرون..قمة الحضارة فيها حارة مرموقة لكنها منسية  مغمورة..حارة أترابه اليهود،لا مصلحة له في زيارتها وليست من برنامجه،شيء أخر تطوع له هدف سامي نبيل فيه عزة ومنعة لأبناء عرقه وملته سواء كانوا من سكان الشام أو مبثوثين في كثير من بقاع الأرض غرباً وشرقاً.

- أجدادنا كانوا هنا على هذه الأرض..القدامى منا عاشوا هنا وكان لهم صاع وباع،لِمَ لا يعود مجدنا إليها..يجب أن يعود...

الحارة إياها يجب أن تتمدد ويحكم أهلها هذه البلاد،أو ليس أصل عائلتي من حلب..وحلب أيضاً مدينة ضاربة في التاريخ..إن هذا هو عصرنا..نحن نحرك الأدوات التي تحكم القوى الكبرى في العالم..فهل تستعصي علينا الفتات.

- نحن قادمون يا أرض اليهود التاريخية..أيا أورشليم.

- حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل.

هو قد رأى النيل وترعرع على ضفافه وفي كنفه أما الفرات فلما يره بعد.. وإن كان قد شاهد طرفاً من بردى..وهذا غير كاف،لعله يأتي يوم يرى فيه جحافل بني صهيون تطأ هذه الأرض ..تجوس هذه الديار وتطأ بنعالها الرقاب التي فرضت هاهنا حظراً على يهود الشام من حرية التنقل والسيطرة على التجارة والمال.

- في كل بقاع الأرض اليهود يسيطرون على المال فيما عدا هذا البلد كثير من أبناء جلدته يعانون من الفقر..حتى إنهم يعملون في مهن-واطية دنية-.

من كل الدنيا توارد اليهود إلى وطنهم الموعود إلا سوريا..فقد منعتهم سلطاتها من السفر خارجها.

فيا ويلكم يا أهل الشام..تجاراً وحكاماً ومحكومين،الزمن بيننا وبينكم..وسترون في قادم الأيام ما يسؤكم ويشفي صدورنا نحن-شعب الله المختار-.

كثيراً ما يرغي بمثل هذا كامل أو إيلي بنَفَسه اليهودي عندما يكون على انفراد وتحل به الوحدة.

إنه يرغي ولا يزبد،إلا أن يقف أمام المرآة يمثل دوره ويدرب نفسه طواعية..يحاكي خياله المترائي له..فيزبد بتشنج..تتقلص عضلات وجهه حتى يديه ملوحاً بها في الهواء:                                                                       - يا لثارات اليهود..متى تخرج الجحافل من الحارة إياها؟وتستوي على بساط من نور وسط ظلام بني يعرب وظلمهم لأترابنا ..أبناء ملتنا،يارب يهود أسرع لنا بالخلاص..خلاص أحبابك الخلصاء النجباء...

مهمات شتى علقت بكنفه،منها البحث عن أحد النازيين يقال أنه موجود في الشام..لئن عثر عليه سوف يرتب عملية اختطافه وقيادته إلى إسرائيل كي يحاكم بجرائم ارتكبها مع معلمه بحق اليهود الألمان.

إنه - ألويس برونر- مساعد أيخمان- وكان لجأ إلى سوريا بعد الحرب العالمية الثانية.. هذا ألويس قد استعار إسما آخر له يختفي وراءه وهو -جورج فيشر-،إذا ما عثر عليه فلسوف يخطط لخطفه ولكن كيف؟، المهم بداية أن يعثر عليه وما السبيل إلى ذلك؟.

إذن ليكثر من صلاته مع مسؤولين وعاملين في أجهزة الأمن ورجال الجيش،قد يصل لبُغيته الأولى والثانية والثالثة.

الفصل - 6 –

هذه دمشق الهانئة بأنهارها وبالحزام الأخضر يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم ،الآهله بسكانها المدنيين وسكان ريفها الفلاحين في نشاطهم وهممهم العاليه من ما جعل الشعراء يتغنون فيها فينشد أميرهم واصفاً حزامها ونساءها- حوْر وحور-...

في واديها الاخضر وغوطتيها الغنائتين.

أمر ياكل قلبه حقداً ويمزق روحه حسداً.

سوى إن لقاءه بأنداده يُروح شيئاًعن نفسه ويشفي غله المشحون بداخله.

إن أكثرماأراح قلبه يوم هبط المدينه صديقه الحميم ماجد صاحب إيطاليا.

صلة متواصلة هاتفياً بين الثنائي كامل وماجد ،أحدهما يقيم في أوروبا والآخر في بلد من آسيا، لذلك وجب على ماجد أن يهرع إلى مطار المزه المدني ليستقبل الصاحب الساحب على موعد وصول الطائرة القادمة من روما.

ترك مركبته مركونة  عند باب الاستراحه متوجها نحو الحاجز الزجاجي مطلاً على مدرج المطار، وما  إن رآه يهبط سلم الطائرة المتحرك حتى  لوح له بيده دون أن يراه المسافر القادم .

لما يمض غير وقت قصير حتى كانت الإجراءات الرسمية منتهية وصار ماجد وسط القاعة وبجانبه حقيبته الجلدية، بادره  كامل بالسلام والترحيب معتنقاً إياه ..لقاء أخوي حار:

- سلامات أخي الحبيب ..يا مِائة أهلاً وسهلاً .

- أهلا بك حبيبي ونورعيوني ..كيف حالك؟

- تمام التمام..على ما يرام.

أخذ كامل بيد صديقه متجهاً به للخارج وعامل المطار بأثرهما يجر الحقيبة:

- كيف الشام معك؟..كامل بك.

- الشام حلوة..مشتاقة لك..وأنا مشتاق لك أيضاً.

- أنا بالأكثر.

يضحكان، يفتح غطاء(طبون المركبة) الصندوق الخلفي، العامل يُنزل حمله ثم يتناول إكراميته من يد كامل الكريمة والتي ما فتئت تنثر المال والإكراميات يميناً وشمالاً منذ قدومه دمشق.

أدارالمحرك وانطلق بالمركبة خارج  المطار:

- والله اليوم مبسوط جداً يا ماجد..أنا منتظر وصولك على أحر من الجمر.

- الله يبسطك،على فكرة كيف ناديا والبنات؟

كامل يطلق زفرة متنهداً:

- آه يا دنيا ..ناديا..البنات..أظنهم بخير..لكن لااتصال معهم.

- بسيطة عما قريب تذهب إليهم وتراهم.

- كيف لورينا الرائعة...؟

- تمامْ..تُسلم عليك.

- سَلمتَ..وسلمتْ.

- اذهب نحو اليسار.

ينعطف وهو يسأل صاحبه باستغراب:

- إلى أين؟! الشام على جهة اليمين.

- أريد أن أريك شيئاً يهمك.. هذا الطريق نحو الغرب يذهب إلى مدينة القنيطرة ثم الحدود..

- الحدود؟!

- نعم..الحدود..وراء الهضبة..تكمن إسرائيل..آلا تحب أن تراها؟

- أحب ولكن ليس الآن.

- بالتأكيد ليس الآن.

- بالتأكيد ليس الآن.. إنما تطلع على يسارك وانتبه في نفس الوقت للشارع .. والسيارات القادمة.

- أوه .. ماذا أرى؟! هناك طائرات سمراء رابضة على الأرض.

- هذا مطار المزة العسكري.. أرأيت.. أحببت أن أفيدك.

- شكراً لك ماجد.. حبيبي.

يخفف سرعة المركبة ويخرج يده من النافذة فيكبس زر ساعته ويأخذ يصور المطاروما فيه.

- هنا طيراننا الحربي من طراز ميغ١٧-أم كامل-

- أم كامل؟!

- نعم..هكذا الناس يسمونها.. طائرة قديمة وبطيئة السرعة.

- آ..هذا سلاح روسي بالتأكيد.

- نعم.. نعم.. فيه كذلك ميغ٢١ هي أسرع لكن مداها قصير.. خزانات الوقود فيها تنفد بسرعة  مثل سرعتها فقائدها لا يستطيع الذهاب بها بعيداً.. إنها معلومات في غاية الدقة لكنها مفيدة لك يا صاحب.

كامل يسيخ السمع.. متابعاً سيره، بينما صاحبه ينبهه:

- يكفي إلى هنا..دوّر لنرجع نحو دمشق..قد اقتربنا من معضمية الشام...

- وما تكون؟

- بلدة صغيرة..بجوار المطار من الغرب.

ماجد يستطرد في حديثه:

- على ذكر أم كامل..هل تعلم أن هذه الطائرة على قِدمها قد فعلت فعلها يوماً ما...

- كيف؟

- بالتأكيد أن هذه الطائرات منسخة من سلاح الجو السوفييتي،فيبيعونها لنا...

يقهقه حتى يلقي رأسه على مسند المقعد:

- آ....على كل حال..هذه الطائرة القديمة قد ذهب بها إلى عمق إسرائيل وضرب بها مصفاة حيفا.. هل تصدق !

- من..من يذهب بها؟

- يوجد طيار ماهر..من هنا نحن نقترب من منطقة المزة...

- من هو؟

- فايزمنصور..هل تعلم أنه بعدما قصف المصفاة.. قد أُصيبت طائراته بطلقة نارية..وأين في خزان الوقود...

يعود إلى ضحكته مقهقهاً.

كامل يبدو أنه مشدود الانتباه:

- نعم..وماذا بعد أكمل..شوقتني لسماع الحكاية.

- هي ليست حكاية خرافية..بل حقيقة وقعت منذ سنوات.

- طيب؟

- أتدري ماذا فعل فايز..قلب الطائرة على قفاها وعاد بها الى هنا..هنا..لهذا المطار..وهبط بها..لم يرمها..ما نزل منها ولا استعمل البراشوت..تصور..ما خاف أن تنفجر به...

- نعم.

- ذاعت شهرته..بهذه الطائرة المسكينة..تصور أيضاً،هذا الرجل له قصة أخرى.

- ماهي؟!

- هو شاب يهوى الطيران.هو فايز وله أخت اسمها فايزة،قدما معاً امتحان شهادة البكالوريا.

- وما البكالوريا؟!

- يعني الثانوية العامة..صف١٢كما نقول بالعامية،ولسوء حظه أنه رسب ولم ينجح بينما نجحت أخته ويريد الانتساب للكلية الجوية..تخيل ماذا فعل؟

- ماذا فعل..أنا لا أدري شيئاً!

من جديد راح يتضاحك وهويكمل روايته:

- إنه إنسان فظيع..عمل على تزوير شهادة شقيقته من فايزة لفايز،وبهذه الطريقة استطاع دخول كلية سلاح الجو..وقدم امتحان القبول وقُبِل فيها وفيما بعد أبدع بقيادة الطائرات الحربية..وهكذا...

يبدو على وجه كامل الامتعاض وعلى شفتيه الاشمئزاز وهو يتسائل:

- كل ذلك حدث وما اكتشفوه لا هو ولا تزويره؟!

- لا.. مطلقاً كثير أشياء تمرعندنا..صحيح أما مررت أنت يا كامل أمين ثابت وما معك من أدوات؟ بلدنا الأمور فيها سهلة.. سهلة جداً.. ترى هه،على البساطة .. مافيه تدقيق.

يطلق ضحكة أخرى وهو يكمل أحاديثه المختلفة ويتابع ثرثرته، بينما زميله ينصت إليه بتمعن.

- نحن الآن في المزة..هناك مستشفى المزة العسكري.

- أقولك..سنذهب إلى شقتي ألا تريد رؤيتها؟

- بالتأكيد سأراها.

- أيمكن التوقف هنا لنأخذ فلافل فول حمص..لنتناول طعام الفطور،ها أنا قد اعتدت على أكلاتكم.

- ممكن ونصف.

يتوقف بالمركبة فيأخذان حاجاتهما ثم ينطلقان:

- هذا مستشفى المواساة،أقامته جمعية المواساة الخيرية ..مستشفى لمعالجة المواطنين.. مجاني.

- وما تلك الأبنية القديمة على الجانبين.

- إنها قطع عسكرية..معسكرات الحميدية عندما يصير بمحاذاتها،يأخذ كامل بالتصوير وهو يردد:

- على نفس الخط مطار مدني و آخر عسكري.. مستشفى عسكري ومستشفى مدني..ومعسكرات داخل المدينة..بعد قليل من المؤكد أنك ستدلني على أشياء ومباني أهلية  أو غير عسكرية.

- نعم..نعم كامل.

يعبران ساحة الأمويين:

- تلك هي القيادة العامة...

يقاطعه قائلاً:

- أعرفها..أعرفها يا حبيبي.

وعند صارت مركبتهما في شارع برمانة بادره قائلاً:

- وهناك..قصر الضيافة..لتعرف يا صاح أني صرت ابن البلد..هاها يقهقهان،ثم يعود ماجد إلى الثرثرة:

- قصر الضيافة..آ..منه كان يطل جمال عبد الناصر أيام الوحدة عندما كان يأتي دمشق وهو رئيس الجمهورية العربية المتحدة بإقليمها الشمالي والجنوبي ،وفي تلك الساحة كانت تحتشد الجماهير الغفيرة ليخطب بها..الشوارع كلها تكتظ بالناس...حتى ينقطع السير ولا مكان لموضع قدم....

- لقد أوجعت قلبي في الحديث الأول عن ضرب حيفا..أحسست بالضربات تلك تنهمرعلى رأسي..كفى كلاماً يا ماجد.. أتريد أن تدمرني بالحديث عن عبد الناصر؟!

ماجد ينظر إلى رفيقه ملياً ثم يقول:

- أما هذا الرئيس فلا خوف منه.

- أم ماذا؟

- لا تغرنكم الخطب الرنانة.

- أليس بطل العروبة؟ قد نقرت رأسي بالحديث عن البطل الطيار والآن تحدثني عن بطل آخر،دائما يتحدث عن تدميرإسرائيل،كلمني عن بطولات السي أي إيه مثلاً.

ماجد يقهقه من جديد ثم يقول:

- نحن نعرف كل شيء..بطل القومية العربية مبرمج على يد أعواننا ومن طرفنا.

- هو يدعو إلى الاشتراكية..فكيف يكون من طرفكم؟!

- ليس شيوعياً..بل هو بدعوته الاشتراكية يقف سداً منيعاً في وجه المد الشيوعي.

- كلامك غير مقنع.

- لا أخفيك قولاً ولا أبوح لك بسر إذا قلت أن من مهام هذا الزعيم الرئيسية تدميرالمجتمع المصري بل والعربي،إنه يدعو للمساواة بين المرأة والرجل..وإذا ما خرجت المرأة من دينها وتقاليد مجتمعها..فقد انتهى كل شيء،المشروع في مصلحة الغرب وإسرائيل معاً..واضح حبيبي،ثم يقهقه.

تهادت العربة ونزلا منها عند منزل كامل.

الفصل - 7 –

في شقة كامل الفاخره بأثاثها الفخم بعد أن تناولا طعام الإفطار الشامي الشعبي راحا يحتسيان الشاي الأحمر الذي غلاه بيده، عاد ماجد للكلام:

- أنا قبلت فطورك هذا في بيتك هذا الفخم على شرط أن يكون العشاء في مزرعتي مساء اليوم أو الغد عليك أن تختار .

- موافق متى شئت... ولكن لي عندك طلب.

-تفضل ما هو ؟

- أن تدلني على مكان لويس برونرأوتساعدني في العثورعلى مكان إقامته .

- آ...برونر تقصد مساعد آيخمان.

- تماماً .

يتضاحك ثم يعود محدثا صاحبه كامل:

- هل اطلعت على قصةآيخمان ،أنا أحدثك عنها .

- لا اعرف شيئاً عنه سوى أنه من الألمان النازيين المجرمين وهذا مساعده لجأ إلى سوريا بعد هزيمه هتلروإنتهاء الحرب العالميه الثانية.

- ما تقوله قد يكون صحيحاً.

- هكذا أعلموني .

-و ماذا تريد من برونر؟

- آ.... فقط لأخبرهم أنه موجود في هذا البلد.

اتخذ وضعه على الأريكةجيداً وهو يقول :

- لا يهمني في شيء ،إنما المهم أن آيخمان هذا أوأدولف آيخمان قد تسلل من ألمانيا وتنقل في عده عواصم عالمية إلى أن استقر نهائياً في عاصمة الأرجنتين ، بعد قيام دولة لليهود على أرض فلسطين اسمها -إسرائيل-، تشكلت منظمه يهودية مهمتها ملاحقة رموزالنازية أينما كانوا.

كامل يرهف السمع إلى حديث رفيقه،بينما الآخر يتابع مسهباً:             - عندما عرفوا مكان وجوده  ظلوا في متابعته حتى استطاعوا السيطرة عليه، فخدروه وأركبوه طائرة بعد تزويروثائق له على أنه يهودي يريدون أخذه إلى إسرائيل لمعالجته وبهذه الطريقه تمت عملية اختطاف أيخمان ..إن أردت أن تستفيد من ملابساتها .

ثم يطلق ضحكة مقتضبة بينما كامل يهزرأسه بالنفي:

-هناك في إسرائيل حوكم الرجل..وقد حكم عليه بالإعدام، عند ذلك استاذن في أن يعتنق اليهوديه فأُذن له .

ومن ثم سألوه لماذا دخل في الدين اليهودي؟ فأبى الإجابة إلا في حضور الصحافة ووسائل الإعلام المحلي والعالمي.

- أنا رويت القصة إلى هنا.. هل تعرف بقيتها يا إيلي ؟

كامل ينتفض من مكان جلوسه:

- أنا اسمي كامل.. كامل أمين ثابت طالما أني في الشام.

- متأسف كامل ..نعم كامل، أكمل أنت عني.

-أنا لا أعرف شيئاً عن هذا .

- ولِمَ لا تعرف ؟!ألم  تكن وقتها في موطنك إسرائيل؟

-كفى ياماجد كفى .

ينظرإليه ملياً ثم يعود للحديث:                                       - في الإعادة إفادة يا صديقي، أي شيء تقرأ أو تسمع تستفد.

-كف عني بالله عليك، تحدث في غير هذا.

- حاضر ..حاضر ،ولكن دعني أقول لك شيئاً ولن أطيل عليك .

