أرض الأحلام 2

الفصل - 19 –

انتهت دورة العمل كما تناهى إلى مسامعه صوت رئيسه عند الوداع يخبره بأنه الآن في إجازة مفتوحة أقصاها شهريقضيها يتمتع فيها مع أهله ويذهب أينما يشاء، حتى يحين موعد السفرلمتابعة العمل الموكل إليه،كما أعلمه بأنه سيرتفع راتبه مع ترقي رتبته،وسوف تزداد المبالغ المرسلة له من أجل تأدية الوظيفة بواسطتها.

إبان نقاهته دعي إلى حفل عائلي في أحد ملاهي-تل أبيب- ،عزفت نادياعن الذهاب معه تلك الليلةلأسباب تخصها.

في صالة الملهى أخذ يشرب ما يروق له من الخمور،ويراقص أي واحدة يختارها من بنات جنسه دون كلل،فإذا ما أحس بالتعب والدوارجلس يلتقط أنفاسه اللاهثة.

ولحسن الطالع أو سوء طالعه هو قد حضر الحفل امرؤآخرمن أصل مصري يعمل مع الموساد والمخابرات المصرية في آن واحد إنه- رأفت الهجان- الذي يحمل الاسم اليهودي الأشكانزي ( جاك بيتون ( .

فقد شد انتباهه إذ يراه للمرة الأولى، سأل عنه أحد معارفه فأجاب بأنه رجل أعمال يهودي يعمل في الأرجنتين ويتبرع كثيراً بالأموال لدولة إسرائيل،واسمه إلياهو كوهين,   

وذات يوم التقى جاك بيتون بصديقة له بزيارة لها في بيتها

اسمها ليلى وهي طبيبة،شاهدعندها صورة لامرأة ومعها طفلتين فسألها:

-من تكون هذه المرأة الجميلة؟

-هي أختي ناديا.

-أختك ..وهاتان الصغيرتان ابنتاها؟

-نعم.

-من زوجها؟

-زوجها إلياهو كوهين والمعروف بإيلي..من أصل مصري.

-ماذا يعمل؟

-يعمل في وزارة الدفاع.

-هل عندك صورة له؟

- عندي.

قامت وأحضرت صورة حديثه لعائلة إيلي جميعها:

- هذه هي.

- آ...قد رأيته..في حفل جماعي،قالوا أنه رجل أعمال مقيم في الأرجنتين ويقدم الكثير من الأموال للدولة.

- نعم..نعم..هو يعمل هناك..لكن له علاقة بوزارة الدفاع في ذات الوقت.

يضع الصورة فوق المنضدة معقباً بقوله:

- إذاً صدقوني القول.. يا دكتورة ليلى،سلمي على أختك وزوجها.

لم يكترث كثيراً للأمر ولم يعول شيئاً على كون إيلي من أصل مصري،إنما انطبعت صورته وصورة زوجه على صفحة ذهنه.

عاد بذاكرته تلقائياً إلى سنوات مضت،عندما جندته المخابرات المصرية للعمل مع منظمة الشباب اليهودي الصهيوني في الاسكندرية ويوم كان اسمه الأصلي رفعت الجمال فتحول إلى جاك بيتون، وقد سمع بهذا الاسم إلياهو كوهين وقتها دون أن يراه،وكان شخصاً معدماً فقيراً شارك في عمليات تفجير في مصرلكنه نجا من العقاب بخبثه وشيطنته،يقولون هنا أنه أصبح رجل أعمال وذا مال ومنصب أيضاً في جيش الاحتلال.

أما هو فقد اندس يومها بين الشباب اليهودي ولغاية في نفس يعقوب .

حقيقة أنه لم يشارك في التفجيرات مع تلك الشبكة التي ألقي القبض عليها فيما سميت ( قضية لافون) لكن كان له دورفي كشفها.

عرف هوعند تلك الملة اليهودية على أنه يهودي أشكانزي.وهذا ما ساعده على الاستمرارفي المهمة المناطة به ودخول دولة الاحتلال وإنشاء شركة سياحية مقرها- تل أبيب- وصارله علاقات جمة مع مسؤولين في الكيان.

تزوج من امرأة ألمانية اسمها- سي تورز فالتراد - ولها ابنة من زيجتها السابقة،وهي امرأة جميلة أُغرم الجمّال أوجاك بها.

في بداية اللعبة الخطرة التي استهوته ،وافق الجمّال الملقب بجاك بيتون على الذهاب إلى إسرائيل،لقد درس تاريخ اليهود الأوروبيين والصهاينة وموجات الهجرة إلى فلسطين، تعلم كل شيء عن الأحزاب والنقابات واتحاد العمال والاقتصاد والجغرافيا ،فأصبح خبيراً بإسرائيل وجيشها واقتصادها .

أعقب ذلك تدريباً على القتال في حالات الاشتباك والتصويربالآلات الدقيقة وتحميص الأفلام وحل شيفرات أجهزة الاستخبارات والكتابة بالحبر السري إلى آخرما يلزم من أشياء.

انتهت إجازة إيلي وأزف موعد سفره مودعاً عائلته ومودعها في كنف رعاية المخابرات،حاملاً معه مبلغاً محترماً من المال وكثيراً من التوصيات.

وصل لبنان ومنها إلى الشام ليتابع عمله وعلى وتيرة جديدة. في تلك الآونة حدثت تقلبات كثيرة في الأوضاع العامة،منها بين القيادة العسكرية وبين السياسيين والحكومة حتى أن رئيس الجمهورية السيد ناظم القدسي المعروف بعصاميته واستقامته قد استنكف عن متابعة مهامه الرئاسية.

وحل من جديد في وطنه المزعوم باسمه المزعوم كامل أمين ثابت،وكان من أولوياته إخبارمعزي وعمربعودته كي يأتياه، فأتيا إليه في وقت واحد.

استقبلهما بالترحاب وأقبلا عليه بالعناق، ليتناولوا طعام الغداء واحتساء الشاي الأحمر،بكل غبطة وسرور لعودة كامل الميمونة،معرفاً كلاهما بالآخر.

ترك الحبل على الغارب لهما ليفضيا بما عندهما، أما هو فقد آثر الصمت وإصاخة السمع لهما وإذا ما سألاه عن رحلته وعسى أن تكون موفقة فيجيب بإقتضاب:

-نعم..بحمدالله .

-إن شاءالله تجارة رابحة عزيزي كامل.

-لاشك..بالتوفيق من الله.

-وجهك منور..يبدو عليك السعادة.

-نور الله أيامك حبيبي معزي.

-والقائل..عسى أن تكون دائماً مسروراً وسعيداً.

نشر كامل على شفتيه إبتسامة عريضة:

-من يلقى أحبابه  يكون سعيداً.

-ومن هم أحبابك التي التقيت بهم؟!

-وهل سواكما أعزائي.  يتضاحك قليلاً   

ظل يجيب  بكلماته المبهمة إلى أن انفتح قائلاً:

-أقلك.

-تفضل قل ما تشاء.

عدل من جلسته وقد بدا عليه الاهتمام  والجدية وهو يقول:

-بمناسبة عودتي من أوروبا سوف أعمل حفل عشاء فاخر وأنتما على رأس المدعوين .

-شكراً لك..نأتي ،والله على راسي.

عمر يقول:

-تحت أمرك معلم.

-الأمرلله..ما يؤمرعليك ظالم..وسأعمله في أرقى مطاعم الشام أو نادي ليلي، كما ترتئيان.

معزي يشعل سيجارته وينفث أول دخانها في الهواء ثم يقول:

- أفكر في الموضوع.

-أريد منك أيضاً أن تدعوإلى الحفل معارفك من ضباط برتب عالية..وأيضاً سياسيين..قوميين..يساريين..اشتراكيين ترى أنا أحب الاشتراكيين هه.

-حاضرتكرم عيونك.

ينفث دخانه للأعلى من جديد ثم يقهقهان مع آخررشفة من آخرفنجان قهوة صنعهاعمرالشيخ للحاضرين.

انتهت جلستهم تلك قبل أن يحل المساء بالتمام والكمال.

بما أن فصل الصيف قدلامس عتبات الشام في موسمه الحالي،والمدينة العامرة مكتظة بالسكان والحافلات والمداخن والمشاغل،فليس أروع من الذهاب تجاه الوادي الأخضروادي بردى،جزء منه يتبع غوطة دمشق الغربية والتي أصبح مركزها الإداري في داريا بعدما قررالسياسيون المخضرمون والذين غالبيتهم من أبناء دمشق وحيث أن زمام الأمورواقعة في أيديهم فقد قرروا ضم الضواحي الملاصقة للعاصمة بغية توسيع الحجم وزيادة عدد السكان الذي تقارب مع مدينة حلب الشهباء القابعة في الشمال مخافة ازدياد عدد سكانها عن العاصمة الفيحاء، إذ أحسوا بتلميح من أجل نقل العاصمة إلى عروس الشمال.

وجاء يوم الجمعة فيه عطلة رسمية وشعبية وإذ بكامل على موعد مع رفيقيه للانطلاق ضمن ذلك اليوم باتجاه الوادي، أما معزي فقد كان دعا من يعرف من رتب لا بأس بها في القوات المسلحة ليلحقوا بهم صوب بلدة بلودان الراكزة على قمة أعلى جبال المنطقة .

أما هم ومعهم اثنان من المسؤولين حسب سعة مركبة كامل الفخمة قد بدأت رحلتهم من مدخل الربوة الحافلة بالمقاصف والمطاعم والمنتزهات وعلى تخومها تتفرع فروع بردى إلى عدة أنهار منها تورا ويزيد والقنوات والديراني ويتوسطها بردى الرئيسي مخترقاً وسط المدينة.

ترجل الجمع وراحوا يتجولون بين أشجارباسقة أحاطت بها أنهارمغرقة بمياه رقراقة منها في المنحدر وأخرى على طرف الجبل المحاذي للشريط الأخضرفي المقابل ووراء الطريق الرئيسي أطلت المقاصف والمطاعم من عُليها متتابعة فوق بعضها البعض بتناسق يشد إليها الأبصار ولا يستثني الألباب، دون أن ترتمي تارة على يمين الطريق وتارة على يساره أما في وسط الجبل الجنوبي قد جرى نهرمنفرد ومتطرف لوحده حتى ينتهي إلى عبّارة دخلت في بطن الجبل يجري خلالها الماء،مشهد أثار انتباه كامل ومعزي معاً مما جعلهما يسألان ويستفسران عنه،بادر كامل بالقول:

-ماهذا؟ أين يذهب كل هذا الماء.. وكيف يدخل باطن الجبل؟!!

معزي متعلق العينين فيما يشاهد:

-إنه لعجب عجاب،أول مرة في حياتي أرى هذا..مع أني مررت كثيراً من هنا

أحد الرفقاء يقول:

-لاعجب ولا حاجة..لا أظن أن الماء يبتلعه الجبل.

ثم يطلق ضحكة يشاركه البعض بها.

أما عمر فيذهب بعيداً في الإجابة لطرد العجب من سحنات الوجوه:

- أنا أعرف الحقيقة من والدي رحمه الله فقد أتيت معه ذات مرة إلى هنا..إنه أحد فروع نهر بردى وهوالمسمى بالديراني..يخترق الجبل كما ترون وتخرج مياهه من الجانب الآخر عبر نفق صغير كما ترون من جبل المزة حيث يجري خلال بساتين كفرسوسه.

حتى يصب في مجرى عريض عند ما يسمى (بمزاراللوان) ليروي بساتين وكروم داريا الشرقية أما أراضيها الغربية فتروى من نهر(الأعوج) بسبب تعرج مجراه.. وينبع ذلك النهرمن سفوح جبل الشيخ...

يتضاحك ثم يسهب في حديثه:

- على اسم عائلتنا..نحن آل الشيخ،سبق لي أن زرت داريا البلدة الضاربة في التاريخ.. قد سكنها أمراء الغساسنة قديماً كذلك أقام فيها صيفاً الخلفاء والأمراء الأمويون.. وكذلك صحابة وتابعون وعلماء كثيرون ومنهم من أتى من جزيرة العرب ومنهم من قدم من اليمن.. كان ذلك في غابرالزمان.. يبدو أنها كانت جميلة زاخرة بالأنهار والينابيع والبساتين.. وثمارالعنب فيها لا يعلوعليها وحتى يومنا هذا.

كامل يبتسم في وجه صاحبه:

- شكراً لك عمرعلى المعلومات القيمة، أما الآن فلا بد لنا من الفطور.. هيا بنا حيث نجد أي مطعم قريب، كان فطورهم السريع... فلافل وحمص وفول، ليظل طعمه تحت أضراسهم على طول.

الفصل – 20 –

ذلك هو الوادي المكتظ بالأشجارمن مختلف الأصناف وفي الوسط منه يسري الماء الزلال رقراقاً رائعاً بارداً، وفي جماله تغنى أمير الشعراء شوقي.. فوصف ما يمر به(بحوْر وحور) مشبهاً أشجارالحوْرالباسقة الكثيرة فيه مشبهاً إياها بحورالجنة مبالغة في جمالها.

على خط هذه الرحلة  قطعوا المسافة الفاصلة الواصلة بين مجموعة من بلدات ملحقة بالغوطة الغربية إلى أن انتهوا من بسيمه وعين الخضراء،نزلوا الفيجة وفيها نبع الماء المتدفق إلى وادي بردى وهي المياه الفائضة عن الخط الأثري الذي يمد العاصمة دمشق بمياه الشرب الصافية، مدالمغترب يده ليغترف فيها أول مرة في حياته فأحسها كما يقول أهل الوادي الريفي:

-باردة كالفولاذ.

في طريق رحلتهم مروا بالخط الحديدي ومر بهم القطار يصفر ويزمجر مكتظاً بالركاب،كذلك وسائط النقل المختلفة تنطلق بذلك الاتجاه ،هناك وجد الطرقات والمقاصف وضفاف النهر يعج بالخلق جاؤوا من كل حدب وصوب.

بالقرب من المسجد الذي ما وطؤوا عتبته يومها يتدفق الماء وتهب النسمات الرطبة ليختلط حفيف أوراق الشجر بخرير المياه  يشذف الآذان ويسري قشعريرة في الأبدان.

وتخيل كامل أن الشام قد خلت من السكان وأن أهلها جميعاً قد جاسوا هذه الأرض الخضراء،أحس نفسه قزماً صغيراً إزاء ذلك المشهد الميارفتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه للخلاص مما اعتلت به نفسه من حنق وحقد كبيرين.

وما أفاق مما يعتلج في داخل إيلي إلا على صوت معزي يناديه:

- أين أنت يا كامل؟

- أنا..أناهنا.

- هيا بنا..نتابع مسيرنا قبل أن يسبقنا الوقت.

-إلى أين؟

-إلى الزبداني وبلودان..هيا يا صديقي.

عاد من شروده ثم راح يتضاحك في تغطية مستترة:

-هه ها...الحقيقة أني كدت أغفو قليلاً.. الصمت قاتل يا صاحب الطريق.

الأقران يشاركونه المسيرة الضاحكه عن بلاهة فيما يسطره مكره الحازق ، يشبع النفس الخبيثة  قول معزي:

-معك حق..الرحلة طويلة ..ونحن غافلون،على كل حال لن ينسى أحد منا أن هذا يوم من أيام العمر، ولا- إيه - يا شباب؟

بالتأكيد أن الشباب مرحبون مجمعون على رؤية الضابط الذكي.

عرجوا قليلاً على بلدة مضايا المشهورة بالبضائع المهربة من لبنان انطلاقاً إلى نبع ماء آخريتدفق ماءه بارداً مثلجاً من فوهة حجرعلى شكل رأس السبع.. ماء بقين المعدني الشهيرليتزودوا منه ( بجالون ماء )،إلى سهل الزبداني ونبع بردى وزوارقه ،من هنا ابتاعوا قليلاً من تفاحها وكرزها الأحمر الريان.

علق معزي بقوله:

- نحن اقتربنا من الحدود اللبنانية.

-هل هي قريبة؟

- بعد تلك الجبال..يأتي الخط الحدودي..هذه تسمى سلسلة جبال لبنان الشرقية حسب دروس الجغرافيا.

جال ببصره هنا وهناك ثم تابع حديثه:

- من الفيجة التي فيها نبع مياه المدينة  وحتى ذاك الجبل ..منطقة تتبع إدارياً بلدة الزبداني التي نحن عندها.

صعوداً إلى بلودان عبرطريقها المتعرج حتى سطح قمة جبلها الشاهق.

للمرة الأولى في حياته كامل يرى هذه المناظرالأخاذة ..كذلك أخذت لبه مبانيها الجميلة المنسقة من خارجها ذات الجدران الحجرية .

أما معزي فكان من وظيفته أن يدل سائق المركبة على الطريق، إلى أن استقر بهم المقام في مطعم -أبو زاد- ذات الشهرة الفائقة، لم ينس معزي أن يوصي أصحابه ليصطحب كل منهم سترته:

- عند المغيب يقبل البرد..نحن في بلودان..هه على رأس جبل عالي .

يعقب عمرالشيخ:

-يقولون أن بلودان على ارتفاع ١٧٠٠م عن سطح البحر.

- ما تقوله صحيح يا عمر.

على منضدة مستطيلة اجتمع الشمل بعدما جاء بقية المدعوين، صفت أصناف الأطعمة على مائدة عامرة فاخرة طلبها المغترب الكريم ابن الكريم كامل أمين ثابت..ليتعرف من خلالها على ضباط آخرين في الجيش السوري بواسطة صديقه الحميم معزي زهرالدين.

انفض ذلك اليوم مع تلك الأمسية الحافلة ليعود الركب أدراجه

إلى المدينة الكبرى دمشق،لم يكن بوسع معزي أن ينفرد بصديق العمركي يستبين منه عن قراره الآخير بشأن مشروعه العائلي.

في وسط اليوم التالي جلس كامل وحده مستسلماً لأفكاره ..ترى هل نجحت رحلة الأمس التي كلفته مالاً وجهداً، هل حقق مكاسب؟هو ليس في نزهة هاهنا إنه في رحلة عمل،بل عمل شاق لا يستهان به ولا يستخف،حقيقة لا ينكرها..أنه سر سروراً غير قليل في نزهة الوادي والمصايف والمرتفعات والسهول بين خمائل وجداول وأنهار وواحات أشجار،قد عاين مناطق جميلة غنية بالخيرات والثمار،تمنى في قرارة نفسه أن يؤول ذلك كله إليهم ويقع في يد شعبه المختار، لكن أنى لهم ذلك، وما السبيل إليه،كيف تتحقق أحلامهم من النيل الى الفرات.. أرض دولتهم المنشودة مترامية الأطراف؟ في الوقت الحالي لا يدري أيمكن تحقيق الحلم الذي يراود قلوب كثير من أبناء يهود أم لا، ماهي ماهية مخططات الجهات العليا في الدولة وعند الحكماء سيدع كل ذلك لأهل الاختصاص،أما هو فعليه العمل ضمن مهمته واختصاصه.

لا ريب أنه حقق شيئاً بالأمس، لا يظن أن جهده المبذول يذهب عبثاً..    أما يكفي أنه تعرف على اثنين من ضباط ذوي شأن، خدمتهما الحالية في قطعات عسكرية على مرتفعات الجولان وعلى مرمى مد البصرمن جنود -جيش الدفاع-

إذن ما توصل إليه البارحة ليس بالقليل أوالضئيل،شيء مهم وذات قيمة، لسوف يسعى وراء ذلك ليحقق هدفاً سامياً له، إنها معسكرات الجبهة السورية مع خطوط التماس لدولته.

في أعقاب الرحلة الممتعة أنزل معزي قرب ساحة المرجة مع صاحبيه ،ثم انطلق ومعه عمر الشيخ ،ليدعه على ناصية بيتهم في الحي القديم:

- عمر..دعنا نراك غداً.

- حاضر..كما ترغب.

- إلى اللقاء..موعدنا غداً.

- إلى اللقاء.

بلا اتصال ودون سابق إنذار جاءه عمر يضرب جرس البيت كي يخرجه من بؤرة أفكاره المتلاطمة وأحلامه المترنحة:

- أهلاً عمر.

- سلام.

- جئت في وقتك.

قالها مجاملة في وقت كان يتمنى أن يتأخرعمربعض الوقت لعله يكمل سبحاته الباطنية:

- تفضل اجلس،

- أفضلت.

- اسألك ؟ لا تسأل عن ذنوبك كما يقول بض العوام.

يتضاحكان معاً،لعل كامل أراد أن يضفي جواً من المرح على جلستهما:

-سل ما تريد.. أنا أجيب بكل ما أعرفه وما أستطيعه.

-أبغي اقتناء بعض الكتب،أين أجدها؟

-في المكتبات...

-أعرف في المكتبات..وأين المكتبات؟

المكتبات تتجمع في المسكية آخر سوق الحميدية،وفي الحلبوني.. والمناطق القريبة منه..وأحياناً يكون في تلك المواقع بعض بسطات للكتب

-ها..وما هذا الحلبوني؟ وأين هو؟

-بسيطة، قرب محطة الحجاز للقطارات.

ثم أردف قائلاً:

-إن أحببت..قل ما تريد وأنا آتيك بالكتب التي تريد في طرفة عين يا عزيزي.

ثم يطلق ضحكة مقتضبة:

-مشكورياعمر ..لكن أنا أحب أن أتفرج على المكتبات وأقلب فيها،ثم أختار ما يحلو لي ويطيب.

-على راحتك.

-أرغب بالاطلاع على كل شيء.

-الثقافة ليست خطأ.

-بالتأكيد.

-والسياسة..أحداث الساعة واليوم؟

-أيضاً..أريد.

-إذن عليك بالصحافة،

-آتني بها.

-الجرائد اليومية،اللواء للإخوان..البعث للبعثيين..المنار وسطية يكتب فيها إسلاميون وغيرهم، اليوم تقليدية، الوحدة للناصريين، أما جريدة المساء فتصدر بعد الظهرمن كل يوم.

- هات لي تشكيلة منها.

- حاضر.. تكرم سيدي.

في صباح اليوم التالي وصلته مجموعة من الصحف اليومية على يد عميله عمر، انشغل بتصفحها والمطالعة فيها نصف النهارالأول،وما خرج إلا عند اقتراب الأصيل،خرج عندها يبحث عن منطقة الحلبوني التي تعج بالمكتبات، ولما ارتادها داخلاً إحداها وخارجاً إلى أخرى..لكن لم يجد فيها سوى كتب تاريخية ودينية وما إلى ذلك،وحتى بالمناطق المحيطة على نفس النمط، استفسرمن راعي إحدى المكتبات أين يجد كتب للبعث واليسار فدله على مكتبات يجد فيها بغيته.

خلال تجواله اكتشف في تلك المنطقة أن فيها مقر صحيفة اللواء اليومية ومجلة حضارة الإسلام الشهيرة فتأكد من أن هذه المنطقة يتمركز فيها الإسلاميون.

عندما ولاها دبره أمسى يعتلج في داخله شبح شيطان أسود حقود،فراح يسب ويلعن من أعطى هؤلاء الإسلاميين حريتهم فصار لهم منابر صحافة وإعلام،وعرضوا على واجهات مكتباتهم كتب الكتاب -المتعصبين الراديكاليين- وفي مقدمتهم الكُتاب المصريين من أبناء قطب وغيرهم، وهذا ما أثارحنقه وغضبه.

راح يهذي لوحده..هؤلاء الإخوان المسلمون، أتوا بكتائب المتطوعين من مصروسوريا والأردن والعراق وحاربونا عام ١٩٤٨ حاربوا إسرائيل..أذكر ذلك ،إنهم أشد أعدائنا، بأسهم شديد ياويلهم منا،سوف يرون ما لم يكن في حساباتهم،كل الإسلاميين سنمزقهم شرتمزيق، كي لا تقوم لهم قائمة.

في أماكن أخرى وجدها..وجد بغيته- في سبيل البعث لميشال عفلق- وآخرللرزاز وغيرها.

وفي الطريق إلى مركبته انشغل بتصفحها فانثنى عن اللعن والتقريع.

الفصل – 21 –

انكب كامل على القراءة والمطالعة،بادئاً بالصحافة اليومية ومن ثم الأسبوعية أوالشهرية.

لفت انتباهه خبر يحمل رائحة الإعلان..عن خطبة الجمعة في مسجد جامعة دمشق للداعية الإسلامي عصام العطّار فقرر لتوه التوجه في أول جمعة للصلاة هناك والحضورمبكراً، فالأمرفي غاية من الأهمية.

في غضون ذلك لم ينس مهمةً مهمة جداً ،وهي إغراق الهدايا على الضابطين الذين التقا بهما حديثاً يوم الرحلة أو - بالسيران - إلى الوادي الأخضروالغداءأوالعشاء في مطعم شهيرعلى قمة جبل بلودان،فكان ذلك من أولويات أعماله اليومية.

أسرع بانتقاء الهدايا المناسبة لكل منهما وشرائها فهما يداومان في تحصينات الجولان،مرتفعات الجولان موضوع ذو بال..شأنها كبير بالنسبة لنا.

في غاية السرعة أنجز ذاك العمل، فقد استدل على أماكن سكناهما..وتمت المهمة في ذات اليوم دون إبطاء أو تأجيل.

تنفس كامل الصعداء حين يمم شطرشقته في الشارع المرموق،فلعل مقدمات اليوم تثمروتؤتي أكلها في الغد.

أقبل يوم الجمعة سريعاً وأسرع كامل إلى موقع جامعة دمشق العريقة..دلف إلى بهو الكليات الإنسانية بعد أن وجد مكاناً لصف مركبته،راح يسأل عن مكان المسجد..أخذ أحد القادمين بيده حيث يقصد، هذا هو المسجد وسط حدائق وساحات، لم يتمكن من العبور إلى حرمه فقد غص بالناس منذ وقت مبكرعلى ما يبدو.

عندما ارتفع صوت المؤذن للظهركانت الساحات قد امتلأت بالرواد..آلاف من الشباب والرجال..وحتى عدد من النساء تواجدت في أقصى الخلفية الشمالية للمسجد.

قد هاله ما رأى،معنى ذلك أنه هناك تيار متدين متدفق، شيء أثار حفيظته الصامتة،وما عليه سوى مداراة الأمروأن لا يظهرأي شيءأوأية كلمة تنبه أحداً من الحضور إليه.

اعتلى العطارالمنبرالخشبي ،بدأ الخطابة هادئاً ،وما لبث أن ارتفع صوته بنبرات عاجية وثارت حماسته.

