ما لا ترونه(3)و(4)
ما لا ترونه (3) و (4)
|
سليم عبد القادر |
- 3 -
جلبة غير عادية حدثت في الصباح، وأطل الرائد أليف من الكوة فوجد محموداً مضطجعاً ينتفض وأثر النوم في عينيه، فصاح:
- كيف تركتموه ينام!؟ من الذي تركه!؟ هاتوه..
وهتف الشاب في سره:
- رحمتك يا رب.. فإنهم لا يعرفون الرحمة.
وقال أليف:
- إيه يا محمود، ماذا لديك!؟.
- سيدي…
- ألن تتكلم!؟.
- لقد قلت كل ما أعرف.
فصاح بالجلادين: اسحقوا عظامه.
وانصرف، وبدأت حفلة جديدة… ساعة تحت التعذيب.. الأقدام تورمت حتى أوشكت أن تتشقق، وتمزق الجلد فوق الكعبين بتأثير الحبل المشدود، وسال الدم، واختلط العرق بغبار الأحذية بالجسم المبتلى، وامتزجت الاستغاثات بالضحك والشتيمة، والضراعة بالسخرية، والابتهال بالعربدة.
وعاد أليف يقول:
- اعترف فلا مجال للإنكار.
- بماذا!؟.
- بأنك من الجناح المسلح.
- أثبتوا ذلك وأعدموني.
- كلكم يقول ذلك، وفي النهاية تعترفون.
وعادوا فألقوه في الزنزانة مثخن الجراح…
.. ليس حولي غير جدران صم بكم عمي… يا إلهي أكاد أُجن… الظلام يبتلع كل شيء… الوطن سجن كبير، والعالم أكبر بكثير من أن يكترث بمأساة واحد مثلي… وهنا ينطفئ الإنسان كشمعة، ينتهي كعود ثقاب، يُسحق مثل حشرة صغيرة.. هذا ظلم وكفر… أنا أعرف ذلك، وهم يعرفون، والناس خارج هذا الجحيم يعرفون… الرحمة يا إلهي، الاعتراف صعب ، لن أعترف… لن أنقذ نفسي وأفرِّط بإخواني، مستحيل أن آتي بالأبرياء إلى هذا المكان الجهنمي… ولكني يا إلهي… بدأت أخشى على إيماني.
* * *
فتح مدير السجن أبو اصطيف الكوة وقال:
- النوم ممنوع. مفهوم!؟.
- حاضر سيدي.
وحل المساء والإرهاق والنعاس. النوم ممنوع، والمقاومة تضعف وتذبل، والعزيمة تخور شيئاً فشيئاً.
في منتصف الليل أطل سجان وقال:
- ما اسمك!؟.
- محمود.
- يا أخي، لا مفر لك من الاعتراف. وكل الذين سبقوك اعترفوا.
- لا علاقة لي بتنظيم.
- أنا أكلمك كأخ، وليس كسجان. أنا مجند ولا علاقة لي بما يجري… على كل حال، لقد منعوك النوم، أليس كذلك!؟.
- بلى.
- بإمكانك أن تنام. وإياك أن تخبر أحداً بذلك، حتى لو سألوك.
- أمرك سيدي..
- لا تقل أمرك، ولا سيدي، فنحن إخوة.
- شكراً.
وتبادلا بسمات الرضا والامتنان.
أهي مناورة أم عطف!؟ ولو كانت مناورة، فماذا سيكون ثمن النوم!؟.
ونال منه الإعياء فسقط، وما أحسّ إلاّ وهم يفتحون عليه الباب في الصباح… تظاهر بأنه لم ينم. وقال أليف في القبو:
- (قوّاد)، ألن تعترف!؟.
- سيدي، أقسم بالله العظيم…
وفي لحظة واحدة، كان ملقى على الأرض مثل كيس نفايات، وبدأ مهرجان جديد، وصراخ، وعويل،وتوسل، واستغاثة، وابتهال… دون جدوى.
ياإلهي، أليس هنا إنسان!؟ لم أعد أطيق الجراح على الجراح، والضرب على جسد ممزق، وقدمين لا تطيقان المشي.
- اعترف يا حيوان، يا كلب، يا قوّاد، يا مجرم.
- بماذا!؟.
- بأنك من الجناح العسكري.
- كيف أعترف بشيء لا علاقة لي به ؟
- اضربوه.
- أبوس أيديكم وأرجلكم… حرام عليكم أن تورطوني… أنا بريء.. بريء…والله العظيم بريء.
- اضربوه بلا رحمة.
وصرخ في هلوسة وجنون:
- سيدي، والله أنا أحب الأمن.
قهقه الجميع، وتوقف "شيخو" عن الضرب قائلاً:
- ماذا قلت يا حيوان!؟.
ونزع بحذائه القناع من على عيني محمود، الذي أبصر الجلادين يتصببون عرقاً وغضباً وحنقاً، وشيخو يلهث تعباً وإرهاقاً، وأليف وأبو مغير وأبو اصطيف يكمِّلون الدائرة الصغيرة الملتفة حوله… وقال:
- أحب الأمن.
- أصادق أنت أم كاذب!؟ كن رجلاً، وإلاّ… وعادوا يقهقهون، فقال:
- أحبهم إن كانوا على الحق.
- ونحن على الباطل، أليس كذلك يا قواد!؟.