ماجد يخرج من حقيبته مجلة وراح يقرأ منها:

-حتى إن ابن جوريون تباهى وقتها بأن إسرائيل استطاعت جلبه ومحاكمته ،ومن ثم حضرت -الكاميرات- والصحافة لتصور وتنقل تصريح آيخمان المهم والتاريخي إلى العالم، وقد بدأ آيخمان حديثه بقوله :

) -أردت اعتناق اليهوديه ليس حباً فيها ولا في إسرائيل إنما أردت بذلك أن أهتف لنفسي أن كلباً يهودياً قد أعدم ليدرك من سبقوه من الكلاب..وإنه لكم يسعدني قبل أن أموت أن أوجه رسالة اعتذار للإسرائيليين تحمل كل ندمي وحرقتي وأقول لهم أن أشد ما يحز في نفسي أنني ساعدتكم على النجاة من أفعال هتلر فقد كنت أكثرإنسانية معكم ،بينما كنتم أكثر خبثاً وقذارةأيها الكلاب.

إن أرض فلسطين ليست إرثكم ولا أرضكم، فما أنتم إلاعصابة من الإرهابيين والقتلة ومصاصي دماء الشعوب ،ما كان لكم إلا الحرق في أفران هتلر لتنجو الأرض من خبثكم وفسقكم ويهنأ الكون بعيداً عن رذائلكم.

فذات يوم سيأتيكم هتلرعربي يجتث وجودكم اجتثاثاً ،ويحرق عقولكم وأبدانكم بأفران النفط...

أيها الكلاب يؤلمني أن أشبهكم بالكلاب، فالكلاب تعرف الوفاء الذي لا تعرفونه ،لكن نجاسة الكلاب وحيوانيتها من ذات سلوككم،اهنؤوا ما شئتم بإجرامكم في فلسطين حتى تجيء اللحظة التي تولون فيها الأدبار وتعلو صرخاتكم  تشق العنان، فتذوقوا مذلة النهاية التي لا تتصوروا أنها بانتظاركم ،وعندها ستكون الكلاب الضالة أفضل منكم.)

كامل يتمعر وجهه وينقلب حين سماعه لتلك الكلمات النابية الجارحة في حق اليهود ثم يصرخ:

- ما هذا الكلام يا صاحبي ؟!

- ليس كلامي.. كلامه هو ..صاحبكم.

-أنت تقوله الآن .

- ناقل الكفر ليس بكافر.                                                          - هذا غير مقبول سواء من مؤمن أو كافر ....

- هدئ من نفسك ولا تغضب .

يعود إلى ضحكاته من جديد :

-الدنيا زائلة يا كامل ما فيها شيء يستأهل الانزعاج .

- صحيح ..لكنك تسيء لنا بقراءتك هذه الكلمات الملعونة.                 - هي ملعونه وقائلها كذلك ..وأنتم أيضاً ملاعين ..ها...

يقهقه ويرمي المجلة باتجاه كامل:

- والآن حان وقت مغادرتتي ،توصلني أواذهب لوحدي ..غداً نلتقي على موعدنا.. ولسوف أعرفك بمن يخدمك في ما ترمي إليه.

يتساءل مستنكراً:

-وأنت ألن تكون معي في المهمات الصعبة؟!

-لا..أنا على سفر قد جئت في مهمة عاجلة، سوف أنجزها ثم انطلق إلى حيث زوجتي وعملي.

الفصل – 8 –

لئن كان هناك شيءاسمه مكرولصوصية فإن ذلك يتمثل في هذا الوافد الذي يحمل اسم كامل أمين ثابت، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، أما كامل فلمّا يزل في منأًى عن ذلك،فما أصابه وابل أو طل من جراء ما يسعى له ويبيته من تخطيط خفي.. أو ما يرسله في ظلمة من ليل.

وإن كان وهو لم يكن حاضراً بعد مرورعقود من الزمن على قصته، جاء في مسلسل سوري شخص شبيه به في القصة والحكاية.. إن هو سوى كامل أو مأمون ابن كامل الثري المغترب العائد إلى وطنه من الأرجنتين.. معه سرعميق ويخفي عمالته مع المحتل الفرنسي..مبدياً وطنية زائفة..يتجلى فيه المكروالدهاء والخديعة ،وهو المدعي أنه ابن أخ الزعيم الراحل عن الحارة.

في بعض الأحيان تكفي المظاهرالخادعة وحدها لتغطي على ما بطن وقد يلجأ أحدهم عند الضرورة بتغطية السماوات بالقباوات كما يقال

وقد يقوم آخربحبك قصص وهمية يظهر فيها الكذب والغش ، فسرعان ما ينفضح أمره وينكشف سره.

أما كامل هذا فقد احترف الظهور بمظهرلائق أنيق يخدع الأبصار ويتكلم بطريقة ظريفة تطمس البصائر.

ففي هذه الأمسية الحافلة،على مأدبة ماجد في ساحة بيته المرموق وسط أشجاروزروع،استهل مأدبته التى دعا إليها لفيفاً من أصدقائه ونفراً من معارفه،قام واقفاً وكأنه خطيب في جموع متجمهرة يُعّرف بضيفه القادم من الغربة:

- أيها الجمع الكريم يشرفني حضوركم..وتلبيتكم الدعوة..وبالمناسبة أود أن أعرفكم بضيفي القادم من الغرب ومن أمريكا اللاتينية..وتحديداً من الأرجنتين..أقدمه لكم...

يشير بيده نحو كامل:

- إنه صديقي العزيز..كامل أمين ثابت.

الجمع يصفق للخطيب،أما كامل فيقف بدوره ليلقي حديثه أمام الحضور:

- أيتها السيدات والسادة..أبناء وطني الحبيب سوريا..مساء الخير .

يردون عليه تحيته بمثليها:

-مساء الخيرات.

-مساء النور.

-مساء الورد.

-طبتم مساءً.. جميعاً، يسعدني أن ألتقي بكم على أرض بلدي الحبيب.. أرض آبائي وأجدادي.. بعد غياب طويل أعود إالى الوطن الأم حيث ولد فيه أبي ونشأ وترعرع هنا.. وإن كان هناك في حلب فكلها بلاد الشام العزيزة الغالية على قلبي.. وأنتم أيضاً أيها الأصدقاء.. عزيزون عليّ.. والله إني لأحبكم محبة كبيرة مثل محبتي لأشقائي.. وما أنتم بأقل منهم مكانة في قلبي وإني لأعزكم.. فأنتم اليوم أهلي وخلاني.

يلتفت يميناً وشمالاً يتفحص أثرخطبته الإنشائية على وجوه أصدقائه الجدد،فيروقه ما شاهده،ثم يتابع مبتسماً باشّاً في مستمعيه:

- أيها الأحباب.. يا أبناء بلدي الحبيب، أريد أن أعلمكم وأعلن هنا أمام حضراتكم أني سأُنهي أعمالي كاملة في بلاد الغربة.. فالغربة كربة.. وأعود لأستقرهنا في وطني العزيزالحبيب.

يصفقون له وتعلو بعض الأصوات:

-أهلاً بك.

-أهلاً وسهلاً.

- يا مرحباً بك في بلدك.

-نحن نعتزبك وبأمثالك.

- عشت ودمتم كامل بيك.

كامل يتابع كلامه وعلى شفتيه بسمة عريضة متزايدة:

-دمتم جميعاً في خيرأصدقائي الأعزاء..لن أنسى احتفاءكم بي واستقبالكم الرائع ما حييت،وإنه ليوم من أهم وأغلى أيام حياتي..يوم لقائي بكم هذا يا أحباب.

ثم يمضي يصافحهم ويعانقهم واحداً وواحدة تلوأخرى.

بعد ذلك أوعزالمضيف ماجد إلى المتخصصين بعمل الضيافة القيام بتقديم صواني وأطباق الطعام التي راحت تصطف أمام المدعوين حتى تشكلت مائدة من أصناف طعام مختلف ألوانه وأشكاله،كذلك توزعت بين الأطباق زجاجات وأقداح من مشروبات-غازية ومخمرية- ، ثم دعا ضيوفه للالتفاف حول المائدة المياسة بأطايب المأكولات والحلويات والمشروبات،بقوله السائغ:

-تفضلوا يا جماعة..المحل محلكم..والبيت بيتكم.

أما خدم الحفل فما برحوا يدورون حول الحضور..حافين بهم مقدمين خدماتهم.

بعيد انتهاء الوليمة انزوى كل اثنين أو ثلاثة يتجاذبون أطراف الحديث، بينما انشغل عمال المطعم الذي أحضرمواد الوليمة بإزالة بقاياها.

ماجد ينتقي اثنين من الحضور إلى منضدة خاصة كما دعا صاحبه كامل فتحلقوا حولها،بادئاً التعريف:

-لا شك أنكما تعرفتما على الأستاذ كامل..والمعروف لا يعرف.

الاثنان معا:

-نعم .. أستاذ كامل على العين والراس.

ثم قال وهو يشير بيده لكل واحد من ضيوفه:

-أعرفك بالأستاذ جورج سيف.

ثم يتابع:                                                                             - والأستاذ معزي زهر الدين.

كامل يرحب بهما:

-يا أهلاً وسهلاً بالشباب.

-ترى معرفة خير .. هه .. سيكون بينكم شغل في المستقبل القريب يا أستاذ كامل..هذا الأستاذ جورج آيضاً كان مغترباً مثلك في الأرجنتين ثم عاد إلى وطنه حباً وكرامة.

- يا مرحباً.

- أتدري ماذا يعمل حالياً؟

-طبعاً لا أعرف.

- إنه يعمل في الإذاعة السورية.. عمله هذا يهمك ولاشك.

-نعم.. نعم.. منصب جيد.. وعمل لا بأس به.

جورج سيف يبدي استغرابه:

-أنا أمضيت سنوات طويلة في الأرجنتين.. كيف لم نلتق ولم نتعرف على بعض؟!

-لسوء حظي.

-بالعكس.. من سوء حظي أنا..لكنني تعرفت تقريباً على كل السوريين المقيمين هناك.

كامل يتدارك الموقف قائلاً بسرعة:

-أ.. أنا لست قديم الإقامة في الأرجنتين.. كنا في أوروبا كلنا ولكن يرحم أمواتك.. توفى والدي بالسكتة القلبية.. ثم لحقت به والدتي بعد ستة أشهر فرحلنا عن إسبانيا وإخوتي تشتتوا هنا وهناك.

- إذن هكذا،، لذلك لم يحدث اللقاء.

- نعم.. نعم.. أما أنا فقد أخترت ذلك البلد لأن فيه الكثير من أبناء بلدي سوريا.. وقد عملت هناك في تجارة الأقمشة ،وصار لي علاقات كثيرة مع سوريين.. حتى أني تعرفت على الملحق العسكري في سفارة بلدنا قبل تركي الأرجنتين بفترة قصيرة.

- يا سيدي.. تشرفنا بمعرفتك.. الناس هنا يرحبون بكل سوري عائد إلى وطنه.. تأكد أنك ستلقى معاملة جيدة من أبناء شعبك..شعبك طيب.. يا طيب.

- طَيبَ الرب أيامك..أسعدتني وشرفتني يا محترم.

جورج سيف يلتفت إلى جليسه فجأة يتمعن في وجهه وكأنما تنبه إلى أمرغاب عن ذهنه بداية،فبادره بالسؤال:

-حضرتك سوري الأصل أم مصري؟!

كامل يرد مستهجناً السؤال:

-سوري أم مصري!! سؤال عجيب.

يتابع قوله:

- بالتأكيد أنا من سوريا.

- لاحظت في كلامك اللكنة المصرية؟

-آ..نعم.. سأشرح لك قصتي من البداية إلى اليوم.

في هذه اللحظة يتدخل ماجد لينقذ الموقف:

- تمهل قليلاَ.. قبل أن تكمل، أريد أن أعرفك بالأستاذ.. هنا السيد معزي زهر الدين.. هو ضابط بالجيش.. وفوق ذلك يكون ابن أخت اللواء عبد الكريم زهرالدين قائد الجيش، وهو رجل شريف معروف بالنزاهة والعصامية.

يقومان و يتصافحان من جديد مع الترحيب من كلا الطرفين:

- أهلاً بك.

-أهلاً وسهلاً.

لم يفته وهو يعرف بمعزي بأنه من بني معروف الذين يسكنون جبل العرب الأشم. وتستمر تلك الأمسية الساهرة،بينما يسهب كامل في شرح قصة حياته المفبركة بعد أن التقط أنفاسه وبلع ريقه المرة تلوالأخرى.

آخذاً في شرح شبه مفصل لكنه مبهم عن حياة العائلة منذ نشأته في حلب.. التي لا يعرف منها غيراسمها وبعض الأشياء الظاهرية عنها وعن تسميتها-بحلب الشهباء- :

-الحقيقة أنه قبل خروجنا من سوريا  فقد سبقنا عمي في الهجرة إلى الغرب قاصداً الأرجنتين التي قضى فيها أكثرعمره،ونحن قصدنا لبنان بداية وجربنا حظنا فيها،وبعد ذلك ذهبنا نحو الغرب.

ينظرفي الوجوه القريبة منه كأنما يبحث عن شيء ثم يتابع:

-أما الداعي أمامكم..أنا فخلال تغرّبي قد اختلطت كثيراً بالأخوة المصريين.. وكنت أتحدث معهم بلغتهم التي أحببتها، كما أني زرت مصربرفقة بعض أصحابي المصريين.. وحضرت أفلام السينما المصرية وصرت مغرماً ومتعلقاً بها.. أحببتها وعشقت مصربسبب رؤيتي الأفلام.. ونحن في سوريا لم يكن لدينا سينما.. يعني صناعة سينما مثل مصر..، فتأثرت بها مع احتفاظي بحبي الكبير لبلدي الأم ومسقط رأسي سوريا....

الفصل 9--

- الكذب ملح الرجال- هكذا قالوا.

ولئن كان الكذب في دين الإسلام جريمة فادحة حسبما سمع واطلع،أما في دينه هوفهذا ليس كذباً،فمن طبيعة مهمته أن يستتر ويخفي حقيقته من أجل الوصول إلى بغيته التي فيها خدمة شعبه، إنها مصلحة..والغاية هنا تبرر الوسيلة،ومن قال غير ذلك فقد أخطأ.

ففي سبيل القيام بوظيفته وإتمامها على أكمل وجه لا بد من أن يغطي السماوات بالقباوات إن لزم الأمر..وإنها لوظيفة ليست بالسهلة،لكنها غير ممتنعة،وحتى هذه الساعة يعتبر نفسه قد نجح نجاحاً باهراً فيما فعله..ولا ريب أن كل من التقى به قد اطمأن إليه وتقبله قبولاً مريحاً،وعلى قناعة تامة بكامل المغترب..سوري الأصل وابن حلب الشهباء..وهكذا تمرالأموربسلاسة وسهولة مع انقضاء الأيام القليلة على وجوده في الشام.

إذن عليه المتابعة والمضي في طريقه لإنجاز ما ترتب عليه من واجبات.

كان ماجد في تلك الليلة قد طلب إلى معزي أن يساعد كامل في أي حاجة يطلبها رسمية  كانت أوغيرذلك، ومنها أن يسعى في إيصاله إلى السفيرالبلجيكي السابق ( دوسان)..حيث أنه له عنده طلب....

وترك الأمر هكذا مبهماً..دون إيضاح،بالمقابل لم يكن معزي ليسأل عن الطلب طالما أن الطالب عنده..وأما ماجد فلا يعزعنه شيء.

تفرق الجمع بعد تلك الليلة الهادئة الصاخبة..المترعة بالمتناقضات..العاجة بالمترادفات المتوافقات.

غيرأن ماجد كعادته وقبيل أن يغادر الشام إلى مكان إقامته في أوروبا،إذ أوشكت مهمته على الانتهاء، فلا بد من أن يحدّث صاحبه بحكاية ختامية يقص فيها طرفاً من سيرة السفير البلجيكي السابق في دمشق وإبان عهد الوحدة السورية المصرية:

-لتعلم يا صاحبي شيئاً عن دوسان هذا السفير..لم يكن سفيراً فحسب...

-إذن ماذا عمل غير كونه سفيراً لبلده؟!

-هاها..أقلك...

-تفضل قل لي..بل أطلعني على كل شيء في هذه البلاد،أنا لدي حب استطلاع.

- أنت يا كامل لست فضولياً فقط،بل إن وظيفتك تحتم عليك معرفة كل شيء..حتى الخفايا والأسرار..أليس كذلك؟

كامل يهز رأسه بالإيجاب دون أن ينبس ببنت شفة.

- تعامل دوسان مع أجهزة أمن الإقليم الشمالي..يعني الإقليم السوري وهي التي كان يرأسها السراج..عبد الحميد السراج قبل الوحدة،ثم صار أيام الوحدة نائباً لرئيس الجمهورية..يعني أحد نواب عبد الناصر.

-نعم..وبماذا تعامل مع الأمن؟!

-أتدري؟ إنه عجيب!

-كيف؟

يطلق ناظريه من نافذة الشرفة المطلة على شارع برمانة بمبانيه الفخمة وفي نهايته من وجهة-الأمويين- القيادة العامة ورئاسة الأركان..وقد زينت جوانب الطريق أشجار الزينة المورقة صيفاً وشتاءً،وهو يسرد القصة بطلاقة مَنْ حفظها عن ظهر قلب:

- لم يكن دوسان منقطعاً لعمل السفارة وحدها..فقد أضاف إليه عملاً آخر بالتعاون مع أجهزة الأمن بوضع مدعوم من ( الريس)،ترأس  شبكة تهريب إلى لبنان،كانت الأسلحة تأتيه عن طريق ذلك الجهاز وهو بدوره مع معاونيه يقومون بتهريب الأسلحة إلى داخل لبنان دعماً للفئات المناوئة لكميل شمعون وحزبه إبان الاقتتال الطائفي الحزبي داخل لبنان في تلك الفترة.

إذ كان ديدن عبد الناصر التدخل في شؤون أي بلد عربي و له أنصار في تلك البلدان ،أما دوسان وكأنه أُشرب بالروح القومية العربية فأشرف على تلك الشبكة وعملياتها متناسياً وضعه كدبلوماسي،بل لعل الدبلوماسية قد غطت عليه وحمته مع الحماية الأمنية والعسكرية في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة،بعدما فاحت رائحة عمله ذاك،قامت حكومة بلاده باستدعائه إلى بروكسل غير أنه آثرالبقاء في سوريا حيث تم عزله من وظيفته، وقد تسارع قبوله كلاجئ سياسي بسهولة ويسر في سوريا،ولا ريب أنه استفاد مادياً جراء عمله الإضافي.

كامل ينهض بعد إنصاته للرواية ويدورفي القاعة دورتين ثم يقول:

-إذن هكذا..حقيقة أنه سفيرفوق العادة.

-أجل..هو كذلك.