مواضيع متعددة طرقها في خطبته النارية، وكان للقضية الفلسطينية على حد قوله نصيب الأسد من الخطبة، والخطرالصهيوني ومجابهة -إسرائيل- واجب ديني على الأمة ، الإعداد والاستعداد ليوم قادم فالصراع قادم ومحتدم،إنها قضية الأمة العربية والإسلامية وليست قضية أهل فلسطين وحدهم...

وهكذا كان ديدنه خلال ساعة ونصف من الخطابة، إن أمرهذا الرجل عجيب،لقد تنامى حقد كامل أوبالأحرى نفسية إيلي اليهودية، لقد سمع مالم يكن يتوقعه ومالم يحسب حسابه،وتمنى لوأنه استطاع بعد انقضاء الصلاة أن يذهب إليه ويمسك بتلابيبه ويهزه هزاً حتى يسوي به الأرض.

أنّى له ذلك وكيف!!؟ ..وعلى فرض أن كوابحه أنفلتت وصدرمنه أي عمل أحمق، فماذا تكون النتيجة؟.. وما مصيره هو على آيدي آلاف الرجال المتحمسين.!!

رجع مصدوماً لا يلوي على شيء،فكأنما حلت اللعنه بكل جوارحه.

ما أفاق من اللعنات التي تأكل باطنه إلاعلى صوت صاحب الزمن معزي يخرجه من ألمه النفسي:

- مالك يا حبيبي كامل..هل نحن في مأتم!!؟

- ليس إلا...

- ابتسم من فضلك،

تضاحك مبتذلاً:

- آلا ليت.

- ماذا؟

- لم أذهب.

-إلى أين؟

- هناك في الجامعة.

-ماذا صنعت هناك!؟

-أمس الجمعة ..صليت عندهم، قد لوعني الخطيب.

-وماذا قال؟

-قد أخذنا للعصورالوسطى تألمت ونحن في عصر الذرة.

-هه..هه..لا تذهب ثانية.

-آ..على قولك.

حدجه بنظرة من طرف عينه:

-تعال لنروح عن أنفسنا..تعال نسكر.

-وهو كذلك..لنشرب..لكن دون أن نسكر.

يقهقهان بصخب.

أسبوع آخرمضى، جاءه عمريحمل إليه البشرى ببضاعة جديدة، أفرحه بها وراح قلقه.

المال الموفوريجلب كل شيء ويفعل فعله فهوعصب الحياة وما عليه سوى أن يبسط يده كل البسط حتى تنهال عليه ثمارعمله غدقاً.

لم يلبث معزي غائباً عنه، حتى يقبل عليه، يتغدى عنده ويتناول الشراب والفاكهة، ثم يحرك كوامن الحرج لديه:

-أظنك استرحت بعد السفروبعد الجولات التي أعقبت رحلتك الميمونة تلك.

-قليلاً ..قليلاً يا صاح...

- بل آراك..صرت تمام التمام..عال العال.

- عسى ذلك.

- إذن  قد جاء دوري أنا.

نظر إليه مستغرباً:

- وبماذا جاء دورك عزيزي؟!

- أنسيت؟ وهل نحن ننسى!!

- كلا..أنتم في القلب يا حبيبي.

-وابنة حماي..أهي في القلب أيضاً...

يطلق ضحكة في أعقاب كلامه..شد معه كامل للمشاركة والتضاحك:

-هه..ها..أكيد.. ها....لا بأس يا معزي.. لكني انشغلت عنكم.. حقك علي.

-والآن ماذا.. بماذا أعود إلى زوجتي؟.. هي تنتظرجواب.

تململ قليلاً.. ثم عدّل من جلسته قبل أن يستجمع بما يجيب به:

-الحقيقة... أنكم في عمق القلب.. لكن... يصمت قليلاَ:

-لكن ماذا؟!

-لم يئن الآوان بعد.

-لماذا يا كامل؟!... وهل من المعقول.. أن تبقى هكذا دون زواج...

-لا لن أبقى.. إنما هناك أوضاع خاصة.

-خاصة..كيف؟!

-قلت لك خاصة .. ولدي أعمال .. الزواج مؤجل إلى إشعارآخر.

-البنت..قد يأتي من يخطبها.

-كل شيء.. قسمة ونصيب.. ليس بأيدينا.

وهكذا تمكن الماكرالتخلص من المأزق بدهائه كما جرت عادته إذا ما وقع في مخاضة ..لا يغرق فيها.

أما علاقته مع جورج فقد تقلصت رويداً رويداً على مرالأيام حيث أن ذلك الرجل قد استنفد أغراضه بمقاييس كامل... أو إيلي الملهم.

فمهمته قد تطورت مع أناس آخرين.. وذات أهمية كبرى.

الفصل -22 –

توطدت العلاقات الجديدة بالضابطين مع الحفاظ على الصحبة الجيدة مع معزي فهو سراجه المنير إذا ما ادلهمت الدهاليز.

ليس من وظيفته أن يظل قابعاً في العاصمة يأكل طعامها ويحتسي شرابها فقد أترع بطنه مما لذ وطاب،الحركة الدائبة فيها ولا ريب إنما حركته هو بالذات تتصعد خارجها وفي محيط آخر تصبح أكثر فاعلية وأجدى نفعاً.

هناك على هضبة الجولان ..يتجلى عمله ثرياً، وطأه وبرفقة الضابط الآخرالذي أسبغ عليه من الهدايا قدرماجادت به اليد اليسرى.

قام بجولة جوالة...يجوب معسكرات وتحصينات مرتفعات الجولان المطلة على -أرض الميعاد- أرض آبائه وأجداده وموطن أترابه وأنداده الحاليين.

في هذا اليوم الحافل الزاخرتحققت أهدافه من الرحلة،اطلع على مالم يكن يحلم به..وصوَّركل شيء،وما من أحد يدري عنه شيئاً..أو يشك في نزاهة يده ونقاء سريرته..وشرف وظيفته، فكامل ابن الوطن.. الحريص عليه..مقدام في الوطنية والعروبية.

ثم عاد..وليقيم مأدبة طعام للضابطين ومعهما معزي الذي لا تفوته فائته ولا يغرب عن سحنته ضوء.

والجزاء من جنس العمل..هدايا جديدة..مجزية..مشرعة مترعة،أما إكمال دوره.. فيكون بكامل الدورة التقليدية،إخباريات للموساد بما شاهد وعاين.

وصفقة أثريات مخزنة عنده،في باطنها أشرطة مصورة،فائقة الجودة ثرية المضمون.

هو يسرح ويمرح على أرض الشام في غفلة من أهل الحل والعقد،فهم مشغولون مهمومون.

على ذلك الصعيد تتالت أحداث كثيرة من واجبه أن يراقبها ويرصد تواترها، إذ قد يكون من مصلحة-إسرائيل- الاطلاع عليها وإن كانت ليست سراً.

لم يهتم كثيراً بحكومة العظمة التقدمية والتي لم ترض عبد الناصر،أما الحكومة الائتلافية التي شكلها خالد العظم الليبرالي بتكليف من رئيس الجمهورية بعد عودته لممارسة مهامه الرسمية،ضمن صراعات بين القيادة العسكرية برئاسة عبد الكريم النحلاوي قائد انقلاب الانفصال وبين بعض السياسيين.

مما أثارحفيظته وتيقظه مشاركة الإسلاميين في تلك الحكومة الأخيرة بثلاث حقائب، وهذا يعني في نظره، تنامي نشاطهم  وأثرهم في المجتمع، أمر لا يروق له ولا لسادته.

كان ذلك في الشهرالتاسع من ذات السنة.

غيرأن معركة بين فصيل من الجيش السوري وجيش- الدفاع  الإسرائيلي- المتقدم داخل الخط الفاصل..أدهشته نتائجها..ثم أغضبته من داخله،لكنه كتم غيظه..وكأنه ما من شيء يهمه قد حدث، حفاظاً على مهمته القصوى وأهدافه العليا التي وطأ هذه الأرض من أجلها.

بعد ذلك بفترة وجيزة سمع من أقرانه العسكريين أن النحلاوي قام بما يشبه حركة انقلابية أخرى،أدت إلى خروجه من القيادة، ومن ثم كان خروجه من البلاد نهائياً وإلى غيررجعة.

عندما خلا بنفسه في شقته الميمونة ضحك كثيراً من ذلك الحدث الغريب الفريد.

إنما الانشقاق في حزب البعث فليس ذات قيمة في نظره،إذ خرج منه الحوراني ليعود إلى حزبه القديم بمجموعته مخلفاً وراءه عفلق والبيطارعلى رأس البعث الاشتراكي.فليختلفوا كما يحلوا لهم..- وفخار يكسر بعضه-.

استمريؤدي وظيفته على تلك الوتيرة، والبلاد بين أخد وجذب حتى دخل شهر آذار من عام ١٩٦٣ .

وحدث الانقلاب على الانفصال بما سمي ثورة الثامن من آذار،قادهاضباط بعثيون ومعهم آخرون ناصريون. شعارها البارز..وحدة..حرية..اشتراكية.كذلك ارتفعت قولة:

-اسحقوهم حتى العظم.

بمعنيين...اسحقوهم حتى عظم الجسم واسحقوهم حتى الوصول إلى رئيس الوزراء الأسبق خالد العظم،ضمن الحملة الشعواء على رموزالعهد البائدعهد الانفصال والرجعية،والعصراليوم هوللتقدميين.

على مدى أيام راح يستطلع الوضع والأسماء ،في اليوم التالي ليوم الانقلاب تشكلت الحكومة برئاسة صلاح الدين البيطاروهو من الدمشقيين، تلاه مجلس الرئاسة برئاسة لؤي الأتاسي الحمصي وهما على أساس أنهما من أهل السنة ومعهم نفرمن ملتهم لكنهم جميعهم بعثيون وفيهم ناصريون.

كذلك بينهم علويون ودروزمن العسكريين، المهم ليس فيهم إسلاميون وهذا ما أراح قلبه.

جميع التوجهات سهلة ما عدا ذاك،الذي يعيدنا للزمن البائس لليهود.

ولعل تواجد ضباط من الطوائف الأخرى في القيادة العسكرية شيء يثلج الصدورويهيئ الظروف المناسبة لوظيفته،ويرضي شخصيته الفذه،لذلك جاءته الإشارة بالانضمام إلى حزب البعث العربي الاشتراكي على وجه السرعة،فالحزب هو سيد الموقف اليوم ،والمستقبل له،وبالقيادة الجماعية التي يدعو لها وينادي بها، قد يكون حظك في المجال يا إيلي قادحاً فلا تتوانى عن العبورفي سراديب المستقبل الزاهر...

الفصل - 23-

في حالة الطوارئ المعلنة لا يجوزاجتماع أكثرمن خمسة أشخاص وهاهم ثلاثة فقط.. إذن لم يخالفوا القوانين الصارمة الجديدة ولم يتجاوزوا العدد المسموح به.

قهقه كامل كثيرا ومعه صاحبه معزي،عندما ألقى بتلك العبارة:

- ها نحن ثلاثة .. لم نخالف قانون الطوارئ.. المعمول به بعد إعلان الثورة المباركة.

بعيد أن خفت الضحك قال معزي:

- نحن نظاميون،لا يمكن لضابط مثلي إلا أن يكون نظامياً وانضباطياً .

عاودوا الضحك والقهقهة فيما عدا عمرفقد التزم بالضحك الخافت.

عاد كامل يسأل معزي:

- ما مصيرخالك اللواء زهرالدين؟

تنحنح قائلاً ومعدلاً من جلسته:

- خالي لم تصبه أية- طرطوشة-،فهو بخير، لا دخل له بشئ ولا بالسياسة هو قائد جيش فقط.

- إذن..من أصابه مكروه؟

- رئيس الحكومة السابقة خالد العظم..مطلوب وقد لجأ إلى السفارة التركية والرئيس محتجز،و...والدنيا بخير.

- وأنت يا صديقي ..مع من؟

- أنا..أنا مع الأقوى..يعني مع العهد الجديد.

- جيد.

- ألست معي..ألا توافقني وتمشي معي.

- بالتأكيد..أنا معكم،لكن نريد أن نعرف شيئاً عن موقف عمر..عمر الصامت.

- أنا لا أتدخل في السياسة..خاصة بعد عودتي من الأرجنتين كفاني ما أصابني.

- معك حق..السياسة ملعونة..الحياد أفضل شيء.

- يا سيدي..أنا أريد أن أكل خبز وكفى.. أنا ورائي عيلة ووالدتي والصغار.. وأبي متوفى..أنا في رقبتي مسؤولية.

- كان الله في عونك،على كل حال إضافة للعمل معي لازم نجدلك وظيفة حكومية دائمة،لنرى العهد الجيد،توكل على الله يا عمر..نحن معك على طول الخط.

كامل يقول وكأنما تنبه إلى شيء قد غاب عن ذهنه بداية:

- هل تشعرون بالبرد؟

معزي وقد سرت في بدنه قشعريرة:

- هيه..بعض الشيء..مع أننا في الشهرالثالث من السنة.

- حقكم عليّ.

ثم يقوم جانباً يضغط على زرمفتاح التدفئة ويعود:

- قليلاً ويسري الدفء في أجسامنا،لازم نتغدى سوياً،قم ياعمرواجلب لنا الغداء من السوق.هات لنا مشاوي على شرف نجاح الثورة.

- حاضر،على عيني ورأسي.

عمريذهب مسرعاً إلى الخارج ،بينما يجلس كامل ليتجاذب أطراف الحديث الشيق والمهم مع صاحب العسكرية والسياسة:

- ماذاعن الوضع الراهن؟

- تماماً..إلى الأمام..صاحبي سليم دوره حساس في الثورة والوضع القائم.

- من هو..من سليم؟

- الرائد سليم حاطوم،من جماعتنا..قائد كتيبة المغاوير.

كامل يقوم واقفاً ويضرب التحية بيده قائلاً:

- يا مرحباً به وبك حبيبي معزي.

شارك الرائد سليم بالثورة وهو يقود كتيبة المغاوير،وهو مكلف بحماية القصرالجمهوري.

-يا سلام عليك يا معزي..دائماٌ تتحفنا بالأخبارالسّارة.

-لوالتقيت به يعجبك جداً..شاب( جنتل).

كامل يدورفي الصالة ويصفق:

-لا بد أن ألتقي به، هذه من واجبات الرفيق الصديق.

معزي يهب واقفاً،ثم يضحكان ويتعانقان.

على صفحة الأيام المتتالية لا يلبث كامل يتابع الأخبار من محطة إذاعة دمشق وتلفازها الذين أصبحا في أيدي رموزالثورة منذ فجر يوم الانقلاب الذي أطاح بالرجعية إلى غير رجعة ، الانفصاليون وعملاء الرأسمالية والإمبراليه الغربية كما دأبت تعليقات الثورة تنعتهم بها.

أما الصحافة اليومية فقد حجبت عن الصدور بواسطة المنع القسري،فيما عدا صحيفة البعث ورديفتها الثورة التي صدرت مؤخراً،تابعها باهتمام بالغ بغية الاطلاع على مجريات الأمور.

وكان أكثر شيء أثلج صدره بعد تشكيل الحكومة الجديدة ومجلس الرئاسة..بزوغ نجم الصديق القديم من أيام الأرجنتين ألا وهو أمين الحافظ الذي تسلم وزارة الداخلية وكرسياً في مجلس الرئاسة.

وقد كان الرجل في زمن الوحدة السورية المصرية ملحقاً عسكريا في موطن المهاجرين العرب إلى الغرب..وهو الأرجنتين.

استوقفته الحراسة المشددة عند باب مدخل وزارة الداخلية في الشارع المؤدي إلى ساحة المرجة،ليُسئل عن اسمه ويتحقق من شخصيته وعن ماذا يريد من السيد الوزير؟!

كامل أمين ثابت..من يكون يا ترى؟!وماذا يريد من أبي عبدوأمين الحافظ..ابن حلب الشهباء،الرجل الذي يملأ مركزه الآن بقوة وجدارة.

يقول ضابط الحراسة:

- عرفنا بنفسك أكثر كي نخبرعنك سيادة الوزير،فهو لم يعرفك.

- أنا كامل أمين ثابت..كنت مغترباً في الأرجنتين ،عندما كان سيادة الوزير-أبوعبدو- ملحقاً بالسفارة هناك،لاشك سيذكرني..كُنا أصدقاء.

- على كل حال تفضل إلى الانتظار.

انتظرساعة إلى أن جاءه الإذن بالدخول لعند سكرتيرالوزير،ثم ساعة أخرى حتى انتهى سيادة الوزيرمن مشاغله الجمة،وقد انتصف نهارالدوام الرسمي.

ثم دخل كامل مكتب سيادة الوزيرالجديد ،حينما رآه قام معانقاً له:

- أهلاً صديقي..هو أنت..أنت كامل والله وحشتنا..

- أنا بالأكثر..مشتاق لك سيدي.

يشيرله بالمقعدالمجاور:

- معذرة سيد كامل..اختلطت عليً الأسماء.

- ولا يهمك ..مشاغلكم كثيرة هذه الأيام بالتأكيد ..والمهمات كبيرة..أنا أعرف.

- أهلاً وسهلاً..يرحم أيام بيونس أيرس .

- إي والله.

ثم يتابع:

- أحببت أن أسلم على حضرتك..وأهنئك بالمنصب الجديد وبنجاح الثورة.

- الله يهنيك ويسعدك.

هنا أحس أبوعبدو بنكهة الطعام والشراب تحت لسانه، الذي كان يذوقه على موائد كامل هناك في البلاد البعيدة،فتلمظ ولاك لسانه بشدقيه:

- والله هلّت علينا الخيرات مع طلتك الحلوة يا سيد كامل.

- شكراً لك..أنا فخور بك حضرة أبي عبدو المحترم.

- يا أهلاً وسهلاً. خلينا نكسبك يوم في البيت.

كامل يتنحنح ثم يقول:

- في البيت..لا أريد تغليبكم،على فكرة أنا صفيت أعمالي في الأرجنتين وعدت إلى وطني الحبيب نهائياً.

-بالله عليك!!

-أي نعم.

-وماذا تعمل حالياً؟

-أنشأت شركة تجارية ..أعمل في الأثريات.

-جيد ..ممتاز،أي خدمة رسمية حاضر.

-إن شاءالله دائماً حاضر،أريد سلامتك.

-اترك رقم هاتفك عند مديرمكتبي ولسوف نتصل بك.

يخرج بطاقة شركته التجارية ويضعها على منضدة المكتب:

- هذه بطاقتي،أستاذي الكريم أنا معك..معكم على طول الخط.

- هل تعني أنك سوف تنضم إلينا؟

- بالتأكيد..أنا مع الثورة والتقدمية.

- إذن وصلت.

- نعم..نحن حرب على الرجعية والرأسمالية والإمبرالية والاستعمار..لذلك تركت بلاد الغرب ورجعت إلى بلدي الأم.

- يا مرحباً بك.

- أستأذن الآن.

- شرفتنا..يا أهلاً وسهلاً.

أمين يقوم مودعاً ضيفه:

- بخاطرك.

- مع السلامة.

عندما ودع الوزارة خلفه واتخذ طريقه باتجاه أبي رمانة،وقد صار وحيداٌ في مركبته،راح يحدث نفسه بصوت يسمعه هو فقط:

- إنك تجيد النفاق والرياء يا إيلي،هكذا تستوجب وظيفتك، إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، أو لعله..إن لم تكن ثعلباًماكراً مُخادعاً..لن تنجح في مهمتك.. ولن تصل لبغيتك.

الفصل – 24 –

وحدة ... حرية.. إشتراكية، الشعارات الكبيرة تتردد عبرموجات الأثير، يصغي إليها كامل ويترنم بها هازئاً..صحيح أن الوحدة مطلب شعبي ..،ولكن أين هي هل تتحقق؟!

والاشتراكية..أي اشتراكية؟؟اشتراكية عبد الناصرأم اشتراكية كارل ماركس والشيوعية؟

هه..هه.

أما الحرية فموضوع آخر،مع قانون الطوارئ ومنع التجمع والتجوال أحياناً ،حسب مبادئ الأحزاب الاشتراكية..قد تكون التحرر من قيود الدين والأعراف والتقاليد..إن كانت هذه فلا بأس، ثم يطلق ضحكاته الماجنة على انفراد..ليرجع إليه صداها في الشقة الخالية.

يضرب جرس الهاتف الرنان،ومن يكون غيرمعزي حبيب قلبه ورفيق دربه،يسأله إن كان موجوداً فسوف يأتي إليه:

- أهلاً بك في أي وقت.

- - بالمهلي -،سوف آتيك سريعاً.

- أنا بانتظارك.

دقائق غيرمعدودة مرت بسرعة حتى طرق الباب،أسرع يستقبله بالأحضان،ما وراءك من خبر؟

الخبرتقدم إلى الأمام في عهدالتقدمية:

- قد حدثت سليماً عنك ففرح بك كثيراً وأحب أن يلتقي بك.

- متى كان هذا؟

- أنا قادم من عنده للتو.

حدق في عينيه هنيهة ثم قال:

- وأنا أحب أن ألتقي بالرجال، وسليم في مقدمتهم كما سلف وذكرت لي بعض مناقبه.

معزي يقوم ويصفق:

- تحيا وتدوم يا عزيزي،يمكن أن نأتي غداً لزيارتك.

- أهلاً وسهلاً على الرحب والسعة.. ولكن بشرط؟

- شرط..وما هو؟!

- أن نتغدى سوية.

- شرطك على العين والرأس.

شروطك مرحب بها يا كامل..أو بالأحرى يا إيلي الملعون،وهداياك تأخذ الألباب أيها الخبيث،قد نشأت على المكرمنذ الصغر..لعلك رضعته مع حليب أمك المقبورة في أي تراب؟ لقد نسيت، وما أنساني أبي وأمي أن أترحم عليهما أو ألعنهما سيان عندي،قد عاشا في فقرمتقع على أرض مصر،لذلك بثا في قلبي روح الحقد والكراهية، لذلك فإني اليوم ألعن كل شيء وأحقد على الشعب البسيط الذي أعيش في كنفه،ولا أحد يدري شيئاً عن سواد قلبي.يسحب نفساً عميقاً مع السيجار وينفث دخانه بعيداً..قصدت وما أنسانيهما أي أبي وأمي إلا الشيطان..والشيطان في داخلك متربع يا إيلي، فلا تدعه يغادر..لأنه إن غادرتبوءبالفشل..وتبور،فتغدوا تدوركما يقول أهل الشام- مثل الخنفسة في الطاسة- فمكانك راوح.

موعدنا غداً يا معزي وبرفقتك الرفيق المناضل الرائد سليم من أبطال الثورة.

الموعد قائم والغد قريب.

قدما بلباسهما العسكري معزي بالأصفر الكاكي وسليم بالمبرقع وسلاحه الفردي متوطداً على خصره.

كعادة كامل استقبلهما بالعناق والترحاب، بعد أخذ الأنفاس وتمام التعريف الذي أداه معزي:

- الأستاذ كامل أمين ثابت.. سوري الأصل وكان مغترباً.

- أهلاً وسهلاً.

- الرائد سليم حاطوم..من رجال الثورة الأفذاذ..ومن أبناء محافظة السويداء.

- يا أهلاً وسهلا،زرتونا وأناستونا.

ثم دعاهم إلى المائدة المحتوية على أصناف وأشكال من الطعام:

- تفضلوا على الميسور،مافي شي من واجبكم.

سليم أمام المائدة يشير بكلتا يديه:

- ماهذا! كثير.... غلبت حالك يا رجل.

- ما في شي من واجبكم..واجبكم أكبر ،ثم يشير بيده إلى المائدة:

- تفضلوا..والله شرفتونا وأسعدتونا.

عند تناول الطعام راح كامل يسترق النظربين الفينة والأخرى إلى الرائد سليم حيث أخذ يتناول الطعام بنهم وشراهة كأنما يراه لأول مرة، أو كمثل طفل محروم فوجد الطعام أمامه غدقاً.

من جديد تيقن كامل أن ولائمه تفعل فعلتها ،وهداياه تؤدي غرضها، إنها مثل حقن المورفين تأخذ كل من أخذها عقله وتسلب لبه،هكذا فعلت مع معزي سابقاً وتعمل عملها الآن مع هذا الرائد الضابط الثوري.

مثلما فعلت في غيرهما من قبل وستفعل فعلها المجدي مع آخرين في الغد..الغد القريب،وإن غداً لناظره لقريب.

بعد الانتهاء من الطعام وتناول الفاكهة لم يشغل نفسه بصنع الشاي ،بل آثر تقديم - كازوزات الأورانج- غير المبردة  حسب الطقس والفصل.

أما الرائد سليم فقد عب من شراب الأورانج ما حلا له وهويطبل على بطنه المترع، إذ أن كامل لم يقدم مشروبات أخرى لأنه لم يستنبط طبيعة صديقه الجديد في الشرب.

قام حضرة الرائد ليغادر فهو على عجلة من أمره،فوراءه مسؤوليات..والوقت عصيب.

أشار كامل إلى وجود هدية متواضعة للرائد سليم، سارع الضيف إلى جهاز - اللاسلكي- ينزعه عن جانبه الآخر ليكلم سائق مركبته العسكريه الجاسمة على مدخل العمارة كي يرسل  له المرافق أو الحارس الشخصي.

جاء المرافق العسكري مسرعاً ضاربا تحيته العسكرية لسيده،وعلى كتفه بندقيته المجهزة،أمره سليم بحمل تلك العلبتين متوسطتي الحجم شاكراً لمضيفه كرمه الحاتمي.

اخرجوا أيها الرفاق الكلاب ..ما أرخصكم..ثمنكم قشوروفتات..يا بلاش،بهذا انقلب داخل شقته يهذي ويشتم.

كان موعده في اليوم التالي مع الرائد سليم وبمرافقته حبيب القلب القديم معزي على باب مكتب الحزب كي يسجل انتسابه هناك،ليصبح كامل المغترب الثري عضواً جديداً في الحزب الاشتراكي،وهو الذي من أولوياته محاربة الاقطاعيين والرأسماليين على حد قول زعماء الحزب ومنظريه،

لما تمض غيرأيام قليلة حتى جاءه اتصال من مكتب سيادة وزير الداخلية، بالخبر السارجداً..إنه مدعو مساء الغد إلى بيت سيادة الوزير وعضو مجلس الرئاسة..أبو عبده الحافظ.

أسرع إلى السوق ليجلب معلبات الحلويات، وإلى الصالحية والحمراء هذه المرة كي يحضر الملبوسات الرجالية  والنسائية،وعقود الماس لكل االعائلتين..أمين الحافظ وسليم حاطوم،ولكل منهما نصيب.

