ما لا ترونه (5) و(6) و(7)
ما لا ترونه
(5) و(6) و(7)
|
سليم عبد القادر |
- 5-
وقف بضعة عشر سجيناً في طابور في الممر الضيق في السجن. أكثرهم مقنع العينين، وكلهم مقيد اليدين.. إلى أين!؟… وخيّم صمت كئيب، وتوقع لمفاجأةٍ لا تسر… وسار بهم (ميكروباص) يشق ظلام منتصف الليل، وفوق ظلمة الليل كانت هناك ظلمة الأقنعة.. وطال الطريق، فأدرك السجناء أن وجهتهم نحو العاصمة… وفي منتصف الطريق رفعت الأقنعة، وبقيت القيود، وكان في السيارة ثلاثة عناصر مسلحين، ومع الموكب سيارتا مرافقة.
ألقى محمود نظرة إلى العاصمة، ساعة الشروق، كانت الطرق خالية من المشاة وازدحام المرور، فخيل إليه أن العاصمة حزينة، وأن بساتينها الغنّاء، لم تستطع التخفيف من حدة حزنها، وقابلته الشمس فانبعث في نفسه أمل يمتد بين الأرض والسماء. وقال في نفسه: إن الله لن يتخلّى عنّا… وابتسم ابتسامة لا معنى لها أمام مدخل السجن الجديد، فتلقى لسعة على رأسه بالخيزران، وقال عنصر (الاستقبال): أتضحك أيضاً!؟.
وفي ممر ضيق جلس مع بقية السجناء… تفحص الوجوه فرأى في كل منها قصة عذاب لا نهاية لها. وقال سجّان: ولا كلمة، ولا همسة، ولا حركة.. كل شيء ممنوع.
وراح يستمتع بأشعة الشمس التي لم يرها منذ شهر، فاختلج في صدره رضاً خفي، واستمتع بالفطور لأول مرة، وهو يحصل فيه على نصف كأس من الشاي، وعاد يتفحص من حوله… الوجوه البائسة، والأقدام المتورمة الدامية، والثياب القذرة، والشعور المنكوشة، وترقب المجهول المختبئ في ثنايا الساعات القادمة. انتصف النهار، واشتدت حرارة الشمس، ولكنها لم تزعجه، بل كان يتعرض لها مستزيداً من لفحها الذي افتقده طويلاً، وربما مدخراً منه للأيام المقبلة.
ولأن الصلاة ممنوعة، والوضوء ممنوع، حتى التيمم وتحريك الشفاه، فقد أدى هؤلاء السجناء صلواتهم في صمت من غير وضوء ولا تيمم.
وسيق في المساء إلى مكتب المحقق تركي، فرأى رجلاً في منتصف العقد الخامس يجلس خلف مكتب فخم، في غرفة واسعة، فاخرة الأثاث، مثلما هو بالغ الأناقة، فقال وهو يدخن السيجار: محمود، أنت ذاكر في (إضبارتك) أشياء لا بأس بها، ولكنها لا تمثل أكثر من جزء على عشرة مما لديك، فلا بد من إكمال الباقي، ونحن لا يمكن أن نتساهل معك، لأن القضية تتعلق بأمن الدولة…
أجاب وهو يكتم غيظاً قاتلاً بهدوء مصطنع:
- سيدي، إذا كانت المسألة مسألة حرق أعصاب، وتعذيب للتشفي، فماذا بوسعي أن أقول!؟… أما إذا كانت مسألة منطق وحقائق، فقد اعترفت بكل شيء.
- هل عذبوك هناك!؟.
- انظر إلى وجهي، وقدمي.
- لا، هذه دغدغة.. مداعبة… هنا نحن في العاصمة، وأساليبنا مختلفة تماماً.
وساد صمت، وذهول، قطعه النقيب بقوله: بم تفكر!؟.
- بالموت..
ضحك النقيب ضحكة طويلة، وقال: أنت متشائم جداً، ويبدو أن التحقيق أثر عليك كثيراً.
ولم يجبه بشيء، فتابع النقيب:
- حسناً، لقد قرأت ملفّك جيداً، ولاحظت انسجاماً بيننا في التفكير، لذلك، سنضعك الآن في غرفة جماعية، وهذا من مصلحتك طبعاً، لنبعدك عن الملل والوحدة، ولكنا سنعطيك أوراقاً وقلماً لتكتب كل ما تعرفه، أو تتذكره على مهل.
- سيدي أرجوك، لقد قلت كل شيء هناك، وعلى مدى أكثر من شهر، عصروني كقطعة من الإسفنج لم يبق فيها قطرة ماء.