وبحذائه أعاد شيخو القناع إلى مكانه،وغشيت الظلمة كل شيء، وعاد الضرب شديداً، والشتائم والكفر والعربدة تمزق أذنيه وقلبه، وامتلأ وجهه ببصاقهم، وسال الدم من رأسه، ولم يعد يبالي بأعقاب السجائر في أي مكان من جسمه تُطفأ، ولم يعد يشعر بخزي من عريه بينهم، وتضاءل إحساسه بالحياة، وانتهت رغبته في مقاومتهم، وعاد كومة من جلد وعظم، واستبشر بالموت القريب.
صرخ أليف:
- ماذا قلت!؟.
- أريد أن أموت.
- ستموت ولكن بعد أن تعترف.
- ارحموني.
- ستظل في حال الشهوة إلى الموت.
- اقتلوني.
- في كل يوم ألف مرة… أما أن تموت مرة واحدة، فهذا لن يكون.
- لماذا!؟.
- لأنك مجرم.
- أنا!؟.
- بل نحن!؟.
- قالوها بسخرية، ثم بجد: نعم أنت يا ابن (الفاعلة).
- أنا مواطن.
- أنت خائن.
- أنا إنسان.
- أنت حشرة صغيرة.
- لا يمكن أن يرضى السيد الرئيس بهذا!!.
- اخرس، واحذر أن تردد اسمه الطاهر على لسانك النجس مرة أخرى.
- يا إلهي…
- الله بريء من المجرمين.
توقف الكلام إلاّ عن الشتائم، واستمر التعذيب، حتى شعروا جميعاً بالإعياء والتعب.
* * *
راح يتأوه في الزنزانة وحيداً، يتفقد جروحه، وقدميه، وجسمُه ممزوج بالعرق والأوساخ، ورائحته نتنه ، وفتح الكوة عليه إبراهيم يقول:
- يا أخي أنت شاب مثقف، واعٍ، فلا تضيع مستقبلك وتهدر شبابك من أجل أفكار خيالية وعمل فاشل… اعترف… اسمع نصيحتي..
ثم انصرف.
وقف يصلي ويطيل الركوع والسجود:
ياإلهي، أدركني، ما عدت أطيق العذاب، إنهم لا يجودون عليّ بالموت، ولا يفهمون لغة الإنسان…
وارتمى على الأرض بين الوعي والإغماء.
* * *
لم يمض على خروجه من قبو التحقيق ساعتان، حتى عاد شيخو يصرخ به:
- تعال.. حيوان، لي معك حساب.
وفي القبو قال له: ادخل في الدولاب.
جلس في الدولاب (إطار عجلة سيارة)، رأسه وقدماه من جهة، ومؤخرته من جهة أخرى، وبحركة من شيخو، أصبح رأسه في الأرض، وقدماه في الأعلى، وانهال عليه ضرباً وسباً حتى أدركه التعب.. وبعد ما قضى شهوته من التعذيب أعاده إلى الزنزانة.
آه… آه… عذاب فوق عذاب… لم أعد أحتمل.. يارب.. لمن أدعو سواك!؟ اليأس بدأ ينخر في عظامي، وبتُّ أخشى الفتنة في ديني… أستغفر الله… أستغفر الله… تذكر قصص عمار وبلال وخباب… ولكن هذا التعذيب لا يطاق… أين الموت!؟ أين الموت!؟ ساعدني يا إلهي. أنا ريشه في قلب إعصار. وقال شيخو:
- أنت ممنوع من الطعام. مفهوم؟.
- نعم مفهوم.
وأدركه الإعياء فارتمى على الأرض.
* * *
انخلع قلبه لصوت قفل الزنزانة وهو يفتح…، إنه أمر يتكرر مرات كل يوم، وقال أبو قدور: قم… قم يا نذل.
وصاح أليف:
- محمود، أنت عنيد جداً، ولكن عنادك لن يفيدك إلاّ مزيداً من العذاب والمتاعب… ستظل في التعذيب والجوع والمنع من النوم حتى تدلي بمعلوماتك كلها.
- لقد قلت ما أعرف.
- أنت لم تقل شيئاً.
ثم صرخ بغضب:
- اطرحوه على الأرض.
- سيدي، أرجوك، بالتفاهم، بالمنطق نصل إلى كل شيء، لم أعد أطيق العذاب. اقتلوني رجاء… أرجوكم أن تقتلوني..
- لن نظلمك، ولن نقتل نفساً بغير حق.
- لقد قتلتموني ألف مرة.
- لن يفيدك هذا الكلام.
وصاح أحدهم: اخلع ملابسك.
وشدوا الحبل على قدميه، فصاح:
- يا ناس، رجلاي تتقطعان. ارحموني.
- اخرس.
- اعترف.
وراحوا يمرغون وجهه بأحذيتهم، وهو يصرخ:
- أحد… أحد… يارب أنقذني. أنت قادر.. يارب… يا سادة أبوس أيديكم، أبوس أرجلكم.
ومن غير توقع، كان يتلقى الرفسات في بطنه وعلى رأسه، والصراخ، والشماتة، والإصرار على سحقه ، بينما الكابل ينهال عليه بقسوة لا حدود لها.
- اعترف.
- لقد اعترفت.
وتعب شيخو من الضرب فاستلم أبو قدور، ثم إبراهيم، ثم عبود، ثم شيخو… وهو يتلوى تحت أقدامهم عديم الحيلة، فاقد الأمل إلاّ من رحمة الله.
واستمر الضرب عنيفاً لئيماً
- يا سيدي. ستوقفهم حين تريد.
- ماذا تقول!؟.
- أكلم الله.
- ليوقفنا إن استطاع.
واستمر التعذيب، وسأل نفسه: كيف تكون جهنم!؟.
وصاح:
- سأعترف.
- دعوه إذن…
- ماذا تريدون!؟.