رحب أبوعبده جل الترحيب بالصديق القديم في بيته وقد اعتلى هو كرسي الوزارة،فهو من رموزالحزب الذي أنجزالثورة على العهد البالي،فقد ولى عهد الليبراليين والرأسماليين وجاء عصرالاشتراكيين التقدميين:

-سقى الله أيام الارجنتين.

- إي والله ..كانت أيام حلوة.

- ومالها أيامنا هذه..أيضاً حلوة في ظل الثورة والإنجازات التي تحققت .

- بالتأكيد..وأنا مسرورجداً هذه الأيام،لذلك قررت أن لا أغادر بلدي مطلقاً،وأنا مع العهد الجديد..مع الثورة،أنا وما أملك مُلكُ الثورة.

- بتتكلم جد؟!

- أنا رهن الإشارة..جاهز لتنفيذ الأوامر.                                                     - عشت يا سيد كامل.إذن أنت معنا،

- من كل قلبي وجوارحي،وللعلم قد انتسبت للحزب.

- متى؟!

- منذ أيام.

- متى وأين وكيف ؟!

- برفقة الرفيق سليم حاطوم.

- وهل تعرفه؟

- نعم..أعرفه جيداً..هو صديقي الحميم.

أبوعبده يهب واقفاً ليسلم على الرفيق كامل من جديد.

- يا أهلاً وسهلاً بالرفيق كامل.

ينحني بالتحية:

- أهلاً بك سيدي أبوعبده.

- نورت الشام سيد كامل..ونورت الدار كذلك.

- نور الله أيامك..كم أنا سعيد بكم.

استمرفي إطرائه ومديحه لسيادة الوزيروالثورة وإنجازاتها تلك التي لم يظهرمنها شيء بعد،إذن يجيد الرياء والنفاق،من واجبات وظيفته،لن يصل لتحقيق أهدافه إن لم يفعل مثل ذلك،وإنه لا يفوز باللذة إلا الجسور.

كلمات بلا ثمن يلقي بها هنا وهناك،إنه ضحك على اللحى، وخاصة هذه اللحى الحليقة الناعمة،وهدايا ثمينة ملئ يده دائماً ترافقه وكأنها قطعة منه..يدخل بها على القلوب ويرشي بها العقول الساذجة.. وإن كانت على حد زعم أصحابها..عبقرية ناضجة لا مثيل لها لا في داخل القطر ولا خارجه.....

مما جلبه معه أخرى مجموعة أغراض، رفع بكلتا يديه عقداً ماسياً نشره أمام عيني مضيفه:

- ما رأيك بهذا الطوق؟

- رائع

- يمكننا أن نلبسه الأخت أم عبده.

- ماذا؟!!

ثم أردف باستهجان وبلهجة شعبية حلبية عميقة:                             - - ولوو خايي- .. أم عبده لا تظهر أمام الرجال.. الرجال الأجانب.

-عفواً.. ما كنت أعرف.

أعاد ما بحوزته إلى علبتها، ثم قال بخبث:

- تفضل هذه الأشياء حضرتك، حضرتك تصرف حسبما تريد، على كل حال أرجو أن أكون صرت واحداً منكم وفيكم، أنا أيضاً أصلي من حلب.

أمين يقهقه قائلاً:

- تعني من- فسط حلب -

- نعم سيدي، من وسط حلب، وباللهجة المحلية من- فسط حلب -.

- أنا قبلت هداياك.

- شكراً لك .. أسعدتني سيدي المحترم.

قام متجهاً نحو أكياس ومعلبات وهداياه مستطرداً:

- يوجد ساعة يد ذهبية تليق بحضرتك، وهنا ملابس لسعادتك و( للمدام) وهذه علبتان من الحلويات الشامية، ما في شيء من واجبكم.

- واجبك علينا سيد كامل، أي طلب لك سيتحقق.

- فقط أريد سلامتكم، رفع الله من مقامك ومراتبك،على فكرة شيء واحد يهمني، هناك شاب مسكين يهمني أمره، كان ذهب ليدرس الطب في الأرجنتين لكنه لم يوفق في ذلك لظروف قاهرة، وهوالآن يعيل عائلة بعد وفاة والده إن أمكن تعيينه في وظيفة، أية وظيفة.

- أنا أبو المساكين، طلبك مجاب، من الغد يأتي لمدير مكتبي ويخبره بأنه من طرفك، وسوف يمارس عمله فوراً.

وهو في طريق العودة إلى شقته تحقق كامل من أنه يسير باستطراد في طريق النجاح، وأن كبار الشخصيات في النظام الجديد يمكن شراءهم ببساطة ويسربفضل المال الذي يجري تحت يديه.

الفصل-25 –

إن كامل الآن يسير في الطريق الصحيح, فقد دخل بيت أحد كبار المسؤولين وقدم الهدايا له ولزوجه, وإن لم يكن له الاختراق العائلي التام لكنه إنجازلا بأس به.

تذكرجورج وماريا سيف الذي نسيهما في خضم الأحداث, بكل بساطة دخل تلك العائلة إذ أن راعيها زائغ مع شهواته, مفلت لعائلته.

هدفه الثاني يتوطد مع الرائد سليم كي ينتقل فيما بعد إلى مرحلة أخرى شيئاً فشيئاً.

جاء موعده مع معزي, حاملاً هداياه إلى بيت سليم, لكنه آثر أن يحمل معه طعام الغداء من السوق, ولا يجد من حبيب قلبه عند المرافقة غير الموافقة.

- سلمت يداك يا حبيبي كامل, أنت أهل الكرم والفخار.

- شكراً لك.

- فعلاً أنك.. تبيض الوجه.. صحبتك ولا أحسن منها.

- وجهك أبيض دائماً يا عزيزي.

وهكذا يمضي حوارهما.

حملا الهدايا معاً عند دخولهما بيت الرائد سليم وكذلك وجبات الطعام, بيديه ألبس زوج مضيفه العقد الماسي الذي طوق به جيدها.

اجتمعوا جميعاً على المائدة الممدودة, لا حرج هنا من مشاركة سيدة البيت مع الرجال:

  • نحن صرنا( خوش بوش)

هكذا قال معزي ثم تابع:

- الأستاذ كامل.. واحد منا وفينا.

يطري سليم بكلماته الفجة:

- أهلاً وسهلاً بالجميع.. لكن خجَّلنا السيد كامل, كان لازم الغدا من عندنا. يظهر أنه أخذنا غدر دون ما نحس...

يقاطعه كامل:

- هو فيه فرق بيننا.. الجيبة واحدة سليم بيك.

أما معزي فيهز رأسه بالإيجاب والموافقة:

- نعم.. نعم.. تفضلوا يا جماعة, الصفرة تنتظرنا.

كل شيء بثمن, ما يقدمه كامل ليس لسواد عيون أحد, لا معزي ولا سليم ولا أهل بيته أي- ست الحسن-.

كله يصب في مصلحة- شعب الله المختار- هكذا كان يهذي عقله الباطن.. تلك الساعة.

لئن كان جلساؤه الآن من طائفة باطنية, فإنه بالمقابل أكثر منهم باطنية وأشد مكراً.. يجيد المواراة والخديعة بأسلوب حديث متطور درج عليه منذ أن أعده الموساد لهذه المهمة الصعبة الشائكة, ولكأنه أفلح فيها وحقق نجاحات ليست بالقليلة حتى يومه هذا.

قبيل الوداع سأل كامل بصفاقة:

  • هل السيدة مسجلة بالحزب؟

يرد الرجل بصخب:

  • من قبلك, هي زوجتي.. وأيضاً رفيقتي.. رفيقة دربي ترى هه..

يقهقه ثم يتابع:

- هل أعجبتك؟

يسارع بالقول:

- أنا معجب بك وبها.. كل الرفاق.. يعجبونني.. إنما أنتم ومعزي أيضاً مميزون.

ثم يقبل نحوها مصافحاً:

- أهلاً بالرفيقة ناديا...

- أهلاً بك.. شرفتنا يا أستاذ كامل.

عند الباب يقول كامل:

- نلتقي عما قريب.. وداعاً.

- بالسلامة.. لكن لا تطول الغيبة.. أنت والسيد معزي.

سليم يعقب من بعد ناديا سلمان زوجه الفارهة:

- نحن بالانتظار.. لكن.. حلفتك المرة الثانية.. ما تجيب معك شيء هه.

- تؤمر أمر سيد سليم،سلامة خيركم، كل كم يوم تلاقوني على الباب.

- مِائة- أهلين-.

- مع السلامة.

إحساس عميق يراود كامل.. أن الرائد سليم بات مسروراً جداً, وأكثر ما يسره ويفرحه في تلك الزيارة ما جلبه كامل معه من هدايا وفي مقدمتها طعام الغداء الفاخر.

وكما يقال أن الأشياء تفهم بأضدادها, فإن آخر كلام سليم يعني.. أن لا تأتي إلا ومعك ما هب ودب من الهدايا والعطايا.

لم يغب عنهم طويلاً, جاءهم ملبياً طلبهم وزيادة, معه ملابس ومجوهرات, أشياء ثمينة انتقاها خصيصاً للعائلة الفذة المرموقة, إذ أن راعيها عنده يجد بغيته ولا شك أن بيده مفتاح كثيرمن الأسرار.

بمفرده جاء هذه المرة دون معزي, فحبيب القلب صدربشأنه قرارالانتقال إلى مدينة إدلب في الشمال السوري ليتسلم هناك قيادة الحرس القومي الذي تشكل حديثاً في كل القطر لحراسة العهد الجديد ورجالاته, إذن معزي مشغول هذه الأيام بموضوع الانتقال مع عائلته, أو ليذهب هو إلى هناك ويستقرثم يجلب عائلته لعنده, والمشغول لا يشغل.

استقبل بالترحاب الشديد, فحمله ثمين.. وماثمنه المقابل سوى كلمات   وضحكات وعناقات.

من غده انطلق كامل مسرعاً لوداع معزي الذاهب إلى الشمال:

  • تصل بالسلامة حبيبي معزي.
  • تسلم.
  • موفق في عملك الجديد, لا تبتئس من النقل, أنا لن أدعك, لسوف آتيك عما قريب.
  • مشكور حبيبي كامل.
  • هكذا الوظيفة.. على كل حال أنت تؤدي واجب وطني.
  • صحيح.. صحيح, على فكرة أنا أوصيت سليم عليك.
  • شكراً لك, لعل الذهاب شمالاً يكون في مصلحتك.. سوف تستلم عملاً مهماً.
  • صحيح.. هي أولاً مصلحة الوطن.
  • نعم.. نعم.. ومصلحتنا من مصلحة الوطن.

إمعاناً في النفاق المصلحي يتكلم كامل:

  • حماية الثورة ومكتسباتها من الأوليات.
  • نِعمَ ما قلت.. الثورة حياتنا.

رن جرس الهاتف في شقته وقليلاً ما عاد يرن هذه الأيام, كذلك رن صوت السكرتيرة رنا مع ضحكتها الماجنة المعتادة:

  • مرحباً.. أستاذ كامل.. الأستاذ جورج يريد التحدث معك.
  • هات.. يا مِائة مرحباً أستاذ جورج.
  • كيفك؟ أستاذ كامل.
  • تمام.. والله زمان ما سمعنا صوتك الحلو.
  • تحلى.. غرقان في أي شيء لا نسمعك ولا نراك؟
  • صدق أني مقصر.. حقك عليّ.
  • أريد.. أن أراك.
  • أهلاً وسهلاً تفضل.
  • سوف آتيك.

كان على كامل أن يحضرالمائدة بانتظارالصاحب الموعود جورج سالم سيف.

جاءه مسرعاً, لكأن الموعد قاب قوسين أو أدنى, إذن الأمر ذات أهمية, وما عند جورج من أخبار؟ في وقت تمضي فيه الأحداث متسارعة تسابق الزمن.

أسئلة كثيرة تعتلج في داخله, لعل أجوبتها الشافية تأتي مع الزائر هذا- خفيف الظل- إنما بعد تناول الطعام واحتساء المشروبات.

بعد أن تجشأ بادرضيفه بقوله:

  • هات ما عندك يا صاحبي؟.
  • قل.. أنت تسأل ونحن نجيب هه هه ها.
  • يتضاحك عنوة:
  • السؤال المطروح: ماذا وراء الخبر؟.
  • الخبرلا بأس به, إنما ما أخبارك أنت يا كامل بعد الثورة؟ وقد انقطعت عنا ردحاً من الزمن.

اليوم يأتيه وحيداً بلا سكرتيرته اليافعة, معنى ذلك أن يأخذ حريته في الاستطلاع, فالرجل موظف مهم في الإذاعة, لا ريب أن عنده الخبر اليقين.

مرة أخرى يخاطبه جورج معاتباً:

  • أين أنت يا رجل.. لا تطل ولا تهل, ولا ثقلان علينا.
  • أنا بين الأيادي دائماً, وإن كنت في الحقيقة أني مقصر, مشاغل الدنيا كثيرة.
  • خلي ساعة لقلبك وساعة لأصحابك..هه.
  • صحيح..أهلاً بك يا صديق العمر، تفضل للغداء.
  • مغلب حالك.. نريدك سالماً.
  • تسلم يا حبيب.. ما فيه شيء من واجبك, تفضل الطعام أولاً.

بعيد الوجبة الدسمة,واحتساء السم الهاري, دار حديث الساعة والأوضاع الراهنة.

ما برح كامل يحدث جليسه عما ألم به من وحدة وحزن بسبب انتقال صديقه الصدوق الملازم معزي زهر الدين.. إلى مدينة إدلب المنبسطة على ربى خضراء في شمال البلاد, ليقود هناك كتيبة الحرس القومي الذي تشكل لحماية الحكم الجديد.

ذلك الجزء من المليشيا المسلحة والتي وصفه الرئيس المصري ناصرلاحقاً وعلى أثر فشل محادثات الوحدة المصرية السورية المرتقبة.. بأنه-الحرس اللاقومي-.

وللحقيقة والتاريخ أن هذه المنظمة المسلحة التي يقودها حزبيون قد احتوت على عدد لا يستهان به من المرتزقة وحثالة المجتمع السوري.

الفصل - 26 -

  • الحقيقة أن فراق معزي قد أدمى قلبي.. لا يغني عنه الصداقة الجديدة التي خلفها لي مع تربه سليم حاطوم.

جورج يتضاحك, حين هب واقفاً:

  • وأنا.. ليس لي في قلبك مكان؟! أنا أيضاً عرفتك بالرائد سليم.

كامل يتدارك راداً بقوله:

  • صدق يا حبيبي جورج أنك في القلب.. أنت من المدنيين, أما معزي فمن الأحباء العسكريين, تفضل أجلس.

يعود إلى مقعده هادئاً:

  • إذا كان هكذا فمعقولة.. ظننت أنني على الهامش.
  • ولو يا حبيبي.. أنت هنا وهنا.

يشير إلى صدره ومن ثم رأسه.

بالكلمات المعسولة يمكن له أن يكسب ثقة أصدقائه, ويأخذ منهم كل ما عندهم دون أن يبوح لهم بشيء مما عنده.

في الشرفة المطلة على شارع جميل زينت جوانبه أشجارالزينة ومباني فخمة من حي أبي رمانة الدمشقي الراقي استمرحوارهما:

  • ليكن في علمك يا عزيزي كامل،ومن أجل أن تستمرصداقتك مع سليم وتكسب وده...

يصمت برهة فيستحثه كامل بالكلام:

  • نعم..تفضل أكمل.
  • عليك أن تقيم الحفلات والمأدبات وتدعوه إليها.

- أمر سهل وبسيط.

  • لايفتك أن تكثر له من أنواع المشروبات الكحولية.
  • جيد..وماذا بعد؟
  • فهوسكيرعربيد.
  • نعم..نعم فهمت.
  • ونسونجي أيضاً.
  • أيضاً..هه هه..الطلب الأخير ليس عندي،أظن حضرتك لست كذلك!
  • لا تخف من عنده هو،تصور أنه يأتينا في مبنى الإذاعة والتلفزيون وأثناء العمل والدوام سكراناً.
  • لماذا يأتيكم؟!عمله في القصر الجمهوري.
  • صارت كتيبته مكلفة بحماية مبنى التلفزيون إضافة للقصر،وكتيبته كان لها دور فعال في نجاح الانقلاب أوالثورة.
  • هاهه.

- لذلك..فإن مركزه حساس فاحرص على صداقته.

- جيد.

  • هو أيضاً..منتمي للحزب منذ مطلع شبابه.
  • لاعيب في ذلك.
  • أكيد لاعيب.. أما نحن أو أني أنا مثلاً قد انضممت حديثاً من أجل المصلحة .
  • وهذا لاعيب فيه.. أما أنا فقد انتسبت قناعة وليس من أجل أدنى مصلحة، لأني في غربتي لم أتعرف على أفكارومبادئ الحزب التقدمية .

ينفث دخان سيجارته في الهواء ثم يعود قائلاً :

  • قل لي .. ماذا عن وضعك في الوظيفة ؟
  • أبشر.. بارك لي قد ترقيت وصرت مديراً للبرامج وليس معزي وحده قد ترقى ..هه..
  • تهانينا.. لكن لازم نتحلى .

ثم يتضاحك:

  • أبشر..على حسابي.
  • لا على حسابي أنا.. هدية مني كرمال المحبة.

جورج يصمت موافقاً ومبدياً إعجابه:

  • وماعندك من أخبارأخرى يا عزيزي؟
  • عندي الكثير،فمثلاً حالياً يتشكل وفد مباحثات الوحدة إلى مصر،وفيه وزيرنا جمال الأتاسي وفهد الشاعرويوجدناصريون.
  • من أين هما؟
  • الأتاسي سني من حمص وفهد الشاعر درزي من السويداء.
  • وغير ذلك؟
  • على فكرة..اللجنة العسكرية في الحزب من غيرالمسلمين السنة.
  • كيف؟!
  • طبعاً فيها سليم وفهد من الدروز..صلاح جديد وحافظ الأسدومحمد عمران وعبد الكريم الجندي من العلويين وأحمد المير اسماعيلي.
  • هاهه..وأنتم المسيحيون ما لكم أحد؟
  • نحن منا مثلا ًوزيرفي الحكومة.
  • أي.. بسيطة المهم بلا شيء، قل لي ما وضع الناصرين في السلطة؟
  • الناصريون لاقيمة لهم ولادورفعال هناك اثنان من الضباط،وبعض وزراء،أحجار شطرنج،الفعل الحقيقي للبعثيين، أما اللواء زياد الحريري فهوحيادي وقد جاؤوا به هكذا للمظاهر واستغلال اسمه ورتبته العسكرية فقط.

- أثلجت صدري..فأنا قد أحببت هذا الحزب وأعجبت بمبادئه الخلاقة.

ثم يقوم ويدور في الشرفة ويقف على مسافة من الرفيق المستجد مثله متحدثاً بلهجة خطابية:

- والثورة يا رفيقي..إنها ثورة مجيدة رائدة،هي ثورةالعامل والفلاح..ثورة الكادحين..ثورة الفقراء والمسحوقين على من استغلهم وأفقرهم،اليوم صار المعمل للعامل والأرض لمن يعمل بها..هذه من مبادئ حزبنا العظيم،وإنها أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.

جورج ينهض مصفقاً:

  • عشت يا كامل..وعاشت الثورة.

مع أن جورج قد انضم للحزب الحاكم للمصلحة الشخصية كما اعترف بعظمة لسانه مثله مثل الكثيرين من موظفي الدولة وممن يبغون المنفعة والركض وراء تحصيل وظيفة في دوائرالدولة أو مؤسسات الحزب،فإنه أي جورج لابد له من مجاراة كامل في دجله ونفاقه،وهو يردد الشعارات الرنانة الزائفة،تلك التي حفظها من إذاعتهم تعيدها صباح مساء وتطرم بها مسامع الجماهيرالتائة بين حبها وتعلقها بقشة الوحدة،تشذف آذانهاتلك الشعارات وبعض الأغنيات على ذات الأنغام،وبين ماتراه من تطبيق مناف لها على أرض الواقع.

وحدة..حرية..اشتراكية،أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة..البعث طريقنا...

أما هذه الرسالة الخالدة فهو لم يفهم كنهها بعد..لسوف يشرحوها له من أجل الاستنارة فقط.

من لب الصداقة النصيحة ، وقد أدى جورج واجبه في توجيه صاحبه للاستفادة من مركز سليم القوي الفعال.

على هذا الوجه يفكرالوصوليون .. جورج منهم بل في مقدمتهم ،أكثر الناس وصوليون وللمصالح الخاصة،أما هوكيهودي فله شأن آخر،وقد أتاح له دينه وكما ورد في نصوص التلمود..أن يفعل أي شيء..وأن يستعمل كل الوسائل الممكنة في سبيل تحقيق مصالح-شعب الله المختار- سيادته وركوبه ظهرالحميرالآميين،مهما كانت تلك الوسائل دنيئة وخسيسة،حسب البروتوكلات.

كذلك أباح للنساء من بني جنسه أن يقدمن من أجسادهن قرباناً على شرف انتصاربني صهيون.

إذن وجد ضالته عند سفيه القوم،فهذا العربيد قد يغنيه عن مجموعة من الصداقات التافهات فيها مضيعة للوقت والجهد.

ولعله جمع قدراً غير قليل من المعلومات إثر لقائه بهذا الخبيث جورج،وعلى ناصيتها..اللجنة العسكرية للحزب وهم أشخاص من الأقليات ومن غير المسلمين السنة.. وهذا يحقق كثيراً من المصلحة بأقل المجهود ودون تضحيات.

المال والنساء لفوزبني صهيون راية وعنواناً،أما المال ما فتئ يبذله بسخاء منذ وطأت قدماه أرض الشام، وأما النساء فإنه شأن الساعة.

من يومه هرع يبحث عن الضائع من بين يديه..المتفلت من موسوعته المبرمجة،وما فطن هوإليه،ولما يرشده معلموه لهذه الوسيلة أو يجعلوها رديفاً لتحركاته منذ البداية.

يمضي حياته هنا بلا أنيس ولارفيقة درب.. حسب المخطط المرسوم، باستطاعته الآن أن يضفي بعض التعديلات المناسبة..بل المحسنة.

ووجد بعد بحث..وجد ولكن كيف؟ وأين؟!

الفصل -27 –

دمشق حائرة في ظل القوانين العرفية،تترقب بخوف ووجل،فقدانطوى عهد الشرعية البرلمانية،وزالت عن هامتها حرية الكلام والنقد والتجول دون رقيب ولاحسيب،والحديث صار همساً..والإشارة غدت رمزاً،في ظل أطياف العسس الظاهروالمتخفي.

وكامل يتردد بين ملهى وناد ليلي يبحث بين الغانيات عن واحدة من بني جنسه تروق له وتلبي رغبته.

ببطاقته الحزبية يملك التنقل والتصرف أنى شاء وكيفما يبغي،من حارة باب توما في منتهى حي القصاع حيث يقطنه غالبية مسيحية نصرانية، إلى حارة الأرفاض الشيعة سابقاً في حي الميدان،إلى منطقة الأكراد فيما يسمى بركن الدين،إلى سواها من مناطق وبلدات كثرفيها الغرباء وفيهم علويون وغيرهم حسب مواقع المعسكرات القريبة من تلك المناطق.

إلاحارة واحدة محرم عليه ارتيادها أوالاقتراب منها..إنها حارة اليهود البادئة بالقرب من باب مصلى مروراً بشارع الأمين وانتهاء بباب شرقي.

الحذر واجب،وغطاء شخصيته تفرض عليه النهج المبتعدعن خطوط التماس.

يجري تحقيقاً مفصلاً عن كل واحدة من بنات الهوى يلتقي بها،إلى أن وقعت في يده هوية واحدة.. تعرف على ماضيها، فإذا بها راقصة يهودية تبيع نفسها بثمن بخس، عزم على شرائها، دعاها إلى منزله ليكرمها ويبرم معها عقداً شفوياً على خدمته بطريقتها الثعلبية دون أن يفصح لها عن هويته المقترنة بهويتها خشية الوقوع في فخ الفضيحة، فتذهب ريحه ويركع تحت طائلة المسؤولية والمساءلة:

  • أعرف أن اليهود في الشام عليهم حظر.. هل يشملك الحظر؟
  • لا.. ما من شيء يقيدني.
  • كيف؟!
  • لا يهمك.. أنا تخلصت منه.
  • أنت فوق القانون!!

قالت مقهقهة:

  • القانون تحت قدمي., أنا راقصة لعوب.. ألعب بالعقول،

أفهمت؟

- فهمت وأدركت.. إذن اتفقنا.

يناولها مبلغاً من المال عربون الصداقة، ثم يمضي كل في سبيله على موعد في الصلة والاتصال.

قد يطربه النجاح، لكن عليه أن لايغره بنفسه الانتصار.

هرول نحو سليم، يقابله في مكان عمله، داعياً إياه إلى وليمة وسهرة في شقته هو وزوجه الرائعة على حد قوله، ومعه من يريد من كبار ضباط أو رفاق بالحزب.

ليس من اللائق بمثل سليم في عنفوان شبابه وفي مركزه الحساس إلا أن يجيب بالإيجاب، إنما في يوم فراغ يحدده هو.. أيضاًحسب من سيأتي برفقته.

جاء الموعد غير بعيد من الوقت، فسارع يخبرالراقصة لتتفرغ تلك اليلة لإحياء سهرة حافلة راقصة في عرينه الداعر.

أقبل حاطوم وزوجه المعلمة الفارهة ناديا سلمان تهف بلباسها الفاضح.. ذاك الذي تسلمته هدية محببة من يد الأستاذ كامل، والتي تدعو له دائماً بالسلامة:

  • تسلم يدك أستاذ كامل.. تحيا وتدوم وتهدي على طول.

يجيب بمكر ودهاء:

  • كامل فقط.. أنا واحد منكم يا عيني.
  • تسلم عيونك الحلوة .
  • أنت الأحلى.

يطربها الإطراء.. كما يشد ثغرزوجها الباسم إلى قهقهات صاخبة.. جزلاً للإعجاب بامرأته الأصيلة.

التم الشمل وجاءت الراقصة متمايلة تحييهم بطريقتها الداعرة.

شاركتهم طعام العشاء الفاخر، ثم دارت عليهم بكؤوس الخمرمتراقصة متمايلة، تشد أو تدفع من تصدم به في طريقها مركزة على سليم وناديا بسبب توصية من صاحب الحفل الساهر، والجمع يصفق مترنماً على نغمات غنائها التافه، أوحين تتغنى بالثورة والحزب والرفاق.

تلك المؤدبة والليلة الساهرة فعلت فعلها وطارت قدماً بكامل خطوات سريعة إلى الأمام في المراتب الحزبية.