ودخل المهجع، فوجد مجموعة من السجناء الأصدقاء… عانقهم بحرارة.. وقال أحدهم:
-سامحك الله ماذا فعلت؟!
-إنني منهار.
-لقد خربت الدنيا.
-الدنيا لم تخرب باعتقالك ...إنها خربة من زمان ، ولكني لم أكن أعلم بذلك.
-أنا لم أقصد .. لم أقصد الإساءة إليك.
-وأنا لم أتبرع بالمعلومات ..كان العذاب فوق كل احتمال ...من منكم الذي لم يعترف؟!
فلم يجبه أحد ، فتابع: من منكم لاقى ربع ما لاقيت؟! وساد صمت ، فعاد يقول:
-لم أكن أتصور أن الأمر يمكن أن يتطور إلى هذا الحد ..الندم يأكل أعصابي ، وفي قلبي نار ، وقودها شعوري بالذنب ...أنا إنسان من لحم ودم ، ولست قطعة من الفولاذ ... كنت أفضل الموت على اعتقال واحد منكم ، ولكن ، لم يكن لي خيار ..لماذا لم تختبئوا؟! لماذا لم تغادروا البلد ؟!
رد أحدهم: لم نكن نظن أن تعترف بشيء..
وساد الجو تأثر ، فقال الأول:
-إني أعتذر إليك.
وقال آخر : سامحنا فقد أسأنا إليك.
وقال ثالث: إنه قدر الله ، فلنواجه أقدارنا بشجاعة وإيمان.
وتعانقوا جميعاً...
قال محمود: هل يوجد تعذيب هنا!؟.
فأجابه أحدهم: بالنسبة للقادمين من تحقيق سابق، فلا تعذيب غالباً.
تنفس بعمق.. وقال: الحمد لله.
وتابع: وبقية الأمور!؟.
- الطعام هنا أحسن قليلاً، ومعه (دوسير)، تفاحة أو برتقالة كل يوم، ولنا ثلاث مرات نخرج فيها إلى دورة المياه والشرب في اليوم، وعلينا أن نقف جميعاً كلما فتح الباب.. البارحة تلقينا فلقاً لكل منا؛ لأننا كنا نصلي في التشهد الأخير، عندما فتح الباب فتأخرنا بضع ثوان حتى أنهينا الصلاة ووقفنا… وبالمناسبة، الوضوء ممنوع، والضوء لا يجوز إطفاؤه ليلاً أو نهاراً، وبقية الأمور معروفة: لا دفاتر، ولا أقلام، ولا كتب، ولا مصاحف، ولا راديو، ولا جريدة، وهناك انفراج في المشتريات، حيث تستطيع شراء بعض اللوازم الضرورية مثل (البيجاما)، وفرشاة الأسنان… وبدل داخلي..و..
- وماذا أيضاً!؟.
- وفقط..
- لا بأس، الخلاص من التحقيق والتعذيب، هو انتقال من الجحيم إلى النعيم... لم أعد أبالي، لو قضيت بقية عمري هنا، حتى يدركني الموت.
وقال أحدهم: لقد وقعنا في بئر عميقة.
عقَّب محمود:
- أمن المعقول أن تتصور مجموعة لا تتجاوز العشرين شاباً، أن بإمكانها الإطاحة بنظام بوليسي رهيب.
فقال ثالث: صحيح.
وعاد الأول يقول: الأمل بالله كبير.
وقال آخر: إن بقينا أحياء..
الجو خانق، وكوة صغيرة جداً، هي المنفذ الوحيد للهواء الذي يتسرب كسولاً. وروائح نتنة تنبعث من كل سجين تكفي لإفساد جو غرفة كبيرة… روائح عرق متراكم ممزوج بغبار الأرض، وأحد عشر سجيناً في قبو كالمزبلة لا يتسع لعشر دجاجات، وإحساس بالقهر والظلم والطغيان، وتساؤل عما يكنّه المستقبل المجهول الداكن، وفراغ كبير، وملل قاتل، واستسلام لقدر الله… وشهر رمضان اقترب، وهو يثير في النفوس أمواجاً من الذكريات والحنين والشفافية… وقال محمود:
- سنستغل وجود الشيخ محمد خير معنا لسماع القرآن الكريم، وتحصيل بعض العلوم الشرعية.. فهذه أفضل وسيلة للإفادة من الوقت، ومحاربة الملل… واستراح الجميع للفكرة.
كان الشيخ محمد خير في منتصف العقد الرابع، ذا شخصية طريفة متميزة، فهو ضليع في العلوم الإسلامية، دافئ المرح، عجيب الصبر والتسامح، أبيض أشقر، أزرق العينين، كث اللحية، طويلها. قال له محمود يوماً وهو يتأمله: يا سبحان الله يا شيخي!.