رد أليف:
- التنظيم المسلح.
- أنا وأمي وأبي وإخوتي في التنظيم المسلح. هات أمضِ لك بالعشرة على هذا، وعلى الإعدام.
- إذن فأنت تلعب بنا.
- يا سيدي…
ولم يلتفت إليه أليف، ولكنه قال لشيخو:
- خذه إلى الزاوية و (……).
وصعق وهو يسمعها كلمة منكرة قبيحة عارية في قبو (الأمن). فقال:
- إن ثبت عليّ شيء فافعلوا ما تريدون
- اضربوه.
ياإلهي… إن لم تدركني برحمتك، فأدركني بالموت أو الشلل أو الجنون... وصاح:
- ليس لديكم دليل.
رد أليف باحتقار، وقد قرر أنه قد آن الأوان كي يوجه إليه الضربة القاضية...
- اعترف عليك مجاهد وثائر.. يا حيوان.
سُقط في يده، وأيقن أنه لا مفر من الاعتراف...
- دعوني إذن، حرروا قدمي، وارفعوا القناع عن عيني.
ورأى الدنيا ظلاماً، وأليف يسلط عليه بقعة ضوء من كشاف يحمله بيده، ومن رأسه الملصوق بالأرض أبصر مجموعة من الأشباح تُحيط به بشكل مرعب.. ولم يحرك فيه المنظر شيئاً، وقام إلى المنضدة كالمجنون:
- أوقع لكم بالعشرة بأني من التنظيم المسلح.
- ومن معك؟.
- مجاهد وثائر.
- اضربوه.
- ماذا تريدون أرجوكم!؟ إن قلت إني منهم لم تتركوني، وإن قلت لا علاقة لي بهم لم تتركوني.
واستمر التعذيب: ودفع شيخو العصا في قفاه فصاح، وهدده بغيرها.
- يا سادة.. حرام.
- يا حقير، ألا تعرف شخصاً يدعى أيمن!؟.
- بلى، أعرفه.
- ماذا كان بينك وبينه!؟ احذر أن تنظم معلوماتك، فالتعذيب سيستمر حتى تقول كل شيء، وليس ما هو موجود عندنا فقط…
- سأعترف..
وفكوا وثاقه وقناعه، فانزاحت عن صدره هموم الدنيا، وتفكك داخله، فانهار، وتناثرت إرادته في المقاومة كشظايا الزجاج المهشم.
* * *
لقد انتهيتُ ياإلهي، هذه مشيئتك.
وأخذ القلم وراح يكتب اعترافاته، وأليف يبتسم وقد غمرته نشوة الانتصار.
وتلاحقت الأصوات:
- إنه شاب ممتاز.
- ووطني مخلص.
- لا تعذبوه بعد اليوم.
- لقد غلطنا معه.
- المسامح كريم.
- سيذكر كل شيء بإرادته.
- إنه طالب جامعي، مثقف، وفاهم.
- اجلس على الكرسي يا أخ.. استرح.. نحن آسفون.
- هاتوا له الماء والموز وما يطلب من طعام.
- اكتب.. اكتب يا ابن الحلال.
وبعدما كتب ما ظن بأنه يقنعهم ويخلّصه.. عرضوا عليه مجموعة من صور الملاحقين، فأنكر بعضها، وتعرف إلى البعض الآخر. ثم أعادوه إلى الزنزانة.
جلس كوعاء من فخار محطم، حاول أن يلم شمل شتاته، ويمنّي نفسه بانفراج قريب، وطعام مقبول. ولم يطل انتظاره، إذ جاؤوه بكسرة خبز يابسة، وقليل من فضلة شوربة العدس الباردة فلم يستطع الأكل، وكان يحس قبل قليل بجوع كاسر.
وقال له مدير السجن أبو اصطيف، وهو يداعبه بابتسامة حنون:
- كُلْ.. كُلْ، بالهناء والشفاء، كُلْ يا ابني، فالظاهر عليك أنك ولد طيب وابن حلال.
- شكراً سيدي.
وغاب قليلاً ثم عاد مكشراً عابساً ومعه دولاب سيارة، فقال:
- قم واحمل هذا الدولاب في رقبتك.
- لكن…
- ولا كلمة.
- لا أستطيع الوقوف.. انظر إلى قدمي وما فيهما من ورم وجروح ودم.
- في (جهنم الحمرا).. كان عليك وأنت (تفرعن) في الخارج، أن تحسب حساباً لهذه الليالي.!
يا إلهي ، كيف يلبسون الأقنعة وينزعونها !؟
حمل الدولاب في عنقه، وأحس بعجز وإعياء وغثيان من كل شيء، وراح السجّانون يتناوبون على مراقبته حتى مطلع الفجر.
- يا سيدي لقد اعترفت، فماذا تريدون بعد!؟.
- اخرس.
- اقتلوني.
- أنت تحلم.
وسمع أذان الفجر يترامى إليه عميقاً شجياً: الله أكبر… الله أكبر… أنت أكبر منهم يا الله، وهذه الحقيقة الكبيرة هي الشيء الوحيد الأقوى من جدران هذا الجحيم الداعر.
وقال للسجان إبراهيم:
- أتسمح لي بالصلاة!؟.
- طبعاً… ولو أنك سلبت راحتنا هذه الليلة… نحن لا نمنع أحداً من الصلاة.
ولم تعد رجلاه تحملانه، ودارت به الدنيا، فارتمى على الأرض جثة هامدة… رشقه إبراهيم بالماء، ونكش رأسه بحذائه، وقال: التمثيل لا ينفع هنا.