- أما زال هنا؟

- قطعاً..وأين سيذهب..الشام صارت موطنه،لكني لا أعرف أين يقيم بسبب بعدي عن البلد، على كل حال معزي سيبحث عنه ويرشدك إلى مكانه، وجورج أيضاً رجل يعجبك،وكل واحد من طائفه ترى هه، سيخدمانك كثيراً..إنما عليك التحفظ واعلم من أين تؤكل الكتف،أنا أعرف أنك لا تقصرمع أحد فيدك ممدودة للخير وهداياك دائماً جاهزة.

ثم يطلق ضحكة صاخبة يشاركه فيها كامل على وتيرة أقل حده.

مثلما استقبله في المطار وجب عليه توديعه،فقد منّ عليه ماجد وسهل له طريقه.

ها هو ينطلق به وقد جعل حقيبته في صندوق المركبة الخلفي ليودعه قاعة المطار..ويظل منتظراً بعد عناقه ملوحاً له باليد أثناء الإجراءات حتى علت الطائرة فوق المدرج.

قفل عائداً لكن لم يفته أن يذهب نحو الغرب مستدركاً ما فاته من اطلاع على المطار العسكري والثكنات التي بداخله أوأحاطت به.

حتى المستشفى العسكري والمدني وثكنات الحميدية ورئاسة الأركان ومبنى-التلفاز- وأي مؤسسة رسمية لم تسلم من ساعة تصوير مثبته على معصمه.

إلى أن وصل شقته الفارهة في الحي الراقي من أحياء دمشق الآخذة في التمدد والتوسع، استقر بها ليأخذ قسطاً من الراحة بعد عناء يومين من الالتزام مع صديقه ماجد.

ها وقد غادر ماجد هذه الديار وهبط الليل فجاء دور العمل الجاد.

إذن فليجراتصالاته مع قاعدته الأصلية هناك على -أرض الميعاد- كي يطلعهم على إنجازاته خلال فترة قصيرة قضاها في البلد المجاور.

أحضر جهاز الإرسال المخبأ .. أثبته على المنضدة القائمة في قاعة الجلوس بقرب زجاج الشرفة المطلة.

ثم راح ينسج رسالته إلى الموساد:                                          (... بالنسبة للويس برونر لم أتمكن من معرفة مكانه بعد.. لكني تعرفت على شخصين أحدهما يعمل في الإذاعة وآخر ضابط في الجيش وصارت تربطني بهما علاقة وثيقة، ولسوف يبحثان عنه أو يوصلاني إلى من يعرف مقر إقامته ويرشدني إليه، مع التحفظ والكتمان على الغاية من وراء ذلك.

المقرات العسكرية أتابعها بالتسلسل وكلما سنحت الفرصة، في مقدمتها مطار المزة العسكري ومعسكرات الحميدية ورئاسة الأركان، سوف تصلكم الصور عما قريب.. وصل، حَوّل(.

أوقف الاتصال بسرعة.. أعاد جهازالاتصال الفني إلى مخبئه، تنفس الصعداء.. هذه أول رسالة يلقي بها إلى معلميه، هي مبادرة جيدة وعلى ما يبدو أن الجهاز جيد ومتطور، هو يواصل نجاحه في مهمته، إنه ليوم جيد ورائع قد انقضى .. فلينتظرالغد ليتابع العمل ويجري إتصالاته بالمعارف..ومزيد من المعارف على مستوى رفيع وبما أنه أمسك طرف الخيط فلن يفلت من يده.

قام إلى المطبخ.. يتناول ما استطاع عليه من طعام العشاء، ثم يحتسي شرابه المفضل ، وليقضي ليلة هانئة سعيدة بسبب إنجازاته حتى تلك الساعة.

الفصل – 10 -

من أولويات مهامه الحصول على  برونر،أنى وكيف له أن يجده يمكن أن يرتاد الأماكن التي قد يأوي إليها الأجانب،ليس من ريب أن الملاهي تأتي في قمة أماكن سهرهم،الطاحونة الحمراء وأخرى إلى نادي الشرق وغيرهما يتحسس فيها أخبار الرجل والمطلوب على طريقته -الدبلوماسية-،ريثما يتسنى للسيد معزي أن يتعرف على مكان إقامة السفير البلجيكي الأسبق عسى أن يكون عنده الخبراليقين.

لاغروأنه يتصل يومياً مع معزي هاتفياً في دائرة عمله، وربما يذهب إليه في مسكنه،ومن ثم يدعوه إلى شقته ليقضيا أمسية ساهرة على طيب أكلات ومشروبات فاخرة يحضرها خصيصاً عندما يهبط عليه صاحبه وصديقه اللدود معزي:

- حبيبي معزي..أما توصلت لمعرفة مقرإقامة دوسان هذا؟

- بلى عرفت..بعد طول سؤال واستقصاء.

كامل يهب من مقعده بلهفة غامرة:

-بالله عليك..قل لي من زمان.

-جاءني الخبرمتأخراً.

-وأين هو؟ لنذهب إليه الساعة.

-الآن صعب.

- لماذا؟!

- مكانه بعيد.

- بعيد!!أين؟

- في بلدة أسمها عرنة.

- وأن تقع؟

-على الطريق إلى الجولان.

- جولان..آه..يا جولان.

-مالك تتأوه..هل لك قصة معه؟!

- آه..كم لامس اسمك شفاف قلبي..إنما عن بعد.

- ستراه لاحقاً..سوف أخذك إليه عما قريب.

- ألا ليت،.لكن متى؟

معزي يشخص ببصره نحو الغرب ثم يقول:

-يوم نذهب إلى عرنة..قد قالوا بوصفها( عرنة القاعدة بالقرنة)،يومها بعد أن ننجزمهمتنا في لقاء دوسان نواصل المسير لنكمل رحلتنا إلى القنيطرة..مدينة القنيطرة،هناك الجولان وإن شئت نذهب إلى الحمة،نستحم بالمياه الكبريتية.

كامل يتنفس الصعداء مبتسما:

- أمنيتي..شكراً لك معزي الحبيب.

في لقاء آخروباعتبارأن صديقه الحميم معزي ضابط في الجيش السوري وإن تكن رتبته صغيرة إنما لديه اطلاعات لا بأس بها،فبمقدرة كامل أن يستطلع منه على أمورعسكرية ليست قليلة،لا يفتئ يسأله ومعزي لا يلبث يذهب إلى من يعرف ويأتيه بأخبار كي يكون هذا الرجل الوطني على علم جيد بأوضاع جيش بلده واستعداداته للمواجهة مع العدو!!

- أخي معزي..أنا مسرور جداً لما تحدثني به،أنا أعتز بجيش وطني،

- هذا من حب الوطن.

- وحبي للمواطنين أيضاً..أبناء بلدي لهم معزة في قلبي،وخاصة أصدقائي وحضرتك في المقدمة.

يبدوعلى معزي السرور لحد كبير:

- بكل تأكيد..وأنا أُكن لك كل محبة واحترام،كم نحن بحاجة لرجال من أمثالك يا صديقي العزيز.

لكل حديث ثمن ووراء كل معلومة قيمة هدية،يدلي بها معزي إلى صاحبه بعدما يدلي بشهادته على قوة البنية العسكرية ومعداتها وأماكن وجودها.

وهكذا صار بإمكان كامل أو -إيلي- أن يرسل إلى قيادته البصيرة!! رسالة أورسالتين كل أسبوع يشرح فيها ما استطلعه من معلومات قيمة كانت أودنية لا يقصر قي بثها مهما كانت وضاعتها أو أهميتها.. ليبرهن عن إخلاصه ويثبت إنجازاته.

يكون ذلك عندما يهبط الليل وينفرد وحده مع أجهزته في شقته تلك هي خلوة ساعة أو ساعتين تحت سقف من الراحة والطمأنينه يدبلج ما ركض وراءه أياماً لاهثا.

لا يمكن له أن ينسى معارفه أو يهمل الاتصال بهم، من هؤلاء المعارف المهمين السيد هيثم القطب ،إنه صاحب البيت المؤجر له..إنها معرفة ثمينة فقد دفع له مبلغاً مغرياً في الشقة لم يكن هيثم يحلم به من قبل،لذلك فإن الرجل يعزه معزة خاصة..لا ريب معزة المصلحة المشتركة وبالتأكيد أنه يحرص على صداقته فهو صيد ثمين لمالك العقار،وهو كامل بدوره لا بد من أن يواصل صلة الصداقة مع كل من يتعرف عليه وخاصة أصحاب المراكز الحساسة وهذا منهم، فهو موظف كبير في البنك المركزي.

ها هو يطرق باب مكتبه الفخم بالمركزي بواسطة السكرتيرالأنيق،الأستاذ هيثم ينهض من وراء مكتبه الفخم مرحباً بالضيف العزيز..يعانقه بحرارة ويشد على يده:

- أهلاً بك..أستاذ كامل.

- أهلاً بك.

يشير بيده إلى المقعد الوثير:

- تفضل هنا..اجلس بجانبي..والله شرفتنا .

- الله يزيدك شرف ويرفع درجاتك يا أستاذ هيثم.

-والقائل.

- معذرة..قد أكون أتيت في وقت غيرمناسب .

-مطلقاً..كيف غيرمناسب!!..لأ ..مناسب ونصف،بتشرفنا في أي وقت..المحل محلك.

- ياه..هيثم بك...

يبسط يديه يميناً وشمالاً وهو يقاطعه:

- على الرحب والسعة..أنت غالي جداً أخونا كامل.

- غمرتني بفضلك....

- الفضل لله.

ثم ينهض ويضمه بين ذراعيه.

- بل سأغمرك حقيقة..يا مِائة- أهلين وسهلين-.

ثم يطلق ضحكه هنية فيها شيء من التكلف،يبادله إياها كامل الصديق   العزيز بالتناوب.

كامل يفتح ما بين يديه بحجم نصف ذراع وهو يقول:

- فيه لك حاجة معي بالسيارة..هدية متواضعة.

الأستاذ هيثم يظهر تعفف كاذب:

- ما نريدك غير سالم أستاذ كامل، كل مرة تأتي بحمل،إي ثقلناها عليك ..لماذا الغلبة؟

- ما في غلبة..غلبتك راحة يا بيك.

هنا ينحني هيثم بالموضوع جانباً آخر:

- إي ..ماقلت لي أستاذي الكريم..متى سنفرح بك؟

كامل يهز رأسه بما يشبه الإيجاب وهو يتمتم:

- قريب..عما قريب.

- عسى أن البعيد يصير قريباً..موضوع من غير المجدي أن يطول.. ما عدت صغيراً..هه غداً تشيب..سنجد لك بنت الحلال....

مرة أخرى يهز برأسه بالموافقة وهو يبتذل ابتسامة باهتة مع بلع ريقه:

- صح..صحيح،شكراً لك سيدي.

- إي..يلعن الشيطان،نسينا نضيفك،ماذا تشرب؟ قهوةعربي.. حلوة..مرة..ولا كازوزة باردة..ولا الاثنين مع بعض.

- لا تغلب حالك.

هيثم يضغط الجرس وهو يقول:

-مافي شيء من واجبك.

يدخل الحاجب مع انحناءة خفيفة:

-نعم سيدي.

-هات لنا كازوز أورانج.. وبعدها قهوة.. نحن الاثنين.

- أمرك سيدي. يذهب.

ثم أن كامل يذهب بالحديث مذهباً بوجهة أخرى،فراح يسأله عن الليرة السورية وقوتها ودعمها المالي والرصيد الذهبي،عن الاستعدادات المالية لدى محافظة البنك المركزي..ووزارة المالية، وهيثم يجيب بطلاقة وأريحية عن كل ماعند البنك والوزارة من مشاريع إنتاجية على المستوى المالي الرسمي، ولا يلبث يتفاخر أن الليرة السورية تساوي ليرة وربع لبناني، وتفوق الريال السعودي بكذا مبلغاً.. إلى آخر ما عنده من كلمات يطري بها ومن ثم لا يدرأ معلومة عنده إلا ويلقي بها إلى ضيفه المكرم وذات اليد الطولى في الهدايا.

أما كامل فيطبع كل كلام يسمعه في قعرذاكرته ،مع ثنائه على المسؤولين في الدوائر المالية لما ينجزونه من أعمال مشرفة..

على حد قوله وادعائه...!!

في ختام  اللقاء الحافل يقوم هيثم لوداع صديقه الضيف بالعناق منادياً حاجبه لينقل الهدية من مركبة كامل إلى مركبته.

ينطلق كامل بدوره وكعادته تغمره فرحة متناهية..لما حصّله من معلومات ذات قيمة عالية على حد زعمه وفي قرارة نفسه، وليقضي أمسيته تلك مع جهاز الإرسال باعثاً رسائله الفنية إلى معلميه في الموساد،بما يظنه إنجازاً لم يتوصل لمثله أحد من أقرانه.

مع التأكيد على أن كل شيء عنده موثق ومصورعندما قام بجولة في أفنية وقاعات البنك الموقر أدناه، بواسطة مالك البيت الذي يسكنه والموظف الكبير في البنك.

-بنك سورية المركزي الذي يساهم مع وزارة المالية في إصدار وحماية الليرة السورية عصب حياة الدولة السورية المستقلة عن مصر مثلما دأب هو يقول في كثير من المناسبات.

الفصل - 11 -

- -هالو-.. هالو سيد جورج.

-  -هالو-.. مين معي ؟

- أنا كامل..كامل القادم من الأرجنتين.

- أهلاً..أهلاً ..أهلاً .

- أهلاً بك .

- والله نورت البلد .

- هذا من لطفك سيد جورج .

- أين أنت يا رجل ؟من ليلتها لم نعد نراك !!

- حقك عليّ .. وعلى رأسي.

- تسلم ويسلم رأسك .

- - هالو-.

- نعم ..نعم.

- طالت الغيبة مستر كامل.

- أنا بين الأيادي .

- هل سافرت ؟

- لا ..لم أسافر.

- طيب..دعنا نراك ..تفضل عندي الليلة.

- على البيت ..لا مرة ثانية.

- طيب كما تريد.

- ما رأيك غداً آتيك في الشغل.

تمامْ.. بتشرف أنا موجود لنهاية الدوام.

- إذن ..إتفقنا.. موعدنا غداً ..آراك على خير.

- وأنت من أهله.. –باي-.

- مع السلامة.

- بعدما انهى مكالمته ألقى كامل سماعة هاتف منزله المستأجر من الصديق الآخر هيثم القطب صاحب المنصب المرموق في بنك سورية المركزي.

تنفس كامل الصعداء .. ها قد ضرب موعداً مع رجل آخر هو جورج سيف وهو الآخر كان مغترباً مثله .. في الأرجنتين .. على أساس أنه هو مغترب..

يقهقه ساخراً وهو يحاكي نفسه:

- ويحك يا إيلي كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح.. هه هه ها، ذاك المسيحي جورج يعمل مقدماً لبرنامج مع المغتربين وباللغة اللاتينية أيضاً،  سوف أدخل بواسطته مبنى الإذاعة والتلفزيون.. رائع.. رائع إلياهو كوهين  ..ها قد وصلت.

في اليوم التالي استبشر كامل نهاره بالذهاب إلى سوق الحميدية الدمشقي،وهو سوق طويل ممتد يبدأ من نهاية شارع النصر وينتهي بالمسكية للقرطاسية والكتب عند باب المسجد الأموي الغربي والرئيسي .. سوق غطاه سقف مستعار شبه قوسي قد مر عليه ردح من الزمن على ذلك الحال ،راح كامل يتنقل من محل إلى حانوت باحثاً عن ملابس لائقة يُكوّن منها هدية لجورج وعائلته، ولم يفته التجول في دخلات متفرعة من السوق التاريخي الأثري، فقد وقع اختياره على سراويل ( وبلوزات - قمصان ) لزوج جورج وابنتيه الوحيدتين .. كذلك اختار لهن ملابس نسائية داخلية مضاعفة، ومجموعة منامات .. أي أطقم لباس نوم رجالي ونسائي .

ثم انتقل إلى سوق الصاغة المجاور ليبحث عن سلسال من النوع الذي يعلق على جيد المرأة وقد اختاره بدقة يتدلى من وسطه صليب ذهبي ليزين به صدر امرأة جورج سيف .

وما لبث أن انتهى ، متوجهاً شطر ساحة المرجة ،وعند الحافة الجنوبية محلات الحلويات العربية الشامية الفاخرة .. وقع اختياره على حلويات مهنا الشهيرة.. طيبة الطعم.. رائعة المذاق.. فراح يطلب ما راق له من أصناف :

- أريد كل علبة فيها٢كيلو مشكل .

- تؤمر يا أستاذ .. من أين تريد ؟

- يبدأ بقراءة اللوحات المعلقة أمام صواني الحلويات ،مبرومة.. كول وشكور .. بقلاوة.. بصمة.. بلورية ...

- حاضر.. تمام.

- أكثر من هذه الكنافة المبروم .. يبدو أنها مليئة بالفستق الأخضر.

- نعم .. كما قلت هذه ظريفة جداً .. تفضل كلْ هذه .

يتناول قطعة بقلاوة ،وهو يتابع ترتيب القطع المنمقة على شكل صفوف وطبقات لكل نوع وصنف ببراعة فائقة.

بدا كامل في القاعة البراقة ذات الترتيب عالي الجودة .. بدا أنيقاً ببدلته الزرقاء الجديدة وقميصه الأبيض الناصع وربطة عنقه الحمراء الفاقعة ،لذلك ما رآه أحد العاملين في المحل أو مر من أمامه إلا هز له رأسه أو كاد يحنيه احتراماً وتقديراً لذاته.

عند منضدة المحاسبة أخرج مئات الليرات يدفع الحساب دون سؤال عن المبلغ طالباً من المعلم أن يرسل أحد العاملين بالطلبية إلى مركبته ذات اللوحة اللبنانية الجاثمة بالقرب من المكان.

ظهر كامل أكثر أناقة وشخصية فوق العادة وهو يعطي العامل ليرات الإكرامية بعدما وضع ما يحمله في صندوق المركبة الخلفي .

انطلق إلى شارع النصر ( جمال باشا سابقاً) حيث مبنى الإذاعة القديم ليسأل عن السيد جورج، لكن  الجواب جاءه بأن جورج سيف انتقل إلى المبنى الجديد ضمن مجمع(التلفاز) بالقرب من مثلث الجمارك مطلاً على ساحة الأمويين.

تلك بغيته..تأتي من دون عناء، أسرع إلى هناك ليطلب صاحبه جورج .. مكث في الانتظار لحظات فما لبث أن جاءته السكرتيرة المتبرجة - رنا - لتصطحبه إلى مكتب رئيسها ،تفوح منها روائح العطور والمساحيق التي صبغت بها وجهها .