لا يلبث أن ينقلب إلى جورج في دارعمله, يخترق الحماية بيسرفقد أوصى عليه سليم, تستقبله السكرتيرة رنا بخلاعتها ومجونها كي توصله إلى سيدها ثم تدعمهم بالقهوة:

  • أهلاً كامل.
  • أهلاً بك.

ثم يتعانقان:

  • تفضل اجلس.. كيف الحال؟
  • تمام التمام.. أنت وأهل بيتك.. كيف الجميع؟
  • على ما يرام.
  • ماالأخبار؟
  • إن قصدت أخبار السياسة.. فليست جيدة، مفاوضات الوحدة متعثرة.
  • وعبد الناصر دائماً يتردد على لسانه اسم الأخ جمال والأخ فهد،ألم تنفع الأخوة؟!
  • هه..كلام بكلام.
  • والواقع؟
  • الواقع يا صاحبي...

ثم يطلق تنهيدة:

  • كل يغني على ليلاه،ما علينا-يصطفلوا-القادة أدرى بمصالحهم.
  • صدقت.. صدقت.

بعد احتساء رشفات القهوة يلتفت إلى كامل متسائلاً:

  • ما مشاريعك حالياً؟
  • ماعندي شيء.. لست أدري، أعندك اقتراحات؟
  • نعم عندي.. شقتك لاتنفع للليالي الحمراء.
  • إذن ماذا؟
  • من أجل التقدم والنجاح .. عليك أن توسع الحفلات.
  • ها ها.
  • توجد فيلا فخمة.. يمكن أن تستأجرها ليلة كلما احتجت لها.

قال متلهفاً:

  • جيد.. أين هي؟
  • بوسعك أن تدعو عدداً أكبر من المسؤولين ورجالات الحزب، أنا وإياك نقطف ثمار ذلك.
  • عشت يا جورج.
  • أنا آخذك إلى هناك من أجل الاطلاع والاتفاق.
  • يدي بحزامك.
  • اتفقنا..سأخبرك في الوقت المناسب.
  • الآن.. أستأذن, ينهض ويشيربكلتا يديه:
  • أرسل معي رنا.. لك عندي حاجة.

يودعه عند الباب:

  • مع السلامة.. رنا اذهبي مع الأستاذ.

في الطريق إلى المركبة يسألها بخبث:

  • أما تزوجتما؟

تطلق ضحكة ثم تجيب:

  • عما قريب...
  • هل يعدك؟
  • نعم.. نعم.. عندما تهدأ الأوضاع في البلاد.

يقول بسخرية مبطنة:

  • قريب.. قريب جداً, لا شك ستهدأ الأمور.

ثم يعطيها هداياه:

  • هذه للمعلم.. وهذه لك.. نصيبك.
  • شكراً.. شكراً أستاذ كامل.

وهويغادربمركبته الفارهة, يحدث نفسه:

  • لعنة الله عليك.. أما زلت تخدع هذه الغبية.. وتضحك على عقلها الصغير.

الفصل -28 -

هكذا صارت بلاد العرب أضحوكة, عواصمها أرجوحة والوحدة أكذوبة.

ما بين قاهرة المعز ودمشق الأمويين تأرجحت السياسة التي قيل أنها ليس لها دين, متخبطة خبط عشواء في أهم عاصمتين من عواصم العرب.

عاد وفدالتفاوض إلى دمشق بخفي حنين, أو هكذا أريد للنتيجة أن تكون,      لعلها مناورة أو لعبة سياسية من أحد الطرفين, فيها تخدير أعصاب أو ضحك على اللحى, على الغالبية الساحقة من الجماهيرالتي تطمح إلى الوحدة العربية.

لم يتم الاتحاد الثلاثي مصر سوريا والعراق الذي سبق فيه الانقلاب على حكم عبد الكريم قاسم الاستبدادي بشهر واحد عن سوريا.

تسلم الحكم فيه البعثيون, ثم ترأس الجمهورية العراقية الرئيس عبد السلام عارف ذات الخلفية الدينية, إذ راح بعض البعثيين في الشام يصفونه بالحجي سخرية واستهزاءً به وبدينه.

فشل الوحدة العربية أمر مريح لكامل بنفسية إيلي كوهين اليهودي المستتر في ظل المغترب السوري العائد إلى وطنه.

ومما زاده غبطة وسروراً إقصاء الضباط الناصريين المؤيدين للوحدة مع مصر, إزاحتهم من القيادة وبعيداً عن الجيش, كي ينفرد البعثيون بالسلطة مما يسهل له التسلق على سلم الحزب المناضل.

هاهوسليم لا يبخل عليه بأية معلومات عسكرية مقابل إغداق كامل عليه بالهدايا والحفلات, كي ينجز إرسالياته الدورية عسكرية كانت أوسياسية أو حزبية إلى سادته في الموساد.

في ظل الأحكام العرفية المشددة على أثرإخفاق مشروع الوحدة, ساد الشارع التوتروزاده إطناباً خُطب عبد الناصروتسميته ميليشيا الحزب بالحرس اللاقومي, وتحريضات أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب على الانتفاضة ضد النظام البعثي اللاقومي وغيرالعروبي والحلقات الساخرة من الحزب وأمينه ومنظره ميشيل عفلق.

في تلك الأثناء يحلو لكامل تنفيذ مشروع الفيلا المقترح من طرف رديفه جورج, فيقيم الحفلات الساهرة.. ترويحاً عن نفوس المسؤولين المتوترة بغضب شديد بسبب المهاترات والتهجمات المصرية التي تصلهم عبر الأثير.

أقبل سليم هذه المرة دون زوجه, برفقته فتيات كاسيات عاريات مائلات مميلات, وجورج معه مرافقته الرفيقة السكرتيرة رنا, وعدد من المسؤولين,                                                                                التقى الرفاق على عشاء متخم ومشروبات مترعة تدوربها عليهم الراقصة الخليعة, فتنفرج أساريرهم وتدور رؤوسهم مثل دورانها أمام أنظارهم الشرهة ونفوسهم النهمة.

سكرالجميع حتى الثمالة وتراموا هنا وهناك فيما عدا كامل الماكر ووسيلته القذرة بقيا على شيء من الصحو.

عندما أصبح الصباح وعلت شمس الضحى, أفاق الرفاق

ليلملموا شعثهم بعد الليلة الحمراء انتشاراً إلى مواقعهم على أرض الشام وقد دشنوها تدنيساً ما بين سكروعهر.

وهكذا استمرت الليالي الحمراء بين الفينة والأخرى،على صداها علا شأن كامل في المراتب الحزبية.

لا يمكن لكامل الآن أن يتقهقروقد غدا في منصب حزبي لا بأس به لم يكن يحلم به على هذه السرعة،عضو قيادة فرع الحزب في دمشق،تأهل لهذا المركز بوقت قياسي وبفضل مابزخ من حفلات وهداياعلى أهل الحل والربط في النظام القائم حالياً.

تصاعدت ثقته بنفسه..إنه امرؤ –حربوء- يجيد التسلق على حبال الوصولية.

من وقت لآخر يضرب جرس هاتفه كي يسلي وحدته بعد فراق معزي له وإقامته في الشمال السوري بموجب انتقاله الوظيفي, لا بد أنه الصديق الصدوق معزي الذي لم ينس طعم الخبز والملح.. وكذلك الحلويات والهدايا مثل المرايا يرى خياله الثابت من خلالها:

  • -هالو-.. كيفك حبيبي كامل؟
  • أهلاً وسهلاً.. معزي الحبيب.
  • والله اشتقنالك.

لابد أنه اشتاق للموائد العامرة والهدايا الفاخرة.

  • تشتاق لك العافية.. يامِائة- أهلين وسهلين-.
  • - بالمهلي-, ماأخبارك عساك بخير؟
  • تمام التمام.
  • كيفك أنت وسليم؟
  • على أحسن ما يكون.. شكراً لك معزي.. معرفة رائعة, كل ما لقيته تذكرتك.. وأدعو لك بالنجاح والتقدم.
  • شكراً لك.. متى نراك؟ قد وعدتني بزيارة.
  • عما قريب.. والله ما نسيتك, لكنها الظروف والشغل.
  • يحرق الشغل ويومه, صداقتنا أهم من كل شيء.
  • صحيح.. معك حق يا صاحبي.
  • وأنت.. كيف إن شاء الله تكون مرتاح في إدلب.. كيف السيدة وكيف الولد؟
  • كل شيء تمام..- المدام- بتسلم عليك.. وبتقول لك عجل بزيارتنا هه, نحن بخير..لا ينقصنا إلا رؤياكم.
  • ترى السعد حبيبي معزي.. سلم على - المدام-, مع السلامة.

بعد أن أقفل الخط, راح يشتم:

  • حمى تسلقك وتسلق سليم وعلى هالمعرفة.. يضرب هو وأمثاله ما أبيخهم.. ما فيه أحط من هيك شخصية.

هويعرف وصف نفسه كما يقول أهل هذه البلد.

- بالوجه مراية وبالقفى صرماية- ...

بالرغم من أن الشارع يسوده شيء من التوترعلى أثر إخفاق عملية الوحدة أوالاتحاد, وغليان مكتوم بسبب تسلط الشرذمة تلك على مفاصل الدولة وإساءات تصدر من الحرس القومي لبعض المواطنين, فقد عزم على رحلة الشمال.

أسرع يجلب الهدايا من الحلويات الدمشقية الفاخرة وملابس مناسبة وبالأخص ما يروق للسيدة زهرالدين, رتبها في المقعد الخلفي للمركبة.

أبلغ سليم عن وجهته وأنه سيغيب عنه أسبوعاً أو أكثرإذا ما سئل عنه في الفرع, وليحمله حمل السلامات إلى معزي وزوجه, كذلك أخبر جورج بأن حفلات الفيلا رهن التأجيل لحين عودته من رحلته السعيدة.

أما سلاحه الفردي الذي تسلمه من مكتب الحزب فقد أصبح رفيقه دائماً وخاصة في مثل هذه الطلعة الخارجية.

أركن جهاز الاتصال في صندوقه (الكرتوني) ليجعله في صندوق المركبة الخلفي وألصق شارة الحزب على زاوية الزجاج الأمامي ثم انطلق منذ الصباح الباكر مخترقاً المدن والبلدات الواقعة على الطريق ذاك.

لم يعرج إلا مرة على محطة وقود وأخرى على استراحة ليتناول شطيرة فلافل مع شراب الكولا الأسود ليسكت معدته الفارغة.

لم يعيه السؤال والوصول إلى مكتب الحزب ومن ثم مركز الحرس المقصود, رغم ما صادف من وجوه واجمة, متأكد أنها غير راضية.

لا يهمه في شيء إنما يهمه مصلحته وبعدها.. فُخار يكسر بعضه.

بالأحضان وبالترحاب الشديد أستقبل ومن على باب موقع الحرس القومي والذي على بابه حارس مسلح برشاش تشيكي( ساموبال) يحرسه.

جاء الحاجب بالشاي سريعاً, من خلف مكتبه يقول معزي وأساريره منفرجة وضحكاته مليئة بالسرور:

  • حبيبي كامل.. بارك لي.
  • ماذا.. هل أتاك مولود جديد؟
  • لا.. أكبر...

يشير إلى كتفه:

  • قد ترقيت رتبة, ترفعت إلى ملازم أول.
  • ها.. نجمتان لم أنتبه لها.. تهانينا حبيبي.

يتعانقان من جديد:

  • لكن.. هذه عليها حفلة.
  • إي.. حاضر.. تكرم.
  • حفلة أكل.. أو.. خليها أكلة حلويات.. لكن على حسابي.
  • لا.. على حسابي.
  • حلويات مقدمة مني.. وحياة الغالي وهي موجودة بالسيارة معي.
  • (إذا هيك) مقبولة.. بعد ما نشرب الشاي.. نذهب إلى البيت.. الغداء ينتظرنا.. من أيادي- ست البيت-
  • هذه المرة موافق.. لكن مرة ثانية ما بريد نعذبها هه.
  • لا عذاب ولا شيء.. واجبك أكبر بكثير.
  • الله يكبر واجبكم.. قال السوق أقرب وطعامه أطيب, سآتي بالطعام الجاهز.

ثم يردف ضاحكاً:

  • نجري اختباراً لمطاعم إدلب.

بعد الغداء الحافل بالترحيب والاستقبال في البيت الذي تفضل به عليه الحزب طيلة ترأسه فرع الحرس في هذه المدينة, عادا مساءً إلى مقرالحرس كي يسهرا هناك في وقت متابعة معزي للوظيفة المسائية.

حلف على ضيفه أن يقيم عنده نهاراً وليلاً ويبيت عنده ما دام هو في كنفه.

وافق كامل على النوم عنده الليلة الأولى فقط إكراماً له ولعائلته أما بعدها:

  • وحياتك وحياة - مدام- زهرالدين, ما بنام عندكم ليلة ثانية.. لعدم الإحراج.
  • الله يسامحك.. ما فيه إحراج.. البيت بيتك وأنت واحد منا وفينا.
  • خلص.. حلفت.. أذهب غداً بمعيتك لنحجز في أحسن فندق.
  • كما تحب.. على راحتك.
  • هكذا راحتي وراحتكم, أعدك أننا كل يوم نتغدى مع بعض.
  • أهلاً وسهلاً.

مضى اليوم الثاني وجاء اليوم الثالث لينقضي في رحلة تطوعية من طرف معزي كي يطلع ضيفه المواطن الوطني الأبي على التحصينات والحشود في المراكز العسكرية على طول خطوط المواجهة مع الجانب التركي المجاور.. ليصورها كامل في غفلة من ضابط الأمن القومي.

ومن سائقه الذي لا يجيد القراءة والكتابة ولا يفقه شيئاً, فرحلتهم التفقدية الاستطلاعية لم تكن بمركبة كامل.. بل بالجيب( لاندروفر ) المخصصة للفرع.

في وسط النهار وعلى مقربة من أصيله, بعد أن جال معزي ببصره من خلال المنظار, ناوله لصديقه:

  • تفضل.. انظر لترى الأشياء البعيدة واضحة.

ثم تابع حديثه بعد هنيهة:

  • نحن الآن في ريف حلب الشمالي, على فكرة ألا تريد زيارة بلدك الأصلي.. حلب؟

كامل يسدل يده بالمنظار, وقال مستدركاً:

  • مؤكد سأذهب إلى حلب.. لكن ليس الآن, نفسي تواقة لرؤية بلدي أي مدينتي الغالية.. وأهلها الطيبون.. فيها أقاربي, لا بد.. لا بد من الذهاب إليها ومن بعد إذنك يا عزيزي.. في طريق العودة إلى دمشق.

ما أسهل الدجل والكذب والنفاق, إنه ضحك على اللحى وخاصة اللحى الحليقة الناعمة مثل ذقون معزي وسليم وجورج وغيرهم, وحتى أقطاب حزب البعث سأضعهم جميعاً في جيبي.. وجيبي الخلفي بالذات.

هه.. أتاجر بهم.. وأين.. سأبيعهم في سوق النخاسة, خدمة لك يا إسرائيل, سيأتي يوم يكونون جميعهم تحت يدي ورهن إشارتي.. أحركهم كأحجار الشطرنج.

الفصل – 29 –

رحلة مضنية غيرأنها ممتعة, تلك حقول البطيخ الأحمر بقشرته الخضراء يسمى هناك( جَبَس ) وبطيخ أصفرزائد الحلاوة ذاق طعمه طازجاً من على ثرى أرضه, وآبار الماء بمعداتها تضخ الماء للري, بساتين الزيتون الممتدة على مد النظر, مناظر جميلة وخيرات ثمينة.

لولا أنها وقعت في أيدي أبناء إسرائيل, وتذكر ( أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل ) ذاك هو نهر الفرات المتدفق يراه اليوم وقد ترعرع في طفولته على ضفاف النيل.

في دجى الليل يرسل تقريره الدقيق إلى معلميه في الموساد عن مشاهداته ومعلومات جمعها عن تلك المعسكرات والقطعات العسكرية, أما الأشرطة المصورة فيحتفظ بها إلى وقتها ليضيفها إلى غيرها فيرسلها عبر شحنة تجارية وهمية لاحقة من دمشق.

ثم فطن إلى شيء, ما معنى كثرة أشجار الزيتون وانتشارها في سهول واسعة, هذا يؤرقنا ليس من مصلحتنا لو أني أملك حرقه ما قصرت ولا انثنيت عن ذلك.. العدو الشرس, لكن سيأتي اليوم.. سيأتي ونهيمن على كل شيء, الموعد قريب.. قريب يا يهود.

عبرأيام أنهى مهمته ووثق المعلومات المدونة عبر إرسالياته الدورية, وما أحد يدري عن ما يصنع شيئاً أو يشك في صفائه عند حله وترحاله.

حان وقت الوداع, بالإضافة إلى الهدايا التي فرحت بها كثيراً سيدة هذا البيت وفرفش أيضاً زوجها المتألق, قدم لهما مبلغاً من المال وقدره ألف ليرة, ليتعفف معزي عن أخذه لكنه دسه في ثياب الرضيع على صدر أمه قائلاً:

  • هذا نقوط للمحروس.. الله يخليلكم إياه.
  • تسلم ويسلموا الأيادي.

قبلتها السيدة ضاحكة،برعاية الملازم أول قائدالحرس الحزبي المرموق.

تم الوداع على أمل اللقاء..متى؟لاأحد يدري.

لم يسبق له رؤية حلب الشهباء مسقط رأسه المزعوم إلا على الخارطة،أما اليوم فهاهو يتجول في شوارعها ويخترق أحياءها, يعاينها جيداً من أجل إن سُئل عنها فيحير جواباً شافياً عنها،فمن غير المعقول أن يذهب إلى الشمال ولايدوس أرض مدينته ولاينزل في ساح أقاربه...

القصص والأكاذيب يجب أن تكون محبوكة جيداً..على طريقة المهام المهمة.

     من شارع بارون إلى بستان كليب المجاور إلى باب الفرج وباب الحديد وباب النصر, كلها أبواب يبدو أنها كانت أصلاً في التاريخ, تلك هي الكلاسة وهذا هو حي الصاخور.. ومنطقة الصناعة في العرقوب ومسلخ المسواق.. ووو.. قد حفظها عن ظهر قلب واحتياطاً دونها في أجندته.

في دمشق لا بد أن يكون الاحتفاء بعودته الميمونة حافلاً في حفل حافل بالرقص والغناء والمشروبات المحببة يقيمه هو لمستقبيله من الأحباء والأصدقاء المتكاثرين يوماً بعد يوم.. وحفلة وراء حفلة ووليمة تنطح أخرى وهلم جرا.

أما القصص والحكايا الملفقة التي نسجت في باطنه تظل جاهزة للبوح بها عند اللزوم.

أقبل الصيف وفيه شهرتموزالحارولما يغلي الماء في الكوزبعد,من شدة حرارته.

وعلى حين غرة في صبيحة يوم الثامن عشر منه, بينما كان أهالي العاصمة دمشق وما أحاط بها غارقين في أعمالهم, كل واحد منهم    منصرف إلى ابتغاء رزقه لا يلوي على شيء ولا يفكر في شيء سوى إنجاز ما عنده من عمل.

إذا بمجموعات من قوات عسكرية تنتشر إلى ساحة الأمويين بالقرب من مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى رئاسة الأركان العامة متسللة من البساتسن المجاورة تدعمها بعض الآليات المدرعة والعربات العادية المسيرة.

يقود تلك القوات الضابط برتبة مخفية مموهة, محمد نبهان من الطائفة العلوية.

وكان العسكريون من الطائفة تلك قد دسوه في وسط الضباط الذي يشك بهم أن يقوموا بحركة انقلابية.

وكان قائد الحركة العقيد جاسم علوان الذي يقود التمرد.. وقد أسميت محاولة الانقلاب باسمه, يسعى إلى السيطرة على معسكرالإشارة وكلية الشرطة العسكرية في منطقة القابون شرق العاصمة دمشق.

إلا أن وزير الداخلية أمين الحافظ قد أمر بسحق الانقلابيين بعد أن أمراللواء المدرع السبعين للتحرك من موقعه عند بلدة الكسوة نحو دمشق للقضاء على الحركة.

شارك الطيران السوري من طراز ميغ 17 الذي أطلق عليها بعض الناس لقب( أم كامل ), عملت تلك الطائرات القديمة والتي تحلق على ارتفاع منخفض في مهاجمة العناصر العسكرية التي تتقدم لاحتلال مبنى الأركان والتلفزيون.. طاردوها إلى ما بين البساتين الزراعية القريبة من المكان المشهود.. هناك وفي ساحة الأمويين اختلطت دماء العسكرين من جماعة الانقلاب بدماء المدنيين المتواجدين قدراً حيث دارت المعارك الدامية.

والنتيجة كانت فشل تلك المحاولة وباءت حركة جاسم علوان الناصري الوحدوي بالفشل الذريع.. إذ كان هدفة إعادة الوحدة مع مصر بعد ما تبين له كذب البعثين في ادعاء بأنهم يسعون إلى الوحدة العربية.

ولعل أبرز أسباب الهزيمة هو خيانة محمد نبهان المندس بين ضباط الانقلاب كما زُعم ,وهو من أوكلت إلية مهمة السيطرة على أهم مبنيين في العاصمة .. قيادة أركان الجيش ..و مبنى الإذاعة والتلفاز،                                                                                                                                وعلى مسافة ثلاثمائة ذراع من الميدان الدامي ظل كامل يتردد مطلاً من شرفة بيتة تارة و قاطعاً الصالة تارة أخرى جيئة و ذهابا يترقب حصيلة ما يجرى في الحارة.

على غيربعيد من الوقت جاءته الأخبار حاملة في طياتها ما تهفو إليه نفسه, فقد قضي على حركة التمرد وتم اعتقال رموزها و في مقدمتهم رأس الفتنة جاسم علوان.

هكذا في ظل الانقسام وتشتت البلدان العربية إلى دويلات متفرقة.. يبقى العز- لدولته إسرائيل-.. و كفى.

في برهة وجيزة شكل البعثيون محكمة عسكرية مؤقتة برئاسة الضابط الهمام- صلاح الضلي- أضله الله حسب دعوات إذاعة صوت العرب و نعتها له.

أما الواقع بالنسبة لكامل فلا غبارعليه, فهذا الضابط شخصية تتمتع بالقوة والإلهام, إذ أنه من زبائن الفيلا وحفلاتها العارمة.

جرت محاكمات سريعة لعلوان والمجموعة الانقلابية وحكم عليهم بالإعدام فيما عدا الضابط نبهان المدسوس حيث خرج بمسرحية هلامية تصنع فيها الإغماءة في قفص المحكمة أتبعه بإبداء الندم والتوبة.

بقي الحكم بحاجة لتصديق الرئيس الأتاسي عليه, و هو الشخصية المؤيدة للوحدة مع مصر, رفض الأتاسي التصديق على الإعدام, ثم أعلن استقالته من منصبه في 27/7 على خلفية صراع الأراء المحتدم بين أطراف السلطة المدنية و العسكرية.

مع وقف التنفيذ.. توصلت اللجنة العسكرية إلى حل ماكرباختيارواجهة سنية مثل أمين الحافظ, حيث نصبوه رئيساً للدولة مع نيله رتبة الفريق بسهولة ويسر, بلا مقدمات و دون حسبان.

نفذت بعض الإعدامات, و تمت تصفية ضباط بالجيش بالإقالة ممن يشك بمناوءتهم للحكم الفاشي, و بهذه الطريقة الدموية العنيفة على يد واجهة البعث أمين الحافظ.

تمكن البعثيون من السيطرة التامة على السلطة وقمع المعادين و إرهاب الجميع وبث الرعب في قلوب الجماهيرالتي تحلم بعودة الوحدة, حيث صار ذلك الحلم وهماً, و تلك الآمال أثراً بعد عين.

عند لقائه بحاطوم بعدما هدأت الأوضاع واستتب الأمن، جرى بينهما عناق حار،وهنأه بالانتصارعلى الخونة..عملاء الاستعماروالإمبريالية العالمية:

  • سحقاً للخونة..سحقاً لعبيدعبدالناصر.
  • سلمت أياديكم،ماقصرتم فيهم..هؤلاء يلزمهم ضرب وسحق..لئن نجو من جنازيرالدبابات..يلزم دعس رؤوسهم بالنعال.                                                    سليم يقهقه بعنجهية وقد سربكلام الرفيق كامل،عندما دارت الخمرة برأسه راح يجيب على جميع أسئلة صاحبه.

في الليل الدامس طارت الإرساليات إلى تل أبيب بكل ما استطاع عميلهم في الشام جمعها وطيها في برقية عاجلة.

تم إعدام حوالي ثلاثين من الضباط المشاركين،قدم الفريق محمد الصوفي وزير الدفاع استقالته،وكان اللواء زياد الحريري رئيس الأركان قد أعفي من منصبه سابقا مع عدد من العسكريين الناصريين،رزح قيد الاعتقال عدد من الضباط المؤيدين للوحدة، وآخرون ممن كانوا ظاهرين في عهد الانفصال.

الفصل - 30 –

أواه يا مدينة التاريخ،ماالذي أصابك من وهن حتى تحكمت فيك حثالة المجتمع،ماكنت تنامين على الضيم يشهد بذلك المحتل الفرنسي،منذ اليوم الأول للعدوان خرج ابنك البار يوسف العظمة وزير الحربية آنذاك ب 3000 جندي يجابه القوات الغازية المدججة بالسلاح والطيران في معركة غير متكافئة..رافضاً الاستسلام.

وعلى مدى الأيام ثارأبناؤك.. خرج الشباب والرجال ،يتقدمهم علماؤك يرفعون راية الحرية، إلى أن صارالتحررقاب قوسين أوأدنى،وخرج المحتل في نهاية المطاف.

ما بالك اليوم تحتلك تلك الحفنة الباغية ممن لايخافون الله ولا يرقبون في المواطنين إلاً ولاذمة،هل خلفهم الاحتلال المقيت نيابة عنه من باطن الوطن ومن بين المواطنين؟!!

كان لا بد له أن يختلي بعميلته الراقصة ساعة في شقته كي يطرح عليها أسئلته وتفضي له بكل ما عندها:

  • هل من جديد؟
  • لا جديد.. سوى ما تعرفه حضرتك عن الأحداث الدموية الأخيرة.. أنا لا أفهم بالسياسة ولا دخل لي بها.

ثم تابعت قائله:

  • هذه شغلتكم ياحبيب.
  • إذن ماذا؟
  • أنا أرقص وأغني.. استميل العسكروالسياسيين ومن تريد أخضعم لك ببساطة, كلهم تحت ذراعي هذا.