ابتسم الشيخ قائلاً: ماذا!؟.
- رغم أنهم قد نتفوا نصف شعر لحيتك إلاّ أنك لا تزال تذهب بشطر الحسن.
ضحك الجميع ضحكة أعلنت عن ضم أصواتهم إلى صوته، وشعر الشيخ بخجل وحياء، فاحمر وجهه، وقال: سامحك الله… ما هذا يا أخي!؟ اتق الله. فقال محمود: واتق الله أنت أيضاً، فإنك لم تترك للرجال شيئاً من الحسن يستعينون به على متاعب الحياة.
وعاد الجميع يضحكون… والشيخ يعتذر بحرج شديد. وقال محمود: أقترح أن تجعل لنا في كل يوم درسين، في الصبح وبعد العصر، في علوم الحديث، والتفسير أو الفقه…
وكان للشيخ مريد طريف طيب، يدعى عبد السلام، كان كلما شعر بدبيب الملل أو احتدام الجدل ينقذ الموقف بقوله: إذاعة القرآن الكريم من سجن (السادات) تقدم لكم ما تيسر من كتاب الله من تلاوة شيخي محمد خير..
فيقرأ الشيخ ما تيسر، حتى يجد الهدوء والراحة والسكينة مرتسمة في الوجوه.
وقال عبد الكريم: عندي كنز لا ينفد من حكايات جدتي، سأقص عليكم قصتين كل يوم، نستعين بذلك على طرد الملل، وجلب شيء من البهجة.
* * *
خرج محمود من شروده فجأة وقال:
- هل فيكم من يعرف سجيناً باسم ثائر؟..
ضحك أحد السجناء طويلاً وهزّ رأسه أن: نعم.
- اعترف عليّ.. لا أدري ماذا قال لهم!..
- لقد اعترف عليّ أنا أيضاً… اعترف بأننا تدربنا معاً على القنابل والمسدسات في أحد البساتين.. بالطبع شيء من هذا لم يحصل، ولكنه أراد أن يوقفوا التعذيب عنه..
- وهل نجا!؟.
- لا أدري..
- أيمكن أن يكون قد ذكر اسمي بين الآخرين!؟.
- بالتأكيد.
- كيف عرفت؟.
- قضيت معه ثلاثة أيام في زنزانة واحدة.
- ومن أين أتى باسمي!؟.
- إذا قابلته فاسأله!..
* * *
فتح الباب السجان، فقال عبد السلام: موعد (النزهة). وفي الطريق إلى دورة المياه استوقفهم مدير السجن، أبو رمزت، وهو طويل كالجدار، يقترب من الخمسين من عمره، فقال:
الإسلام دين الحب، والتسامح، دين الرحمة والإخاء، والأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة، وليس دين القتل وسفك الدماء واغتيال الأبرياء، يا قتلة، الويل لكم… لن يخرج أحد من هنا إلاّ إلى القبر… واقترب من محمود يقول: وأنت، سأضعك على (الخازوق).
لم يستطع أحد الرد بكلمة واحدة... رغم شعورهم جميعاً بالبراءة مما قاله.
وشعر محمود بالغثيان، وهو يشم أنفاس أبي رمزت ممتزجة برائحة الخمر… وتابع أبو رمزت:
إذا رأينا فيكم أحداً يتوضأ، فسنمنعكم من الخروج إلى دورة المياه… مفهوم!؟؟.
قال الجميع: مفهوم سيدي.
وقال عبد الكريم: لو سمحتم يا سيدي لنا بالاستحمام، فنحن لم نستحم منذ شهر ونصف، ورائحتنا أصبحت لا تطاق.
تفكر أبو رمزت ملياً، ثم قال: حسناً، تدخلون كل اثنين معاً ولمدة عشر دقائق… لا، بل سبع دقائق..
وشعروا بامتنان..
وقال السجان: فرصتكم في دورة المياه عشرون دقيقة لكم جميعاً. كالعادة.. وكانوا أحد عشر سجيناً..
قال محمود: لكل واحد أقل من دقيقتين.. ننظم الدور قبل الخروج بالأرقام.
* * *
وأصابه مغص في بطنه، ومواعيد الخروج محددة، وراح يتألم، وأحس بحرج شديد، أمعاؤه تكاد تنفجر... قرع الباب بشدة، فلم يجب أحد... ما ذا يصنع!؟
بعد ساعتين من الألم، فتحوا الباب.. ركض باتجاه دورة المياه.. لكن السجان ناداه، ووبخه، وتناوله مدير السجن أبو رمزت بصفعتين دوّى صداهما في أركان السجن... واستمرت المشكلة أياماً... وتفاعل الجميع معه، دون أن يملكوا له شيئاً إلاّ أن يمنحوه فرصتين في الخروج الواحد، فيكون هو الأول والأخير.