تحامل على نفسه وقام يصلّي، وشعر بغبطة وهو يتخلص من الدولاب لدقائق.. وفجأة دخل شيخو سكران يغني، فلما رآه يصلي صحا من سكره وتحول وحشاً كاسراً وصاح:
- لماذا الدولاب على الأرض!؟ من سمح له بالصلاة!؟.
وبحث عن شيء يضربه به فلم يجد، فخلع حذاءه الصفيق وجعل يصفعه به على وجهه ورأسه، ثم بصق عليه، وقال: الدولاب يا كلب.
ياإلهي… إنني أسقط في هاوية بلا قرار… لم أعد أحتمل العذاب، والانتحار جريمة… لقد مضى ثلاثة أيام، كل منها بسنة مفعمة بالعذاب والمرارة… ضرب وشتائم وجوع وإرهاق وتنكيل وحرمان من النوم وحمل الدولاب ليل نهار… وانهيار شامل يسري في كل خلية مني كالسم الناقع، وما من شعاع يلوح في هذا الجحيم القذر، والاعتراف يُدمي روحي.
* * *
رغم كثرة ما قرأ من كتب وروايات عن جحيم السجون وقسوة التعذيب ، بدءاً من قصة سحرة فرعون وأصحاب الأخدود وآل ياسر وبلال وخباب ، إلى سجون عبد الناصر وغيره ، ورغم أنه كان لا يستبعد الاعتقال كنوع من الابتلاء في سبيل الله ، إلا أنه لم يكن يتصور أن السجن يمكن أن يكون بهذه الفظاعة ، ولم يكن يتخيل أنه سيلتقي يوماً هؤلاء المحققين والجلادين ذوي الهياكل الآدمية الخاوية من القلوب والعقول والضمائر ، الذين أخذوا يتفننون ويتلذذون بتعذيبه وسحقه كحشرة حقيرة بين أقدامهم وكأنهم ملوك تلك الأقبية السوداء.
هؤلاء هم رجال الأمن ، أمن الدولة ، إنهم حماة الوطن ! ممن؟!
من الأعداء ...هل هناك أعداء للوطن في مثل قذارتهم؟!
هؤلاء الأنذال الذين لم يعتقلوا يوماً جاسوساً أصبحوا يستفردون بزهرة شباب الوطن ويذبحونهم هنا ...
آه ياوطني ..إلى أين المصير؟! آه يارب ، كم أنت صبور حليم؟!
* * *
بعد أربعة أيام كان في التحقيق موثقاً مقنع العينين، وسمع صوت الرائد أليف يحتدم غضباً:
- إذن فلن تعطينا كل ما عندك!؟ أقسم بشرفي لأسحقنّ عظامك.
- سيدي رجاء. ما عدت أطيق العذاب، ولا أنتم تصدقونني، ولم أعد أخشى على شيء غير ديني.. أعرف أنه أمر لا يهمكم، لكنه أغلى عليّ من الحياة.
- لن أصغي إليك بعد اليوم أبداً.
- حرّروا يدي وعيني، وسأقول ما تريدون.
- لن ترى وجهي..
- أرجوكم.
رفعوا القيد عن عينيه، فوجد نفسه مع جلادين وسط مجموعة من ضباط الأمن الذين يرتدون الملابس المدنية، ويبدون في أشكال بالغة الأناقة... وقد جلسوا على كراسي الخيزران في شكل نصف دائرة... لم يعرف سبباً لهذا الحضور المكثف… حتى قال أليف:
- مجرمون، قتلة، يقتلون أبناء الوطن.. وأنت الذي ستدلنا على القتلة… أنت الخيط الذي سيوصلنا إليهم..
توسل بانكسار مرعب:
- ارحموني…
- اطرحوه أرضاً.. واسحقوا عظامه.
وهجموا عليه، فانتفض، وطوق بكل يد واحداً من الجلادين.. لم يكن ذلك عن قوة في الجسم، أو رغبة في الدفاع عن النفس، بل كان لوناً من الحركات غير المفهومة التي تعبر عن اليأس. فصرخ أليف: دعوه…
وأقبل نحوه يسبّه ويصفعه بعنف وسرعة، وهو واقف كالتمثال بلا حركة، ثم صرخ به: اجلس على الأرض يا كلب.
ركض كالمجنون وجعل يضرب رأسه بالجدار ضربات قوية متلاحقة، ولكنه لم يسقط.. لم يمت… ركض نحو أليف يتوسل:
- سيدي.. ما هذه الورطة!؟ ماذا تريدون!؟ اقتلوني.. حبل المشنقة أسهل عليّ من عصا واحدة.
- اجلس يا حقير.
وجلس، وشدوا الحبل فسحق ، وجعل يصيح وقد فقد آخر ذرة عقل في رأسه. وسكت.. شهق.. ورفع رأسه إلى السماء يدعو بقلب يتفجر قهراً وضراعة ولسانه صامت: ياإلهي.. يا ربي… حتى متى يستمر هذا الامتحان!؟.
شيء ما قد حصل ... تداركته عناية الله وهو على شفير الهاوية
وقال أليف: اتركوه..
وتابع:
- لو لم تكن من الجناح المسلح لما اتصل بك أولئك المجرمون.
- لقد اتصلوا بي كما اتصلوا بغيري، لكن كأصدقاء.
- من هم!؟.
وابتلع غصة في حلقه، وقال:
- إنهم أبرياء، ولا علاقة لهم بتنظيم.
- إنهم متورطون، وأنت متورط.. اكتب أسماءهم جميعاً، وحين نشك في أنك تخفي عنا أية معلومات، مهما تكن تافهة، فسنعتبرك كذاباً، ونعيد التحقيق من البداية.