ثم تقهقه ويشاركها كامل.

تعاود الحديث:

  • أراك يا كامل.. مكانك راوح, لا تصعد سلم المناصب بسرعة.
  • تعرفين أني لست وصولياً.
  • لا.. سلامتك, تحت يدي من يوصلك بسرعة البرق أكثرمن سليم.. سليم غارق في اللهو والعبث كما ترى.

قال باهتمام بالغ:

  • ومن يكون؟
  • أحمد رباح..رئيس فرع الحزب في دمشق.
  • عرفته..هل هو أيضاً من زبائنك؟
  • لا ليس..بل هو من طرفي..هذا سرأبوح لك به لثقتي بك..إنه من ملتي...
  • تعني أنه من...
  • من يهود الشام يا عزيزي.
  • وكيف صار بهكذا منصب؟!
  • لاعليك..لن يكون الوحيد،سأوصيه عليك.
  • كذلك اسمه أحمد!
  • لاتستغرب،يجب أن يكون..أنا اسمي سماح.. وأنت ماذا..أوراءك سر،لِمَه لم تتزوج حتى الآن مع وفرة المال،ألم تعرض عليك الفتيات؟!
  • كثير.
  • وما زلت..إذن ماذا؟ أنا لاأدعوك للزواج مني..لاأريد التقيد،هكذا أنا حرة أصنع ما أشاء،وأخدم اليهود بما أستطيع،أنا فتنة وديني سمح لي بذلك.

ثم تقهقه صاخبة:

  • وأنت المغترب الثري ستعرض عليك الرفيقات للزواج وسواهن،كثيرات سوف يحمن حولك.

ثم نهضت واقفة:

  • دع عنك كل شيء..تعال معي إلى أحمد رباح.. هناك تجد ضالتك.

لم يفته أن يصطحب هديته مع صحبة الراقصة سماح, وهي بجواره يقود مركبته شاقاً طريقه إلى حيث آخذة العميلة الصدوق بناصيته نحو المراتب العليا.

تتسلى بالكلام:

  • ما رأيك في قادة الحزب؟
  • أكابر.

قالت ساخرة:

- أكابر.. ها, شهادة حق أم شهادة زور ياأستاذ؟

تلعثم قائلاً:

  • أ.. أقول لك الصحيح لا.. لا أستطيع التمييز.
  • أفيهم متدينون؟
  • إذا أردت الحقيقة..لا يوجد.
  • أكفار.. هم.
  • يعني.. ليسوا صراحة..إنما بالمجمل يمكن الحكم عليهم.. وبمثل ذلك.
  • كيف ذلك؟إما هكذا أوهكذا،أنا مؤمنة ..أحمد رباح مؤمن..وكثير من اليهود مؤمنون مثلنا ويعملون من منطلق ديني..أما هؤلاء فما دينهم؟!
  • الصراحة ..أنا قرأت كتاباً لمؤسس الحزب زكي الأرسوزي يقولون أنه علوي.. يعني نصيري ملة من الملل، الحقيقة إنه ملحد دون جدال.
  • وغيره؟
  • مثلاً..مشيل عفلق مسيحي نصراني..الرديف الثاني للبعث،لديه كفر مبطن.
  • إذن ما معنى الحزب الذي دخلتم فيه،هي المصلحة ..أو أن وراءك شيء غامض يا أستاذ كامل!!
  • أنا واضح..وأتكلم بصراحة..لالف ولا دوران..أنت تعملين مع رجل يحب الاستقامة.
  • هه..لاتهمني الاستقامة كثيراً..يهمني ما أقبض من مال..أدعم به من خلفي، ورائي ناس من بني قومي يجب أن يأكلوا ويعيشوا.
  • تمام..تماماً سيدة سماح.

دخلت على أحمد رباح دخول أهل البيت ومعها ضيفها،عانقته       شديداً، قدمت رديفها بعدما وضع حمله على منضدة المكتب:

  • أقدم لك الأستاذ كامل أمين ثابت،كان في الماضي مغترباً في الأرجنتين،وحالياً مقيم في الشام ومن رواد الحزب.
  • أهلاً بك أستاذ كامل ، والله شرفتنا ..تفضل اجلس..حضرتك منتسب ومسجل عندنا ؟
  • نعم.
  • سأرى.

يتناول دفتره- الأستاذ- ويبحث فيه.

بعد هنيهة.. يحدجه بنظرة ثاقبة:

- موجود.

تتوجه كلية إلى أحمد رباح:

- سيدي..لاأريد توصيتك بالسيد كامل..سيد كامل مكانه في     قلبي..حضرتك تعرف ما معنى في قلبي.

رباح يتضاحك قائلا:

  • أحمد رباح..وفرع الحزب كله تحت أمرك سماح..تؤمري أمر،طلبك   مجاب فقط قوليه.
  • أريده يصيرفوق.

ترفع ذراعها العاري للأعلى.

  • حاضر لعيونك..من الغد سأرفع اسمه إلى القيادة مع التزكية.
  • عشت سيد راسي.
  • هل من طلبات أخرى؟
  • هذا يكفي..فضلت.

يرمقها غامزاً بعينه:

  • الفضل للرب..يا ابنة الأخوال.

انتهت مهمتها, وتكتمل عندما يؤدي كامل واجبه نحوالعميلة التي وجدها صاحبة كلمة مسموعة على مستوى لا يستهان به في مراكزالقوى, عليه أن يوصلها إلى منزلها.. هناك وعلى مفترق الوداع أخرج من جيب سترته مبلغ.. ثلاثة آلاف ليرة يعطيها إياها, لكنها أجابت مترددة:

  • اليوم لا أريد منك شيئاً.
  • بلا يمين.. إلا تأخذيها.

ثم دسها خلف حاملة صدرها.

  • شكراً لك أستاذ كامل.. إنك إنسان فاضل, أنت الوحيد ممن تعرفت عليهم.. يعطيني أجري ويغدق علي دون أن يبتزني, أما الباقي وفي مقدمتهم رواد الفيلا.. من رؤوس الحزب الحاكم.. كلهم رعاع.. أوباش.
  • أعرف.. أعرف.. يركعون عند رجلك.. وإذا ما سكروا فقدوا كرامتهم.

ثم أردف قائلاً حين وضعت قدمها على الرصيف:

  • سماح.. لا تنسي.. أن تعطي عائلة أبي رباح حصتها من المال فهم أولى الناس بالحياة الكريمة.. ولسوف أدعمك لاحقاً.
  • من عيوني.
  • تسلم العيون الحلوة.


 

الفصل – 31 –

على مرالأيام تنامى نفاقه ودجله حتى مع الصبية المتفرعة من أصول ينتمي هو إليها, ومع رجل المهمات الصعبة المتربع على الكرسي الأول للحزب في دمشق, يطلق عليه لقب- أمين عام فرع الحزب في دمشق – .

وظيفته تقتضي هذا النهج, لكل واحد مهمة هو قائم بها.. عليه إنجازها على أكمل وجه.

اليوم جاء اتصال هاتفي خارجي من إيطاليا.. من الصديق ماجد شيخ الأرض.. العميل المزدوج, يتفقد أحواله.. يطمئن على مآله.

فلترح بالك ويطمئن قلبك.. قد صاراسمي عند القيادة.. نحن ننتظر النتائج.. ولا ريب ستكون إيجابية.. فقد تواترت الجهات الداعمة, وإن غداً لناظره لقريب.

ما كان بوسع ماجد بداية منذ أن قام بالتعريف بين كامل وجورج سيف, أن يبين ماهية كل طرف للآخر, أهم مافي الموضوع أن يسطرد كامل قدماً, وبما أن وضعه صار لما آل إليه فلم يعد بحاجة لدعم جورج فقد سبقه بخطوات, وكامل شخص ذكي ألمعي يعرف كيف يصل إلى غاياته.

لا ينقطع جورج عن الاتصال بكامل.. يلتقي به, ولربما يصافحه في سهرات الفيلا التي يأتيها ومعه سكرتيرته, كما يردها الأقطاب من سياسيين وعسكريين وكل واحد يجلب معه من تروق له, وأما الحفل الساهرالعاهرفلا يستقيم دون خلاعة رقصات سماح, والخمرة المعتقة.

في وقت آخرحين تسنح له الفرصة الانفراد بكامل يسأله عن أحواله:

  • إلى أين وصلت يا كامل؟
  • وصلت.. دون سعي.
  • أين؟
  • أنا حالياً.. مقرب من رئيس فرع دمشق, واسمي صارعند القيادة.
  • وكيف؟ بهذه السرعة؟
  • لست أدري.. الجميع يحبني.
  • إذن أمك رضيانة عليك.
  • هذا ما لا شك فيه.

جورج يهز رأسه بالموافقة, تسود لحظات من الصمت, يقول بعدها:

  • أتظن يا كامل.. أننا سنحارب إسرائيل؟!
  • لست بأعلم منك, أنت على رأس برامج الإذاعة.. الأخبارعندك.
  • هه.. هه.. رغم أننا في التعليقات أو –التعليكات- .. نهاجم إسرائيل والإمبريالية, ونعدها أن نلقيها في البحر, لكن إحساسي أنه كله هراء للاستهلاك المحلي.
  • ما هذا الذي تقول يا جورج؟!
  • اسمع مني.. أنا مطلع.. وماجد صاحبك مطلع أكثر مني ومنك إسأله إن شئت.
  • على فكرة ماجد تكلم معي من أيام.. هو بخير ويسلم عليك.
  • تسلم أنت وماجد.
  • هل سمعت بتصريح الرئيس التونسي بورقيبة قبل فترة؟
  • وماذا صرح؟
  • لقد نصح العرب.. أن يصطلحوا مع إسرائيل.. وخلص.
  • أنت متاكد من الكلام؟!
  • هه يا حبيبي مثلما أراك الآن.
  • ما قصدك؟
  • أنا على هذا الرأي وماجد أيضاً وآخرون.

نظرفي عينيه ثم أشاربأصبعه نحو صاحبه:

  • وأنت.. أنت كامل لا بد أن تكون معنا في الرأي, كفانا تسليح وإهدار أموال لا طائل وراءه، يجب أن يعم السلام في منطقة الشرق الأوسط.. ويعيش الناس حياتهم, أنا إنسان أحب الصراحة وأكره الضبابية.. أو اللف والدوران.. كن واضحاً, الصراحة فيها راحة يا حبيبي كامل.

يهز رأسه بالإيجاب دون أن ينبس ببنت شفة.

للحديث صلة كما يبدوعند جورج المطلع على خفايا الأمور, في لقاء آخرمع صاحبه باشره قائلاً:

  • هل اطلعت على رموز الثورة؟
  • ليس كثيراً.. مع أني أعرف الأسماء الكبيرة.
  • والصغيرة يا حبيبي.. هي الحاكم الفعلي, اللجنة العسكرية من صغار الرتب هم الذين يحكمون عملياً.. من وراء الستار, وجلهم من غير المسلمين السنة.
  • نعم.. ذلك في حد علمي.
  • لا يغرنك.. الفريق أمين الحافظ.. رئيس مجلس الرئاسة.. قائد الجيش.. أمين عام الحزب, أي قرارلازم يصادق عليه الخمسة المتوارون في الظل.
  • ها.. ها.. هكذا يعني!!
  • يلعن- هيك - دولة رئيسها لا يحكمها دون بصمة حافرمن هم أقل منه شأناً من الضباط.
  • إي.. طول بالك يا صاحبي, أنا أرى أن البلد مضبوطة حالياً, وإن كانت في أيدي العسكر, أهون من الفلتان الأمني.
  • انظر إلى الغرب.. هم يعيشون وينعمون بالحياة السعيدة دون القبضة الحديدية.
  • صدقت.. صدقت.
  • أما نحن حتى القادة السياسيون.. فهم عملاء.
  • ماذا تقول؟!! أخفت صوتك.. هدئ نفسك.. بلا عصبية.
  • لا أحد يسمعني هنا. الحوراني وإن يكن خارج اللعبة حالياً فإنه عميل بريطاني, ومشيل عفلق عميل فرنسي.. وماذا تريد بعد من تفاصيل!!
  • أنا على ثقة برجال الحكم, الوضع القائم يعجبني, وهذه البلاد لا تنفع فيها إلا القوة والعنف.
  • يعني يعجبك نظام استبدادي دكتاتوري!! أثرت حفيظتي يا كامل.
  • نحن عندنا هنا.. قيادة جماعية.
  • هه.. والنعم والله.
  • على كل حال أكثر البلاد العربية فيها أنظمة استبدادية, مع ذلك ماشية أمورها.. وما العيب إذن عندنا؟
  • انتظرقليلاً.. أيها المغترب, لسوف ترى عجباً.

يتوقف الحوار, لكنه لا ينتهي, الكلام كثير, أما ما يرسو في الباطن فلا كيل له ولا عد.

ليت أحداً يشاركه أسراره, لكن كيف ومتى!.. ضعف الطالب والمطلوب.

امتلأ داخله سروراً وغبطة, عندما وقف أمام المرآة وجد نفسه يبتسم ثم يضحك ملء شدقيه, وقد طفح البشر على وجهه.

حيث أن الأحداث تجري في مجراها الصحيح،ولا رياح تعاكس وجهة سفينته،ها هي سماح التي وقعت في يده تأتيه بكل خبر سعيد..أحمد رباح يهودي يتربع على قمة هرم الحزب في العاصمة دمشق،وجورج وماجد وأترابهم يؤيدون الصلح مع إسرائيل، وقادة الحزب ومنظروه ملاحدة..يدينون للأجنبي..ينحنون لعاصفة التغريب والتشويع كي تمر على نواصي الأمة فتعمل على اقتلاع الدين من جذوره.

أما العسكرفهم ثلة باطنيين من ملل مختلفة..وراءهم ما وراءهم والمخفي أعظم،وقيادة الموساد بكل الأسرارأعلم..والمحفل الماسوني أدرى.

عندما جاءته سماح على حين غرة حاملة له النبأ العتيد من لدن أحمد رباح.. فقد صار هو كامل عضو قيادة الفرع، وحلوان البشارة الرائعة..دفقة من آلاف الليرات الورقية دست في يد الراقصة الكاسية العارية.

حدثته الراقصة اللعوب المنحدرة من- شعب الله المختار- كما زعمت..بما ظنت أنه لايدري عنه شيئاً، بأن كثيرين ممن يصلون إلى المراتب العليا في العالم العربي لابد لهم من ولوج الغرفة السوداء في المحفل فيختموا ويعمدوا..لمن لم يكن أصله من يهود.

الفصل -32 –

على ضوء منصبه الحزبي وجب عليه أن يقيم مأدبة فاخرة لرفاقه الحزبيين، في -الفيلا- إياها المخصصة لمثل هذه الحفلات.

توافد المدعوون ليعبوا من ما لذ وطاب..من أفخر الطعام الجاهز.

أقبلت سماح لتحيي الليلة الحمراء وتغني للثورة والبعث وللقادة الحزبيين مع رقصاتها الخليعة،وضرب كؤوس مشروبهم المفضل، حتى ثمل من ثمل وسكر من سكر.

قام العربيد سليم يجرالراقصة من جيدها بعنف،فتصدى له كامل..أوقفه عند حده وسط القاعة ثم تبعه جورج يهدئ الموقف:

- لا يا سليم بيك..سماح في عهدتي ولا تؤخذ قسراً.

دفعها سليم بعيداً فألقاها أرضاً..أنشجت تبكي وهي نصف عارية.

أما جورج فأخذ حاطوماً إلى أقرب مقعد، وأما كامل فراح يلقي خطبته في الحاضرين:

- هذه المرأة سماح..وإن كانت بنت ليل لكنها بنت أصول لاتعامل مثل الساقطات..هي في عهدتي وأنا مسؤول عنها..وإنها أيضاً لعلم الجميع مقربة من القائد الرفيق أحمد رباح...

ساد صمت مرهون بالوجوم.

لم يقطعه إلا الغانية بعدما كفكف كفيلها دموعها،عاودت رقصها وغناءها..تلطيفاً للجو ومحواً للحساسيات،أقل مجوناً مما سبق،في نُزل كله فسق وفجور،ترنح سليم فسقط على الأريكة الوثيرة وهو يخورمثل الثورالهائج،حيث غاب بعدها عن الحضور.

أردف خلفه بعض من أقرانه في حالة مزرية..وصارالمشهد مخزياً.

لم يكن تصرف كامل ذاك إلا نابعاً من يهوديته ودفاعاً عن بني جنسه،عصبية وليس خُلقياً فالأخلاق معدومة عند تلك الطبقة من الناس.

مضت تلك اليلة المطرمة بشرورها وشرحاضريها،وقد عزم كامل على التقليل من الحفلات لسببين الأول أحداث تلك الليلة القانية والثاني عدم ضرورتها وقد صعد إلى منصب ليس بالقليل،تحقق فيه جزء من الحلم السعيد.

كانت التظاهرات المؤيدة للوحدة قد خفت أوارها إلا ماندر،على أثر أحداث 18 تموز وما تلاها من إجراءات تعسفية قمعية دموية..أدمت الشارع الشعبي وأرهبته.

غيرأن شيئاً واحداً ظل يمارس تحدياته للحكم القائم.وهو صلاة وخطبة الجمعة في مسجد الجامعة التابع لكلية الشريعة ..التي أسسها مصطفى السباعي منشئ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.

سبق لكامل أن ارتاده..قبل هذا العهد حين كان يصلي ظاهرياً أمام الخلق المتدين تمويهاً وجُنة.

المسجد قائم وسط ساحات وحدائق واسعة غناءة جميلة،لايجاوره أي من الأبنية.

في الجمعة الأخيرة التي لم يشهدها كامل.. بل سمع بعضاً من أنبائها, توافدت الجماهير من كل حدب وصوب.. من المدينة والأرياف وبعض المحافظات.. لتسمع خطبة عصام العطارالنارية.. الذي صار زعيماً للإخوان بعد إصابة المؤسسس الأول السباعي بالشلل.

فذلك المنبر بقي هو المتنفس الأخيرلأبناء الشعب السوري المكبوت المغلوب على أمره من هذه السلطة الباغية.

كما روى المخبرون: في خطبته المطولة.. شن هجوماً قوياً لاذعاً على السلطات القائمة التي صادرت الحريات.. وحكمت بالتسلط على رقاب الناس والاستبداد والانفراد بالسلطة قسراً رغم أنوف الساسة وأهل الاقتصاد وسعت إلى تكميم الأفواه وألقت بمعارضين في غياهب السجون, مما ألهب مشاعر الجماهير المحتشدة في الساحات والتي تعد بعشرات الآلاف لتخرج عقب الصلاة في مظاهرة حاشدة.

لكن السلطات أسرعت إلى محاصرة حرم الجامعة بالآليات المدرعة وعدد كبير من رجال الأمن والجيش ومليشيا الحرس القومي منعاً لخروج المظاهرات إلى الشوارع.

الشاب المندفع المتحمس ذات الثقافة الثرية والفكرالمستنيرالذي يتمتع بصفات أخلاقية ودعوية رفيعة قل لها نظير, جعل الشيخ علي الطنطاوي من علماء الشام وأدبائها يزوجه ابنته بنان بمهروقدره ليرة سورية واحدة.

ليضرب بذلك مثالاً رائعاً للأجيال بعدم الغلاء في المهور, لا يفعله إلا رجال من الجيل الأول في صدر الإسلام, من منطلق:

  • إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

وكان قد أعلن في إحدى خطبه رفضه للانقلابات والحكم الدكتاتوري قائلاً:

  • إنني أعلن لكم ولشعبنا كله بغاية الصراحة والوضوح رفضي لهذا الانقلاب،ولأي حكم دكتاتوري عسكري أو مدني ينشأ عنه،واستمساكي بالحكم الديموقراطي الدستوري.

وأقول لأصحاب الانقلاب القائم ومن وراءهم،ولكل مواطن حرشريف:

  • إن الذين يسلبون شعوبهم حريتها وإرادتها وقرارها..يسلبونها روحها وحياتها وكرامتهاوقدرتها على التحرر والتقدم وبناءأي مستقبل كريم،ويقتلونها،ويقتلون حاضرها ومستقبلها،وإن ادعوا- واهمين أو كاذبين مخادعين - أنهم يريدون لها الحياة.

وفي خطبة أخرى حضرها ألوف المصلين قال:

  • أتحدى..إن صفحتنا أنصع من أي صفحة.

وإن جبهتنا أرفع من أي جبهة.

وإن طريقنا أقوم من كل طريق.

وأنا أتحدى كل إنسان كائناً من كان أن يضع ذرة من الغبار،لاأقول على جباهنا المرتفعة،وإنما على أحذيتنا وأقدامنا.

وإنني لأعلن لكم،ولشعبتا كله،أنني سأتابع طريقي الإسلامي والوطني السلمي الشعبي العلني رغم هذا الانقلاب العسكري الطائفي،وأنني سأكون معكم- كما تعودتم –أدافع عنكم،وعن دينكم وقيمكم،وحريتكم وكرامتكم،وسائرحقوقكم،وأتابع العمل والمسيرمعكم إلى أهدافنا العتيدة والجديدة مهما كانت العقبات والتبعات والظروف.

شاء قدر الله أن تكون تلك هي الجمعة الأخيرة يخطب بها في جماهيرالسوريين, ولتكن آخر مرة تطأُ ُقدمه أرض الشام, إذ نوى السفر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج من ذلك العام.

لم يرجع إليها لأن السلطات البعثية الجائرة الحاقدة على التيار الإسلامي المتنامي منعته من دخول البلاد حين عودته، فاضطر للنزول على أرض لبنان البلد العربي المجاور.

وبذلك تخلصوا من لسانه, ومن التجمع الجماهيري الكبيرالصاعد بوجوده على أرض بلده.

وكان هو قبيل سفره قد أناب أحد أساتذة كلية الشريعة بالخطابة, واستمرت خطبة الجامعة على ذلك النهج ردحاً من الزمن.

ومما يذكرله أنه هو وبجماعته الإسلامية الوحيد من رجال السياسة الذي رفض التوقيع على وثيقة الانفصال على الرغم مما بين الإخوان وعبد الناصرمن خلافات.

لأن الوحدة مبدأ من مبادئ الإسلام والفرقة والعداوة خروج عن الصراط.

   بقدرما غضب كامل أمين ثابت بنفسية( كوهين ) من تلك الجمعة وما كان لها من آثار سلبية على حزبه, بقدر ما تهللت أساريره وارتاحت نفسه الخبيثة عند سماعه خبرمنع ذلك العدو من دخول البلاد.

     على ضوء ذلك حلف بقدسية الطاقية اليهودية إلا أن يقيم حفلة راقصة داعرة عاهرة, يشرب مع الرفاق نخب الحدث المهم في تاريخ الحزب, ومن وراء ذلك كيانه التلمودي.

     استمر في خداعه وتضليله الضال, يسترق الأخبارعسكرية كانت أو سياسية أو مدنية.. يضمنها عبرإرساليته غيرالسلكية دورياً, حتى إذا استجمع شيئاً من الصورالمهمة والمفيدة لسادته في تل أبيب, استدعى عمرالشيخ كي يجلب له الطبقات الأثرية المنوعة.. ليجعلها طرداً جوياً حاملة شرائط التصويرتلك.

مع بقاء الأحكام العرفية الظالمة.. والحكم التعسفي وتجاوزات الحرس اللاقومي وبعض عناصرحزبية وعدم رفع الحظرعن الحريات العامة, قامت إضرابات عامة دعا إليها الإسلاميون وآخرون من ساسة ورجال أعمال.

واجهتها السلطات بالعنف والقمع, قامت ميليشيا الحزب معززة بعناصر من الجيش بكسرأقفال المحال التجارية التي أغلقت أبوابها وفتحها عنوة, وإن من يعارض أويحتج يكون مصيره الاعتقال.

تشكلت هيئة الأموال المصادرة, توظف فيها حثالة من المجتمع, صودرت كثير من المحلات التجارية والشركات التي لا تفتح أبوابها, ومنها على سبيل المثال مزرعة في الريف لم تشارك في الإضراب,    وهي مزرعة العلامة الدمشقي الميداني الشيخ حسن حبنكة, موقعها في أراضي داريا القبلية, فخربوها وعاثوا فيها فساداً.

ذلك أن الشيخ حبنكة وطلابه من المحتجين على الحكم الفاشي.

أغلقت محلات الصرافة وصودرت البنوك الأهلية.. فصارت ملكاً للدولة.. ومن ثم جمعها في فروع للمصرف التجاري السوري.. الحكومي يرمز لها بالأرقام.

كما دأب كامل وراء كل إنجاز يحققه البعثيون المتسلطون على رقاب الشعب, يقيم حفلة تدورعلى رأسها الراقصة الغانية اليهودية وتدور فيها زجاجات الخمرة على هامات من أنجزوا وحققوا الانتصارات من الرفاق التقدميين, الذين تقدموا بالأمة نحو الهاوية.

لتصبح الرؤوس خاوية إلا من الطرب والسكروالعربدة.

 

الفصل- 33 -

(والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترأنهم في كل واد يهيمون, وأنهم يقولون مالا يفعلون, إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات...), ينطبق ذلك على شاعرهم الذي قال ولبئس ما قال:

  • آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ومذهباً.. أو ديناً ماله من ثاني.

ذلك الكلام النابي.. بما فيه من كفربواح, رددته إذاعتهم ونعقت به وبمثله صباح مساء, دون خوف ولا وجل, ولا مراعاة لمشاعر المسلمين من أبناء الأمة بطول العالم الإسلامي وعرضه.

وفي مثل هذا جاء في الحديث الشريف:

( أمسكوا الشيطان, لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) من مثل هذا، إذن ذلك هو الشيطان بعينه.

استاء الناس من هذا التحدي السافرلعقيدة الأمة الدينية.. تأججت المشاعروثارالغضب في النفوس, فقامت احتجاجات وعمت مظاهرات واعتصامات, ومنها الاعتصام بالمسجد الأموي الكبير في دمشق العاصمة التاريخية للخلافة الأموية.

وجاءهم المغضوب حاطوم بكتيبته المشؤومة, ليقتحم المسجد بالآليات المدرعة, ويدنس حرمة المسجد- بالبسطار العسكري- .. وبسبابه وشتائمه.. وكلماته النابية التي اعتاد عليها ونشأ على لوكها.