عندما عبرت به إلى المكتب المنشود قام جورج باستقباله بالعناق والتقبيل، طالباً له الضيافة، ثم راح يدور به كافة أقسام المبنى معرفاً إياه بكل شيء حسبما طلب كامل ، لم يفت كامل تصوير. ما راق له وطاب .

في ختام الجولة عادا إلى المكتب ليسجل جورج الأسئلة المطروحة مع كامل القادم من الاغتراب كي يحضر الأجوبة للقاء إذاعي قادم ينوي جورج إجراءه مع الصديق الذي قضى شطراً من حياته في الأرجنتين مثله هو .

عند الوداع بالعناق كما كان اللقاء أرسل برفقته الحسناء المحسنة بواسطة المساحيق أو(الماكياج) لتستلم الهدايا من كامل ، آثر كامل أن لا يعطيها كافة مشترياته  .. إنما أجل جزءاً منها لحين زيارة جورج في بيته :

- خذي هذه علبتان من الحلو وهذه الملبوسات للسيد جورج .

أودعتها في داخل مركبة جورج ثم أردف قائلاً :

- وهذه لك..علبة حلو .. وملبوسات نسائية خارجية وداخلية على قياسك ترى هه .

- شكراً لك كامل بك .

- أين ستضعينها ؟!!

- قطعاً في سيارة جورج .. فهو دائماً يركبني معه ، يوصلني بطريقه .

- لا بأس ..إذن وصلنا ، سلام ..سلمي .

- تسلم يا بيك .

في يوم جديد وعلى صعيد آخر ، بواسطة الهاتف ضرب كامل موعداً مع جورج لأجل زيارة بيتية ، تردد على السوق إلى أفخم المطاعم ليحمل معه طعام العشاء مع أصناف متعددة من الفاكهة .. من كل ما لذ وطاب .

عندما دلف قاعة بيت مضيفه حاملاً معه هداياه وطعام العشاء وفاكهة المساء دعاه جورج ليسترح قليلاً من مشقة ما حمل ، لكنه  بعد أن التقط أنفاسه سرعان ما طلب من صاحبه أن يدعو النساء ليسلم عليهن ، عند دخولهن قام بمصافحتهن واحدة تلو الأخرى ، وجورج يسميهن بأسمائهن :

- زوجتي ماريا .

- أهلاً بك ماريا العزيزة .

يتابع جورج الإشارة بيده :

- ابنتي الأولى سامية .. والثانية والأخيرة رانيا .

) - أهلين) ، مساء الخير .

يرددن معاً :

- مساء الخير ..(أهلين) فيك .

لتوه أخرج من جيب سترة بدلته السوداء الغامقة السلسال  ذات الصليب الذهبي وقام بتعليقه على جيد المرأة ماريا التي أظهرت بلباسها المبتذل أكثر مفاتن جسدها .

فما كان منها بعد ذلك إلا أن ضمت يديه بين يديها ثم قهقهت صاخبة قائلة:

- سلمت يداك كامل بيك .

أما جورج فقد أخذته العزة بالإثم فعقب على ذلك المشهد بالصياح والهياج والتصفيق حيث شاركته في ذلك ابنتيه اليافعتين :

- عاش الصليب .. يحيا المعمدان ، يا لروعة المسيح .

بعد العشاء الجماعي قام جورج إلى ثلاجته الفاخرة فجلب منها زجاجات مشروبه المفضل ، ثم ملأ الأقداح له ولضيفه وزوجه وابنتيه .. وراح يعب عباً حتى أترع جوفه ..ووصل إلى حد الثمالة ، أما كامل فقد تذكر نصيحة معلمه إبراهام عندما كان على مقعد التدريب في الأرجنتين ، بأن لا يشرب  كثيراً كيلا يهذي بما لا يدري .. فينكشف سره وتبطل مهمته ، فإن كان لا بد فالقليل القليل يكفيه .

لذلك فقد أخذ رشفتين من قدح سُير خصيصاً له .

نهض جورج يمشي متمايلاً أخذ بيد ماريا يراقصها .. ثم مال نحو كامل يشده إلى الحلبة .. فشكلوا ثالوثاً راقصاً وكامل يسايره فيما هو فيه ، بينما رديفه يهمي بطلاسم غامضة غير مفهومة ، حاولت ماريا أن تأخذه ليجلس غير أنه جذب ذراعه منها رافضاً ومواصلاً تمايله ، ثم توقف فجأة وهو يتشبث بذراعي ضيفه .. ثم صاح صاخباً :

- كامل .

- أي ..نعم .

- ما رأيك في ابنتي هاتين ؟

- مثل القمر .

- طالعات لأبيهن .

كامل يطلق ضحكة محدودة :

- لا بل لأمهن .. لماريا يا عزيزي .

- أريد أن أزوجك ..آ .. سأهديك إحداهن .. اختر واحدة .. التي تعجبك .. سامية ولا رانيا .

- كلاهما تعجباني .. وأبوهن يعجبني .. لكن ...

- لكن ماذا ؟ أعطيك واحدة فقط .

- شكراً لك صديقي الحبيب .. لكن سأفكر بالموضوع .

جورج يصخب من جديد :

- تفكر بالموضوع ..هيه .. لا يلزم التفكير ..إشرب .. إشرب ولا تفكر .

يدني القدح من شفتيه ،يحتسي كامل منه رشفة صغيرة ثم يضعه على المنضدة القريبة ، هنا تدخلت ماريا جارّة زوجها إلى المقعد القريب :

- كفى يا جورج .. كفى .

يبعد يدها عنه صارخاً :

-دعيني يا ماريا .. يجب أن نحتفي بالضيف صفقي معي .

يصفق بينما يقبل كامل ليشارك في ذلك  مجاراة له :

- أما قلت لي ؟ موافق ،لا تفكر .. لا فرق بين مسيحي ومسلم كلنا في الهوا سوا .. يمكن أن تتزوج بمسيحية ترى هه .. مسموح .

كامل يقعد بجانبه، ثم يضغط براحته على  فخذه :

- ليس هذا ما أعنيه ، لكن عندي حسابات خاصة في موضوع الزواج، إذا فكرت بالزواج ، فسوف آتي إليك طالباً إحدى كريمتيك .

على هذا النمط مضت تلك الأمسية، إلى أن غادرهم كامل بعد منتصف الليل ، وهو يقود عربته الفخمة قاصداً بيته في شارع أبي رمانة داهمته الأفكار ؛ أمامك الآن عرض سخي لِمَ لا تتزوج يا هذا من فتاة مسيحية ولو مؤقتاً  خلال وجودك في الشام ؟ .. وعندما تنتهي مهمتك وتغادرإلى موطنك يمكنك أن تزبلها .. إن دم المسيحي وماله وأيضاً نساءه حلال علينا نحن اليهود ..أليس كذلك ؟ .. ألم يشربوا دم الأب توما و عجنوا به الفطير لبني صهيون هنا بالشام وفي حارة اليهود تحديداً .

لكن ألم يعد زوجه اليهودية ناديا التي تركها مع بناتها على أرض الميعاد ألم يعدها بأن لا يتزوج غيرها خلال غيابها وأن يبقى مخلصاً لها كما وعدته هي بالإخلاص له وعدم الخيانة .. أفيكون هو خائناً ؟ .. خائناً للعهد ، وهل تدري هي عنه ما يفعل في سفره .. مثل أنه لا يدري هو عنها شيئاً في زمن البعاد والفراق .. لكنه فراق الواجب .

سيوافق .. سيوافق عما قريب ويخبرجورج بذلك .. إنما ألا يكون بذلك قد خالف التعليمات الموسادية ؟.. أما حذروه من أن يضع- ناطوراً- معه في مكان إقامته وهو مكان عمله .. يرصد حركاته وسكناته .. إذن ..هذا هو المانع ..المانع حكم الوظيفة والواجب ،وليس الإخلاص لناديا والوفاء بالوعد الذي قطعه لها على نفسه .

الفصل- ١٢-

في اليوم التالي اتصل جورج بكامل ضارباً له موعداً قريباً من أجل أن يجري معه مقابلة إذاعية تبث ضمن برنامج مع المغتربين الذي يعده ويديره هو ، مؤكداً عليه أن يُحضّر الأجوبة جيداً حسب الأسئلة المطروحة عليه مسبقاً .

غدا كامل بجدية مطلقة مكباً على تحضير الأجوبة وقد أحضر قرطاساً وقلماً ، ينظر ملياً في الأسئلة التي سوف يوجها جورج له ثم يكتب الجواب الوافي لكل سؤال على حده ، إلى أن أجاب عليها جميعاً ثم راح يعيد قراءتها المرة تلو الأخرى ، ثم وقف أمام مرآة الصيوان المثبتة على اللوح الخشبي بإطاره المنمق ذات اللون الجوزي الغامق .. راح يمثل أن جورج يطرح عليه السؤال وهو يجيب بطلاقة وإذا ما تعثر لسانه في عبارة أدركها بين السطور في يده ، حتى تيقن أنه حفظ الدرس وسينجح في الامتحان المرتقب ،فصار يستعجل الزمن أن يمضي سريعاً ليحل الموعد المضروب في – ستوديوهات - دارإذاعة دمشق ليطل منها .. لسوف يلمع نجمك يا إيلي وتصبح علماً مهماً وعلى رأسه نار وفي هذه الديار ..الأغبياء أهلها .. الحمقى سياسيوها ،سوف أضحك عليكم جميعاً يا أيها البلهاء .. لتسود الدولة العبرية وتحل محل العربية عما قريب ..ها..ها .

هكذا صار يقول ويهذي ،وهو يتراقص أمام المرآة ويطلق قهقهاته العالية.

ها هو كامل ينتظر اليوم الموعود مع جورج على أحر من الجمر، إنه يستعجل الزمن لعله يحقق شيئاً مفيداً عقب كل خطوة يخطوها أو حركة يأتي بها .

لم يطل به الوقت حتى حل موعده فانطلق سريعاً .. احتوته قاعة -استوديو- الإذاعة السورية مع صديقه جورج وفنيين آخرين يعملون معه في البرنامج، أصر كامل أن يكون جزءاً من اللقاء باللغة اللاتينية وآخر بالعربية كي يعرف الجمهور بنفسه وهو المواطن الأصيل العائد إلى وطنه وليعلن من على هذا المنبر تصفية كافة أعماله في بلاد الغربة وتسخير كافة إمكاناته المادية والعقلية في خدمة الوطن والمواطن .. هكذا راح يقول ويطنب في القول على حد زعمه ،                                                                                           أعلن ذلك على الملأ من خلال محطة إذاعة لها بعض مستمعيها ، فغالبية الناس بعد انفكاك الوحدة السورية المصرية عزفوا عنها وقاطعوها ، إذ أن صوت العرب من القاهرة وبمديرها أحمد سعيد لها الأولوية عند جماهير الشعب السوري في تلك الأونة .

وقد بدأ جورج البرنامج بمقدمة منمقة:

- ( بيننا اليوم في دمشق الأخ كامل أمين ثابت الشاب الذي هاجر من بلاده يافعاً وعاد إليها رجلاً ، يملأ قلبه حب الأرض التي ابتسم فيه لأول دفقة نور.

عاد ليعيش بين ظهرانيها ، في ظلال الحرية والعزة والقومية ، عاد إلى دمشق .. مدينة العز وقلب العروبة ، أهلاً وسهلاً أخ ثابت )

- أهلاً بك .

وفي ختام اللقاء الذي بث على أثير إذاعة دمشق شفع بأغنية - طلوا الحلوين طلوا- .

كان لتصريحات المغترب العائد إلى وطنه وكلماته المنمقة المعسولة والمغسولة بماء الوطنية الزائفة بعض الصدى في بعض الأوساط ،وبدأ تسليط الضوء على هذه الشخصية الفذة ، وتوجهت الأنظار على هذا الثري ورجل الأعمال الكبير ، إلا أنه لما يبدأ في بسط أذرع أعماله في الوطن الغالي العزيز !! على حد وصفه وقوله .

من الغداة وهو موعد بث اللقاء المرموق عبرالأثير ، تردد كامل بين وزارة التموين والتجارة الداخلية ومديريتها لاستصدار شهادة سجل تجاري .. إستيراد وتصدير ، كي يزاول تصدير الأثريات حسب جدول برنامجه المعد مسبقاً .

وكذلك كان تردده إلى بنك العالم العربي ليُفعل حسابه من أجل إستلام الحوالات  التي تأتيه باستمرار من عملاء الموساد في أوروبا ، تحت اسم أنها أمواله المودعة في الغرب ترد إليه بين الفينة والأخرى .

جرت العادة عند رجال الأعمال أن يتخذ أحدهم له محلاً تجارياً في موقع مناسب حسب سوق المهنة أو مكاتب لشركة تجارية ، أو مكتباً تجارياً استيراد وتصدير ولا يلزم الآخر أن يكون له موقعاً على شارع معين -استراتيجي -، بل يمكن أن يكون في الأدوار العليا من أي بناية .

أما كامل فلم يلجأ لمثل ذلك ، فقد اعتبر شقته السكنية هي موقعه التجاري ، وبحسب أنه عمله التجاري عملاً صورياً وليس الغاية منه الربح المادي ، إنما له أهداف سياسية ، وقد اتخذ ذلك جُنة كمثل اسمه وإسلامه الظاهري.

باعتبار أن جورج مطلع على أوضاع من اغتربوا في أمريكا اللاتينية وخاصة الأرجنتين ، وبحكم أن كامل رجل أعمال وثري في ذات الوقت ولا يقصر مع أحد مطلقاً ومنذ أن حل على ثرى الوطن فقد عرف بكرمه الحاتمي الكاملي... وببسط يده الطولى في مجالات الخير ومساعدة كل من يحتاج  أياً كان وإلى أي طائفة أو ملة ينتسب ، فقد دله على شاب كان قد سبق له أن قضى شطراً من حياته في الأرجنتين ، لكن الأيام قد تعثرت به ، وهو حالياً يرزح في البلد شبه عاطل عن العمل .

زوده جورج بعنوانه حيث أنه ليس عنده خط هاتف .

مالبث  كامل أن انطلق إلى العنوان المدون على قصاصة ورقية في أحد أطراف العاصمة دمشق ، وحسب العنوان طرق باب الدار .. خرجت إليه امرأة طاعنه في السن :

- من ؟

- أنا كامل .

شقت ضلفة الباب قائلة :

- ومن تكون .. يا سيد كامل؟!

- أنا كامل .. سوري عائد من الأرجنتين .

- وماذا تريد ؟

- هل هذا مسكن .. عمرالشيخ ؟

- نعم .. هو ابني .

- هل يمكن أن أقابله ؟

- دعه في حاله .. وضعه لا يسمح بشيء .

- يا أمي .. رجاءً .. أنا رجل أعمال .. وقد دللت عليه وأريد أن أساعده .. رجاءً دعيني أراه .

- طيب .. دقيقة سأناديه .

تركته ينتظر في الشارع على مقربة من باب البيت دون دعوته للدخول ، وهو يقول في نفسه :                                                                            - مالها الحاجة ؟! لم تقل لي ولا كلمة تفضل .. مسكينة المرأة معذورة .. يبدو أن وضعهم سيء للغاية .

دقيقتان من الانتظار حتى أطل عليه الشاب :

- مرحباً .

- - مرحبتين- .

- نعم ؟

- أحضرتك .. عمرالشيخ ؟

- نعم أنا .. أؤمر .

- الأمر لله ..أنا قادم إليك من طرف جورج سيف .. جورج سالم سيف أتعرفه ؟

أطرق قليلاً ثم أجاب:

- نعم .. تذكرته .. هو الذي يقدم في الإذاعة برنامج مع المغتربين ؟

- أيوه .. بالضبط .

- وما بغيتك ؟!

- أعرفك بنفسي .. الداعي اسمي ..كامل أمين ثابت .

- وماذا تكون ؟

صوب نظره في وجهه بدقة عندما عاد يعرف بنفسه قائلاً :

- أنا كنت مغترباً في الأرجنتين ، وقد عدت حالياً إلى بلدي الأم ،أريد أن أعمل هنا بالتجارة ، أريد شاباً يافعاً يعمل معي .. وقد أرشدني جورج إليك ،أنت مزكى من قبل الأستاذ جورج . فما رأيك دام فضلك ؟

صمت عمرهنيهة ثم أجاب ثانية :

- حقيقة .. أني حالياً بلا عمل .. لكن ...

لكنه لم يكمل كلامه  فاستدرك

كامل قائلاً :

- لكن ولا حاجة .. تعال معي .. نريد أن نجلس معاً ونتحدث ..

- أذهب معك ..!!

- نعم ..نجلس في شقتي ..أنا وحدي ..هناك نأخذ راحتنا في الكلام .

- طيب ..لحظة كي أخبر والدتي .

عمر يغيب لحظات ،يأخذ يشرح الموضوع لوالدته فتشجعه على ذلك لعله جاء الفرج .. فهو منذ عاد من الغربة الفاشلة بلا عمل .

يعود إلى كامل :

- تفضل ..أدخل نجلس هنا .

- شكراً لك ..لا عندي أفضل الشقة واسعة .. فأنا لا أريد أن أضيق عليكم

- طيب .. تفضل .. ريثما أرتدي ملابسي ..عيب تبقى هكذا في الشارع

- سوف .. أنتظرك في سيارتي .. هي هناك على الناصية .. أوبل حديثة .. ياالله. -باي-

استقلا المركبة الفخمة منطلقة بهما من شرق العاصمة إلى غربها حيث دمشق الجديدة بأبنيتها الفخمة ذات الشرفات المطلة وشوارعها الرائقة النظيفة ، طيلة الطريق راح عمر يتنقل بناظريه بين فرش المركبة الفاخر وبين شوارع المدينة بأبنيتها ومحالها .. أما أشجار الزينة النامية على جانبي الطريق فكانت تتوارى تباعاً .. يا إلهي ما أجملك يا دمشق .. كأنك قطعة من الجنة ..بل أنت جنة الله في الأرض .

وما جذبه من أحلامه وحدساته إلا صوت صاحبه الذي جعل مركبته الفارهة تنهب الأرض بسرعة زائدة قليلاً عن المعتاد :

- يا شيخ عمر .. ما حدثتنا عن غربتك في الأرجنتين ؟

- آ .. آ .. سوف أحدثك .. إنما بعد قليل ..بعد أن نصل الشقة ونجلس .

- جيد ..لا بأس ،وأنا بدوري سوف أحدثك .. هناك كلام كثير عندي .

إبان ذلك لم يفت كامل أن يعرج على أحد المطاعم الراقية كي يجلب معه طعام الغداء .. والعصير وعبوات الكولا .