ماذا يصنع!؟ ألم ينطق عمار بن ياسر كلمة الكفر تحت التعذيب!؟ ألم يدل الغلام المؤمن على الراهب تحت التعذيب أيضاً!؟
كان يحاول أن يتلمس العزاء من تلك الصور… وكانت روحه تنتفض مذعورة كالطير الذبيح…
وعاد في الزنزانة وحيداً يحمل الدولاب في عنقه، ورأى مسمار حذاء في الأرض فحفر به على الجدار (هنا إسرائـ...).
* * *
- 4 -
لقد انتهى كل شيء.. لقد اعترفت، انتهيت… سيأتون بإخوانك إلى هنا، يقاسون العذاب والمرارة والقذارة مثلما قاسيت أنت… أصحابك الذين يظنون بك خيراً، يحسبون أنك لن تعترف.. وأنت في نظرهم شيء كبير، وأنت الآن شيء تافه.. لا شيء… لكن، ماذا أصنع!؟ لكل شيء حدود، ولكل إنسان طاقة.. حتى الفولاذ ينكسر ويذوب، كان الموت أسهل عليّ. ولكن الموت لم يأت، والرحمة كلمة لا وجود لها هنا، وقد صبرت كما لم يصبر إنسان، وقد أخرت اعترافاتي سبعة أيام، وعلى أصحابي أن يدبروا أمورهم… أن يهربوا.. أو يختفوا، أو يغادروا البلد… ليس من المعقول أن أذوب قطعة قطعة، وهم يجلسون بلا حركة…ولكنهم يظنون بأني أموت ولا أعترف.. هكذا علمونا في اللقاءات السرّية
وقال له أليف: إذا تعاونت معنا فسأقف إلى جانبك، وسأذهب معك إلى العاصمة وسأضغط بوزني كله من أجل تخفيف الحكم عليك.
أجابه: حاضر.
وفي سره كان يتمنى الموت.
وفي الزنزانة وقف وحيداً ، وأخرج من جيبه قطعة نقدية صغيرة فحفر بها على الجدار بأحرف كبيرة:
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة…).
"سيذهب العذاب، ويبقى الثواب".
* * *
من كوة الزنزانة، رأى صديقه عبد الكريم معصوب العينين، وسألوه: أهذا هو!؟.
- نعم.
ونقلوه إلى زنزانة أخرى.
هذا الرجل كان مسافراً، أردت أن أقطع الخيط عنده. فمتى عاد!؟ وكيف يعود ويسترخي في بيته!؟ لقد اسود الأفق من جديد.. بماذا سيعترف!؟
وفي القبو قال له أليف:
- لم أعد أثق بكلامك أبداً، أنت تخفي الكثير، ولم تقل شيئاً حتى الآن.. ستتغير معاملتنا معك، وسترى العذاب الحقيقي.
- سيدي، اسمح لي..
- لا..
- بعض الكلمات…
- قل.
- ليرفعوا القناع عن وجهي أولاً.
- لن ترى وجهي بعد الآن.
- أريد أن أعرف كيف أكلمك.
ورفعوا القناع عن عينيه، فقال أليف:
- إياك أن تخفي شيئاً مما بينك وبين عبد الكريم…لقد اعترف هو.. نريد منك إثبات حسن نية. فأنت تكذب علينا.
- حاضر.
وجاءوا بعبد الكريم موثقاً مقنعاً وبدأوا بتعذيبه، وقال أليف: اضربه يا محمود.
أحس بأنهم يجردونه من آخر شعور إنساني، بعدما جردوه من ملابسه...
لأول مرة.. يهز رأسه بالرفض، ولكنه ظل صامتاً، لم يلحوا عليه في الطلب… إلاّ أنهم أوهموا صاحبه بأنه هو الذي يضربه. وراح الرائد أليف يصيح، والجلاد يضرب عبد الكريم:
- طيب، اضرب، يا محمود، اضربه.
* * *
بعد ساعة وقف محمود أمام أليف مرة أخرى، فقال أليف:
- أريد منك أسماء من تعرف في التنظيم؟.
- لقد كتبت.
- ستعود إلى التعذيب.
- أتريدون أسماء أبرياء؟.
- نريد كل من له علاقة بالتنظيم، أو متعاون، أو متعاطف.
كان هذا تطوراً جديداً.. يبدو أنهم يريدون الانتقام، ليس إلاّ، وأحس بأنه بحاجة إلى معجزة ليخرج من هذا المأزق… للمرة الألف يتمنى الموت… ولكن.. أين الموت!؟.
وجلس في الزنزانة يكتب.. وقلبه يبكي.
* * *
حدثت جلبة كبيرة، وترامى إليه صوت يقول: (المعلم الكبير) وبعد قليل كان في غرفة التحقيق أمام المعلم الكبير، الجالس على الكرسي خلف المنضدة، بينما يقف أليف إلى جانبه وقفة جادة… وتطلع إليه فرأى رجلاً في حوالي الأربعين من العمر، غامق البشرة، ضئيل الجسم، بالغ الأناقة، قال بصوت هادئ:
- اسمع يا محمود. أنت حتى الآن لم تعطنا شيئاً من المعلومات. ما ذكرته في اعترافاتك ليس جديداً علينا، فنحن نعرفه، ونحن لا نريد إيذاءك، ولم نصعد عمليات التعذيب معك حتى الآن، لأننا نريد لك أن تخرج إلى أهلك ووطنك ومستقبلك وأنت تحمل صورة مشرقة عن الأمن… وهذه فرصتك الذهبية، فإما أن تدلي لنا بكل ما تعلم، وأعدك، وأقسم بشرفي وعروبتي وديني وشرف السيد الرئيس، أن أفرج عنك مباشرة، وأساعدك بكل ما تريد وتحتاج، وإما أن نلجأ إلى طرق جديدة في انتزاع المعلومات.