لم يكن هذا في حسبان المعتصمين, هذا بيت الله فلا أحد يقتحمه بهذه الطريقة الفظة, ناهيك عن الكلام القبيح حتى المحتل الأجنبي في زمن الاستعمار, كان إذا دخل أحد الثوار حرم المسجد فيرجعون عنه, أما هذا الحاكم المحلي ابن البلد, فلا يلتزم بالأعراف, جميع الأعراف والمباديء والأداب ممتهنة عنده, لا يوجد مكان آمن, من بطش هؤلاء القوم المتسلطين بعنجهية أشد من عنجهية الجاهلية الأولى.

أومأ إلى عناصره باعتقال المعتصمين:

  • خذوا هؤلاء الكلاب.
  • لا تدعوا أحداً.. أولاد ال...

ثم راح يزعق ويزمجر:

  • جروهم جرالكلاب, حتى يعلموا من نحن, نحن ندعس المعارضين ونكسرالرؤوس.

ثم يقهقه بعنجهية ووقاحة مالها مثيل.

تم اعتقال جميع من كان في الجامع الكبير.. مترامي الأطراف, إلا   من استطاع التسرب هنا وهناك.

حتى أنه كما قيل في دعابة, أنه أمر بتفتيش حمامات المسجد إن كان فيها أحد مختبيء فيجلبوه إذا قال عند طرق الباب- أحم – وإن قال- قحم – فدعوه فإنه من جماعتنا, أي لا يكون ثائراً ضدنا.

تلك القاف التي عانى الشعب السوري من أصحابها معاناة مريرة على مرالسنين وما زال.

لا بد لكامل أن يدلي دلوه في كل حادثة, أسرع بهديته إلى رأس الأفعى سليم الذي قام بعمل يشكرعليه ويقبل من بين عينيه, جل الهدية مجموعة من الخمور التي يطرب لب حاطوم عليها.

كل ذلك يحدث في مطلع عام 1964 , ليلتقي الحاقدون من أمثال كامل- كوهين – وأحمد رباح اليهودي مسؤول الحزب الأول في دمشق, وأفراد اللجنة العسكرية المتطرفة, فيحيكون قصة- كتائب محمد – يلصقونها في عدد من الشخصيات الإسلامية الذين كانوا على رأس المعتصمين المحتجين.

وتنعقد جلسات محكمة صلاح الضلي وبجانبه كامل أمين ثابت في صورة تاريخية أثرية, وليحكموا على المتهمين في التنظيم المزعوم بأحكام جائرة.

بعد ذلك يدخل كامل في نفق القيادة القطرية ويصبح فيها, ولذلك الإنجاز والتقدم الخاص به, مأدبة عشاء ما سبق لها سابق, وحفلة داعرة      تتمطى فيها الراقصات الداعرات الزانيات الغانيات بقيادة يهودية –أصيلة- من يهود الشام, يلتفون مثل الأفاعي على خواصر القادة العظام- من دني إلى همام -.

كان الرئيس عبد الناصر قد طلب من صديقه الحميم الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا التدخل لدى المسؤولين البعثيين في سوريا من أجل تخفيف حكم الإعدام عن مناصره المعتقل العقيد جاسم علوان ونفر من رفاقه الذين شاركوا في محاولة الانقلاب الفاشلة- 18 تموز -, وقد نال مطلبه بتلك الوساطة.

في بداية العام 1964 الحافل بالأحداث الجسام تم الإفراج عن صديقهم السابق العقيد علوان ونفيه إلى مصر ليعيش معززاً مكرماً بكنف القيادة المصرية- الجمهورية العربية المتحدة – التي ظلت بإقليمها الواحد الجنوبي وبزعامة بطل العروبة جمال عبد الناصر.

لم يستطع البعثيون التفوق عليه أو مجاراته, رغم الشعارات المشابهة لشعاراته, في الوحدة والحرية والاشتراكية, والأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة.. على حد قولهم.. إلى غير ذلك.

ومع سوء التطبيق صار تردادها على الصعيد الشعبي.. وحدة.. حرامية( نشترية ) أي نشالية.

غالبية الناس تؤيد الوحدة, وتصبوا إلى ما تردده الإذاعات المصرية من شعارات وأقوال وتعليقات, لكن حكام سوريا اليوم وقد حنثوا بوعودهم, فقد فقدوا التأييد الشعبي فيما عدا المنتفعين والوصوليين.

وقد بدا كامل أكثرجاذبية وهو يغدوا إلى اجتماعات القيادة ببدلته الزاهية وربطة عنقه الأنيقة, بعد تزكية من الرئيس الفريق محمد أمين الحافظ.

وهو الرجل الثري التي طارت سمعته وزاعت شهرته, فغدت أكثر من رفيقة أو شقيقة رفيق تتمنى الزواج به والجثو عند قدمه, إلا أنه يترفع ولا ينزل إلى مستوى تفكيرهم, وفي آخر حفلة من حفلاته, راح ينظر شذراً إلى الرائد حافظ الأسد حين طلب من الخادم أن يحمل بقايا المأدبة الفاخرة إلى سيارته, ثم جاءه يطلب منه أن يدعمه بالهدايا مثلما يدعم بها سواه من ضباط الثورة:

  • أستاذ كامل.. أين حصتي من الهدايا؟
  • الهدايا.. الهدايا على عيني وراسي.. تكرم.. غداً تصلك.. أحسن هدية.
  • شكراً لك, نحن معك في القيادة.
  • سلمتم.
  • لن ننساك.. لا أحد ينسى طعم طعامك.. سلمت يداك.
  • وأيديك.. حافظ بيك.

- أنا أحفظ الأسماء.. وأحتفظ لكل مكانه في قلبي.

إمعاناً في النفاق والدجل يتكلم.

مع ذوق طعم الطعام وصدى وقع الهدايا والجزايا توطدت علاقته مع حافظ الأسد الضابط الذي ترفع في نفس العام ( أوتوماتيكياً) إلى رتبة لواء وصار قائداً للقوى الجوية.

لديه الآن إحساس تقدمي,فقد صار تقدمياً..التقدمية هنا تعمدها بغايا وعرايا،بينما الرجعيون..وبالذات من كانوا متواجدين في جامع دمشق الكبير..قد سقطوا في براثن الوهم..غيبوا في سجن المزة العتيق،أضيف إليهم شخص تم اعتقاله حديثاً في تلك الفترة على خلفية عمله في التهريب.

يحكي لزملاء السجن قصته, بعدما ناله ما نال من التعذيب من أجل أن يعترف.. وبماذا اعترف:

  • لماذا تضربونني؟!
  • من أجل أن تعترف.
  • بماذا أعترف؟!
  • آه.. آه.. قضيتي لا تحتاج لاعتراف.
  • تعترف بما قلت وتآمرت.. أنت إخوان مسلمين.
  • ويلي.. أنا.. أنا مسيحي يا جماعة.

آخ.. انا معترف سلفاً.. وبضاعتي المهربة هي الدليل وقد ضبطت, خذوا كل شيء واعفوني من التعذيب..كرمال الله.

وهلم جرا.. المسكين أخذ حظه من بطش السجانين.

يضحك كامل.. في سره وعلناً, قالت العرب- شر البلية ما يضحك, والقيادة أوامرها تملي, ولا أحد يدري ما في الغد من قرارات, أما هو فله يد في كل حركة, هو المحراك ولا ريب...

المنابر الإعلامية دورها حساس.. صحافة يومية وأسبوعية مكتوبة, أو إذاعات مرئية وسمعية.. تغني للبعث والتقدمية والاشتراكية, تشتم الرجعية والرأسمالية.

البعث طريقنا..فلنمد جسومنا جسوراً وقل لرفاقنا أن يمروا, عرف الشعب طريقه.. البعث طريقه, ياسعد كل رفيق ورفيقة.

لكن الشعب قد عزف عن السماع, قد سأم الكلام الفارغ, ماذا يسمع غيرالهراء!!.. تعليقات جلها افتراء وكذب ونفاق.

قام طالب بمدرسة في مدينة حماة ليكتب على السبورة.. لا حكم إلا للبعث.

نهض طالب آخر ليمسح كلام -اللوح- السبورة.. ويكتب مكانه.. الحكم لله.

لا حكم إلا حكم الله.

احتدم الصراع في المدرسة.. لينتشر الخبر في المدينة المحافظة, الشارع محتقن سلفاً لما سمعوه عن تأليه الحزب.. بما حسبوه كفراً بواحاً,  جاءت الشرارة تلك لتشعل نار الغضب الدفين .خرجت مظاهرات فيها إسلاميون وفيها غيرهم, وعم الإضراب المدينة, وسبق أن تم حظر جماعة الإخوان المسلمين, مما زاد الغليان في سائر المدن السورية تجتمع القيادة في الملمات, ولا بد لكامل أن يدلي دلوه في كل خطب.

  • اسحقوهم.. لا ترحموهم, أعداء الثورة والوطن...

جاء الحرس اللاقومي ومعه عناصر من قوات المغاوير بقيادة الضابط الدرزي الآخر العقيد حمد عبيد ومعه حاطوم ومن ورائهم حافظ الأسد وصلاح وعزت جديد لينتقم من مدينة الرئيس الانقلابي الأسبق أديب الشيشكلي, والذي كان ضرب جبل الدروز بالطيران حين تمرد عليه.

قام مروان حديد باللجوء إلى مسجد السلطان الكبير في مدينة حماة آخذاً معه عدداً من الشباب والطلاب, ليعتصموا هناك احتجاجاً وتنديداً بما تفعله السلطة الغاشمة وما يصدرعن محطاتها الإعلامية, وما تنعق به أبواقها,

لم يحمل الشيخ أو الشاب المتحمس أو من كان برفقته أي نوع من السلاح حتى لو كان سكيناً, إنما هناك شخص ما صعد إلى مئذنة المسجد, راح يطلق النار من غدارة كانت بحوزته.

مما جعل الضابط حمد عبيد يأمر بهدم مأذنة المسجد وبالمدفعية وذلك ما كان.

تكرر القصف المدفعي على المئذنة والمسجد, عندها قرر مروان فك الاعتصام في المسجد والخروج إلى الشارع حفاظاً على أرواح الشباب, فتحين فرصة الهدوء النسبي, ليحتويه الشارع ومادكن فيه من عجاج متصاعد.. ووراءه الطلاب.

تم اعتقال الرجل الذي لا يحمل في جعبته غير لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكان عدد المعتصمين قد وصل إلى حوالي تسعين شخصاً, اعتقلوا جميعهم, ثم حملوا مع قائد الاعتصام الشيخ مروان إلى السرايا.. حيث تواجد هناك أمين الحافظ معه مجموعة من القيادة فيهم كامل- كوهين- القيادي البارز والمهم.. وقد دأب على أداء دوره التحريضي, وبالذات فإن أمين الحافظ لا يلزمه من يحرضه.

فهو شخص سليط اللسان مقزع العبارات, فراح يسب ويشتم بألفاظه النابية وكلماته الوسخة التي نشأ عليها, مما جعل مروان يرد عليه بجرأة وأدب المسلم الواثق من ربه, المتمسك بعقيدته:

  • إذاعاديت فكن موضوعياً, التزم بالآداب العامة ولا حاجة للسب والشتم, ولتكن خصومتك يا أمين شريفة.
  • أنتم خونة.. عملاء الاستعماروالإمبريالية يا.. تابع سبابه وشتائمه.
  • نحن أبناء الوطن.. نفديه بأرواحنا.. هذه أرض الإسلام.. نحن شعب مسلم.. مطالبنا حقة...

فقاطعه:

  • اصمت يا هذا...
  • الحكم لله.. وليس للبعث.. من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون, تلك التي كتبها الطالب الحر المعتقل عندكم.

أمين ينعق بأعلى صوته.. خذوا هذا الكلب من أمامي وإلا قتلته.

يتحسس سلاحه المربوط على جنبه بعصبية وتوتر, مواصلاً سبابه القذرة البذيئة.

الحرس يخرجون به من القاعة وعندها تدخل المقدم عزت جديد من الطائفة العلوية فأمسك بلحيته الطويلة قائلاً:

  • هذه المكنسة لا أريد أن أراها ثانية.

فزجره الشيخ مروان وكان قوي البنية:

  • خسئت أنت وحزبك.

وما كان منه إلا أن رد عليه بركلة جزاء من رجله الشديدة على وسط المقدم جديد فأسقطه متدحرجاً من فوق درج مبنى السرايا لتحتضنه الأرض.

والشيخ مروان عائد لتوه من القاهرة بعدما أنهى دراسته في جامعة عين شمس كلية الزراعة.. تخصص محاصيل, وهو الذي لم ينقطع عن متابعة بلده والحركة الإسلامية والطلابية فيها.

فراح ينبه الناس إلى خطر حكم الحزب الإلحادي للبلاد, يعقد الندوات في بيته ومسجده الصغير في حي البارودية.. يكشف نوايا البعثيين ويكشف مخططاتهم.. فيلهب حماس الشباب ويغذيه بروحه التي تستهين بالطواغيت ولا تخشى في الله لومة لائم.

وقد شارك في احتجاجات ثانوية عثمان الحوراني بمنطقة الحاضر في 7/4/1964 يوم أن خرج الطلاب مظاهرة احتجاجية على اعتقال زميلهم في المدرسة الذي كتب على السبورة الآية القرآنية تلك, فاحتج الطلاب البعثيون إلى أن تدخلت المخابرات في الموضوع وقدم الطالب لمحكمة أمن الدولة, طالب الطلاب بالإضراب فاستجاب التجار والأهالي وتدخل الجيش لرفع حالة الاضراب لكن عبثاً, وتقدم المضربون بمطالبهم إلى المحافظ الذي رفض المطالب بدوره وهو الخدام, وحدث أن قتل طالب بعثي أثناء الاشتباك في المظاهرات فاستدعى خدام الجيش وتأزمت الأحداث أكثر فأكثر.

في خاتمة المطاف قدم الشيخ مروان ونفر من أصحابه إلى محكمة مطصفى طلاس العسكرية العرفية وهو من بلدة الرستن المتاخمة لمدينة حمص الوسطية, وهو ضابط بعثي إلا أن عائلته سنية.

وفي جلسات المحاكمات الصورية دار حوار بين طلاس وبين مروان حديد حيث قال له:

  • أنت عميل.

فرد عليه مروان بشجاعة وقوة:

  • أنا عميل لله.
  • أنت مأجور.

رد مروان قائلاً:

  • أنا مأجور لله.

عندها قال طلاس وقد انتفخت أوداجه من الغضب:

  • حكمت عليك المحكمة بالإعدام شنقاً حتى الموت.

قال مروان وقد علت شفتيه إبتسامة ساخرة:

  • والله يا مسكين لوعلمتُ أن بيدك الموت والحياة لعبدتك من دون الله.

فضجت القاعة بالتصفيق الحاد والصراخ والاستهزاء بالمحكمة, وقد كانت الجلسة علنية ومنقولة على الهواء مباشرة فقاموا فوراً بقطع الكهرباء وإيقاف البث الإذاعي تماماً.

وظل حكم الإعدام الجائرعلى مروان وإخوانه من تلامذة الشيخ محمد الحامد موقوفاً لتصديق الرئيس المنصب وغير المنتخب أمين الحافظ, عندها تدخل الشيخ الحامد وبرفقته عدد من العلماء عند الرئيس الملقب بأبي عبده..., فاستجاب للوساطة وعفى عن المجموعة الإسلامية الموقوفة وأطلق سراحهم فيما بعد, ولكن بشرط أن يقوم الشيخ الحامد ذات الكلمة المسموعة في مدينة حماة المحافظة بإنهاء الإضراب العام فوافق على أساس أن يسحب الحافظ قوات الاحتلال العسكري الجائر من المدينة وعودة الحياة المدنية إلى حالها الاعتيادي.

وكان ما كان, شيئاً فشيئاً تحلحلت الأزمة وعاد الهدوء النسبي إلى المدينة.

قبيل الإفراج جاء المقدم عزت جديد المتنفذ ومعه عناصره إلى السجن لينفذ حكم الإعدام الميداني, وليشفي غليلته الحاقدة وأعطاهم مهلة 5 دقائق ليكتب كل واحد وصيته, غير أن مهمته باءت بالفشل وتدخل قدرالله.. وكان الإفراج.

أسفرت مهمة حمد عبيد الإجرامية في مدينة حماة بقواته التي اقتحمت المدينة الآمنة وعاثت فيها فساداً مع التدمير والتخريب والقتل عن عدد من الشهداء صعدت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها تشتكي إليه ظلم الظالمين الجاحدين الحاقدين.

لم يسع الرئيس الحانق الحافظ ان يدع الحادثة تمرعدماً وبلا تعقيبات, فقام يلقي خطبته النارية.. وتظهر فيها النفسية الدكتاتورية الاستبدادية.. وبعباراته الشعبوية التي تسيطر عليها اللكنة الزعرانية.

مهدداً العابثين بأمن الوطن والدولة- على حد قوله – بالعقاب الشديد.

وكان محمد عمران عضو اللجنة العسكرية.. وهو من الطائفة العلوية أيضاَ, وهو الأكبر سناً وأقدمهم في الجيش, كان على خلاف مع جماعة صلاح جديد, فقد كان يرفض الحلول العنيفة ويميل إلى السلمية والتفاوض مع وجهاء المدينة والتوصل إلى حل يرضي الجميع, لكن الموتورين هم الغالبية, وكانت لهم الغلبة في الحل الأمني.

 

فصل - ٣٤-

أفل شهر نيسان وكانت الليلة مظلمة مثل قلوب الظالمين.

لكن ما في صدور المتسلطين أشد حلكة وسواداً.

آه يا ليل.. ما وراءك أشد وأنكى، وما يفعله المتحكمون وأذيالهم في أعقاب الأحداث الدامية شيء يندى له الجبين.

هذه المرة لم يدع كامل أحداً من الرفاق القادة يعرفه إلا ودعاه ليشرب معهم نخب الانتصارعلى تلك الشرذمة الخائنة المتآمرة على الوطن والحزب كما وصفها الرئيس أمين الحافظ.

وكانت- الفيلا- ليلتها تعج بالعسكريين والمدنيين ومعهم نساء كاسيات عاريات.. مائلات مميلات.. تعرضن الجيد والسيقان.. بالخنا والخمج.

وإذ بالجنون يركب التجمع كله بلا رادع من دين أو ضمير أو خلق.

انخلع صاحب الدعوة كامل من وقاره المصطنع، فقام يراقص رديفته اليهودية، كغيرما اعتاده ودأب عليه.

مشهد حرك آخر جلمود في الحضور فقاموا جميعاً وبالتتابع يرقصون منخلعين من الأدبيات والرسميات. يسكرون فيعربدون، ومنهم من ينعق بأعلى صوته.. ثم يسب ويشتم رجالات حماة.. المعروفين فيها بأصالتهم واستقامتهم. والبعض منهم يرفع شعارات الحزب والثورة.. منادياً بالانتقام والثأرمن المعارضين.

ذلك الليل البهيم، تحول بهم إلى ليلة حمراء، فلا حسيب ولا رقيب.

في تلك الحقبة من الزمن، وعلى أثر الأحداث المتواترة، أنشد شاعرالحق والوطن - محمد منلا غزيل - قصيدته الرائعة الشهيرة :

بعقيدتي بالحق بالإيمان يعصف في دمي

بالنور بالإعصار..  جياشاً بوهج الأنجم

بالروح تزخر بالهدى.. بهدى النبي الأعظم

بسنا القلوب الظامئات إلى اللقاء الملهم

سيزول ليل الظالمين .. وليل بغي مجرم

سيزول بالنور الظلام .. ظلام عهد معتم

والباطل المنهار فوق دعاة ليل مظلم

وسيشرق الفجر المبين.. ويرتوي القلب الظمي

والدعوة السمحاء تزحف بالهدى والبلسم

بشريعة الله العظيم.. وبالنظام المحكم

بشريعة القرآن .. دستور الحياة الأكرم

بالنعمة الكبرى ..من الرب الرحيم المنعم

أنا مؤمن بالنصر للإسلام للنهج السوي الأقوم

أنا مؤمن بالنصر للإيمان للوعي الأبي المسلم

- إلى آخرها -

في غمرة الحدث لا ينسى كامل صديقه الصدوق الأول معزي فقد خدمه وقضيته أيما خدمة منذ أن حل ترحاله في هذه الأرض، فلا  تفوته دعوته لمثل هكذا ليلة وردية يجتمع فيها غالبية الرموز المهمة في الحزب والدولة،على رأس قامتها راقصة غانية من بني جنسه، يشربون من عصير خامتها المعتقة حتى الثمالة وضياع العقل، تعلو بذلك رايات بني صهيون وتندثر ألوية الإخوان وحلفائهم من علماء دين إسلامي كانوا قد أثاروا الضجة المحتجة في أرجاء البلاد انطلاقا من أوسطها فيما يسمونها بمدينة أبي الفداء.

ولمعزي منزلة خاصة عند كامل فيستضيفه في منزله أيام إجازته ليقضيها في ربوع الشام كما يروق له وعلى ما يرام.

وإذا ما عاد معزي إلى إدلب ليترأس وظيفته في الحرس القومي،لا يقطعه كامل بل يتصل به هاتفياً بين الفينة والأخرى كيلا ينقطع حبل ود المصلحة فلعله يحتاج منه شيئاً في ساعة من الساعات.

عندما هدأت الأوضاع واستتبت الأمور.. تحرك الصراع الحزبي الداخلي، نزاع بين طرفين،الأول سياسي فيه أمين الحافظ وعفلق وآخرون،والآخر صلاح جديد ومن وراءه من العسكريين الطائفيين.

ومن أجل نزع فتيل الأزمة.. رتب اجتماع في قصرالضيافة القديم حضره القادة من الطرفين،في ذلك الاجتماع الذي استمر حتى قاربت خيوط الفجر على الانسياب، تسلل كامل إلى شقته القريبة من الموقع ليطير إرساليته لسادته في الموساد عن الاجتماع التوافقي وما جرى فيه.

تم الاتفاق على نشرخبراجتماع القيادة وأسماء أعضائها حسب الترتيبات الحديثة في نشرة الأخبار ٧،١٥ الصباحية، غير أن إذاعة إسرائيل قد فازت بقصب السبْق وأعلنت الخبر وأذاعته بتفاصيله قبيل ذلك بساعة من الزمن.    

أمرأذهل قادة حزب البعث، وجعل أمين الحافظ الرئيس فوق العادة يجن جنونه، وأيقن البعض أن بين المجتمعين شخصاً ينقل الأخبار إلى الخارج.. مخترقاً القيادة..!!

وتلك قيادة جماعية على حد زعمهم.. رغم أنه حكم الحزب الواحد. منفرد بالسلطة.. متحكم في مقدرات البلاد وقد آلت إلى يده رقاب العباد.

عام حافل بالأحداث، رئيس الحكومة صلاح البيطار يستنكف عن متابعة مهامه الرئاسية،وهو يدرك تماما وليس بالإحساس فقط أنه مسلوب الإرادة..والسلطات الحقيقية في غير يده.

فاللجنة العسكرية تتصرف وكأنها هي الحاكم الحقيقي للبلاد أو لعلها كذلك ومن وراء الستار،كل شيء يدور في خلفية خشبة المسرح الظاهرة للعيان.

فالباطن غيرالظاهر.. والمستور بعكس المعلن،والحسابات ليست كالقراءات.

غادر البيطار دمشق مسافراً إلى عمان الأردن ليقيم فيها فترة من الزمن يريح دماغه ويرطب نفسه بعيداً عن المعاكسات والمشكلات الحزبية الطافحة مرة،المتناحرة مرات.

وكيف لكامل أن يستكين وهو يرى ما يرى ويلمس كل الأمور والمنازعات عن كثب،وقد غدا على حرقادر،فلما رأى النار تكاد تلتهم الرفاق بلهيبها، قام بمبادرته الفاعلة.. لا بد أن يصنع شيئاً..ليتسم بمظهرالرجل السياسي الحريص على مصلحة الحزب والرفاق والدولة والبلاد.

غادر بدوره الشام إلى عمان ليلتقي بالبيطار.. يطيب خاطره، ويصلح ما فسد من الأمور بين الأطراف المتنازعة المتنافرة.

ويعود رئيس الحكومة إلى موقعه بالمبادرة الصلحية-الكمالية- .

إنجاز جديد حققه كامل- كوهين- يرفع من قدره ويضعه في المقدمة، بكل قضية له يد، وبكل طبخة له أصبع.

توطدت علاقته جيداً مع أعضاء اللجنة العسكرية،ومنهم حافظ الأسد قائد القوى الجوية،وبإذن منه ذهب لزيارة إيلي ألماظ المسؤول عن برج المراقبة في مطاري المزة العسكري والمدني،وألماظ هذا أصبح من أصدقائه بعد حضوره حفلاته الرائعة وأكله من خيراته واحتساءه من نخبه.

حضر إلى البرج ومعه الهدية الثمينة،وعلى وقع رائحتها الزكية التي اخترقت دماغ القائد ألماظ.. تمكن كامل من الاطلاع على كل شيء والحصول على الوثائق وتصويرها هي وكل ما في المكان من أجهزة وحيثيات وفعاليات.

كامل مخترق الصفوف ومطلع على الخفايا،حتى أنه يدري عن رحلات خالد الجندي قائد الحرس القومي، بين الفينة والأخرى إلى مدينة اللاذقية الساحلية، ليهنأ على الشاطئ الأزرق بلقائه صاحبته اليهودية هناك، مما يزيده غبطة وسروراً. حتى أنه سمع عن علاقات غير شريفة بين بعض المسؤولين العسكريين وبين نساء رفاق السلاح و- العقيدة- .

ثم آن الأوان ليذهب إلى مدينة القنيطرة عاصمة الجولان برفقة الضباط الرفاق، وليطلع على صفقة الدبابات الروسية التي وصلت حديثاً من طراز T54

وليصورها في أماكن توزيعها.. ويعرف الفرق بينها وبين الدبابات  T52  الموجودة عند الجيش السوري سابقاً، ويتعرف على الخطط الدفاعية السورية هناك وعن أماكن أخرى وفي حال شنت إسرائيل هجوماً على الأراضي السورية.

خطط دخلت عليها لمسات خبراء الأصدقاء السوفييت كي تتسرب لإسرائيل من الطرف الآخر.

سارع ليرسل أشرطته المصورة بعد تحميضها إلى الموساد عن طريق الجو كما اعتاد، ثم وجه وجهته شطر الشمال السوري كي يعدي على حبيب القلب معزي.. يتناول طعام الغداء مع العائلة إياها، بعدما أنزل هديته المرتقبة.

ثم ينطلق إلى بلدة أريحا الريفية من محافظة إدلب لينعم هناك بجمال الريف وهوائه الطلق النقي.

يرافقه الرفيق الوفي بالمركبة الرسمية (لاند روفر) فضية اللون ليجد له بيتاً مؤقتاً يقيم فيه.. وبناء على رغبته الجارفة.