لعل كل مدينة يكون غربها أجود من شرقها وهواؤها أنقى، فالموسرون يسكنون المناطق الغربية من البلد .. وكذلك شأن كامل وعلى أساس أنه رجل ثري ومغترب عائد من تلك البلاد البعيدة ، بمثل هذا يحدث عمر نفسه وهو على عتبة هذا البيت :

- تفضل يا أخ عمر .. هذه شقتي .

عمر يدلف إلى المنزل وبين يديه ظروف المشتريات :

- سلام .. أين أضعها يا أستاذ ؟

- هات .. هنا على الطاولة .

ثم أخذ يصف أطباق الطعام على منضدة توسطت القاعة الممتدة :

- هيا ..أسرع .. وأت بما يلزم من المطبخ .. أنت صرت  من أهل البيت، ترى هه.

كامل يدير أزرارالراد ثم يتابع قوله:                                                                                                                                        - هذه إذاعة دمشق..قد اقترب موعد بث بنامج مع المغتربين،                                                                                                                                                                                                                                                                    هيا يا عمر ..لنستمع إلى لقائي ونحن نتناول طعامنا .

تصدح موسيقى مقدمة البرنامج .. وصوت جورج يعلو في الإعلان عنه ، بينما يقعد الرجلان حول سفرة الطعام متقابلان ، ثم يبدآن الأكل في صمت وإنصات .

لأكثر من مرة توقف عمر الشيخ عن مديده إلى المائدة وهو يرهف السمع لتصريحات كامل الذي يقعد معه الساعة شخصياً .

عندما انتهى البث الإذاعي ذاك قام كامل يقفل الراد –المذياع- ، وتم قفل المائدة إلا من شراب وفاكهة :

- أخ عمر ..سبق وقلت أنك ستخبرني عن سبب رجوعك من الأرجنتين وها قد سمعت كل كلامي عبر الأثير .

- نعم .. نعم .. حقيقة أني كنت أدرس الطب هناك لكني بعد الانقلاب الذي حدث على حكم الجنرال - بيرون - فقد خفت على نفسي ..وعدت مسرعاً إلى سوريا .

كامل ينظر إلى عمر من طرف عينيه :

- أكنت من مؤيدي -بايرون- ؟

- تقريباً .

- إذن .. هذا هو سبب هروبك من هناك .

يقهقه ثم يعود قائلاً :

- لا بأس عليك .. فعلت خيراً ..ألم يقولوا هنا في الشام - أن الهريبة ثلثي المراجل -.

- نعم .. قالوها .

كامل يطلق تنهيدة ثم يقول :

- المهم ..موضوعنا الآن .. أنا أسعى للعمل في تجارة الأثريات والتحف القديمة وأريدك أن تعمل معي في البحث وشراء والتسوق في هذا المجال، كيف عزمك ؟

- أنا جاهز .. يمكن أن أعمل في أي شيء .

-إذن اتفقنا .

يخرج من جيبه أوراقاً نقدية متعددة يمد بها يده إلى عمر :

- تفضل يا أخي .. هذه خمسمائة ليرة .

- لماذا هذه ؟!

- هذه لك .. دفعة مقدماً .

شُده عمر وكأنما صدم للوهلة الأولى؛ إذ أن هذا المبلغ في ذلك الوقت يعادل راتب موظف لمدة شهرين كاملين :

- هذا كثير .

- لا .. ليس كثيراً على شاب محترم مثل عمر الشيخ .

يأخذها ويضعها في جيبه ببطئ :

- من الغد .. إن شاء الله .. اذهب إلى السوق وإلى البيوت وابحث  لي عن تلك الأشياء ، ولسوف أمدك بالمال اللازم من أجل ذلك .

ولم ينس كامل أن يُحمل عمرهدية للحاجة والدته .. وحمله أيضاً السلام لها.

الفصل – 13 -

منذ أن غادر عمر شقة الأستاذ كامل في المنطقة الراقية تلك،  التي أطلق عليها القصر المنيف الذي يقطنه الرجل القادم من الغرب ، خالطه شعور بأن رحمة الله قد شملته من جديد، وقد يكون في السابق ارتكب بعض المعاصي فعوقب بالعودة إلى بلده خالي الوفاض.

أسرع نحو والدته بالهدية المجزاة المرسلة لها خصيصاً من الرجل الكريم مع التحيات لها، وناولها مائة ليرة سورية نقداً بلا عد..كي  تنفرج بها  وتصرف على البيت ،ثم طفق  يحدثها عن العمل الذي ساقته السماء له، ويستشيرها فيه وكيف يفلح في هذا المجال، أرشدته الحاجة والدته أن هذه الأشياء الأثرية مما يسمونها...أطقم( شيني) أو صيني يهتم بها أهل الريف أكثر من أهل العاصمة، وخاصة ضواحي دمشق فليذهب من الغداة في ذلك الاتجاه، فكان ذلك في أول صباح.

في صبيحة ذلك اليوم دق جرس الهاتف عند كامل مبكراً :

-( هالو(.

- ( هالو..أهلين).

- كيفك كامل؟

- تمام..على مايرام.

- هل استمعت للبث الإذاعي بالأمس؟

- نعم...

-كيف؟

-تمام..تسلم الأيادي أستاذ جورج.

-تسلم..تسلم يا غالي.

-يخلي لك الغوالي.

- اسمع يا صاحبي ..هناك خبرعاجل ومهم...

كامل ينهض واقفاً وقد ارتفعت دقات قلبه:

 

- خيراً..ما هو؟!

- لاشيء..كلام أريد أن أفضي به لك.

- ما هو..قل بسرعة؟

- لا..لا ينفع على الهاتف.

- عندما تأتي لعندي سوف نتكلم براحة.

- متى آتيك.

- الساعة..أنا بانتظارك.

-طيب سآتي حالاً.. مع السلامة.

يضع سماعة الهاتف، وقد تشوش ذهنه ولم يعد يجمع أفكاره، ارتدى ثيابه ومن العجلة نسي ربطة عنقه التي ما برح يربطها حول عنقه كلما لبس بدلته الزرقاء أو السوداء.

لم ينتظر المصعد حتى يأتي بل هبط درجات سلم العمارة لاهثاً وراء استطلاع الخبر العاجل ..عسى أن يكون خيراً يا إيلي..بل قل يا كامل، يضع يده على صدره وهو يدير محرك المركبة .. مالك يا قلب؟  ماذا أصابك؟ رويدك...

بسرعة شبه جنونية قاد آليته..دقائق معدودات صار في قلب مبنى الإذاعة، فوجئ جورج بقدومه السريع:

 

- كامل...أهلاً.. ها جئت بسرعة،لم أتوقع تأتي هكذا سريعاً.

كامل يستدرك الموقف قليلاً وهو يقول:

- أهلاً بك... خفت يكون صارعندكم حاجة..فأردت أن أطمئن عليك.

- لاشيء عندنا.. سوى أنني أحببت أن نشرب قهوة الصباح معا.

يضرب الجرس  فيأتي الحاجب:

-اثنين قهوة وسط ..مع ماء،

-حاضر سيدي.

....الله يخرب بيتك يا جورج،طيرت عقلي مني.

- تفضل اجلس..مالك واقف!!؟

قال كامل بعد أن قعد:

-طيب قل تعال نشرب القهوة معاً..أقلقتني كثيراً.

ثم أردف يقول بخبث ومكر:

-أنا حريص جداً على أصحابي ..وخاصة الأستاذ جورج.

-تسلم يا حبيب.

تنفس قليلاّ من الصعداء وقد صارت الضيافة أمامهما، فأخذ قدح الماء أولاً.. يبل به ريق حلقه الذي جف من الرعب..يقوم جورج يجر مقعده فيجعله ملاصقاً لمقعد ضيفه..أخذا يحتسيان القهوة ..مال جورج على مسمع صاحبه يهمس في أُذنه بكلام غير مفهوم لأحد إن كان قريباً،وكامل يسيخ السمع جيداً، ثم أخيراً يقول بعدما سحب نفساً عميقاً:

- إي ..بسيطة.. إن كان ذلك طلبك فأنا حاضر..تكرم عينك، وكرمال عين تكرم مرج عيون.

يقول ذلك بلسانه،أما في داخل نفسه فراح يلعنه ويشتمه بأقذع الشتائم.

كامل ينهض واقفاً:

-إلى أين يا كامل؟!

-بالإذن.

-لم تكمل قهوتك. ولم نرك بعد.

-ستراني في المساء..أنا في انتظاركما..أما الآن فأنا على عجلة من أمري ..ورائي عمل...

قاطعه قائلاً بعدما نهض واقفاً:

-وما العمل؟

-عمل تجاري..ألم أخبرك بذلك..أيضاً قد وظفت عمر الشيخ معي.

-بالتوفيق يا حبيبي كامل .. ثم عانقه وهو يتابع كلامه:

-موعدنا مساءً يا صاحب.

-إن شاء الله.

احتوته نسمات الشارع التي لم يحس بها وهو يثرثر:

عليك لعنة الله أيها المسيحي النجس..يا وغد.. جبان..خائن، دمك حلال عليّ..سوف أنتقم منك عاجلاً أم آجلاً،دمرت قلبي..كدت تأخذ روحي مني ..تفوه عليك وعلى أمثالك..إنك كالكلب إن تبعته يلهث وإن تركته يلهث، قال سيأتي يسهرعندي مع سكرتيرته.. تفوه عليك يا ابن ال.. ثم فاق لنفسه فانثنى عن متابعة سبابه وشتائمه.

لتوه عاد إلى المنزل فقد أرهقه ذلك الصديق المسيحي بطريقة استدعائه، ولأي شيء لأمر تافه مثله.. الحقير يستغل سكرتيرته من أجل وظيفتها.. إنه حقير دنيء..لو استطعت أن آخذ قلبك ما توانيت عن ذلك..كدت تفلجني في هذا الصباح من أجل نزواتك الدنيئة..إخص عليك وعلى أمثالك.... أيضاً يريد أن يتعشى عندي.. ويشرب السم الهاري..يهري أمعائه..معنى ذلك أنه هو يتقاضى ثمن أية مقابلة يجريها مع مغترب.. الآن حصحص الحق...اكتشفت نفسيتك يا مدعي الصداقة والمحبة.. عاد من جديد يهذي، تفوعليك، كذلك قال: أن هذه ليست رشوة..هو لا يرتشي..إذن ماذا يا كلب؟...

عاد كامل ليسترخي قليلاً، بعدما ارتجف جسده كثيراً وكادت ساقاه تـتقصفان، فقد ظن أن أمره انكشف وجورج الصديق الوفي يريد أن يبلغه عن ذلك كي ينقذه من مأزق قد يقع فيه،وهذا ما أرعبه.. وأفقد صوابه....

أمضى ساعات من النهار في النوم، وعند العصر استفاق ليأخذ (دش) حمام دافئ.

ومع الغروب يمضي إلى السوق ليحضر طعام العشاء ..لكنه تقصد أن لايكون دسماً .

طبق حمص.. طبق فول.. علبة لبنة..وزيتون أخضرمزيت مع ربطة خبز، وزجاجة نبيذ واحدة، وهكذا يكفي الرجل صاحب البطن الأجرب وصديقته الغبية،على حد قول كامل..الصاحي الواعي..المتحزلق.

عاد ليفرش المائدة البسيطة وهو يدندن:

- (لابق لشلابق...ولأبو بريص قبقاب.(

قبيل قدوم الضيوف قام كامل بالتأكد من أن أجهزة التجسس والإرسال في مخبئها الأمين، إذ أنه لا بد من ترك صاحبه القذرهذا مع سكرتيرته المغفلة - رنا-. مُسلماً لهما الشقة من بابها إلى محرابها.. التي ليس بها محراب،هي عبارة عن ماخور.. ومرتع فجور خاصة في مثل هاك ليلة يحل فيها هذا الفاسق الفاجر.

أسرع  ليفتح باب الشقة عندما ضرب جرسها مع إنحناءة خفيفة :

- تفضلا.

- مساء الخير.

- مرحباً.

-أهلاً بكما.. في بيتكما.

يمد يده للأمام إشارة للدخول:

-اذهبي للداخل ..رنا..هناك المطبخ  خذي حريتك من أجل العشاء.

يأخذ بذراع جورج:

- تعال معي..نجلس  قليلاً في الشرفة..كي نطل على دمشق الراقية..في الليل،تفضل اجلس هنا على هذا المقعد..أيها الوغد...

- ماذا تقول؟ كامل!!

- متأسف..عفواً أستاذ جورج. كيف..تدع عائلتك وتأتي لتقضي ليلة مع صبية صغيرة!!

- هل يضرك شيء؟!

- لا..أنا لا يهمني..الضرر واقع عليك وعلى عائلتك، وعلى هذه الصبية التي تخدعها..وتستغلها.

-وما شأنك؟

-أهي ...مسيحية؟

- نعم..والدها صاحبي ..ولذلك سعيت لها بوظيفة عندي.

-ويلك..لعلها من جيل بناتك، أما تخاف إن خنت زوجتك أن تخونك بمثل ما تفعل أنت.

- ماريا قد كبرت وعجفت..قد مللت ما لنا سبيل غير ذلك،نحن لا عندنا طلاق ولا زواج بثانية مثلكم أنتم المسلمون.

-ها لو قلت لي عن ديانة رنا.. لكنت جلبت لها سلسالاً بصليب مثل ماريا.

- لا يلزم..لا تريد أن تُظهر ديانتها أثناء العمل.

كامل يصمت هنيهه ليستجمع أفكاره الدينية، ثم يقول:

-على كل حال..الحمدلله على نعمة الإسلام.

- هه... يضحك ساخراً .

- اسمع...يقول الله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام).

-مالك يا كامل..أجئت بي تلقي علي محاضرة دينية!.

- لا بل..جئت أُنذرك...أن تتق شر ما تفعل.. من أجل زوجتك وبناتك.

-بناتي نعم..أما ماريا ..هه..المسيحية كبرتها وحشة.

-زوجتك ما تزال شابة يا أستاذ.

- على فكرة... نريد نفرح بك عما قريب،نزوجك مسيحية فتية مثل رنا.

-يمكن أن أتزوج بمسيحية ..على شرط مسيحية شريفة طاهرة.

-موجود ..المهم أن تتخذ قرارك .

-سين سؤال..هل قلت لماريا أن عندك (عمل إذاعي)  ليلي؟

- قطعاً..كأنك كنت معي.

-ورنا..ماذا أخبرت عائلتها..بسبب غيابها عنهم؟

-نفس الشيء..هي في أمان عندي.

-ويلك ..من نهايتك ..قم..قم لتتعشى أنت وخليلتك، وأنا ذاهب.

يتشبث به وقد صارا في القاعة:

- تعشى معنا.

ثم ينظر إلى المائدة وبجوارها رنا، فقال باستهجان :

-ما هذا العشاء..يا كامل!؟

-عشاء خفيف..أفضل..أما الغداء فيكون دسماً..سلام..المفتاح على الباب.. مع السلامة.

ينطلق خارجاً ..في جولة على أطراف المدينة، ثم ليستقر في نهايتها على فندق متقدم يقضي فيه ليلته تلك.

الفصل – 14 –

في ضحى اليوم التالي عاد أدراجه لينظر حال شقته،بالتأكيد في مثل هذا الوقت  تكون قد خلت ممن  نزلها ليلاً.

أدار النسخة الثانية من  مفتاح بابها الخشبي جوزي اللون فوجده مقفلاً لحسن الطالع ..لم يترك سائباً ،تجول قليلاً وجد أن من واجبه أن يقوم بدور الخادم أو الشغالة للتنظيف والترتيب وإعادة كل شيء على ماكان عليه.

إبان ذلك رن جرس الهاتف فأسرع إليه، وبسبب أن أموره منذ أن حل هذا البلد تسيرإلى الأمام ونحو الأفضل فقد وجد عمر الشيخ هو المتكلم:

)-أهلين )عمر.. جئت في وقتك.

-أهلاً بك..خيراً يا بيك.

-لا بيك ولا حاجة..نحو أخوة ياعمر منذ اليوم.

- حاضر..كما تريد..شكراً لك.

-هل تعرف نجاراً؟  .

- طبعاً أعرف.

-آتني به ومعه –غال- لباب الشقة.. أبغي تبديله.

-حاضر.

- أنا بانتظارك..لا تتأخر.

- هناك أمر سيد كامل.

-عندما تأتي نتكلم،مع السلامة.

ذهب إلى الشرفة المطلة ينتظر، نهارك يا شام رائع جميل، لكنه ليس كل شيء جميل هنا..فيك شوائب وأوساخ..تعكر صفوك وهناءك، ليت كل شيء هنا مثل هذا الشارع الممتد الأنيق ،أشياء كثيرة راح يحدّث بها نفسه، سأبدل مفاتيح الشقة وأدع النسخة الأصلية القديمة مع الصاحب القديم، ها قد أكل عليه الزمن وشرب..لم يعد يلزمني.. انتهى دوره واستهلك، سوف أطوي صفحته نهائياً وأبحث عن جديد ..مصلحتي ومصلحة شعبي في الجديد.. أواه يا إيلي..إياك أن تقع في شر أخطائك فلا تلومن إلا نفسك آنذاك.

لم يدعه الطارق يسهب في حديثه الداخلي كثيراً.. فقد جاء عمر ومعه –الصنايعي- بأدواته ومستلزمات عمله:

-السلام عليكم...

- وعليكم السلام..يا أهلاً وسهلاً..تفضلوا.

بادره عمر قائلاً:

- هنا العم النجار البارع الذي طلبته.

-يا أهلاً.

-أهلاً بك.

- تفضلوا..نسقيكم شيئاً..ماذا تريدان قهوة..شاي..بارد؟       

قال الرجل:                                                                           - سلامتك..أرني العمل أولاً؟

- بسيطة يا عم.. فقط بدل لي القفل..لأن المفاتيح موجودة مع أكثر من شخص.

- حاضر ..تكرم.

الرجل ينشر عدته ليبدأ عمله.. بينما كامل يأخذ بيد عمر نحو الداخل:

-تعال معي..نرتب البيت بمعيتك.

-معية الله.. ما هذه الفوضى؟!

-سأقول لك فيما بعد.. المهم ساعدني الآن بينما ينتهي المعلم من عمله.

دقائق معدودات مضت حتى كان المعلم النجار قد أنجز عمله، فقام مناديًا:

- سيد عمر..تفضل..هاقد انتهيت من العمل.

يأتيه الشاب وبيده قدحاً من الشاي:

-خلاص..كل شيء تمام، تفضل الشاي.