وقال أليف:
- أفهمت كلام سيادة المقدم جيداً!؟.
- نعم.
وقال للمقدم: أتسمح لي بكلمات!؟.
- تكلم.
فقال بطريقة انتحارية مؤدبة:
- لماذا هذا التعذيب!؟ هل هو أسلوب إنساني!؟ ومهما يكن ذنب المرء، فهل يضرب بهذه الطريقة،وإلى هذا الحد!؟ احكموا عليّ بما شئتم، الموت، أو السجن المؤبد، ولكن أرجوكم أن تكفوا عن تعذيبي… هذه فتنة، وهي أشد من القتل، وليتكم تجودون بقتلي، وأنا أسامحكم، وأبرئكم أمام الله وأمام الناس… إنني لو تمكنت من الإرهابي موشيه دايان، والجزار مناحيم بيغن، أعدى أعداء الإسلام والعروبة، لما فعلت بهما نصف ما فعلتم بي… لأن هناك شيئاً اسمه إنسانية..
والتفت المقدم نحو أليف، بعدما رأى أن هذا الشاب الذي أصبح أشبه بشبح خارج من قبر، قد نال فوق ما يحتمل، وقال: لا تعذبوه بعد اليوم.
- أمرك سيدي.
وتابع المقدم:
- محمود، أنتم شباب متحمسون، مخلصون لدينكم، ونحن لا نشك بهذا أبداً، ونقدر اندفاعكم وطهارتكم. ولكن قادتكم عملاء، ولدينا وثائق ثابتة تؤكد كلامي، وسأطلعك عليها أنت بالذات.
هز رأسه مجاملة، وقال:
- حسناً.
وخرج المقدم، ودخل أبو مغير باسماً يقول:
- محمود، هذه فرصتك فلا تضيعها، لقد وعدك سيادة المقدم "علي سعد الدين"، وهو إذا وعد وفّى، لأن كل شيء بيده. وهو رئيس الفرع وكلامه فوق كلام المحافظ.
- لماذا لم يفرج عني الآن!؟.
- لأنك لم تتكلم بكل ما تعلم!.
- لقد عصرتموني كالإسفنجة،حتى لم يبق فيها قطرة ماء.
- أنت حر، وأنا أنصحك.
وجلس في الزنزانة وحيداً، وقد أعفوه من حمل الدولاب بعد عشرة أيام، وسمحوا له بالنوم… جلس يستعرض أيامه في السجن، ويذكر أهله وأصدقاءه، ويتأمل حاله ومستقبله، وهو لا يكاد يصدق شيئاً مما يجري…وهمس في ألم: لا ريب أنني في كابوس.. في حلم مزعج.. ولا يمكن أن يكون في العالم شيء من هذا!؟ مستحيل.. مستحيــل… مستحيـــل…
وقف أمامه ضابط طويل معروق، فقال:
- سمعنا بأنك صاحب فكر..
- هذه مبالغة.
- لذلك ستكتب لنا مقالاً يدين العنف الذي يمارسه الشباب، من وجهة نظر إسلامية…
وقال أليف:
- ألست تزعم بأنك ضد العنف والتطرف!؟.
- بلى..
- إذن فاكتب، وبسرعة.. فنحن نحتاج المقال لنشره في جريدة الجمهور، موقعاً باسمك.
- سيدي…
- انتهى الأمر.
وفقد رغبته في المقاومة، إن الفكر قابل للاغتصاب أيضاً!. إنه ضد العنف والتطرف ، كما أنه ضد الظلم والاستبداد ، لكنه وهو في هذا الجحيم لايملك الإفصاح عن موقفه ...المطلوب منه إدانة العنف والسكوت عن القهر والعسف.
هز رأسه وقال: حاضر.
وقال الضابط الوسيم: أريدك أن تحشو المقال بالآيات الشريفة، والأحاديث المقدسة.. مفهوم.؟
- أمرك يا سيدي.
وفي زنزانة منفردة كالقبر، أو أقصر قليلاً، جلس مسلوب الإرادة يكتب المقال المطلوب، وقد فقد إحساسه بالوزن، وراح يتلاشى كالبخار، ويدعو الله بقلب كسير..
* * *
لم يمض إلا يومان حتى اعتقل شاب يدعى باسماً، له به صلة، فاستدعوه: هذا صاحبك باسم يذكر أشياء لم تذكرها أنت، رغم أنك تعرفها!؟. هذا يعني أنك تكذب علينا!؟ تعطينا المعلومات بالقطارة! تتسلى بنا.. سنعيد التحقيق.
وغص بالكلام… لم يعرف ماذا يقول، ولا كيف يدافع عن نفسه. الإدانة واضحة، والدفاع خاسر… وهذه قضية لن تنتهي فصولها.. ففي كل يوم يمكن أن يأتوا بمعتقل جديد، واعترافات جديدة… وإحراج جديد.. ما الحل!؟.. أن يذكر كل ما يعرف فذلك دمار لإخوانه، وأن يبقى مهدداً بإعادة التحقيق بين يوم وآخر فذلك شيء لا يحتمل. ومن قرارة يأسه قال:
- ما قاله باسم صحيح ، وأنا لم أخفه عنكم … هي معلومات تافهة جداً، ولو أنها خطرت ببالي لكنت ذكرتها لكم.