وفي ساقه اليسرى، كان حبل الفلق قد سحق الجلد، فظهر العظم، وانتشرت دائرة كبيرة من البثور الحمر حول الجرح، وخاف التسوس، وطلب طبيباً فنهره السجان باستهزاء وشماتة.
* * *
- 6-
إنه عصر آخر يوم من شعبان… بعد المغرب يدخل شهر رمضان.. الناس خارج السجن يحتفلون بقدوم شهر الخير…أما محمود وأصحابه فكانوا ينقلون إلى سجن آخر.
في الطريق تذكر محمود أمه وإخوته، وكلهم أصغر منه… من الذي يرعى هذه الأسرة!؟ ومن يواسيها في هذه الأيام المباركة الحزينة!؟.. إنه الله، ثم، أليست هي واحدة من مئات الأسر المنكوبة!؟.
أُنزلوا من السيارة في سجن كفر سوسة ، الواقع في أحد أطراف العاصمة، وصاح مدير السجن أبو عصام:
- فواز..
- حاضر سيدي.
- هيئ المهجع الثاني بسرعة.
- حاضر.
مهجع!؟ يالها من كلمة طريفة، هذا يعني الخلاص من الزنازن والأقبية!.. ولعلنا نجد هنا شيئاً من السكينة والطمأنينة، وأرسل طرفه في السماء، فرآها زرقاء صافية، والشمس تجنح للغروب.
وأُدخلوا إلى صالة صغيرة ، ثم أُنزلوا في سلم إلى دور أسفل، يضم مهجعين وبعض الزنزانات، وفتح باب المهجع فدخلوا جميعاً ليلقوا عدداً كبيراً من السجناء، وما إن أغلق السجان الباب، حتى انكب السجناء يعانق بعضهم بعضاً في حرارة وشعور بالأنس.
وقال أمير المهجع عادل غنوم ، وكان شاباً في الثالثة والثلاثين من عمره ، واضح التقى ، بالغ التهذيب ، ذكي العقل ، كريم النفس:
المهجع ،كما ترون، لا تزيد مساحته على عشرين متراً، له باب يفضي إلى المطبخ، وهو مطبخ صغير متواضع فيه مغسلتان وحمام صغير ودورتا مياه، نستخدم إحداهما لغسل الأطباق …
وتابع الأستاذ عادل: أهم ما في الأمر هنا، أن المرء يستطيع قضاء حاجته متى شاء… فهل تريدون حرية أكثر من هذه!؟.
ضحك الجميع، وعلّق محمود: هذا إنجاز حضاري ضخم، يضاف إلى منجزات الحركة التصحيحية.
ولما ضحك السجناء، تابع: وما ذا يعني صعود الأمريكان إلى القمر!؟ واستمر الضحك، وعاد الأستاذ عادل يقول: نرحب باسم الإخوة جميعاً بالإخوة القادمين، ونرجو الله تعالى أن تكون أيامنا هنا قليلة، وأن نملأها بالعلم ونعمرها بالمحبة… هذا السجن كأي سجن مدني، لا تعذيب فيه ولا تحقيق، ونحن مودعون هنا بالأمانة، ولا ندري شيئاً عن مصيرنا، علاقتنا بالسجانين محدودة جداً تقتصر على تسلم وجبات الطعام فقط… المعاملة هنا أفضل بكثير من بقية الفروع، وفي كل أسبوع نكتب لهم قائمة مشتريات تشمل بعض الضروريات من سكر وشاي وصابون وكاز وما يشبه ذلك… والإنجاز الحضاري الآخر- وهو ينظر إلى محمود باسماً- أننا نستطيع تناول الشاي حين نريد.
وابتسم الحاضرون.
وقال محمود: هل لنا هنا من نافذة على العالم الخارجي؟.
أجابه عادل: كل شيء ممنوع… القلم والورق والكتاب والجريدة والقرآن والراديو… لكنا استطعنا تهريب نسختين صغيرتين من القرآن الكريم ، وجهاز راديو صغيراً جداً ، عن طريق بعض السجناء القدامى الذين يقومون بالسخرة… وهناك رسائل سرية يهربها عناصر السخرة بيننا وبين المهاجع الأخرى المليئة بالإخوان، ما عدا المهجع الأول فنزلاؤه من الشيوعيين…
- والصلاة!؟.