-نعم..تفضل هذه المفاتيح الجديدة..،جرب قفل وفتح الباب...وهذا الغال القديم خذه احتفظ به.

بعدما قام عمر بتجربة القفل والفتح قال له:

-سلمت يداك يا عمي..عن إذنك دقيقة.

يذهب ليخبر كامل، ويأتي منه بأجرة العمل:

-خذ أعطه ما يريد وفوقها أجرة تاكسي يعود بها ،أما أنت فابق عندي.

-حاضر.

يذهب إليه:

-كم تريد يا عم؟

- بسيطة.،،خليها علينا.

- تسلم...تسلم يا عم ..قل كم تريد؟ ونحن حاضرون.الأستاذ رجل غانم.

-الأجرة مع المواد..مائة ليرة.

-تفضل..،وفوقها هذه للمواصلات..أما أنا فسأبقى هنا.

-شكراً لكم.

- مع السلامة..الله يعطيك العافية.

جلسا في الشرفة المشرفة على شارع أبي رمانة بمبانيه الفارهة الرائعة، يتملى فيه عمر الذي أتى من حي شعبي ويملي ناظريه من هذه المناظر الراقية الأخاذة وهو يحتسي الشاي مع الأستاذ الثري المغترب سابقاً الذي سكن هذه المنطقة التي لا مكان فيها للفقراء أو متوسطي الحال:

-والله القعدة حلوة هنا يا أستاذ كامل.

- أحلى الله أيامك حبيبي عمر،قطعاً الشام حلوة.

- هه..ليست كل المناطق مثل بعضها.. هذه دمشق الجديدة غير القديمة.. ألا توافقني الرأي؟

- طبعاً..طبعاً.. ونعم الرأي، لكن ما قلت لي عن أي شيء كنت تريد أن تحدثني به على الهاتف؟

-نعم..نعم..قد وجدتها؟

-من هي؟

- الأثريات التي تريدها.

-بالله عليك..هل فعلاً وجدت شيئاً؟!

-نعم..طقم من الزجاج المزخرف..شي رائع.

كامل يتهلل وجهه:

- كم سعره؟

- رخيص..ثلاث مِائَة ورقة ..بلاش ..عند الفلاحين.

يخرج أوراقاً مالية من جيب سترته:

- خذ ..هذه ألف ليرة..اذهب حالاً واشتره..ودع الباقي معك..من أجل غيره.

-طيب..أمرك.

-ولا تنس أن تجلب معك(الكراتين) المناسبة من أجل التعليب سأرسله جواًإلى أوروبا..هيا بانتظارك.

كالبرق طار وقد أخذته النشوة،سنوات مضت لم يكن يحلم فيها أن يمسك بمثل هذا المبلغ من المال.. يبدو أن أبواب الرزق فتحت أمامه مرة واحدة بعد طول شح وحرمان.

أما كامل فقد راح يبحث في مذكراته المطوية، أيُ الأشخاص يفيده؟ كي يعيد اتصالاته به بعد إغلاق صفحة جورج،لا ريب أنه معزي.. ومعزي يجب أن يكون على رأس القائمة وخاصة أنه ضابط بالجيش وإن يكن برتبة صغيرة فإن خاله برتبة لواء وقائد جيش وإنه لأمر ذو بال،

قام إلى الهاتف يطلبه في قطعته العسكرية..رد المناوب:

- من معي؟

- أنا كامل.. الملازم معزي موجود؟

- لا.. خرج في مهمة.

- هل يعود؟

- بالتأكيد.. اترك عندي رقمك.. عندما يعود أبلغه لكي يتصل بك.. على عيني.

-تسلم عينك.. سجل عندك الرقم.

يملي عليه رقم هاتفه المؤلف من خمس خانات،ثم يضع السماعة وينطلق إلى غرفة خاصة فيها أدوات تحميض -الأفلام- ليعمل على معالجة ما سبق له تصويره من مراكزعسكرية ومدنية كي يرسلها إلى مديره في جهاز الموساد.

لما تمض غير ساعات قليلة حتى راح الهاتف يرن ليخرجه من استغراقه بالعمل في الحجرة الخاصة التي لا يمكن لأحد من زواره أن يزورها أو يطلع على ما بها:

- أهلاً بك...يا مرحباً.

- كيف حالك..؟

- تمام ..بخير..كيف أنت  يا صديقي؟

-على ما يرام..اشتقت لك .. طالت غيبتك عني..عسى  أن لا تكون نسيتني.

-ولو..كيف أنساك..لكني انشغلت..حقك على رأسي.

-تسلم ويسلم رأسك.

- الله يسلمك.

- طيب..يا حبيبي..قال زورونا ولو في الشهر مرة.

-واجبك عليّ.. لا..سآتيك عما  قريب.

-متى؟

- خلال يومين ..وعندي لك مفاجأة.

- ما هي؟ قل.

-خبر سار..خليها عندما ألتقي بك.

-طيب .. كما تريد.

- إلى اللقاء.. مع السلامة                                                 ) - باي) ..مع السلامة.

بضع ساعات أخرى انقضت فضرب جرس الشقة هذه المرة، وكان القادم هو عمر..لم يكن صفر اليدين ،بل معه المطلوب من الأثريات،مما جعل عقل كامل وأساريره كذلك تطير من شدة الفرح والبهجة،مما جعله ينكب على صاحبه معانقة وضماً وتقبيلاً .

-هاي عمر.. يا سلام عليك ..ها قد أنجزت اليوم عملاً رائعاً .

- كل هذا بفضلك وفضل الله علينا، مازلنا في البداية أستاذ كامل.

- نعم..نعم..أحسنت صنعاً ،أدخل الأشياء وضعها هناك في الصالة.

صفها وسط القاعة وهي مشربيتان ومطبقيتان ومصباح زيت مشرع:

-سلمت يداك يا عمر،،هيا انطلق واجلب لنا طعام الغداء من السوق ..أنا بانتظارك.

- حاضر.

في تلك البرهة من دقائق الانتظار يجعلها كامل للتقليب بين أوراقة المغلفة بباطن حقيبته-السامسونايت- يحمل منها ورقتان رسميتان مروستا الطباعة.

ما إن تناولا معاً غدائهما حتى أشار كامل على عمر بالذهاب منذ الصباح الباكرإلى وزارة الاقتصاد لاستصدار إجازة تصدير لهذه الصفقة الصغيرة من البضاعة:

- إليك عمر..هذه  صورة عن شهادة تسجيل تاجر،عليك غداً الحصول على إجازة تصدير لهذه الأشياء وضع وصفها،وعلى هذه الورقة عنوان الشركة المصدر إليها في إيطاليا،سوف نرسلها جواً في أقرب وقت..هل تعرف الوزارة؟

- أظن أني مررت بها يوماً.. في نهاية شارع الفردوس..على كل حال أي-تاكسي -  تأخذني إليها.. طمن بالك.

عندما خلا كامل لوحده في شقته ،جلب أشرطته المصورة من الغرفة الخاصة إياها..ثم خبأها بإتقان داخل القطع الأثرية، وهو بيت القصيد.أما التعليب داخل علب - الكرتون - فأجله حتى اليوم الثاني حيث يكون عمر قد أتى بالأوراق الرسمية المطلوبة..ليتعاون معه بعملية التعليب المنشودة بعدما حصًل بغيته الرئيسية من وراء تلك الصفقة التجارية الظاهرية.

الفصل – 15 –

كل شيء تم على وجه السرعة، وخرجت البضاعة بسلام من مطار دمشق على أول رحلة ذاهبة إلى إيطاليا.

تنفس كامل الصعداء حيث أنجز مهمته على أكمل وجه، فليتفرغ الآن لغيرها.. وليرسل عمر يتابع أعماله، بينما هو يأخذ وجهته حيث تكون المصلحة.

ليس سوى أيام قليلة مضت حتى جاءه معزي على موعد مسبق ضربه معه:

-أهلاً بك حبيبي العزيز.

-أهلاً بك.

-والله زارتنا الخيرات.

-حضرتك الخير كله..سلامة خيرك يا أستاذ كامل.

كامل يشير بيده نحو المائدة:

-تفضل إلى هنا..أول شيء دعنا نأكل ..هاهو الطعام جاهز مجهز،ثم فيما بعد نتحدث.

-طيب..كما ترى.

قبل ذلك كان كامل قد أفضى إلى السوق وأحضرغداءً يليق بمقام الملازم معزي، طالما أن المصلحة متوقدة عنده وفيما حوله،منه الدجاج المشوي-بروستد - مع البطاطا ومشويات وفاكهة ومشروبات غازية. مختلف تماماً عن آخرعشاء قدمه لذلك النذل جورج...على حد وصف كامل له.

كعادة كامل إن أراد أن يتسامرمع أحد مريديه يأخذ جلسته في شرفة الشقة ،بادر قائلاً:

- هات ما عندك يا صديقي.

- أقول لك..أني بعد بحث طويل توصلت إلى شيء.

- بخصوص؟

-بخصوص برونر.

قال متلهفاً:

- هل وجدته؟

- لا...إنما عرفت من يمكن أن يعرفه ويوصلنا إليه.

همدت أنفاسه وتراخى قليلاً على الأريكة الوثيرة:

-إفتكرت.

-إنه دوسان السفير البلجيكي الأسبق.

-آ..وما علاقته بالموضوع؟

-ألم تسمع بالقول - وعند جهينة الخبر اليقين - .

قال دون اهتمام وقد قلب شفته السفلى:

-بلى..،سمعت منك الآن.

ساد الصمت برهة،لكن معزي قطعه بقوله:

-دوسان هذا ..مقيم في بلدة عرنة على سفح جبل الشيخ،في الطريق الموصل إلى الجولان.

كأن تلك الكلمات شدت انتباه كامل فعاد يسأل ضيفه:

-هل هو مقيم في تلك البلدة .. عرنة ؟

-نعم...نعم هكذا أكد لي.

-من؟

-الذي أخبرني.

- لعل برونر..هناك أيضاً.

- لا يستبعد ذلك.

- هل من رأيك أن نذهب إلى تلك البلدة .

- أحب ذلك..أنا لي أقارب هناك..حيث غالبية السكان من بني معروف..إلى جانب قلة من المسيحيين.

- جيد..متى نذهب؟

- عما قريب..حسب ظروفي ..سوف أرتب الأمر يا صاحبي.

-تسلم يا سيد معزي ..جهود مشكورة.

هكذا تم الاتفاق الشفوي المتقن بين الصديقين.

داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون أكد جورج على سكرتيرته اليافعة بطلب كامل هاتفياً:

- -هالو-.

كامل يرد على الهاتف:

- - هالو - من معي؟.

-أنا رنا من الإذاعة.

-أهلاً وسهلاً.

-أهلاً بك..الأستاذ جورج يريد أن يكلمك.

-مرحباً بك وبه ..و لكن أحب أسأل فيه عندكم سهرة.. ولا ليلة حمرا... ؟

رنا السكرتيرة..تطلق ضحكة ماجنة وهي تقول:

-أنا لا أعرف،..الأستاذ يريدك.

-حالياً أعتذر ..عندي ضيوف.. سلمي على الأستاذ..مع السلامة.

-   - باي -.

ثم يغلق الهاتف ويقعد..ليسب ويشتم.... أين أنتم يا ضيوفي.. الكذب على الكذاب مسموح...هه ها ها.

في المكتب الفخم تدني رنا من معلمها، شبه هامسة في وجهه:

-الرجل عنده ضيوف..اعتذر.

-تفه عليك يا واطي، من هم ضيوفك الآن ...من أولئك الأهم مني؟

-طول بالك أستاذ جورج..قد يكون كامل بيك مشغول...

- بلا منها  كلمة أستاذ وبيك..دعي الأسماء حاف بلا ألقاب.

- أمرك ..حاضر.

ثم يتضاحكان وكأن شيئاً لم يكن.

في ظهيرة اليوم التالي يعيد على سكرتيرته ذات الطلب،فما برحت تتعامل مع الهاتف دون جدوى:

- لا أحد يرد..الظاهر أن كامل غير موجود في البيت.

-يلعن...والله إذا ما ردعليً لأحطمه تحطيماً،

يقهقه عالياً.. ومعه السكرتيرة في تقليد أعمى تشاركه النغمة بأقل صخوبة.

-على كل حال من صباح الغد اضربي عليه باكراً قبل أن يفلت من أيدينا.

-حاضر.

وكذلك كان:

- - هالو- ...صباح الخير سيد كامل.

-صباح الفل....- أهلين – رنا.

-جورج  يريدك.

-تمام..حاضر وأنا أريده..اعطني إياه.

قالها بخبث ومكر:

- -هالو-..أهلاً حبيبي..صباح الخير.

-أين أنت؟ يا منظوم.. لا بترد ولابتطل.

-صدق إني مشتاق لك كثيراً.. لكن الظروف.

-تضرب هكذا ظروف.

-حقك علي.

- أريد أن آراك..تفضل عندي في البيت أم آتيك أنا.

-لاأنا سوف آتيك في المكتب..أفضل شيء.

- تمام...متى؟

-دون سابق إنذارستجدني أمام حضرتك،لا تجعل الحلوة تحضرالقهوة الحلوة.

يطلقان ضحكتهما من جديد.                                                                                

بهذا يكون كامل قد استدرك الموقف، لا ينفع مصلحته التي قدم هذه الديار من أجلها،سوى إرضاء الجميع ،وإن كان إرضاء الناس غاية لا تدرك...إنما بقدر المستطاع عليه أن يوازن الأمور في كل الاتجاهات ولا يغضب أحداً أياً كان ومهما بذل من جهد في سبيل ذلك.

لذا أسرع في تناول فطورخفيف ثم ارتدى ملابسه لينطلق إلى السوق، يشتري شيئاً مناسباً للزيارة فليس من المناسب ذهابه بأيد فارغة، قيل :       - أطعم الفم،تستحي العين، لا بل... يكسرعينه الوقحة.

قبيل انتهاء ساعات الدوام الرسمي،أقبل كامل على مكتب جورج معانقاً إياه ..والرجل يأخذه بالأحضان ،وفي أثناء احتساء القهوة أفضى إلى ضيفه ببغيته التي طلبه من أجلها، لكن كامل الذي تلوى المكر في باطنه وجد مخرجاً بلباقة:

- أقلك يا صاح..هذه المرة اعفني وعافني ،إن أحد الجيران قد (لطش) لي كلاماً...لعل أحداً لاحظ شيئاً ،وأنت لاتريد ولا ترضى بضرري...

إني اخشى أنه يشتكي للسيد هيثم صاحب الشقة،وأنت تعلم أنه موظف كبير في الدولة إلى جانب أنه صار صديقاً لي مثل الأستاذ جورج تماماً....وهذا غير لائق بنا جميعاً،فأرجوأن تجد مكاناً آخر في الوقت الحالي تقضي فيه نزواتك.. ريثما يمر بعض الوقت وتموت القضية في مهدها.

وبهذه التركيبة استطاع أن يتملص من صاحبه ويخرج من المأزق بسلاسة خروج الشعرة من العجينة.

عند الوداع أشار بأن معه في عربته الهدية المعتادة والتي ليست على قد مقام الصديق هذا،فكان من نصيب رنا الخروج إلى الشارع لتأخذها من بين يديه شاكرة له،  لم ينس كامل أن يقدم اعتذاره  للصبية:

-آنسة رنا..حقك محفوظ في المرة القادمة .

- شكراً لك، إذا أهديت جورج فكأنك أهديتني لا فرق بيننا، هو صديق ودود للوالد .

- ها ها..لذلك هو مهتم بك.. من أجل الوفاء ولو...(باي) .

- ( باي) أستاذي الكريم.

كامل شخصية متوقدة الذهن قوية الذاكرة ولا ريب ،لذلك هو يتنبه إلى أنه لا يكفي أن يختلط بمسيحي ودرزي، أو أشخاص علمانيين أومتحررين غير متدينين، مع ذلك لا بد له أن يختلط بالطرف الآخر.. فذهابه إلى المسجد في صلاة الجمعة يكسبه ثقة قصوى، وقد يكون ذلك من أدواته التي تغطي عليه وتحقق له بعضاً من غاياته.

هناك المسجد الراقي البناء في منتهى شارع راق هو قريب من مسكنه،إنه في منطقة المالكي وقد صلى فيه جمعة سابقة ورأى خطيبه الشاب.. ذات اللحية الخفيفة مرتدياً عباءة سوداء مزركشة بالقصب المذهب، وعلى رأسه قلنسوة بيضاء(طاقية)، لماذا لا يذهب يكرر الصلاة هناك ويقترب من الشيخ الشاب، يعرفه بنفسه وينهال عليه بمجموعة من الأسئلة الفقهية، وخاصة أن هذا الجامع كما يطلقون عليه في الشام يرتاده أيام الجمع بعض كبراء البلد ونفر من ساستها ....

في أول جمعة كان هناك بلا وضوء ولا طهارة، الطهارة طهارة الداخل وكما يقال- الضرب على القلب - هو نظيف الباطن.. طاهرالمأرب.. قد سخر نفسه لخدمة ديانته وأتباعها.

خطبة جمعة رائعة حاول كامل جاهداً أن يستمع إليها جيداً ولا يسمح لذهنه أن يشرد هنا وهناك، كذلك الصلاة التي وقف يؤديها قريباً من الإمام.

تحلق الرجال حول الإمام قريباً من المحراب ُبعيد الصلاة يسلمون عليه وكامل مندس بينهم،ثم جاء دوره ،صافحه وعرفه بنفسه على أنه كامل العائد من بلاد الغربة..إلى وطنه الغالي وهوالذي قتله الحنين إلى أرض الوطن الغالي، كل ذلك على مسمع ومرأى من المجموعة التي يبدو أنها من طبقة غيرعادية ولا شعبية.

بعد ذلك اعتذر كامل منهم بحجة أن لديه أسئلة يبغي الاستفسار عنها من الأستاذ الخطيب لينفرد به ويمسك بيده حتى مركبته حيث أصر كامل على أن يأخذ الخطيب بعربته حتى بيته في أي مكان كان..هناك تناول هديته بطرد في داخله مصحف وتمور وعطور مصراً عليه أن يتقبلها وبما أن نبي الإسلام قد قبل الهدية..فلا مناص للأستاذ من أن يقبلها من الرجل العائد إلى وطنه حباً وكرامة .

الفصل – 16 –

صباحك يا شام رائع وجميل، وكان الربيع قد أطل بهياً في شهر نيسان وأشعة الشمس بدأت ترسل خيوطها الذهبية لتجفف قطرات ندى الفجر الصادق من ذلك اليوم حيث راحت الحركة تدب في شوارع دمشق .