وقال أليف: سنجعلك تتذكر حليب أمك.. وراح ينظر إليه نظرات مثقلة بالمعاني المتناقضة، ثم تابع يقول:
- أود لو أصدقك مرة واحدة…
- أنت تعلم بأني صادق.
- أنتم تعتبرون الكذب علينا قربة إلى الله.
- اعتبرني صديقاً.
- لو كان في يدك مسدس الآن لما ترددت في إطلاق النار علينا جميعاً. هذا هو الشيء الوحيد الذي أومن به.
وانفرد به مساعد فقال: لا تحاول إخفاء شيء… كل مواطن له ملف طويل عريض هنا… حتى غمضة العين التي تغمضها مسجلة لدينا.
-لم يستطع مقاومة رغبته في السخرية فقال: طبعاً.. جهاز أمن.. دولة.
وذهب، فجاء بعد دقائق مساعد آخر، في الخمسين من عمره، وقال: أين كنت يا عفريت!؟ لقد كلفت بمراقبتك قبل اعتقالك بأسبوع، فلم أقع لك على أثر!؟.
- كنت أمارس حياتي المعتادة.
- لقد راقبت المسجد الذي تصلي فيه.
- وأنا لم أنقطع عن صلاة الجماعة.
- مستحيل.. أنت كذاب.
- وكنت أجلس أحضّر دروسي وأقرأ في المسجد حتى في غير وقت الصلاة… وأحياناً كنت أنام هناك.
هز الرجل رأسه وقال: أنا حاج.. أديت فريضة الحج، وأحضر جلسات الصوفية، وأذكارهم… وأحضر مع السلفيين أحياناً… أنا مسلم.
- لعل هذه الأنشطة جزء من المهمات؟.
ابتسم وقال:
- وما المانع!؟.
وفي زنزانته المنفردة رقم 7 سمع أبا مغير يهمس: ضعوه في الغرفة التي فيها عنصرنا.
ولما نقلوه إلى الزنزانة الأولى، رأى فيها رجلين، الأول منهك من التعذيب، والثاني، يكون العنصر ولا ريب… يسب، ويشتم، وينتظر ردود الفعل منه، وماذا يفضي له به...
* * *
خارج جدران السجن كانت المدينة تلتهب… عمليات ومطاردات واغتيالات ومداهمات في كل يوم… بل إن المشكلة امتدت إلى المدن الأخرى، وأصبحت أكثر تأزماً وخطورة على الوطن كله بكل ما فيه... فهناك إصرار المجاهدين على إسقاط النظام، يقابله إصرار النظام على استئصال الجماعة بكل ألوان العنف والشراسة..
وكانت حملات الاعتقال مستمرة، والسجن يستقبل عدداً من الضيوف الجدد يومياً.
وبعد ما قضى عشرين يوماً دعوه، وقالوا له: وقِّع.
- على ماذا!؟.
- على اعترافك…
وكانوا قد نسقوا اعترافاته، وأفرغوها بأسلوبهم في ملف خاص، فقال:
- أريد أن أقرأها أولاً.
- وقِّع.
وأيقن ألاّ جدوى من الاعتراض، فوقَّع، ولمح على الملف: محمود الأنصاري، تنظيم مسلح، فقال: ولكني لست من التنظيم المسلح!؟.
لم يرد عليه أحد، فقال باستهتار: هذا يعني أن حبل المشنقة بانتظاري!؟.
أجابه أليف بابتسامة ساخرة.. ومضى.
* * *
أمضت أم محمود أيامها ولياليها في الصبر والحزن، والبكاء والدعاء… كان قلبها يحوم حول ابنها… كانت تستنطق إحساسها وتقدمه على أحاديث من حولها.. قالت لأخيها:
- لابد أن نبحث عن واسطة..
- هذه قضية لا واسطة فيها.. إنها أمن الدولة..
- والحل!؟.
- أن يأتي الفرج من عند الله وحده.
- لابد أن أراه..
- لن يسمحوا لك بذلك..
- سأراه غصباً عنهم… إنه ابني… ماذا يصنع به أولئك المجرمون؟.
- اصبري، واحتسبي، وادعي له.. ولا تنسي أن الله موجود، لن يتركه وحده، ولن يتخلى عنه..
ذات يوم، اتجهت وحدها إلى فرع أمن الدولة…
قابلها أول حارس…
- نعم..
- أريد أن أقابل ابني..
- إنه ليس عندنا..
- طيب.. أريد أن أقابل رئيس الفرع.
- ممنوع.
- لماذا!؟ أريد أن أكلمه… أريد أن أسأله عن ابني.
- انقلعي، وإلاّ وضعناك بجانبه..
- ليتكم تفعلون..
- قلت لك: انقلعي…
* * *
كان أليف متكئاً على سرير في قبو التحقيق، وعلى حافة السرير يجلس ضابط آخر، وأمامهما يقف فتى في الخامسة عشرة ، بالغ الوسامة. وحين أُدخل محمود كان أليف يعبث بشاربه، ثم قال:
- أليس حراماً عليكم أن تسمموا عقول هؤلاء الفتيان؟.
رد محمود بابتسامة ساخرة، وفي وقوفه بدا متراخياً، فصرخ به شيخو:
- قف باستعداد يا حيوان، أنت أمام سيادة الرائد.
فابتسم أليف وقال: دعه يقف كما يريد.
ثم التفت إلى محمود قائلاً: إيه، ما رأيك!؟.
- إنه بريء، وأنتم تعلمون ذلك، وأعتقد بأنه كان يحضر في جلسات مفتوحة، ولا علم له بالتنظيم… وبرغم أني لا أعرفه سابقاً.. لكني أرجو، وآمل أن تطلقوا سراحه.