- بالطبع هنا لا يوجد حظر على الوضوء والصلاة، ونحن نرفع الأذان، ونصلي جماعة، ونرتل الأناشيد أحياناً، والحمد لله…
وتحول المهجع إلى خلية نحل عالية الطنين بسبب الأحاديث الثنائية والثلاثية، وراح السجناء يتفقد بعضهم بعضاً، وكلٌ يفضي ببعض ما قاساه من أيام دامية رهيبة، فيزيح عن نفسه بعض ما تراكم عليها من أثقال عاتية. وقال الأستاذ عادل لمحمود: سمعنا بأنك عانيت الكثير، فاحتسب ذلك عند الله.
قال محمود: أرجو أن يقبلني هو… وتابع بألم: كنت أتمنى أن أدفع عمري مقابل عرض حفلة واحدة من حفلات التعذيب على الناس في التلفزيون…
- الناس يعرفون الحقيقة جيداً.
وأردف عادل: لقد ظهر في المحنة رجال ذكرونا بخبّاب وبلال وعمار.
- لقد تعبت حتى أحسست مراراً بأني انتهيت.
- لن تنتهي بإذن الله.
- كان الاعتراف أكبر ما آلمني.
- الاعتراف طبيعي… وأنا أستطيع كشف أي تنظيم سري خلال أسبوع.
وبدت الدهشة في وجه محمود، فقال: ولماذا السرية إذاً!؟.
وبدا أنه لم يقتنع بجواب عادل حينما قال له: هذه طبيعة التنظيمات في ظروفنا.
* * *
بعد صلاة العشاء، سمعوا أصوات المدافع، فعلموا بدخول شهر رمضان، وتذكر كل منهم أهله وأحبابه، فقال الشيخ محمد خير:
- ليس لنا إلا الصبر والاحتساب، ومداراة العذاب بالبسمات، وانتزاع البهجة من قلب الأحزان… الآن جاء دور الإيمان… فتبادل السجناء التهنئة، وتناولوا الشاي، وقال عبد الكريم: أنا لا أصدق بأني أستمتع بكأس كبيرة من الشاي… أخشى أن أكون في حلم شاعري! فقال محمود: نحن في كابوس يا محترم.
فضحك الجميع… ثم استندوا إلى جدران المهجع، وبدأت حفلة أناشيد بقيادة المنشد عبد القادر ، الذي راح يردد:
كـن مـسـلماً، وكفاك بين الناس كـن مـسـلماً، وكفاك عند الله ذخــراً فـإذا حـييت ملأت وجه الأرض بِشْـرا وإذا قـضـيت عرفت كيف تمـوت حرّا * * * أنت الربيع، فأي شيء في الحياة إذا ذَبُلتَ أنت المضاء، فـأين تنطلق الحياة إذا مللتَ أنت الحياة، فقمْ إلى الأنحاء وانظر ما فعلتَ كن مسلماً، لا تخش إلاّ الله حتى لـو قُتلتَ | فخـراً
وكانت ساعة من النشوة والسمو الروحي، تجلت تصميماً في العيون، وانبساطاً في الأسارير.
* * *
أوشك الليل أن ينتصف، وحرارة الجو جعلت بعض السجناء يتحللون من قمصانهم الداخلية، وتوزع الجميع أماكن النوم في ثلاثة صفوف متداخلة متلاصقة من لحوم البشر، وأطفئت الأنوار، وتعالت من هنا وهناك بعض أصوات الشخير.
وقبيل الفجر بساعتين، راح السجناء يستيقظون تباعاً، وانهمك بعضهم بتحضير طعام السحور، ودخل الآخرون في صلاة التهجد، يستغرقون طويلاً في سجود خاشع ودعاء جريح غزير.
قال محمود للأمير عادل ، بعد أيام : حياة رتيبة، وأشواق ذبيحة، وأسئلة بلا جواب، وقلق دائم مزروع كالشوك في صدور أهلينا الذين لا يعرفون عنا شيئاً، ومستقبل غامض. والله هو عزاؤنا الوحيد في هذه المحنة.
فعقب عادل: الحياة سلسلة من الامتحانات المتواصلة، والمؤمن يتلقى قدر الله بقلب رضيٍّ وثغر باسم.
دروس الشيخ، ونشيد عبد القادر، وحكايات عبد الكريم، هي الفاكهة الوحيدة في هذه الصحراء الشرسة… وثمة نزاعات تنشب بين سجين وآخر بي الحين والحين، حول أشياء تافهة، يعقبها صلح وتسامح.