إذ انطلق كامل بمركبته قاصداً مكان انتظار معزي على مفرق طرق التقاء شارع النصر، مع شارع خالد بن الوليد عند ناصية ملاصقة لمقهى الحجازالشهيربالقرب من محطة الحجاز للقطارات .

قعد معزي بجوار صاحبه وقد بدا لائق المظهر ببدلته العسكرية التي آثر في مطلع هذا اليوم ارتدائها وقد بدت على كتّافتي منكبيه نجمتين لامعتين وقد غطت معظم شعر الرجل الفاتح اللون قلنسوة ضباط الجيش السوري في جبهتها شعار ونسر فضي مبطن،تناولها ليودعها على المقعد الخلفي.

مروراً بمبنى الهاتف الآلي ثم مبنى الإذاعة القديم وقصرالعدل وعودة عند مدخل سوق الحميدية من الشارع ذاته،فذلك جامع دنكز وشارع رامي النازل والسنجقدار وغيره مما يؤدي إلى ساحة المرجة مركز المدينة العامرة الآهلة،انعطافاً نحو اليمين وقد ظهر مبنى البريد الرئيسي بساحته الأمامية المرتفعة بدرجين جانبيين متقابلين وفي الجهة المقابلة وزارة الزراعة وأدنى منها مكتبات عريقة..دارالفكر ودار الفتح.. وهناك دور للسينما..ومن على جسر فكتوريا انعطافاً إلى اليسار والمطل على ضفة نهربردى الذي يخترق المدينة.. على اليمين حديقة جميلة غناء وعلى اليسار ساحات معرض دمشق الدولي،مخلفاً وراءه على زاوية الشارع الرئيسي الواصل إلى ساحة المرجة مبنى الهجرة والجوازات، وخلفه مركز المحافظة.

مواقع كثيرة مرت بها المركبة مسرعة..أه يا شام إنك مدينة جميلة ،وجمال غوطتيك الغناءتين أمر رائع ولا ريب،

راحت معالم المدينة تتوارى ومعزي يشير لصاحبه بالاتجاهات من هنا إلى هناك...

- تابع مسيرك على –أوتستراد- المزة ..المتجه غرب الشام..فبلدة عرنة هناك على طريق القنيطرة.

- أعرف يا صاحبي بعض الطرقات ..فقد مررت من هنا سابقاً.

المركبة تخترق الطرقات، ومعزي يلتفت إلى صديقه وهو يقودها:

- ألا تريد أن تسمع شيئاً عن قصة هذا الذي نذهب إليه.

- هات..حدثني.

- دوسان هذا، كان سفيراً لبلجيكا في دمشق أثناء الوحدة السورية المصرية، لقد استغل دوسان دبلوماسيته لأغراض سياسية بحته، إذ كان على صلة مع أجهزة الأمن في الإقليم الشمالي يعني سوريا ..وقد عمل على تهريب الأسلحة بسيارته الدبلوماسية إلى لبنان ويسلمها للناشطين هناك مناوئي كميل شمعون والذي كان يدعمهم الرئيس عبد الناصر في الحرب الأهلية الدائرة هناك في البلد المجاور.

الضابط الشاب يستغرق في روايته، غير أنه كلما مرا بمنطقة يقطع حديثه التاريخي ليُعرف كامل بالمناطق والبلدات:

-هذا مطار دمشق المدني،مطار المزة العسكري..البلدة الصغيرة هذه هي معضمية الشام..تلك جديدة عرطوز..وأيضاً هذه عرطوز.

لم يكن كامل يطري بشيء سوى هزات خفيفة لضيفه من رآسه،فتركيزه على القيادة وسماع الأحاديث المسلية من رفيقه.

معزي يشير بيده نحو اليمين ثم عاد يقول:

-بهذا الاتجاه بلدة قطنا وعلى مشارفها معسكرات ضخمة واستراتيجية تكمن فيها الآليات والمعدات الحربية الثقيلة المتطورة...

كامل يتوقف بمركبته على أقصى اليمين الترابي، لأن الكلمات الأخيرة أثارت عنده التنبيهات الضاغطة على ذهنه مما جعله ينحني نحو زميل دربه قائلاً بلهفه:

- وهل يمكن لنا أن نذهب من طريق قطنا كي نراها للمرة الأولى.

-بالتأكيد نذهب.. وإن تابعنا طريقنا لسوف نمرعلى شريط من البلدات فيها جماعتي من بني معروف.

- إذن ...وصلنا.

عند مدخل المعسكرات طلب معزي منه التوقف على الحراسة ويعلمهم بأنه ابن أخت قائد الجيش اللواء عبد الكريم زهرالدين، بينما لم ينثن كامل عن تشغيل آلة التصويرالسرية التي تطوق معصمه..عند المدخل وعلى طول الشريط الشائك المشبك الذي يحيط بالمعسكرات.

ثم أشارعليه بالانحدارغرباً ..هذه عيسم وتلك بقعسم وقلعة جندل وغيرها من القرى الدرزية التي يقطنها أبناء ملته في تلك السفوح الجميلة.

وصلا عرنة سريعاً في صباح رائق مزهر...إنها عرنة القاعدة في (القرنة) كما يقولون..فيها سبعة ينابيع من الماء الزلال الرقراق..وبساتين التفاح منتشرة طولاً وعرضاً..أزهارها متفتحة تنشرأريجاً معطراً مع النسمات الرطبة.

الضابط ذوالشعرالمائل للشقرة والعينان الموشحتان بالزرقة يسأل عن العنوان المدون عنده على ورقة بيضاء، لم يعيه السؤال فدوسان رجل معروف في البلدة،طرق الباب..خرج إليهم الرجل ذو السحنة الأوروبية الجلية..تفاجأ باللباس العسكري على بابه فسأل باستهجان، بالعربية وبلكنة أجنبية:

- خيراً ..،ماذا تريد؟

- صباح الخير ..مستر دوسان ..كله خير .

ثم أراه الورقة التي بيده وفيها العنوان واسم من جاء من طرفه،فعقب قائلاً:

- أهلاً بكم..وصلتم..تفضلوا.

كامل يقول:

-دقيقة واحدة .

فتح صندوق مركبته الخلفي وجاءبالطرد:

- ماذا ..ما هذا؟

في ساحة الدار ..معزي يعرف بصاحبه:

-الأستاذ كامل..كان مغترباً ،وقد اعتاد أن يقدم الهدايا لكل شخص يتعرف عليه ،وأنا اسمي معزي زهر الدين.

- شكراً..شكراً سيد كامل..شكراً معزي أفندي.

بعد احتساء العصيروقليلاً من الراحة،معزي يشرح الهدف من الزيارة ثم

يسأل عن ألويس برونر.

-ألويس...! من ألويس؟

-ألماني التجأ إلى هنا بعد الحرب العالمية.

دوسان يطرق متفكراً ثم يصوب نظراته الثاقبة نحو ضيفيه:

-هومساعد آيخمان...؟

-قد يكون.

-آيخمان اختطف وأعدم في إسرائيل، ما وراء السؤال عن مساعده؟!

كامل يتجاهل ويستنكر بالقول:

-أنا لاعلم لي بما تقول.

-على أي حال..كان اسمه هنا جورج فيشر،أسس مكتباً تجارياً بالاشتراك مع شخص ألماني وآخرسوري هوفؤاد لطيف.. وعملوا على استيراد السلاح وأمدوا به جبهة تحريرالجزائرمن الاحتلال الفرنسي.

حديث شد انتباه كامل فتحفز وشذف مسامعه:

-نعم...وماذا حدث بعد؟

-الذي حدث، انتهت الثورة الجزائرية بالتحرر..وتوقف عمل الشركة.

-وأين فيشرحالياً..أين يقيم..أهنا في عرنة؟

- على حد علمي..لم يأت عرنة مطلقاً..،لكن لا أعرف أين هو الآن.. كل ما أعرفه أنه غادر سوريا منذ فترة.

كامل يتراجع في مقعده هامداً:

- إلى أي بلد؟

- الذي يفيدكم هو شريكه السابق فؤاد لطيف..اذهب إليه قد يفيدك وقد لا يفيد.. هذا كل ما عندي ..شرفتمونا يا مرحباً بكم .

قبيل المغادرة عقّب كامل على كلامه بمكرودهاء:

-أنا سمعت عن مناصرة الرجل لثورات الشعوب لذلك جئت كي أقدم له الهدايا والمكافآت على خدمته للشعب الجزائري،من مالي ومال والدي رحمه الله فقد أوصاني قبل مغادرة هذه الدنيا أن أبذل من مالي وماله لأجل الأوطان ودعم كل الأحرار في العالم ،وحضرتك وسعادة السيد جورج فيشر في مقدمتهم.

انتهت الزيارة سريعاً بجو من الجفاف ولهجة جفاء رغم الهدية الثمينة التي ظلت في حوزة دوسان.

- ما رأيك؟ ..كأن دوسان لم يفدنا بشيء.

- مهما يكن ..هنيئاً له بالهدية..صحة وعافية.

- ليس كل شيء بثمن، هل نرجع أدراجنا إلى الشام..أم ترغب بالمتابعة نحو الغرب!

-نحو الغرب بالتأكيد نكمل يومنا..لنقضي رحلة ممتعة.. رفقتك  لها طعم لذيذ يا صديقي معزي.

-شكراً على الإطراء..عشر دقائق أُسلم على أقاربي ثم ننطلق.

-ليكن لك ذلك.

أثناء انشغال معزي بالسلام والحديث المقتضب مع أقاربه، ظل كامل ينتظره في المركبة، لم يتنبه لبعض أطفال القرية الذين تجمعوا معجبين بالمركبة الحديثة الفاخرة لبنانية اللوحة..إذ سرح مع حديث الباطن..على عكس ما قلت يامعزي أفندي كل شيء بثمن لا شيء بالمجان سوى الكلام الفارغ، ها أنا أدفع وأدفع وأنثرالمال يميناً وشمالاً من أجل الحصول على معلومات،مساكين أنتم يا أهل هذا البلد ما زلتم على البساطة،أما دوسان السفيرالسابق فإنه داهية يعلم من أين تؤكل الكتف..أظن بل أجزم أنه أخفى عنا كثيراً من الحقائق، في خضم الحديث النفسي الذي قطعه معزي عندما قعد بجانبه صاحبه..غامره إحساس بأنه في هذا اليوم سُقط في يده،فيما عدا الشريط المصور لمعسكرات قطنا الكبيرة.

ياالله ...لا تكن متشائماً يا إيلي،أنت حالياً تدوس بنعلك مرتفعات الجولان،وذاك هوجبل الشيخ لما تزل الثلوج تكسو قمته وأطرافاً من أواسطه،إنه حلم يهود ،هذه أرض الأحلام،أنت تمهد الطريق إليه لتكون سالكة أمام جحافل جيش الدفاع في غد قريب ،وهذه مدينة القنيطرة..نأخذ منها شطائر- السندويش وكازوزات الأورانج -،لنلتهمها سوياً في الطريق المنحدرة إلى حمامات الحمة بمياهها الكبريتية،مغطس المقلى..وحمام الريح وحمام البلسم الشافي،لكن الرائحة الكريهة بالنسبة لي كرائحة البيض الفاسد تزكم أنفي ولا تسعدني وإن سعد بها السائحون ورحلات النوادي وحافلات طلاب المدارس.

شيء واحد أسعدك واغتبطت به يا ابن إسرائيل هو الأشرطة المصورة للمعسكرات والتحصينات العسكرية الدفاعية والكتائب الهجومية على ثرى تلك المرتفعات وجنود كيانك ينظرون لها من الدون وفي الحضيض المنخفض ما برحوا يرزحون.

ذهب معزي ليغطس في مياه البلسم، أما هو فأنف ذلك وراح يتمشى في الأرض المنبسطة يعاين ما بها من معالم ويتفرس بما أتاها من رواد.

إجمالياً غالبية المناطق التي مر بها اليوم هي جميلة،بساتين وخضرة ومياه عذبة..لولا أنها تؤول إليك يا إسرائيل لينعم بخيراتها شعبك المميز،خواطرتدورفي داخل إيلي اليهودي المنتحل شخصية كامل العربي.

في طريق العودة إلى دمشق كان الليل قد أرخى سدوله فلا أحد يرى شيئاً سوى أضواء المركبات المعاكسة وخلفية الذاهبة أمامه،وإن تسنى  له النظرإلى السماء لرأى نجومه وقمره المنيروغيرها من المشاهد.

الفصل – 17 –

قضيا ليلتهما في منزل كامل لحضورهما المتأخر، كان عليه منذ الصباح الباكرأن يوصل معزي إلى قطعته العسكرية ومن واجب الآخيرأن يستضيفه داخل المعسكر وبالاعتبارات التي يمنحها لنفسه، مما يمكن كامل من أن يأخذ حريته في التجوال والاطلاع على كل محظور.

عاد إلى بيته ليقضي شطراً من النهار في الراحة من عناء رحلة الأمس بقدرما جمع من معلومات وقع فيها بعض المنغصات..أشياء لم ترق له ولن تعجب سادته في الموساد على خبرية دوسان بشأن ألويس برونر،إذ من مهامه البحث عنه والتخطيط لاختطافه لتتم محاكمته داخل إسرائيل.

قام إلى معمله ليعمل على سحب الأشرطة المصورة ..نذر أن لا يرد على الهاتف مهما ضرب جرسه فالمشغول لا يشغل،أما المساء فخصصه لبرقياته – اللاسلكية- مرسلة على الشيفرة الملتقطة داخل الكيان،

خلال يومين أتاه عمر بما استطاع شراءه من أثريات فعمد هو ليلاً لإخفاء أشرطته تلك في بعض المكورات كي يتم شحنها جواً في أقرب وقت.

على الطرف الآخر جاءته إجازة معزي النجم الساطع في أجواء كامل ليذهب إلى أهله في بلدته.

عند العشاء راح يحدث زوجه عن صديقه الجديد كامل المغترب الثري الكريم والذي ينفق يميناً وشمالاً دون حساب بعد عودته الميمونه والعظيمة إلى البلاد، وروى لها أيضاً رحلتهما إلى عرنة ثم إلى الجولان ومنطقة الحمة،حديث أثارفيها نباهة شديدة،فوقع الرجل في قلبها وتمنت أن يحصل بينهم نسب وقرابة فبادرت زوجها قائله:

- حبيبي معزي.

- نعم.

- ألا يمكن  لنا أن نتخذه صهراً لنا؟

- كيف؟

- نزوجه شقيقتي.

أطرق قليلاً ثم رفع رأسه ليجيبها على اقتراحها :

- نفكربالموضوع.

- ويلزم التفكير !! ماذا قالوا يا معزي..خيرالبرعاجله.

- صحيح..إنما التريث مطلوب.

- أنت تعلم أن أختي جميلة ومغرية..والرجل صديقك الصدوق..وغني وكريم ومحترم كما تصفه وأين نجد خيراً منه.

-الحقيقة أني لم أعهد شخصاً بمثل مواصفاته...لكن...

قاطعته قائلة:

-لكن ماذا يا معزي..علينا السرعة قبل أن تخطفه إحداهن من بين أيدينا.

-ما تقولينه عين الصواب..لكن لنعرف من أين نبدأ معه.

-الأمرسهل ..وإن كنت تجد صعوبة في الطرح..أذهب معك لزيارته وأنا مستعدة أن أبدأ الكلام بطريقتي .

- لا..لا...بداية دعيني أنا أمهد للأمر..ثم يمكن مرة ثانية أن تصحبينني إلى الشام..ويصبح الموضوع جد وبإذن الله نصل لبغيتنا.

وعلى هذا تم الاتفاق والترتيب بينهما.

عندما عاد معزي إلى الشام ليكون على رأس وظيفته، غدا من أولوياته الاتصال بصاحبه ليضرب معه موعداً لزيارته..مرحباً به أشد الترحيب فالبيت بيته في أي وقت شاء وطالما أن الفائدة من وراءه ليست بالقليلة.

أقبل معزي مساءً على بيت صديقه العزيزفوجدالطعام من مختلف الألوان ينتظره على مائدة الكرم الحاتمي أوالكاملي.          

بعيد الشبع وأثناء تناول الشراب صوب معزي نظراته نحو صديقه قائلاَ:

- صديقي العزيز كامل.

- نعم حبيبي معزي..أهلاً بك.

- نحن أحببناك.

-وأنا أيضاً أحببتك.

- كنت حدثت زوجتي عنك.. فدخلت في قلبها عن بعد..ودون أن تراك .

-شكراً لك ولها.

-وهي ترغب بزيارتك.

-يا مائة مرحبا.

-سنأتي لزيارتك عما قريب..هي وأختها أيضاً.

-على الرحب والسعة،إنما بشرط.

-ما هو؟!

- أن تعلمني قبل يوم كي أكون جاهزاً للاستقبال.

-وهو كذلك.

عاد كامل ليسأل عن أمريهمه وعلى رأس مهامته:

- أما بحثت عن هذا الذي اسمه فؤاد...؟

- قصدك فؤاد لطيف.

- أي نعم.

-والله أنا كنت في إجازة ذهبت بها إلى أهلي... قضيتها في البلد.. أما الآن فسوف أفرغ نفسي لهذا الغرض.

- عشت يا حبيبي معزي..ليكن في حسابك أنه أمرذات أهمية.

- وهو كذلك..تكرم عينك،

-وعينك حبيبي.

لم يوفر معزي جهداً في العمل على الصعيدين أولهما تلبية طلب حليلته والثاني طلب صديقه، فأرسل لها أن تحدد يوماً للقدوم إلى الشام في ذات الوقت راح يكثف البحث عن الرجل المطلوب مقابلته.

خلال يومين اثنين فقط انطلقت زوجه برفقة شقيقتها عبرالمواصلات إلى الشام وأول مرة ترياها ليجوب بهما أسواق دمشق الأثرية من سوق الطويل إلى الحرير إلى الحريقة إلى الحميدية والسنجقدار وساحة المرجة وغيرها إلى أن يحين الموعد في شقة كامل بالحي الجديد الراقي.

وقد آثرأن يزودهما بقطعتين من القماش عالية الجودة من الأسواق لقول المثل - إن رحت الجبل هات معك ولو حجر- لتأخذاها معهما إلى جبل العرب حيث إقامتهما الأصلية،ولم يفته أن يعرج بهما على صالة بكداش الشهيرة لتتذوقا طعم البوظة الشامية الفاخرة الممزوجة بالفستق الحلبي   .