قبيل الوداع يبادره معزي قائلا:

- كنت قعدت عندنا.. حبيبي كامل، والله نأنس بك.

- أنتم على عيني ورأسي، لا أريد أن أضايقكم.

- بالعكس.. تريحنا.. وتبسطنا.

- بعد أيام أعود إليكم.. لكني أحب التجوال في الريف الجميل، أنت تابع عملك، وإن وجدت فرصة تعال إليّ هنا...

ولا تنسى أن تجلب العائلة الكريمة معك،- المدام - سنا.. عزيزة علي،سلم عليها.

- تسلم.. يصل..إلى اللقاء.

- وداعاً.. نراكم على خير.

 

الفصل - ٣٥ً –

بيت ريفي بسيط في طرف البلدة الساكنة الهادئة، حقول بطيخ أو كما يسمونها هنا - جبس- وبساتين وأشجار على مد النظر، لا ضجيج ولا زحمة سكان وعربات مثل المدينة الصاخبة، ما أشبهها بالغيطان المصرية، صدق من قال عنها:

- إدلب الخضراء.

مرعلى ذهنه هنيهة شريط الذكريات، مصر وريفها ومدنها، تخلص منه سريعاً.. لا يريد أن يتذكر أيام الفقر والعوز، تلك أيام منحوسة برأيه، وقد صار المال يجري حالياً بين يديه، والمنصب والعز والجاه، تعرض عليه المناصب فيرفضها تعززاً من أجل أن يصل للأعلى.

قليل من الوقت يقضيه في الراحة والتجوال والتنزه، ووقت آخر يخصصه لإرسالياته لبني جنسه في الجهاز الاستخباراتي الذي يعمل معه، فجند وأرسل من قبله ليجوس هذه الأرض.

هذه الأرض والديار الرائعة المعطاءة لولا أنها تؤول لبني صهيون.. لا تحزن يا إيلي.. لا بد أنها يوماً عائدة إلينا ألم يقولوا ( من الفرات إلى النيل أرضك يا إسرائيل).

يومها سوف نرتع في هذه الحقول وننعم بخيراتها ونعيش رغداً هاهنا.. رغم أنف العرب والمسلمين.

ويكونون هم خدماً لنا.. وتحت إمرتنا.

هكذا راح يدور حديثه الداخلي.. لعله يهذي به ويحدث نفسه.. حيث لا أحد عنده يفضي إليه بما يكن في سريرته.

ويومها نركب الحمير.. من بني البشر.. أولئك هم في الدون، ونحن على رؤوسهم.. هه.. لكن اصبر قليلاً سيأتيك الخير الذي تنتظره.. ولكن عليك أن تسعى في تلك السبيل.. وإلا لماذا وجودك هنا.. تلك هي الغاية النبيلة التي تبرر أدنأ وسيلة.

دأب هناك على بث إرسالياته إلى الموساد عبر أثير - اللاسلكي - المرافق له والمعد لتلك المهمة.

رسالة عن الدبابات الحديثة وأماكن توزيعها.

ورسالة ثانية عن برج المراقبة للمطارين وما فيه وما عليه.

وأخرى عن موضوع رئيس الحكومة صلاح البيطار.

ورابعة عن تحصينات الجولان العسكرية.

وثم أعد تقريره عن الخطط الدفاعية السورية بمشاركة الأصدقاء السوفييت، وكيف يمكن اشتياح شمال إسرائيل في حال نشوب حرب.

رسالة عن أسماء وتنقلات بعض ضباط الجيش السوري المهيمن.

إرسالية أخرى عن موضوع تحويل نهرالأردن الذي يتشكل بداية من اليرموك النابع من بحيرة مزيريب في الجنوب السوري والهابط من شلالات تل شهاب ليتصل بنهر الشريعة داخل الأراضي الأردنية.

والتي ظلت- نجاح- تغني له: - نهر الأردن ما بيتحول.

حتى حولت إسرائل جزءاً كبيراً منه.

وقبل ذلك قام الطيران الإسرائيلي بضرب مواقع تخص الموضوع داخل الأراضي السورية، نتيجة تقرير كامل كوهين.

وكان آخر التقارير والإرساليات التي استمرت من هناك على مدى أيام بكل راحة وحرية:

- عن حافظ الأسد، بأنه وجد تذمراً من الضباط الآخرين عند تواجده في حفلات كامل، وعندما استفسرعن سبب ذلك أجيب بأنه انتهازي ودنيء، ومن إرسال بقايا الطعام إلى مركبته مع الخدم تأكد من ذلك، وأفاد أنه لم يرأسفل ولا أدنأ منه بين الرفاق العسكريين، وأنه شخص لا نسب شريف له ولا دين يردعه،وذلك على حد قوله في التقرير مما جعل الإدارة الصهيونية تهتم بموضوعه وحالته، وتعد لذلك العدة المعتدة!!؟

وتقرير عن ميزات طائرات الميغ والسوخوي وعن الغواصات التي وصلت من الاتحاد السوفييتي.حسب استطلاعاته،إذ لم يكن أحد يبخل عليه بإجابة عن استفساراته بالشؤون العسكرية والحربية.

وذكر أيضاً الرئيس الفريق أمين الحافظ،أنه أحمق وغبي.. وهناك من لقبه -أبوعبدوالجحش- .

انقضى الوقت وانتهت المهمة تلك التي نذر نفسه لها على تلك البطاح، عاد أدراجه إلى مدينة إدلب ليلتقي بالعائلة الصديقة، ويتناول معهم طعام الفطور وشرب القهوة والشاي. ودعهم على أمل لقاء قريب، كما ودع الشمال السوري إلى غير رجعة، وكانت تلك رحلته الأخيرة إلى هناك.عاد ميمماً شطر دمشق ولما تمض سوى أيام قليلة حتى سمع بنبأ، قد يكون أثلج صدره، آلا وهو وفاة أحد أعلام الإسلاميين في سوريا، الدكتور مصطفى حسني السباعي، وكان تعرف على أنه أسس جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، لكنه في السنوات الأخيرة قد أصيب بشلل نصفي.

وكما نمي إليه فقد أقبل الرجال الثلاثة المبعدين عن البلاد جاؤوا قادمين من لبنان للمشاركة في تشييع فقيدهم.

وهم عصام العطار زعيم الإخوان الحالي ورئيس كتلة الإسلاميين في برلمان عام ١٩٦2 وقد تم منعه من الدخول وإرجاعه حيث أتى والثاني محمد زهير الشاويش ابن خالته عضو البرلمان ذاته وصاحب المكتب الإسلامي في دمشق وبيروت ويعنى بتحقيق وطباعة ونشر الكتب الإسلامية ومنها التاريخية والسلفية، وقد سمح له بالدخول.

والثالث محمد سعيد العبّارزميلهم في البرلمان وصاحب امتياز ورئيس تحرير صحيفة اللواء اليومية السابقة والتي يكتب فيها الإخوان وسواهم من إسلاميين، وهو ضابط احتياط سابق في الجيش و خريج من جامعة الأزهر المصرية ومن الخطباء المتكلمين المميزين والمعروفين، وقد تم اعتقاله بضعة أيام رهن التحقيق.

وقد تمت صلاة الجنازة في مسجد بني أمية الكبير بدمشق وهو المسجد التاريخي الذي أحاطت به الأسواق التجارية من كل جانب، أتى المشيعون من كل حدب وصوب ، وحدث التأبين والكلمات بعد صلاة الظهر في الجامع الكبير، وكانت آليات الجيش وعربات الحرس القومي تنتظرعلى جميع المداخل، وقد أحاطت القوات تلك الجنازة عند خروجها باتجاه المقبرة.

توافد كثير من الناس من خارج المدينة للمشاركة ورفد الجنازة التي أمست شبه تظاهرة سلمية حاشدة، رغم محاولات قوات الأمن منع الجماهير من دخول المدينة.

توفي يوم ٣\١٠\١٩٦٤، وللسباعي كتب كثيرة ومحاضرات وخطب جمة، فهو مؤسس كلية الشريعة في جامعة دمشق ونائب سابق في البرلمان السوري، وساعد ببناء المسجد وسط باحات الجامعة. كذلك فقد قاد كتائب متطوعي الإخوان الذين شاركوا في حرب ٤٨ ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربية بمساعدة الاحتلال البريطاني الذي كان يمد الصهاينة بالسلاح، ويمهد لهم السيطرة على فلسطين وهو ينسحب لهم منها.

وقد أبدى المتطوعون على جميع الجبهات تضحيات وبطولات يسطرها لهم التاريخ.

لذلك فقد سركامل كوهين سروراً لا حد له بوفاة هذا الرمزالإسلامي ممن جاهدوا وبذلوا الغالي والثمين في سبيل القضية الفلسطينية وقد ذاق منهم اليهود مرالعذاب والهوان.

ً

الفصل - ٣٦ -

هذه دمشق تغط في صفاء ونقاء،كأنها تتكئ على راحة نهرها الرقراق بردى، من ريفها الغربي الشمالي الذي يغرد للبلابل ويغني للطيور أناشيد رائقة أزلية، وفيها حَوْر وحُورعين، الماء الزلال بجداوله السحرية يخترق ربوتها الغناء الجميلة متفرعاً سبعة فرق غديرية.

منذ أن وطأ هذه الأرض، ثلاث سنوات انقضت فهي في كفة والأيام القليلة القادمة في كفة ثانية.

هبطت في المطار الكائن غرب دمشق طائرة تقل الفريق أول علي علي عامر رئيس القيادة الموحدة للجيوش العربية القائمة على خط المواجهة مع العدو الصهيوني.

استقبل الفريق عامر استقبالاً لا بأس به، نزل منزلة الرؤساء في قصرالضيافة حيث يحظى بالحراسة الدائمة .

لحين موعد لقائه بالقيادة العسكرية من وزيرالدفاع إلى قائد الجيش وسواهم.

في ذلك العام تشكلت القيادة الموحدة للجيوش العربية التي ترأسها عامر بعد أن كان رئيساً لأركان الجيش المصري.

وفي ذات العام جاءت زيارته لسوريا، التي خرج فيها مع الوفد السوري المرافق إلى الجبهة الغربية.

تألف الوفد من عسكريين ومدني واحد وهو كامل أمين ثابت، حيث أصر على الذهاب مع الوفد، ومن طرف آخر الفريق عامر ومرافقيه.

وكامل يستتر خلف شاربه الأسود الكث، عندما كان يعيش في مصر كان حليقه، لاريب أن شكله قد تغير، وشخصيته الآن تختلف لحد كبير عما كانت عليه قبل سنوات، وهندامه لائق.. وبدلته الزرقاء ثمينة ورائعة، إن منظره حالياً يغر الرائي ويوحي له أن هذا الرجل ذو مكانة وقيمة وهيبة،  كما أنه تبدو عليه الأناقة دائماً ،وكما قال أهل الشام في المثل الشعبي:

- الخرقة ثلثي الخلقة . -

يظهر عليه الثراء حسب ملبسه وحفلاته وهداياه، في ذات الوقت يحاول أن يظهر التواضع أمام معارفه، وإن كان يبطن المكر والدهاء،فالباطن غير الظاهر.

إنه حسن السلوك لحد كبير، لذلك قد صادقه الجميع، وهو كريم بشكل جعل النساء والرفيقات والفتيات اللائي من طرف الرفاق الحزبيين يتهافتن عليه، كل واحدة راغبة  في أن تفوز به، أو تحظى بصحبته.

فما بال الفريق المصري القائد العسكري المخضرم، لسوف يعجب به أيضاً.. لعله في هذه الجولة يكون الأكثر بروزاً وحضوراً.. وهو مدني بين العسكر.

أثناء الجولة وتفقد القوات العسكرية في الجولان والخطوط الأمامية وكذلك التحصينات الدفاعية في مواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل، أكد الفريق عامر على ضرورة زيادة تلك التحصينات والحذر الشديد، فالعدو ماكرغدار، وكامل يستمع لتلك الكلمات، فلا يجعل وجهه يتمعر لسماعها ،بل يكمد عليها ويأخذها ببرودة أعصاب وكماء الثلج، رغم غليانه الداخلي.

في حين أنه لا يفوت فرصة للتصوير بساعة يده لاستعدادات عسكرية لم يكن سبق له رؤيتها وتصويرها.

عند الاستراحة في إحدى القطعات العسكرية من خلال الحديث سأل علي عامر:

- لم نتعرف على الأخ المدني ؟!

أجابه أحد الضباط السوريين:

- الأخ كامل أمين ثابت.

- هل هو من وزارة الدفاع ؟

- كاد أن يكون معاوناً للوزير، هو على كل حال عضو فعال في القيادة...

- أي قيادة.. العسكرية ؟

أردف قائلا :

- بل القيادة القطرية.. على فكرة هي تقود البلاد. وتطور كل شيء هنا.

كامل يهز رأسه بالإيجاب :

- نعم .. سيادة الفريق محسوبك كامل.. والقيادة كما تفضل الرفيق هي رأس العامود في البلد.

- أي والله .. تشرفنا ، سيد كامل ما هو عملك إذن ؟

- أنا أعمل في كل شيء.

- كيف ؟!

عاود الضابط حديثه :

- أنا أقول لك ..الأستاذ كامل كان مغترباً ، عرضت عليه الوزارة فرفض.. هو يعمل بلا منصب وبلا راتب، هو يقدم للوطن من وقته وماله ولا يبخل على أحد بشيء.

- ماشاء الله.

- يا سيدي.. وقد يكون في يوم من الأيام رئيساً للوزراء.

كامل يتنحنح قائلاً :

- كلا.. لا أريد.. أنا أعمل وأخدم البلاد وأهل البلاد دون مناصب.

الفريق عامر يقول :

- تحيا وتدوم زخراً للعروبة.

- حياك الله سيادة الفريق ،أنا في خدمة الجميع.

كأن علي عامر قد لاحظ في كلامه لكنة مصرية فراح يسأل :

- أستاذ كامل.. هل عشت في مصر ؟

كامل يغير من جلسته ويتهيأ للكلام :

- نعم سيدي، نحن أصلاً من مدينة حلب، لكن عائلتنا خرجت من عشرات السنين إلى مصر وعشنا هناك فترة من الزمن، ثم أن عمي هاجرللغرب وعمل هناك، ثم لحق به والدي إلى الأرجنتين، طبعاً ذهب بنا جميعاً .. ثم أنه والدي قد توفي هناك.. وكان قدر والدتي أن تلحق به بعد شهور.

- ربنا يرحمهم.

- نعم سيدي .. أنا عملت في تجارة الأقمشة، وقد يسر الله لي .. وجمعت ثروة محترمة، ثم عدت إلى بلدي الأم.. لأفيد بلدي، أنهيت أعمالي في الغرب .. وأنا حالياً عندي شركة تجارية هنا، وأنا أعمل مع الدولة خادماً أميناً إن شاء الله.

- أنا معجب بك سيد كامل، ربنا يكثر من أمثالك.

كامل يعيد الإسطوانة المحفوظة عن ظهر قلب ، كلما سئل عن نفسه، بلا ترجمان.. تلك التي نسجت له في الأرجنتين قبيل قدومه بلاد الشام.

هناك شخص ما قام بالتقاط صور تذكارية لهذا اللقاء التاريخي، قد يكون من جهة الصحافة.

في ذلك المساء، سارع يعد تقريره الأول عن جولة الفريق علي عامر، وليكون في إرساليته الأولى، ثم أتبعه في الأيام التاليات بإرساليات أخرى متواترة .

ما لبث في غضون أسبوع أن بعث جواً صفقة أثريات في جوفها أشرطة تصوير مهمة للغاية، وحصل عليها في تلك الرحلة التي حضرها في الخطوط الأمامية وعلى طول وعرض جبهة الجولان.

وردته إرسالية معاكسة تخبره بأن زوجته ناديا ولدت مؤخراً وأنجبت له الطفلة الثالثة وقد حملت اسم - شايا -.

وكان ذلك في الهزيع الأخير من ليل له آخر، فأصبح وجهه كظيماً.. ونفسيته معقدة مسودة.

ولكثرة الإرساليات ذهاباً وإياباً فقد حدث تشويش على أجهزة الاتصال لدى السفارة الهندية القريبة.

قام المسؤول في السفارة بإعلام الجهات المعنية في الدولة بذلك.

قامت دورية مختصة من جهاز المخابرات، بالتجول في المنطقة، وقد ثارت الشكوك حول المركز الثقافي العربي الفرنسي، أن يكون عنده جهاز لاسلكي، يستعملها في التخابرالخارجي.

قامت الدورية الأمنية بمداهمة المركز وتفتيشه تفتيشاٌ دقيقاً ، دون العثور ما يثبت ذلك أو ما يريب.

على خلفية ذلك التصرف الغوغائي احتجت الحكومة الفرنسية بواسطة سفيرها في دمشق، لدى الحكومة السورية فاعتذروا عن ذلك العمل، متذرعين بوصفه عمل فردي غير مسؤول ومن قبل الدورية الأمنية بسبب شكوك حامت حول المركز باقتناء أجهزة إتصال غير مرخص بها.

من أواخرالتقاريرالتي أرسلها كامل إلى سادته في تل أبيب عن اتفاق قد تم بين أحمد الشقيري، السياسي الفلسطيني.. رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وبين جهات في النظام السوري، بشأن السماح القيام بعمليات تدريب لفصائل منظمة التحرير على الأرض السورية.

وأحمد الشقيري هو الرجل الذي سبق ياسرعرفات في قيادة المنظمة، وقد أشتهرت عنه مقولة:

- إذا اشتعلت الحرب وكنت في فندق فسوف أقفز إلى الخندق.

وصدف أن اشتعلت حرب٦٧ وكان هو نازلاً في فندق. لكنه للأسف لم ينزل إلى الخندق ...!!      

 

الفصل - ٣٧ –

جاك بيتون إذن هو الاسم اليهودي المستعار للعميل رفعت علي سليمان الجمال، أو رأفت الهجان بالاسم الحركي.

رغم اندماجه في المجتمع اليهودي، ظل وفياً لبلده مصر، وظل ارتباطه بجهازالمخابرات المصري .

في تلك المرحلة ذهب مسافراً إلى إيطاليا من أجل الاتفاق على أفواج سياحية ضمن عمل شركته ، وبناء على تنسيق من المخابرات المصرية ، وليلتقي هناك برئيسه محمد نسيم الملقب - قلب الأسد -

أثناء جلوسه في قاعة الانتظار في الشركة السياحية التي يتعامل معها في العاصمة الإيطالية روما.. وجد أمامه على- الطاولة الصغيرة - مجموعة من المجلات والصحف ، فراح يقلب فيها يمضي وقته حتى يحين موعد اللقاء العملي .

وقعت عيناه على صورة كبيرة وواضحة في صحيفة لبنانية. فيها صورة إيلي كوهين بلباسه المدني بين مجموعة من الضباط العسكريين .

راح يقرأ المكتوب أسفل الصورة :

- الفريق أول علي عامر والوفد المرافق له .. بصحبة القادة العسكريين في سوريا ، والعضو القيادي لحزب البعث العربي الاشتراكي كامل أمين ثابت .

وكان كامل هذا هو إيلي كوهين ذاته الذي سهر معه رفعت في إسرائيل بإحدى الحفلات.

وهو بالذات الذي أرته صورته صديقته الدكتورة ليلى.  وعرفت به على أنه زوج أختها نادية .

وأنه باحث في وزارة الدفاع ، وأنه موفد للعمل في بعض السفارات الإسرائيلية في الخارج ، وأنه.. وأنه إلى آخره.

تجمعت الخيوط في ذهنه، وهو متأكد من شخصية إيلي كوهين اليهودي من أصل مصري، وها هو أصبح في القيادة السورية .

بعد الانقضاء من عمله في الشركة السياحية ، سعى للحصول على نسخة من الصحيفة اللبنانية من محل بيع صحف في الفندق الذي ينزل فيه .

في ذلك المساء التقى برئيسه محمد نسيم ، رجل المهمات الصعبة في المخابرات العامة المصرية .

سأله:

- معلم.. هل تسمح لي العمل خارج نطاق إسرائيل ؟

نظر إليه بعيون فاحصة ثاقبة:

- ماذا ؟

- قلت.. خارج إسرائيل .

رماه بنظرة أخرى ثاقبة قائلاً :

- أوضح .. يا رأفت ؟

قال .. رأفت أو رفعت :

- كامل أمين ثابت .. أحد قيادات حزب البعث السوري.

- ماباله ؟!

- هو .. إيلي كوهين الإسرائيلي ، مزروع في سوريا وإني أخشى أن يتولى هناك منصباً مهماً .

نسيم يصمت قليلاً، ثم يسأل :

- وما دليلك ؟! ..ما هي أدلتك ؟

رفعت ينشر أمام رئيسه الصحيفة قائلاً :

- هذه الصورة .. أترى ؟

- نعم .. أرى فيها سيادة الفريق أول علي عامر وعدد من الضباط.

- والشخص المدني بينهم .. هو إيلي كوهين .. سيدي.

التقط أنفاسه ليواصل كلامه :

- هذه الصورة .. ولقائي به في تل أبيب، ثم أن صديقة لي .. اعترفت أنه يعمل في جيش الدفاع الإسرائيلي ...

يسود صمت قليل ، ثم أن قلب الأسد يهز رأسه قائلاً :

- أعرف ذلك.

- تعرف !!

- نعم ...

أحس رفعت بإحباط شديد فألقى  بنفسه على المقعد القريب، أما قلب الأسد نسيم ، فقد اقترب من النافذة يطل نحو الخارج، ثم يعود ويقعد بجانب رفعت ، وقال فجأة :

- لو صدقت توقعاتك يا رفعت ...

يصمت قليلاً، فيسأله رفعت :

- ماذا .. ماذا يكون ؟!

- لسجلنا هذا الاكتشاف باسمك ضمن الأعمال النادرة في ملفات المخابرات المصرية.

انتهى اللقاء بأن يقتني قلب الأسد الصحيفة اللبنانية ويطير فيها وبالخبر إلى مخابراته في القاهرة .

بينما ينتهي رفعت الجمال من مهمته ويقفل عائداً إلى تل أبيب ليستقبل الوفود السياحية الأوروبية التي تعاقد عليها تباعاً.

بعد أن فرغ كامل من واجباته وكان آخرها، تقريره عن أحمد الشقيري ومنظمة التحرير ومتطوعيها الذين سوف يتدربون في سوريا .. ليشنوا بعدها هجماتهم على إسرائيل .

فكر في أن يقيم حفلة لأصدقائه البعثيين ، أو لعلها حفلة الوداع الأخيرة .

توافد المدعوون إلى الفيلا الموقرة ، مثل روادها..أوالماخور، فيهم الأسد والجديدان والضلي وحاطوم وألماظ وحمد عبيد ودونهم كثير من الشخصيات البارزة من عسكريين وسياسيين .

ثم جاءت سماح مع حاميها وقريبها أحمد رباح القيادي البارز في الحزب.

لم ينس جورج  سيف من الدعوة ليأتي كالمعتاد مع سكرتيرته الميمونة، أو الملعونة.

قبل العشاء الفاخر ، وقف كامل عند المدخل يستقبل ضيوفه واحداً تلو الآخر ، ولعله العشاء الآخير الذي أمرالخدم بترحيل بقاياه إلى مركبة حافظ الأسد دون أن يطلب ذلك بنفسه هذه المرة ، وحضرت النساء اللاتي رحن يدرن حوله في حلقة مفرغة ، مثل كلاب الشارع يحومون حول الفطيسة النتنة.

ثم دارت عليهم الراقصة اليهودية سماح بكؤوس الخمر وبخلاعتها المقززة، تدور وترقص وتغني للحزب والحزبيين. مائلة مميلة ، وهم يشربون نخبها ،ويصيحون ويصفقون . وما من أحد منهم تجرأ أن يلمسها، أو يسمعها كلمة نابية من كلماته المعتادة والتي نشأ عليها ، بوجود الحزبي الكبير قائد الحزب في دمشق ، رديفها وحاميها - أبو رباح-.

ثم أطفئت الأنوار،أو أخفتت، ليختلي كل من يرغب بإحدى الخليلات المتواجدات ، من بقي صاحياً لم يثمل ،أو بقين قائمات غير متسطحات من السكر والعربدة.

كل ذلك يحدث على أرض الأحلام ، ليظل كامل يردد كلما خلا بنفسه :

- أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل .

متى يتحقق الحلم الإسرائيلي؟

قريباً.. قريباً جداً ..إننا في صعود ، وهاهم البعثيون .. يسلمون لنا في كل شيء .

إنهم عند أقدام سماح يرتمون ، وعلى مائدتي يسكرون.

أما غزالة فهي لي ،وهي خاصتي بين هذه النساء اللائي يحمن حولي ، دون أن يحصلن مني على شيء سوا بعض وريقات من مال ، أما الزواج فلا .. لا أستطيع أن أضع رقيباً عليَّ في  بيتي ، ولا حتى غزالة الزواج من إيلي فلا تحلم به ،ستبقى صورهن في الإرشيف عندي وهن شبه عاريات .. والسلام.

الفصل - ٣٨ –

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

      وليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

على طرف من أرض الأحلام، وعلى ضفاف النيل، وهي التي لا تخلو من يهود، أو عملاء يهود .. أو أبناء يهوديات يتسلمن مناصب حساسة في الدولة .

انطلق رجال المخابرات .. شرقاً وغرباً ، يبحثون ملف إيلي كوهين .

تم التأكد من شخصيته، وهو صاحب الأسبقيات في قضية - فضيحة لافون-

حتى أن الملف مرعلى الفريق أول علي عامر، وأكد من وجود تلك الشخصية، التي ثبت يهوديتها .. ومنشؤها من مصر في الماضي ، أكد وجوده في الوفد الذي رافقه إلى الجبهة السورية ..في مرتفعات الجولان .

وأن الصورة تلك حقيقية لا لبس فيها.

بعد التداول في الموضوع، تقرر إرسال الملف الكبيرعن إلياهو بن شاؤول كوهين إلى الرئيس السوري الفريق أمين الحافظ. مع أحد ضباط المخابرات المصرية .. هو النقيب حسين تمراز.

استقل الضابط الموقر أول طائرة ذاهبة إلى سوريا، هبط في مطار دمشق، مع مطلع عام ١٩٦5.

توجه مباشرة للقصر الجمهوري، طالباَ مقابلة الرئيس الحافظ حين قابله ، عرف بنفسه على أنه مبعوث السلطات العليا في مصر أوالجمهورية العربية المتحدة مثلما كان اسمها حتى ذلك الوقت وقدم إليه ملف كوهين مدعماً بالصور مع تقريرالمخابرات المصرية عن الشخص المتقمص شخصية كامل أمين ثابت وقد صار قيادياً في النظام السوري .