وكان الأستاذ عادل يحاول تلطيف الجو دائماً بقوله: نحن هنا أكثر من ثلاثين سجيناً، نشكل خليطاً عجيباً، فبيننا طالب الثانوية العامة، والطبيب، وابن المدينة وابن القرية، والقديم في التنظيم والحديث فيه، والرهينة الذي لا علاقة له بشيء من هذه الأمور، ولكن أخوّة الإسلام تجمعنا. ومن الطبيعي أن تكون هنا بعض المشكلات بسبب ظروفنا الصعبة القاسية ، فلنستعن عليها بحسن الخُلُق ورحابة الصدر، ونحن لسنا ملائكة على أية حال… ولا تنسوا للحظة أن الله معنا.
- 7-
بعد شهرين في المهجع الثاني ، فتح الباب سجان وصاح: نبيل..
- نعم.
- تعال.
- إلى أين!؟.
- تعال.
واضطرب الجو. فخرج نبيل، بوجه شاحب، وذهب في صحبة السجان. وجلس السجناء واجمين، فقال الشيخ محمد خير: ادعوا لأخيكم بالثبات والرحمة.
وقال الأستاذ عادل: الوقت يمر بطيئاً، ولا نعلم أين أخذوه، أو لماذا.
ولما أعادوه بعد ساعتين، هدأ القلق، وتطلع الفضول، وتكلم ثلاثون سجيناً معاً:
- خير إن شاء الله!؟.
- أين أخذوك!؟.
- لماذا!؟.
- المهم أولاً……
وقطع اللغط الأستاذ عادل بقوله: هدوء…… هدوء يا شباب، ففي مثل هذه الفوضى لا يمكن أن نفهم شيئاً… الرجاء الكف عن الأسئلة حتى ينتهي الأخ من حديثه، ودعوه يحدثنا من البداية.
قال نبيل:
- أخذوني من هنا، لا أعرف إلى أين. خشيت من تحقيق جديد… فتشوني جيداً، وقادوني في سيارة الجيب المغلقة إلى فرع الحلبوني، ووضعوني في ساحة صغيرة مسيّجة بالأسلاك الشائكة، فانتظرت أكثر من ربع الساعة في حالة من القلق والخوف، أدخلوني غرفة المقدم.
وصاح سجين: غرفة المقدم!؟.
فامتعض الآخرون من المقاطعة، وتابع نبيل:
.. نعم، ورأيت هناك أمي وزوجتي وطفلتي الصغيرة، وسلمت عليهما، وقبلت الطفلة…
وعاودته الأطياف، فاغرورقت عيناه بالدموع، وغالب غصصاً ملأت حلقه، وساد تأثر وخشوع، وتابع: فسألوني عن صحتي..
فقاطعه أحدهم: هل حدثتهم عن التعذيب؟.
وقال آخر: هل حدثتهم عن القبو الخانق، والحر الشديد والعدد الكبير، لينقلوا الصورة إلى الشعب!؟.
وقال ثالث: رجاء يا شباب. بلا مقاطعة.
وقال رابع: فعلاً.
وقال عادل: الرجاء يا إخوة، تأجيل الأسئلة حتى يتم الأخ حديثه. وبعدها اسألوه عما تريدون.
وتابع نبيل: كانت المراقبة شديدة جداً.
فقال سجين: كمْ عنصراً كان يراقبك؟.
واعترض ثان: أف… ما هذا؟.
فتابع نبيل: راقبني ثلاثة عناصر، واستمر اللقاء حوالي ثلث الساعة.
- ثلث الساعة فقط!؟.
آخر: سبحان الله كم تحبون المقاطعة؟.
ثالث: والتعليق يزيد الطين بلّة.
رابع: فعلاً.
وتابع نبيل: ثم قالوا لنا انتهت الزيارة، فأخرجوا أهلي وأعادوني إلى هنا.
وساد اللغط، فقال عادل: الأسئلة بالدور…لنبدأ من اليمين ...تفضل أنت.
سجين: هل أعطيت أهلك رقم هاتفنا ليخبروا أهلي!؟.
نبيل: لا أعرف رقم هاتفكم.
وضحك الجميع، فقال سجين آخر: هل ذكرت لهم بأني معك هنا، حتى يخبروا أهلي؟.
نبيل: لم يكن هناك مجال لذكر أسماء.
ثالث: ما أخبار البلد، والشباب، والعمليات!؟.
نبيل: لم نستطع الحديث في هذا الموضوع.
وساد صمت ثقيل، قطعه أحد السجناء بقوله: وجودنا هنا ظلم في ظلم في ظلم…
فعقب عليه سجين آخر مازحاً: الله يفتح عليك.
ابتسم عادل وقال: اللعبة مكشوفة، السلطة أكثر الناس معرفة بعدالة دعوتنا، ولكنها –باختصار- تريد تأديب الشعب بنا.