عندما حان موعد اللقاء الميمون بين الظهيرة والأصيل قاصدين منزل كامل، قدم معزي رفيقتاه إلى صديقه مُعرفاً بزوجه سنا وأختها مها، صافح الجميع مرحباً بهم أعظم ترحيب ومحتفياً بلا نهاية وكانت مها قد وضعت شالاً على رأسها وآثرت أن تترك خصلتان من شعرها متدلية على جبينها زيادة في الإغراء.

وما برحت الاثنتان تتفحصان الشقة أكثرمن تفحصهما للرجل المضيف بداية.

أما كامل فقد أعد المائدة الفاخرة لضيوفه كما جرت عادته وهذه المرة فيها مبالغة وزيادة.

أما هداياه فقد حضرت مسبقاً ألبسة نسائية وعقدان من الماس وساعتا يد نسائية مذهبة.

تسامرالجمع وتضاحكوا وما تركوا جانباً من ما يخطرعلى بال أحدهم إلا طرقوه في أحاديثهم وطرائفهم.

حتى حل المساء وحان وقت العودة إلى الجبل ،ومن واجب كامل أن يأخذهم بمركبته إلى حيث يقصدون ،وقد آثرمعزي وزوجه أن يجلسا في المقعد الخلفي ويتركا الأمامي لمها تجاورزوج المستقبل ليتجاذب كل اثنين أطراف الحديث،

رجع معزي مع كامل ليبيت عنده ويذهب صباحاً إلى عمله،وفي الطريق طرح عليه سؤاله:

-ما رأيك بمها؟

-مها..إنها فتاة رائعة.

-هل أعجبتك ؟

-ما هذا السؤال ؟! أكيد مها بنت أمها.

-وأبوها يا كامل،هي شقيقة سنا.

-نعم..نعم،خلفة ممتازة ..سلمت يدا من خلف وربى.

ساد صمت لفترة ،قطعه معزي بقوله المفاجئ:

-كامل نحن جميعاً أحببناك ..وأنا أحب أن تكون عديلاً لي.

وقع الكلام على نفسه كالصاعقة..إذن هذا هو المقصود من وراء الزيارة، لم يطل به التفكيرحتى أجاب بذكاء:

-يشرفني يا معزي..أنتم جميعاً أحبابي..أتشرف بكم.

بذلك أحس معزي أن الأمر صار قاب قوسين أوأدنى فأحجم عن المتابعة في غمارالحديث ذاك.. وتركه لصديقه كي يبت فيه لاحقاً، ويطلب يد الفتاة مها من تلقاء نفسه.

إلا أنه بعد مسافة سيرفي الطريق أردف قائلاً بلهجة الجبل العامية:

-نحن( القسلام)كلنا إخوان.

-ما تقصد!؟لم أفهم.

-يعني نحن كلنا جميعاً مسلمون وإن تعددت طوائفنا.

- آ...هذا شيء بديهي.

أدرك كامل سبب كثرة العروض عليه، إنه ثراؤه المزعوم..الناس دائماً يسعون وراء المال،هو زينة الحياة.. ودون هذه الزينة لا تساوي الحياة شيئاً في نظرغالبية الخلق.

عله يستطيع التوفيق بين غاياته وبين الطلبات التي تحيط به من كل جانب دون أن يغضب أحداً من معارفه،أو يستاء أحد من تصرفاته .

فعمله يستوجب الحنكة والحكمة والمداراة إلى أبعد الحدود.

على الطرف الآخر راح معزي يُجدّ السعي وراء فؤاد لطيف ليصل إليه أخيراً، ويفيده بأن برونرقد ترك سوريا منذ فترة وجيزة من هذا العام غادرإلى مصر وقدلايقعد طويلاً في مصر، فالجزائرالتي عمل مع قادة ثورتها التحريرية هدف ثان له.

أقبل على كامل بهذه الأنباء الصاعقة،فأمسى وجهه مسوداً وهو كظيم، وما قضى ليلته إلا على مضض وهو يلقي إلى سادته هناك بالأخبار غير السارة .. بل المشؤؤمة عليهم.

ثم جاء قرار الموساد وبعد أن سُقط في أيديهم وفشلت مهمة إيلي تلك،العودة إلى- إسرائيل-  في إجازة قد يحدث فيها إعداد وتخطيط جديد لمهمة أوسع وأكبر، فالرجل بعد ستة شهور من السعي داخل سوريا سوى الركض قبل دخولها بحاجة لنقاهة وشحن من جديد.

غمرت قلبه فرحة مفرفحة لهذا الاستدعاء ،فلسوف يلقى بناته ويلقى ناديا التي أخلص لها وما خانها مثلما وعدها خلال غيابه عنها.

أما معزي فلم يصبرطويلاً فجاءه يجس نبضه بالنسبة للمستقبل العائلي:

- ماذا قررت يا حبيبي؟ هل ستبقى عازباً.

- كلا.

- لا مناص من الزواج.

- لا شك..ولا مهرب.

- هي..أنت قلتها بعظمة لسانك.

- أنا..دائماً لا أقول إلا الصحيح..أنت عرفتني جيداً يا صديقي.

أطلق الضابط ضحكة بانت منها أسنانه الصفراء، ثم قال وهو يشعل سيجارته:

- أصد قرارك ؟

- لمه؟

- بالنسبة لابنة حماي مها؟

حدجه بنظرة ثاقبة مع رفرفة أجفان عينيه:

- صَدّق أن الفتاة  قد دخلت قلبي..كما أنكم أنتم جميعاً في قلبي يا عزيزي، وهل يوجد في الدنيا أحد بمعزتكم ..أنت أدرى الناس بي.

- أريد حمل الجواب لزوجتي فهي تواقة أن تصبح صهرها.

أحس بحرج شديد من إصرارمعزي على انتزاع جواب منه، لكن سرعان ما صاغ مخرجاً من المأزق:

-الجواب بالإيجاب..لكن عندي سفر.

- متى؟!

- خلال يومين.

- إلى أين؟ قد فاجأتني يا حبيبي.

- إلى لبنان أولاً،فسيارتي طبّق دخولها ستة أشهر،ضروري الخروج بها وإلا صارت مخالفة،هذا من جانب وعلى الجانب الآخر..سوف أتابع إلى أوروبا لمتابعة أعمالي التجارية.

كأنما وقع في يد الضابط فإذا بملامح وجهه صارت باهته مثل بدلة العمل العسكرية التي يرتديها اليوم.

ساد صمت  قليل عندما أخذ كل واحد مقعده على أريكه مقابلة،قطعه كامل بقوله وهو يضع على شفتيه ابتسامة مصطنعة:

- نُرجئ الموضوع لحين العودة..هاعزيزي معزي.

الفصل – 18 –

حطت الطائرة في مطار روما بعد أن أودع مركبته في بيروت، ليعدي على أقرانه في إيطاليا. ويزور صديقه ماجد زوج اليهودية، وليودع جواز كامل ويصطحب جواز إيلي الذي يسافربه إلى موطنه - إسرائيل- فيلتقي بعائلته بعد غياب عنها طال،هاهي ناديا أخت الكاتب اليهودي سامي ميخائيل تستقبله مع البنات.

هاهم اليهود يفدون على- إسرائيل - من كل بقاع الأرض ومن العالم العربي فيما عدا سوريا فهناك حظرعليهم وعلى سفرهم.

متى يتمتع يهود الشام بحريتهم؟ سيأتي ذلك اليوم ولا ريب ،إيلي متأكد من ذلك طال الزمن أم قصر،أشياء كثيرة تدورفي ذهنه.. وتسري داخل نفسه مسرى الرحلة التي قدم بها من الشرق الأوسط إلى أوروبا ،ثم العودة إلى معشوقته الرابضة على أرض الميعاد التي داس ثراها لتوه .

التقى بناديا كما التقى ببناته بعد فراق، هو على العهد كما وعدها فهل خانته في غيابه، لا يدري وليس مهماً ،المهم أنه عاد إليهم سالماً غانماً بعد جولته التي خدم فيها- إسرائيل- .

أما ناديا فقد راحت تعاتب زوجها:

- قد أطلت الغياب عنا يا إيلي.

- ناديا..ماذا أعمل ..ليس بيدي.. هكذا وظيفتي.

- ولم تتصل بنا.

- الاتصال بكم أمرمتعذر..ألم يصلكم سلامي؟

- نعم..وصل.

- والمال..هل نقصكم شيء؟

- كل شيء متوفر..ويصل في وقته، لا ينقصنا إلا أنت.

- أنا أعمل في خدمة - دولة إسرائيل- وهذا شرفي.

- بل يشرفنا جميعاً يا حبيبي إيلي.

في غمرة اللقاء الحافل مع عائلته لم يكن لشريط الذكريات قدرة لملامسة أهداب ذهنه.

أما أمسيتهم فقد أقبلت صاخبة، إيلي في بيته ومع أهله على عكس شخصية كامل التي يمثلها في الشام.

شرب هو وزوجه حتى السكر وقاما يرقصان بحضرة طفلتيهما،وفي خضم الرقص والخلاعة والسفاهة يشكران ربهما على ما أغدق عليهما وأعطاهم من نصروتقدم على الحميرمن الشعوب الأخرى التى على حد زعمهم وجدت ليركبها - بنو إسرائيل- أو بنو صهيون.

في صباح اليوم التالي ضرب جرس الهاتف عدة مرات، إلى أن أفاقت عليه ناديا متثاقلة لترد متثائبة بالعبرية:

- شالوم .

- شالوم .

- من؟

- هنا الموساد..الإدارة المركزية.

- ماذا تريدون ؟

- نريد إلياهوأن يأتينا،

- هو نائم ومتعب.

- صحه..عنده - ورشة -عمل.

- أرسلوا من يأخذه..فهو مرهق من السفر.

قالتها وهي تعلم أنها كاذبة.

-  - أوكي-..دعيه يتهيأ.

- حاضر.

إيلي يجتمع مع رؤسائه، يرحبون به ويكافئونه على القيام بالمهمة التي أوكلت إليه،لكنهم يعنفونه قليلاًعلى التأخرفي الحصول على ألويس حتى أفلت من أيديهم وسافر،غير أن غالبية المعلومات والصور التي زودهم بها فهي عندهم بواسطة طيران الاستطلاع، لكن عليه في حال عودته إلى سوريا أن ينشط أكثروأن يبني علاقات أكبرمع مسؤولين وأن يأتيهم بمعلومات عسكرية جديدة، وعليه أن يحضركل يوم من أجل حضوردورة خاصة له.

أفضى إليهم بكل مالديه من معلومات وأشرطة مصورة لتشكل زوادة أخرى إضافة لما أرسله سابقاً.

في كل صباح تأتي إليه مركبة عسكرية تابعة للمخابرات كي تحمله منطلقة به إلى مبنى القيادة.

هناك يخضع لتدريبات جديدة:

-انتبه إليّ جيداً إيلي.

-نعم...

-في الوقت الحالي صرت مواطناً سورياً معترفاً به.

-صحيح.

-لتعلم أنه مكسب كبيرلنا،

-مؤكد.

-لم تعد مهمتك فقط..معلومات عسكرية وحسب وإن كانت ليست بالحقيرة.

-كنت أعلمتكم أن لي أصحاب موظف في الإذاعة وآخرفي البنك المركزي وثالث في الجيش وهو ابن أخت قائد الجيش.

-بواسطة الأخير يمكنك أن تصل إلى رتب أعلى كي نستفيد منهم أكثر،عليك أن تدخل في مفاصل الدولة ،وأن تصطحب مع سياسيين، دورك القادم أن تصل إلى منصب سياسي في الدولة.

-مثل ماذا؟!!

-مثل..وزير مثلاً.

-وزير؟!

-لا تستغرب..أنت إيلي قد ترقت رتبتك الآن عندنا، ولديك إمكانيات،وقد تكون أكثر من وزير..لا تستهن بنفسك.

-لهذا الحد!

- أنت رجل أعمال كبير..ووطني كبير..ممكن تصيررئيس دولة في قادم الأيام، وهذا ما يهمنا.. أن نجعل رؤساء الدول العربية من بني إسرائيل... وبذلك تتحقق أمانينا من الفرات إلى النيل أنت يا إسرائيل.. وهذا أقل ما يمكن.، يجب أن نستلم بلاد العرب كلها وإن لم نصل إلى ذلك الهدف كله فبعضه، ونمزق الباقي شرتمزيق، كي نسود نحن.

-سيدي قدجعلت الثقة اللامتناهية تستقرفي قلبي.

-ولِمَ لا.. أنت مؤهل لكل ذلك يا إيلي..نحن درسناك جيداً ..والدراسة تقول ذلك..وليس كلامي من فراغ.

على هذا النمط مضت المحاضرات،يتم خلالها شحن إيلي نفسياً وعقلياً ،من أجل إعداده للدورالمناط به في المستقبل لأجل دولتهم النامية.

في جلسة أخرى من جلسات التثقيف والتحديث تحت توجيهات في خط ثانٍ وموازٍ للأول:

-من الوسائل التي تسير بك في طريق النجاح.. أن تتقرب من المجموعات السياسية القوية.

إيلي يسأل للاستيضاح:

-مثل ماذا؟

-مثلاً أحزاب وجماعات سياسية يمكن لها السيطرة على البلاد في المستقبل.

-هل يمكن لي أن أنتمي إلى أحد الأحزاب؟                               - تماماً .                                                        

- يوجد في البلاد حزبين رئيسين لهما أغلبية الأعضاء في مجلس النواب وهما حزبا الشعب والوطني،كما أنهما يتبادلان السلطة الشرعية المنتخبة.

-ليس مهماً..هذا وضع مؤقت.

- وفي البرلمان بعثيون وإسلاميون ومستقلون.

- الإسلاميون لا يعنينا أمرهم..حتى لوشاركوا في حكومة.

- لماذا؟!

- هؤلاء لا وزن لهم في الجيش،المهم العسكرفالعسكردائماً يسيطرون في العالم العربي والإسلامي وهذا ما نرسم ونخطط له نحن وأصدقاؤنا في الإدارة الأمريكية، وقد تكفل العسكرالذين ينصبهم ويدعمهم الأمريكان..تكفلوا بسحق الإسلاميين مهما قويت شوكتهم في الشارع.

- هكذا إذن.

- نعم.

تابع قائلاً :

- لقد سحقهم جمال عبد الناصرسابقاً عام١٩٥٤ وسينال منهم لاحقاً إذا تمددوا ،حتى أنهم في عهد الملكية بعد عودتهم من محاربتنا على أرضنا هذه، دخلوا سجون حكومة الملك فاروق وهكذا.

- أعلم ذلك فقد كنت في مصر أنذاك.

- أما الأحزاب التقليدية التي تحكم عن طريق البرلمان ..يترأسها تجار ورجال أعمال،عندما يأتي العسكرتصطف جانباً، وهي تعتمدعلى المال وتأييدها يكون في المدن الكبرى والعاصمة،مؤيدوها يفلهم فحيح الحديد والنار ببساطة ، نحن يا حبيبي نعوّل على الأقليات المهمشة وطوائف الأرياف النائية التي يتسرب أبناؤها إلى الجيش فمثل هؤلاء يخدمون قضيتنا.

إيلي يهزرأسه بالإيجاب والموافقة بينما يتابع الرئيس محاضرته:

- اليساريون والقوميون هم من نريد أن نتغلغل في أوساطهم، حتى الناصريون رغم كثرة التأييد الشعبي لناصر، فليسوا بشيء ،غداً يذهبون كغثاء السيل، الاشتراكيون والشيوعيون،نعم،شراؤهم سهل،نحن مدعومون من أمريكا والغرب،حتى الاتحاد السوفيتي رغم الجعجعة..فهو في جانبنا،من هو كارل ماركس؟ أبوالشيوعية،هو من طينتنا..منحدر من أب يهودي وأم يهودية.

السوفييت هم من أوائل من اعترف بدولة إسرائيل،نحن صنعنا الاتحاد السوفيتي ونحن نحل عقده عندما يستنفذ أغراضه ويحين الوقت،لا تيأس من الكلام الإعلامي فهو للاستهلاك المحلي، الأنظمة الاشتراكية في الدول العربية والإسلامية تخدمنا،قد صنعها الأمريكان لغاية تحقيق مصالحهم ومصالحنا،لتواجه المد الشيوعي من جانب وتنفذ المصالح الغربية في ذات الوقت رغم العداء الظاهري للإمبرالية والاستعمار وبالشعارات الرنانة الطنانة.

- هاها..إذن كلام صاحبي ماجد في محله.

- من ماجد؟

- صديق لي ..يعمل مع وكالة المخابرات الأمريكية.

- ماذا قال؟

- مثل هذا الكلام الذي تفضلت به.

هز رأسه وأسدل أهدابه ضاحكاً:

- هؤلاء ممكن يكون عندهم علم واطلاع.

صمت قليلاً  ثم أردف قائلاً:

- على كل حال هذا الكلام سري للغاية وليس للنشر والتعميم، قلته لك فقط لتكن على دراية.

هز رأسه بالموافقة:

-حاضر سيدي،مفهوم .

يسود صمت لبرهة،الرئيس يقلب أوراقه بينما راح إيلي يتملى جيداً فيما سمعه الساعة فيخطرعلى ذهنه سؤال مُلح:

- هل تسمح لي بالسؤال؟

- قل.. اسأل ما تريد.

- هل يوجد في القيادات العربية يهود؟

قهقه وهو يقلب رأسه إلى قفاه:

- عزيزي إيلي ..هذا ماليس عندي جواب عليه.

- سيدي ولا حتى في الدول الإسلامية؟

يرد عليه بتحفظ:

- في الوقت الحالي لا أعرف، أما في الماضي فلا يخفى عليك أن من يسمى بمصطفى كمال أتاتورك في تركيا..من يهود الدونمة وقد فعل ما فعل هناك.

- صحيح..تماماً.

- أما في قادم الأيام لسنا ندري ..قد يكون.. ثم عاد يقول مقهقهاً:

- إيلي قد تكون أنت..وقد يكون لك رديف،هه هه..وكما يقول العرب-ستنبؤك الأيام بما كنت تجهله...هه هاها....- واضح خبيبي هاها.

صوب إليه نظرة ثاقبة.

- إيلي كما سبق وقلنا إغداق الهدايا والحفلات للمسؤولين إحدى وسائلك الناجعة الناجحة  كي تصل.. وتحقق أهداف إسرائيل.

- واضح سيدي،إني على استعداد تام لذلك.. وستجدونني عند حسن الظن، أنا تربيتكم.. تدربت على أيديكم، وتخرجت من عند جهاز الموساد.. إنه شرف لي العمل فيه وخدمة الدولة والشعب.

وسوم: العدد 1111