وقال الضابط الآخر:
- - أتعرف عدنان سعد الدين؟
- نعم .
- هل رأيته!؟
- نعم .
- أين ؟!
- هنا .
- كيف يامجنون؟!
- لقد استدعاني منذ أيام ، وتحدث إلي.
فضحك الضابط وقال: هذا علي سعد الدين رئيس الفرع ، ولكن عدنان سعد الدين هو المراقب العام للجماعة.
-حقاً !.
-ألا تعلم ذلك!؟
-هذه أول مرة أسمع فيها باسمه ، تنظيمنا سري كما تعلم.
ضحك الضابط وقال: ولكنا نعلم كل شيء.
وقاده أليف إلى غرفة التحقيق ، فقال: اجلس على الكرسي .
وطلب له كأس شاي ، فوجدها لذيذة جداً بعد شهر من الهجران القسري ، فطلب واحدة أخرى ، فجاؤوه بها ، فطلب ألا يقطعوها عنه فوعدوه بذلك ، ولكنهم لم يفعلوا.
وقال أليف:إيه، حدثنا عن الصوفية...إنني أسمع بها ولاأعرف معناها ..
قال محمود: المعتدلون من الصوفية هم قوم أعطوا عناية كبيرة للجانب الروحي والأخلاقي ، يتميزون بالزهد والورع والشفافية والتقوى ، ولهم رياضات خاصة بهم ، وتجارب فريدة.
-والمنحرفون منهم!؟
-الانحراف لا حدود له.
-والسلفية!؟
-المعتدلون منهم يغلب عليهم الطابع العلمي ، والتدقيق والتمحيص ، والاهتمام بصحيح السنة.
قال أليف وهو يبتسم: والانحراف لا حدود له .حسناً، والإخوان!
تطلع محمود حوله فرأى كل جلاد يحمل (سلاحه)بيده ، ووعيده في نظراته ..فقال: إذا كنت تريد حواراً بين رجلين فأنا مستعد ، وسأقول رأيي بصراحة ، إذا أعطيتني الأمان ... أما أن يكون حوار بيني وبين السياط ، فسأقول ما تحبون سماعه.
قال أليف وهو يضحك: حسناً ، لك الأمان.
فقال محمود: الإخوان –في رأيي- أفضل الجماعات الإسلامية فهماً للإسلام والواقع ، ودعوة إلى الله ، وأكثر الجماعات نضجاً وجاذبية ، لذلك التزمت بالجماعة ، رغم ما في طريقها من عقبات ومخاطر.
قال أليف ساخراً : أستاذك عبد الله لايشرب كأسه إلا مع الشاعرة هند موسى ، وأستاذك (......) من قوم لوط
لم يكترث لما سمع ، وقال:
-إذا أردت فكر الإخوان ، فهو واضح في كتبهم التي تملأ الأسواق ، وأنا مستعد للحوار مع أي إنسان حوله ...وإذا أردت أشخاصهم، فهم يتمثلون عندي بحسن البنا وسيد قطب والمودودي...ولاأحد يقدر أن يطعن بواحد من هؤلاء.
-والشيخ أحمد حسن!؟
-إنه منكم.
-كيف؟
-رجل أمن .. معروف باتصاله بكم.
-ولكنه يسبنا على المنبر ...!؟
-تنفيس ... مثل ( غوار الطوشة ).
-( غوار الطوشة ) للتنفيس ، نعم ، أما هذا فلا.
-وتردده على الفرع !؟
-نحن نستدعيه أحياناً ، حين يشتد في نقده ، لنفرك له أذنه .. ويقول الرجل: أنا أنتقد أشياء موجودة ، أزيلوها لأكف عن نقدها.
وانتقل الحديث عن السياسة ، فقال محمود:
-وعبد الناصر! ما رأيك فيه؟!
-كان زعيماً عربياً كبيراً ...ولكنه كان بلا فكر.
وتابع وهو يضحك : رأيكم فيه معروف.
ثم أخذ الرائد مظهر الجد وقال: أريد منك جواباً حاسماً .. لماذا تلجؤون إلى التنظيم السري؟!
-لأنكم لا تسمحون لنا بالتنظيم العلني.
قال أليف: خذوه.
انتهز محمود المناسبة وقال : سؤال لو سمحت.
رد أليف: هنا نحن الذين نسأل..
-هل اعتقلتم أمين أصفر؟!
-ما شأنك أنت؟!
-أريد أن أعرف نهاية الأسطورة.
-استسلم بمنتهى السهولة.
* * *
نقلوه إلى زنزانة جماعية ، وأصبح السجن يغص بالنزلاء ، بعضهم من المطلوبين ، وبعض آخر من الرهائن أقارب المطلوبين الفارين ، وفريق ثالث كانوا من عابري السبيل في موقع جرت فيه عملية ضد دورية أمنية ، وآخرون جاءت بهم وشاية أو زلة لسان أو تشابه أسماء أو عدم حمل بطاقة الهوية أو صداقتهم لأحد المعتقلين أو المطلوبين ، وكان المحققون والجلادون يتعاملون مع كل أولئك كحشرات حقيرة لا حق لها بالاعتراض أو التساؤل عن سبب الاعتقال ، أو متى الخروج...
أما غيابهم الغامض عن أهليهم وزوجاتهم وأمهاتهم وأبنائهم وعملهم فهو أمر لا يعني أي شيء عند رجال أمن الدولة ...فمن شاء فليصبر ، ومن شاء فليمت بغيظه..
يتبع..