* * *
أصبحت الزيارات هي المتنفس الوحيد للسجناء، حيث يعود أحدهم من الزيارة حاملاً شيئاً من الاطمئنان، وكثيراً من ألوان الأطعمة الشهية، وحفنة لا بأس بها من المعلومات والأخبار يتم تهريبها بوسائل أجاد السجناء اختراعها، والاتفاق على رموزها، وأكثرها يتم تهريبه في أماكن غريبة من الأطعمة، كأن تكتب على ورقة سجائر، وتوضع في ذيل البصل الأخضر.
والحق أن السجن كان صدمة قاسية، وتجربة جديدة على أولئك السجناء،حيث تعرضت حياة كل منهم إلى انقلاب جذري ومسخ تام، وزاد من قسوة الأمر تفاوت المستويات الثقافية والاجتماعية، وما ينجم عن ذلك من اختلاف في طريقة التعامل والتفاهم… وكان الشيخ محمد خير يرصد الظواهر السلبية في المهجع ويعالجها في خطبة الجمعة في المهجع نفسه، بأسلوب بالغ التأثير، فما إن تنتهي الصلاة حتى يتعانق السجناء وهم يبكون، وكأنهم يغسلون بدموعهم ما علق في صدورهم من مثالب وغبار.
* * *
حل المساء كما يحل مساء كل يوم، وكان شريط يتكرر عرضه كل مساء، بشكل أو بآخر، كلما حان موعد النوم المتفق عليه بالتصويت، وهو العاشرة ليلاً، فما إن تشير الساعة إلى ذلك الوقت، حتى يشتد الضجيج بشكل لا يستطيع فهمه أحد.
قال الأمير الأستاذ عادل: الساعة الآن العاشرة ليلاً، وقد حان وقت النوم، فالرجاء إطفاء النور.
اضطجع الجميع، وبدأت الأحاديث الجانبية همساً، ثم ما لبثت أن أصبحت ضجيجاً لا يطاق. فصاح سجين:
- أمير.. ما هذه الأحاديث الجانبية!؟. ألن يدعونا ننام!؟.
وقال ثان: هدوءاً يا شباب.
ولما لم يستجب أحد قال ثالث: ضجيجاً يا شباب.
وضج الجميع بالضحك. فقال الأمير: ما هذا يا أخ؟.
رد الثالث: لأننا كلما قلنا هدوءاً يزداد الضجيج، فقلت في نفسي نقول: ضجيجاً، عسى أن يأتي الهدوء.
وعادت موجة الضحك، فقال سجين رابع: قليلاً من الذوق يا إخوة.
رد خامس: رجاء، لا أحد يوجه الأوامر غير الأمير.
وأضاف سادس: خلّصنا يا أمير.
فقال الأمير: يا جماعة، كلنا شباب، ولا حاجة للملاحظات… وساد هدوء، ولكن أحد العفاريت أراد أن يفجر موجة من الضحك فقال:
- (إي) والله عيب.. انظروا إلى شواربكم ولحاكم ما أطولها، ومع ذلك تشاغبون كالأطفال!؟. وعاد الضحك والضجيج، وتوالى السجناء:
- عدنا إلى الضجيج.
- الحق على الأفندي، أبي الشوارب واللحى.
- بعض الناس يريدون تخفيف الضجة، فيزيدونها بملاحظاتهم.
- يا جماعة إما أن تتركونا ننام، أو أغني بأعلى صوتي طوال الليل.
وعاد الضجيج والضحك.
- طبعاً، هناك من ينام في النهار ليزعجنا في الليل.
- يا سادة، يا (أفندية)، أليس هناك اتفاق على موعد النوم!؟.
- سيدي… شعب عربي.
- قسماً بالله، لن أترك أحداً ينام بعد صلاة الصبح أو في النهار، وافعلوا ما تشاءون.
- هذه التهديدات مرفوضة يا محترم.
- لو لم نكن في السجن لكنت....
- ماذا كنت ستفعل!؟.
- صلوا على الحبيب يا جماعة.
- كفى… كفى… كفى…
- والله إن هذا لأمر مزعج جداً، أفي كل ليلة سيتكرر هذا الفيلم!؟ هذا جحيم.
- ومن أين يأتي النعيم إلى هنا!؟.
- اللعنة على حزب(……)، سبب البلاء.
- ألف لعنة ولعنة.
- خلّها مليون لعنة، (ما دام صارت، وصارت).
- قولوا ما شاء الله من اللعنات، ودعونا ننام.
وقال الأمير: هل انتهينا!؟.