عرض أمام ناظريه الصحيفة اللبنانية، بما فيها الصورة والتعليق، ثم قال له :

- سيادة الرئيس.. هذه الصورة شاهدها الفريق أول علي عامر، وقال عنها.. أنها صورة حقيقية، وأن المدني الموجود فيها يدعى كامل أمين ثابت، وهو صحيح أنه قيادي، وقد تحدث معه وسأله عن نفسه فروى له قصة، يبدو أنها ملفقة .

الرئيس الحافظ يجيب :

- لاهو قيادي ولا حاجة، هذا الشخص لا أعرفه، ولو كان قيادياً لعرفته .

- سيادة الرئيس.. هناك من ذكر للفريق عامر، أنه رشح لرئاسة الحكومة .

الرئيس الحافظ يرد بعصبية :

- من قال هذا فهو كاذب، أنا الذي أرشح لرئاسة الحكومة، ونحن لا نستغني عن السيد صلاح البيطار رئيس الوزراء عندنا .

التقط أنفاسه اللاهثة وتابع قوله :

- يبدو أن هذا الكلب اليهودي قد خدع البعض في حزبنا، واستطاع التسلل، أنا مشغول بقضايا البلاد المهمة، لو أني متفرغ في الحزب ورأيته لكشفته منذ البداية، وأنتم تأخرتم بإعلامنا بهذا، على كل نحن نشكركم .

- سيادة الرئيس، علمت استخباراتنا حديثاً، أنه عام ٦٢ بعد ستة شهور من وجوده في سوريا، استدعاه الموساد وذهب إلى إسرائيل وعلى ما يبدو أنه عاد ثانية إلى هنا .

- في ذلك الوقت لم نكن نحن في الحكم، وأنا كنت ملحقاً عسكرياً في الخارج

- على كل هذا ما عندنا قدمناه لكم، وهذا اليهودي إيلي كوهين، له ملف حافل عندنا، وقد كان يعمل مع منظمة الشباب اليهودي التي قامت بعمليات تفجير في مصر، وقد سبق أن اعتقل مرتين، إجراءاتكم سيدي .

- نحن سنعمل اللازم.. لن ندع السوس ينخر فينا.. أنتم مشكورن، سلم على رؤساءك .

- تسلم سيدي، أريد السفر .

- تسافر بعد أن نقوم بكرم الضيافة .. أنت ضيفنا اليوم، أنا سأكون مشغولاً بهذا الأمر، ولكن سيرافقك أحد من عندنا .

يضرب الجرس فيأتي - سكرتيره -:

- نعم سيدي .

- السيد حسين .. ضيف عندنا .. جاء من الحكومة المصرية .. أكرموا نزله كما تعرفون، وليكن أحد برفقته طالما هو في الشام .

- حاضر سيدي .

بعد أن غادره الضيف، قام الرئيس يضرب المنضدة بكلتا يديه، ويلعن ويشتم صارخاً :

- فضيحة.. فضيحة كبرى.. لسوف يشمت بنا عبد الناصر .

ثم راح يضرب الهاتف ويضرب به على سكرتيره :

- اطلب لي فوراً .. العقيد أحمد سويداني.

يضرب سماعة الهاتف بعصبية متناهية، ويقطع مكتبه جيئة وذهاباً .. بينما يرن جرس الهاتف :

-  - ألو- .. أنا أبوعبده، أرسل برقية فورية إلى المطارات والحدود، بمنع سفر المدعو كامل أمين ثابت، وعلى الأمن هناك أن يعتقله فوراً .

- كما قلت لك، ثم أحضره لعندي فوراً .

لما تمض غير دقائق قليلة حتى كان سويداني رئيس جهاز الأمن السياسي، وهو ابن مدينة درعا الجنوبية، يقف أمام الرئيس، آخذاً التحية العسكرية .

- نعم .. سيدي .

- هذا الكلب كامل أمين ثابت، جاسوس يهودي، وأسمه الحقيقي .. كوهين.

- ماذا تقول سيدي ؟!!

- انظر.. هذا الملف جاءنا من المخابرات المصرية .. ياللفضيحة .

سويداني يدقق النظر في الملف مشدوهاً :

- كيف لم تكشفوه ؟ ما هو عملكم مخابرات سياسة، ما معنى أن تكون رئيس شعبة الأمن السياسي – بالفاضي-.

- سيدي أنا لا اختلط به، إذا كان هو دائما يسهر مع اللجنة العسكرية، أنا ماذا أصنع .. ما ذنبي أنا .

- تضرب أنت واللجنة العسكرية .. كلهم حمير .

ثم يتابع عصبيته وصراخه المزمجر :

- هؤلاء الحمير.. لا همَّ لهم غير الأكل والشرب والسكر عنده. انتفخت بطونهم وسكرت عقولهم .. من كثرة ما أتخمهم بالحفلات والهدايا .. لا يفهمون شيئاً .

- سيادة الرئيس .. صبرك .. - طول بالك -، ماذا نفعل الآن ؟

الرئيس يهدأ قليلاً :

- خذ عناصرك وطوق العمارة التي يسكنها، واجلبه لي موجوداً، إياك أن يفلت منكم .

- حاضر .. سنأتي به موجوداً مخفوراً .. مكبلاً .

- الكلب خدعنا طويلاً، واليوم جاء وقته، لكنها الفضيحة، فضيحة لنا جميعاً، ماذا سيقول جمال عبد الناصرعنا، وستتهمنا إذاعة صوت العرب على لسان أحمد سعيد بأننا عملاء لإسرائيل .

سويداني يضع بعض العناصر على الرصيف المقابل للعمارة، ثم يترك عنصراً على مدخل العمارة، مع أمرهم أن لا يدعوا أحداً يخرج منها، يأمر عنصرين بالصعود على الدرج بينما يرتقي هو وآخرين بالمصعد الكهربائي.

قام العناصربخلع باب الشقة ومداهمتها، فضبطوه بالجرم المشهود يرسل إرسالياته .

وقف كامل أو كوهين مذعوراً خلف - الطاولة المستطيلة- من المفاجأة ليقول :

- ماهذا .. ماذا تريدون ؟!!

يرد عليه رئيس قوات الأمن :

- أنا العقيد أحمد سويداني رئيس شعبة الأمن السياسي، عندي أمر بتفتيش الشقة .

- أرني الأمر .

- لا داعي.. أنا الآمر.. وأنا الأمر، فتشوا جيداً.

أثناء التفتيش يتعرقل أحد العناصر بحبل ممدود وراء الستارة، تسقط الستارة ويظهر جهاز الإرسال، يهرول نحو القائد :

- سيدي لقد وجدنا جهاز - لاسلكي-  .

كامل كوهين يحاول تناول السم لكن سويداني يمسك بيده ويمنعه من ذلك ويأمر المكلفين بالقبض عليه وتقييده بالحديد :

- أنت المدعي أن اسمك كامل أمين ثابت، لدينا أدلة على أن اسمك الحقيقي إلياهو كوهين، جاسوس تعمل لصالح إسرائيل .

إيلي يتيقن أن أمره اكتشف فوقع في يده .. ولاذ بالصمت .

ثم ذهبوا به مقيداً مخفوراً .

أما الموساد في تل أبيب ، بسبب انقطاع البث الفجائي، فقد خمنوا أن شيئاً ما قد حدث .

 

الفصل - ٣٩ –

العقيد أحمد سويداني يجري التحقيق مع إيلي أو كامل بنفسه بعد دراسة الملف المقدم له جيداً .

العقيد سويداني يخاطب الجاسوس القاعد أمامه :

- ورد اسمك هنا ، إلياهو بن شاؤول كوهين ، صحيح .

- نعم .. صحيح .

- مولود بالاسكندرية من أبويين يهوديين ٢٦\١٢\١٩٢٤ .

- صحيح .

- عملت مع منظمة الشباب اليهودي الصهيوني تحت إمرة إبراهام دار ، وقمتم بعمليات إرهابية في مصر .

- تهمة غير صحيحة ،أنا لم أشارك فيها ...

سويداني يقاطعه بصوت مرتفع :

- لا .. صحيح .. لا تكذب علي ، كل شيء هنا صحيح .. فهمت .

- حاضر ..سيدي .

- ذهبت إلى إسرائيل وجندك الموساد ، وجئت إلى سوريا تخادعنا .. على أنك مغترب وثري .. ووطني حريص على الوطن ، ما هذه الألاعيب ؟!

إيلي  يلوذ بالصمت.

- ها تكلم .. ماذا صنعت .. على ماذا تجسست ، كم إرسالية ترسل للموساد في الأسبوع ؟، بماذا نجيب القيادة في مصر.. وماذا نقول لعبد الناصر .

- إذا كان موضوع عبد الناصر .. فلا عليكم منه .

- ماذا تقصد ؟!

- عبد الناصر .. أمي كانت عندهم ...

- ماذا تقول يا هذا ؟! تعني خادمة عندهم .

- أمي تزوجها والد جمال عبد الناصر ..تلك حقيقة .

سويداني يصدم بالكلام الفجائي ، يقوم من مقعده :

- أنت تكذب ، هذا غير معقول .

- سيدي .. أنتم مخابرات لا يعجزكم شيء .. يمكن لكم التحقق مما أقول ، إن كان الأمر يهمكم .

- طبعاً يهمنا ،لعل الرجل تزوج خادمته.

يهز رأسه بالنفي.                                                                     - هذا انتهينا منه ، والآن اشرح لي بالتفصيل .. عن كل مافعلته هنا في سوريا.

تحقق إيلي أن أمره قد انكشف  فلا بد له من أن يعترف بكل شيء وقد جلس على كرسي الاعتراف ، كي ينجي نفسه من آلات التعذيب ونزع الأظافر فتؤخذ منه الاعترافات قسراً ، فما عليه غير أن يعترف طواعية ودون لف ولا دوران .

مصيره مجهول ، قد دقت ساعة الصفر وارتكس في هاوية عميقة لا قرار لها ولا فرار من مصير سيصير إليه :

- تكلم يا إيلي ، وإني أعدك أن أساعدك قدر استطاعتي ، فقد كنت واحداً منا وفينا.

يقول بخبث :

- وما زلت بين أيديكم ، وها أنا تحت تصرفكم ، ولسوف أصدقك القول ولن أخفي عنك شيئاً.

إيلي يبدأ بسرد القصة من بدايتها ، والكاتب الذي بجواره يدون أقواله حرفياً .

حتى أن وصل لنقطة قال فيها :

- عندما زرت إسرائيل للمرة الأخيرة نهاية العام الماضي طلبت من الموساد إنهاء مهمتي في سوريا ، لكنهم أكدوا علي العودة للمرة الأخيرة لبضعة شهور في سوريا ، وبعدها أرجع للاستقرار في إسرائيل .

كنت مضطراً لتنفيذ الأوامر ، وقد جئت هنا مرغماً ودون رغبتي ، وأنا أعلم أنهم غير مهتمين بي لأني من اليهود الشرقيين ، والشرقيون في إسرائيل مهمشين .

- على كل حال .. هذا لا يعفيك من عقوبة الجريمة ، أنت مرتكب أفظع جناية .. وهي التجسس لصالح العدو الإسرائيلي .

- أرجو الرأفة بحالي ، عندي عائلة زوجة وثلاث بنات .

- لو أنك فكرت فيهن ، ما كنت رضيت لنفسك هذا العمل المخزي ، أن تكون جاسوساً وضيعاً.

صمت برهة ثم واصل حديثه:

- أيها الملعون، أنا كنت أشك فيك، ولم أرتح لك يوماً، وما حضرت حفلاتك، لكنهم.. هم الذين التفوا حولك، وكانوا عوناً لك في تحقيق أهداف جاسوسيتك.   إيلي يهز رأسه بالإيجاب والموافقة.

وقد شملت اعترافات40 شخصية من الأصدقاء المقربين، بينهم 10 صديقات، برئن في ساحة المحكمة الاستثنائية العسكرية التي ترأسها صديقه المقرب .. صلاح الضلي .

كما برأت المحكمة ساحة عدد من الرجال .

وقد أدانت المحكمة الموقرة كلاً من هيثم القطب وخير الدين وانلي ، فحكمت على كل منهما بثلاثة أشهر سجن .

وخمس سنوات على كل من جورج سيف ومعزي زهر الدين . وستة أشهرلإيلي ألماظ .

كما حكمت على ماجد شيخ الأرض غيابياً بعشر سنوات..والإعدام شنقاً حتى الموت على إلياهو بن شاؤول كوهين .

تدخلت شخصيات أوروبية طالبة تخفيف حكم الإعدام بدافع من إسرائيل ، منها بابا الفاتيكان والرئيس الفرنسي في ذلك الوقت ، لكن دون جدوى ولا استجابة للوساطات .

قبيل تنفيذ حكم الإعدام ولأسباب إنسانية ،أو لأسباب الصداقة السابقة والخبزوالملح والمشروب المشترك .. سمح لإيلي كوهين أن يبعث برسالة أخيرة عبرجهاز الإرسال ، لزوجه ناديا ، رسالة الوداع يودعها ويودع بناته الثلاث، كذلك يقول في رسالته:

- أن لا تنتظره وتذهب وتتزوج من بعده .

لكنها بقيت على العهد .. فلم تعلن زواجها بعد ذهابه إلى اللانهاية .

وهكذا كانت نهاية الجاسوس الإسرائيلي الذي أبدع في إنجاز مهمته ، إلا أنه في النهاية تعثر بالذهاب مع الوفد المرافق للفريق عامر ، وجاء قدره سريعاً ، ودون حسبان منه ومن الذين وراءه هناك خلف النهر .

وسيق إلى نهايته مفرداً ، على ثرى بلاد الأحلام .. ولا أي واحد معه من العصابة التي رافقته خلال سنوات مضت .

تضائلت في نظره الأحلام .. كما تضاءلت الدنيا وما فيها ، وقد اندثر بلا رجعة حلم الوصول للذروة أو القمة في بلاد الشام عالية الجمال .

وهو يعلق على حبل المشنقة ليلفظ أنفاسه الأخيرة اختناقاً ، والقرار ذلك ممهور بخاتم صديقه القديم الرئيس المؤقت الفريق أمين الحافظ .

ليظل معلقاً على المقصلة لمدة ست ساعات وسط ساحة المرجة ، في العاصمة التاريخية دمشق .

وقد شهد ذلك خلق كثير من أهل البلاد، في صباح يوم ١٨/أيار- مايو-/ ١٩٦٥

الفصل - ٤٠-

وهكذا فقد أسدل الستارعلى قصة الجاسوس الإبداعي كوهين ، في حين

لم يذكر أصدقاءه المقربون ، الذين أكلوا وشربوا على موائده،وثملوافي حفلاته ،في مقدمتهم الصديق المقرب سليم حاطوم.

ذهب إيلي كوهين هذا حيث شاءت الأقدار أن يكشف سره ، لكن هل كان سواه ، هل وصل عملاء الموساد إلى درجات أعلى من إيلي كوهين ، دون أن يدري أحد عن أسرارهم شيئاً .

هذا ظل في علم الغيب ، وقد تحدث عنه الأيام القادمات. أما رفعت الجمال فيقول أنه شارك بجنازته في الوطن المحتل (إسرائيل) وشارك الأصدقاء هناك في الحزن عليه .

ولحاطوم قصة أخرى ، وقد زعم الرئيس أمين الحافظ ،أنه لن يدع السوس ينخر في جسدهم الحزبي .

لكنه نخر .. أو كان ينخر وهو لا يدري .

وقد كان العسكريون الطائفيون يعدون العدة في الخفاء ، فأطاح به اللواء صلاح جديد بانقلاب في ٢٣\٢\١٩٦٦ ،وليستبدلوه بواجهة سنية أخرى ، من المدينة الوسطية حمص ،إنه نور الدين الأتاسي ،تسلم منصب الرئاسة في ٢٥\٢\١٩٦٦ . منصب شكلي غير فعلي . أما حاطوم الذي أصبح برتبة مقدم فقط والذي قاد كتيبته الصاعقة ، بالهجوم على منزل أمين الحافظ ، حيث راح فيها خمسون من القتلى ، وتم اعتقال أمين الحافظ.

لم يعط حاطوم منصباً في القيادة القطرية ولا اللجنة العسكرية الجديدة ، وأعيد بكتيبته لحراسة مبنى الإذاعة والتلفزيون ، أحس أنه مهمش ، فعمل على إنشاء لجنة عسكرية ثانية بقيادة الضابط الدرزي اللواء فهد الشاعر ، وصارا يتقربان من القادة السياسيين المعزولين ، عفلق والبيطار .

وقد عزما على القيام بحركة انقلاب على جديد وأنصاره ، حدد موعدها ٣\٩\١٩٦٦ .

غيرأن حفلة سكروعربدة دعا إليها الضباط وشربوا فيها العرق ، قد حالت دون ذلك ، إذ قام أنصار حاطوم من الدروز بشتم الأسد وجديد والقيادة الجديدة ، هب آخرون للدفاع عنهم ، وانفجر الشجار والصراع ، فألقي القبض عليهم وسيقوا للمثول أمام محكمة تحقيق عسكرية من أعضائها سليم حاطوم نفسه وقام بدور المحقق في استجواب تمثيلي .

غير أن صلاح جديد كان يتابع القضية فعين لجنة تحقيق يرأسها عبد الكريم الجندي رئيس جهاز الأمن القومي والذي لا يعرف إلا العنف .

قام وزبانيته بضرب وتعذيب الضباط الشبان حتى اعترفوا بأسماء مائتي ضابط مشاركين في المؤامرة أكثرهم من الدروز .

اختفى اللواء فهد الشاعر ، كذلك هرب الرفاق البعثيون المدنيون للنجاة بأرواحهم ، أما جناح حاطوم لم ينكشف حتى الساعة .

تطورت القضية ، فأسرع جديد والأسد إلى تطهير الجيش  من الدروز ، فأحدث ذلك ضجة في العاصمة الدرزية السويداء .

فقرر صلاح جديد تأجيل نزواته التي يمارسها مع نساء من طينته والذهاب الى المدينة الجنوبية  ليلتقي بشيوخ بني معروف و يهدئ الموقف مصطحباً معه الرئيس الشكلي نور الدين الأتاسي .

حانت الفرصة لحاطوم، فلاح له أن يصطاد جديد ومن معه من العلويين، وبذلك يسيطرعلى الموقف حسب حساباته.

فدخل عليهم يحمل مدفعاً رشاشاً مهدداً أن يحصدهم جميعاً، تبع ذلك ذعر وصياح وهياج.

استطاع رجال الدين والعُقّل من الدروز ضبط سليم حاطوم، من أن يبطش بضيوفهم ومن هم بحمايتهم، واحتجز جديد ومن معه تحت الحراسة.

سيطرحاطوم وبمساعدة فرع المخابرات العسكرية على الحامية وألقى القبض على الضباط العلويين وجردهم من رتبهم.

هذا هو ديدن الرفاق البعثيين مع بعضهم البعض.

صلاح جديد العسكري المتسلط وبمركزه القوي يديرالبلاد من وراء الستار صارالآن محتجزاً عند المقدم سليم حاطوم وفي مدينته السويداء.

لكن حافظ الأسد ذات الرتبة العسكرية العالية التي حصدها زوراً وبهتاناً، لواء أركان حرب قائد القوى الجوية ، ووزير الدفاع في الحكومة الجديدة ، وهو المسيطر في العاصمة دمشق  في غياب صاحبه وولي نعمته بالمناصب الحالية اللواء صلاح جديد، يتصل هاتفياً بسليم حاطوم:

- يا حيوان .. يا سليم .. أطلق سراح صلاح جديد وجميع من معه.

- ماذا تقول ..؟ أنا سليم حاطوم.

- قلت لك يا حيوان.. عملك هذا سيذهب بك وبالمدينة .

- ماذا تعني .. يا حافظ ؟!

- أما تسمع ضجيج النفاثات فوقك .

- نعم .. أسمع .

- إذا لم تطلق سراحهم وتسلم نفسك، سوف أقصف السويداء .

- يلعن روحك يا حافظ .. يا حقير .

راح يشتمه بعصبية :

- اللعنة ستحل عليك وعلى من معك، والطيران جاهز للضرب، بانتظار الأوامر .. سمعت .. فهمت يا كلب .. يا ...

سليم يضرب سماعة الهاتف حتى يكاد يكسرها وقد تأكد أن الأسد لن يرحمه ولا يرحم أهل مدينته من بني معروف، وهو الآن لا يريد أن يضحي بأهل طائفته من الدروز.

علم أن قضيته خاسرة، لن يستطيع المواجهة مع الأسد وجديد وكامل القوات العسكرية وسلاح الجو في يد حافظ وتحت إمرته.

فقررالاتجاه جنوباً نحو الأردن هارباً ومعه بضعة وعشرون من أنصاره الضباط، للنجاة بنفسه وبمن يتبعه من العسكريين.

بعد اجتيازهم الخط الحدودي الفاصل بين البلدين، ودخولهم حرم الدولة الأردنية، فقد صاروا في مأمن من بطش الأسد، وقد تكرم عليهم الملك حسين بمنحهم حق اللجوء السياسي.

إذ كانت العلاقات متأزمة بين الدولة الأردنية بقيادة الحسين بن طلال وبين النظام البعثي في سوريا.

من عمان صار يدلي بتصريحاته النارية للصحافة مهاجماً النظام في سوريا، متهماً إياه بالعنصرية الطائفية، وحكم العلويين الدكتاتوري الجائر.

على أثر ذلك انعقدت المحكمة العسكرية. لتحاكم حاطوم بتهمة الخيانة والعمالة لإسرائيل، ويحكم عليه بالإعدام غيابياً، كما حكم على اللواء فهد الشاعر بالإعدام .. دون التنفيذ، أما منيف الرزاز أردني الجنسية ومن أصل سوري، الذي كان متحالفاً مع مجموعة حاطوم والشاعر، فقد ولى هارباً إلى لبنان - مشمعاً الخيط - كما يقول أهل الشام .

صارت البلاد تحت سلطة الأسد و جديد، أما الشخصيات السنية وغيرها، فغدت في مراكز كبيرة، لكنها غير فعالة .

لما تمض غير شهور قليلة حتى اشتعلت الحرب، مع العدوالإسرائيلي، على الجبهات الثلاث مصر.. سوريا.. الأردن، وكانت سوريا برئاسة نور الدين الأتاسي، والحكومة برئاسة يوسف زعين، والخارجية بيد إبراهيم ماخوس، بتصريحاته الرعناء العدوانية البراقة، إذ سيلتفون على الأردن، ويحررونها من النظام الملكي القائم فيها، ومن ثم يذهبون من هناك إلى إسرائيل ويلقونها في البحر.!!  هكذا ..  بكل بساطة، وبلا جهد يذكر.

والنتيجة كانت، أن تحطم سلاح الجو المصري عند الفجر، وذهب الضفة الغربية لنهرالأردن.

أما على الجبهة السورية، كان الأمر جد شاق على إسرائيل حتى جاء بيان وزير الدفاع الأسد.

معلناً سقوط مدينة القنيطرة في يد العدو الإسرائيلي وصدورالأوامرللجيش بالانسحاب، ومعنى ذلك تسليم مرتفعات الجولان لإسرائيل، وهو الأمر المستحيل.. حين تكون الحرب حقيقية وليست تكتيكية.

حتى أن عبد الرحمن الأكتع وزير الصحة في حكومة زعين قد اتصل بالأسد منبهاً إياه :

- سيد حافظ .. معلوماتي أنه لا يوجد ولا جندي إسرائيلي في كامل الجولان .

رد عليه بعنف :

- اغلق فمك .. ولا تتحدث بالموضوع ثانية .. وإلا أقتلك .

ولتدخل القوات الصهيونية مرتفعات الجولان بعد أيام دون مواجهة .. وبلا حرب ، ولتغتنم معدات وآليات صالحة للاستعمال ، خلفها وراءهم المنسحبون أمام الوهم الإسرائيلي .

وهكذا فقد أنجز حافظ الأسد أو- الوحش- في يوم واحد ما عجز إلياهو كوهين بن شاؤول عن إنجازه على مدى عدة سنوات.

حدث ذلك في 11/حزيران/ 1967 .

حرب الأيام الستة على حد الزعم الإسرائيلي ، أو النكسة على قول عبد الناصر، والنكبة الثانية في واقع الأمر .

إذ ظهرت النتائج منذ الدقائق الست الأولى ، حيث نحي سلاح الجوالعربي من المعركة ، عندما قضى كثير من الطيارين ليلتهم  تلك في الملاهي ، وسلمت القيادات لغير أهلها .

ذهبت سيناء والضفة وهضبة الجولان الخضراء كلها بلا ثمن .

لكنه ثمن باهظ دفعته الأمة بسبب من تحكموا فيها وبمقدراتها من العسكر.

وقد تحقق شطر من الحلم الصهيوني .. على أيدي أصحاب المبادئ التقدمية .. الأنظمة الثورية - الراديكالية - الانقلابية .

- خاتمة –

في ذلك اليوم، وهو سادس أيام الحرب وأخيرها، أعلن سليم حاطوم أنه عائد إلى بلده كي يحارب ضد إسرائيل.

ولعله فكر بسذاجة أن الحرب قد مسحت الماضي وأن الصدورقد تطهرت من الضغائن والأحقاد، وأن رفاق الماضي قد يعفون عنه، فأعلن ذلك الإعلان عائداً الى وطنه، وهناك اقتاده رجال الأمن إلى دمشق.. كي يمثل أمام المحكمة من جديد، ولتؤكد عليه الحكم القديم.

ولأن عبد الكريم الجندي .. لم ينس السباب والشتائم المقذعة بحقه من نده حاطوم ، فأذعن لشيطانه المتمرد في داخله ، وقام بتعذيبه .. عذاباً شديداً أدى إلى تكسيرأضلاعه،فتحطم حاطوم قبل إرساله لمقصلة الموت الكامل .. وهو نصف ميت، بالإعدام رمياً بالرصاص.

وهكذا بدا إخلاص رفاق الطريق وإيثارهم بعضهم بعضاً على أنفسهم ، ولو كان بهم خاصية الخصاصة !!.

وظلت أرضنا الخصبة الخضراء .

بلادنا الحبيبة الشماء .

أرضنا.. أرض الأحلام.. تنتظر من ينقذها.. يخلصها.. من الأيادي الرعناء .. ومن شر الأشرار .

تمت بحمد الله في ٢٨\٨\٢٠١٨  

وسوم: العدد 1111