فساد هدوء طويل، ثم همس سجين لجاره:
- الحق على (زيد).
- ولكن عمراً تطاول في الكلام.
- إنه ينطلق من حقه.
- أليس هناك شيء فوق الحقوق!؟.
- صحيح، ولكن…
في تلك الأجواء ، ألف أحد السجناء قصيدة ساخرة مطلعها:
في المهجع الثاني حياتي ملأى بشتى المزعجات
* * *
بعدما تناول الجميع إفطارهم قال الشيخ محمد خير:
- يا اخوة، ما هذه الحال!؟ الناس يحسبون أننا هنا نقوم الليل ونصوم النهار، ونتعامل بأخلاق الإسلام، ونقضي أوقاتنا بالعلم والذكر والحفظ والدعاء.
قال محمود: لو أن أحداً التقط لنا شريطاً سينمائياً وعرضه علينا بعد حين؛ لضحكنا من تصرفاتنا طويلاً.
فقال عادل: أرجو ألا نبالغ في الأمر، فالجو الخانق، والإرهاق النفسي، والقلق، وضيق المكان، وسوء الأحوال، أشياء تجعل أياً منا ينفعل لأتفه الأسباب.
فقال سجين ظريف: بل من غير سبب إطلاقا.
وكان كثيراً ما يشب الخلاف حول الموقف من العمل العسكري، وجدواه، ما بين مؤيد ومعارض، ومحايد، حتى كان يوم من أواخر أيام رمضان، ألقى فيه أحد السجناء، وهو يقوم بالسخرة، ورقة صغيرة، فما إن فتحوها حتى أحدثت انفجاراً كالقنبلة، حيث قال الأمير عادل:
- لقد استشهد خمسة من إخوانكم في إحدى ليالي هذا الشهر المبارك: هم: رامز، وهمام، وعصام، وياسر، وإسماعيل.
وسرعان ما انزوى كل سجين على نفسه، وساد صمت مصحوب برهبة وخشوع، وانطلقت دموع حبيسة، وعلا نشيج مكتوم، فقال الشيخ محمد خير:
قوموا للصلاة على إخوانكم، صلاة الغائب، وادعوا الله لهم بالفردوس الأعلى، واسألوه النصر أو الشهادة. وكانت صلاة تضج بالنحيب.
* * *
وأقبل العيد! عيد في السجن!؟.
أحيا السجناء ليلة العيد بالصلاة والدعاء والذكر، وفي الصباح أدّوا صلاة العيد في قبوهم الكئيب، وخطب الشيخ محمد خير خطبة العيد.. فأبكى العيون والقلوب، وغسل الصدور، وحلّق بالأرواح، حتى علت الحناجر بالنشيج، وأحس السجناء بأنهم يعيشون في الجنة، وليس في ذلك السجن العربيد.
ولم يبق سجين لم يبك حين قال الشيخ:
ما لكم أيها الإخوة!؟ أترفضون المحنة في سبيل الله!؟ أترفضون قدر الله!؟ أترفضون ثواب الله وجنة الله!؟ هاأنتم أولاء هنا، آمنون حتى في السجن… أتستعظمون محنتكم!؟ إذن فاذكروا أخت رامز التي فقدت زوجها، وأخاها في أيام قليلة… كيف تستقبل العيد!؟ إن أهلكم لم يفقدوا الأمل بعد.
وبعد الصلاة اصطف السجناء. وعانق كل منهم أخاه عناقاً حاراً، وبكى في كل عناق، دون أن يدري سبباً للبكاء… ثم جلسوا يتنهدون، يجمعهم عالم واحد. وتبادلوا التهنئة: تقبل الله… كل عام وأنتم بخير… سامحني يا أخي…
وقام بعضهم فأخرج ما كان قد ادخر من حلوى الزيارات، فوزعها على إخوانه، وفي خشوع لا مثيل له، قال الأمير عادل: هذه هي المرة الثانية التي أدخل فيها السجن… في المرة الماضية بقيت هناك ثلاثة أعوام، ومر عليّ العيد ست مرات، واليوم، وقد صار عمري ثلاثة وثلاثين عاماً، مرّ عليّ فيها أكثر من ستين عيداً، ولكن، وأقسم بالله، لم أشعر بسعادة في عيد من الأعياد، كسعادتي في هذا العيد… لا أعرف لماذا!؟.. حقاً لقد ابتعدت عن أمي وأبي، وزوجتي وطفلتي وإخوتي… ولكني أجد فيكم عوضاً عن أسرتي… أنتم إخوتي في الله… أنتم أمي وأبي وإخوتي ومستقبلي… وبكى… فأبكى الجميع.