ما لا ترونه (2)
ما لا ترونه (2)
|
سليم عبد القادر |
كان يؤدي امتحان خواص المواد، حينما اقترب منه ثلاثة رجال، ظنهم في البدء من مراقبي الامتحان، وأنهم يريدون غيره، ولكن أحدهم قال وهو يمسكه من يده: تعال معنا..
وفاجأه الموقف، فشلّ تفكيره. وقال:
- لماذا!؟.
- ولا كلمة.
- بغير سبب!؟.
- قلت لك: ولا كلمة.
- لا بأس، فهذه هي العادة دائماً.
كان الطلاب والطالبات والمراقبون يشهدون الموقف بذهول وعجز... لاأحد يرضيه ما يجري ، ولا أحد يستطيع الاعتراض. وبدا أنه لا مكان هنا للحديث عن حرمة الجامعة، أو التساؤل عن كرامة الإنسان.
في ساحة الجامعة ربضت سيارة (الأمن) وفيها ثمانية مسلحين، ما لبثت أن انطلقت بصيدها الثمين، تسابق الريح صوب سجن أمن الدولة. لم يبق في الدنيا شعور واحد لم يخالجه، ولم ترتسم آثاره في ملامحه: الخوف من أناس لا يخافون الله، الاضطراب أمام مشهد أمه وإخوته حين يصل إليهم الخبر... اللجوء إلى الله... وتشجع قليلاً فقال بصوت راعش:
هكذا أنتم دائماً، تؤدون المهمة من غير تفكير، ألا يحتمل أن يكون المعتقل بريئاً، أتحسبون أنكم غير مسؤولين أمام الله!؟.
ورد عليه صوت غليظ: اخرس يا كلب.
لاذ بالصمت، وراح يقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، والفاتحة، ويبتهل إلى الله أن يساعده في محنته، وألاّ يدعه يواجهها وحده.
* * *
انفتح باب السجن الأسود على صالة صغيرة في قبو أسفل العمارة الجميلة، القائمة أمام قصر المحافظ، كانت هذه العمارة مدرسة ثانوية للبنات قبل أعوام قليلة. ووجد أمامه رجالاً من عالم آخر: سحنات مقلوبة، وعضلات مفتولة، ودمامة مروعة، وعيون تنضح جلافة وغباء. هذا هو عالمك الجديد، وهؤلاء هم فرسانه.\"شيخو\" و\"أبو قدور\" و \"إبراهيم\" ، وغيرهم، إنهم نخبة مختارة بعناية فائقة من أشد الناس قسوة وشراسة ووضاعة، هؤلاء الأوباش الذين لا نراهم في عالمنا الحقيقي، هم سلاطين الظلام هنا!...
وجاء المصور فالتقط له بعض الصور (التذكارية) الأمامية والجانبية، وقال مدير السجن، وهو رجل أشيب أزرق العينين في الخمسين من عمره:
- اسمك!؟
- محمود..
- محمود (ايش)!؟
- محمود نعيم.
- العمل؟.
- طالب.
- أين!؟.
- في كلية الهندسة.
وصاح أحدهم: عاش بطل الكلية.
وقال مدير السجن: فتّشوه.
وفي لحظات، جردوه من حزامه وساعته ونقوده، وقال مدير السجن: خذوه.
في ممر ضيق يبتدئ من صالة الاستقبال الصغيرة، عن يمينه ثلاث زنزانات، وفي صدره زنزانة رابعة، وعن يساره المطبخ وغرفة التحقيق. دفع أبو قدور بمحمود إلى الزنزانة رقم ثلاثة. فتح قفلاً صينياً أصفر ضخماً، وبعده الباب، وقال: ادخل. وتبعه إبراهيم ببطانيتين منتنتين رماهما على الأرض وأوصد الباب، وهو يقول: الداخل مفقود، والخارج مولود... ولكنك لن تخرج من هنا إلاّ إلى القبر.
ووجد نفسه في زنزانة عارية جرداء، تتدلى من سقفها مواسير المجاري، وبحث عن نافذة فسخرت منه الجدران، وراح يذرع الزنزانة جيئة وذهاباً، ولاح له طيف أمه حزينة باكية، وصور إخوته وأصدقائه ساهمين محزونين مطرقين في حيرة، وأطلق زفرات حادة، وتلا من آيات القرآن كثيراً، ودعا ربه بقلب كسير. وجلس على الأرض مكوراً على نفسه، والوساوس تعلك أعصابه.
فتح الباب سجّان، وقال:
- قم يا كلب.
ودفعه إلى قبو وقع نظره فيه على السياط والعصي والخيزرانات والدولاب وعلبة الكهرباء والفلق، وعلى لوحة صغيرة في الصدر كُتبت عليها الآية القرآنية:
(وما ظلمناهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
وفي القبو باب يفضي إلى قبو أصغر، استقبله فيه رجلان وسيمان ممتلئان في الأربعين من عمرهما، الأول: هو الرائد أليف رئيس قسم التحقيق، والثاني: المحقق أبو مغير.
قال الرائد أليف، وهو يجلس على طرف المنضدة الوحيدة هناك، وفي يده الأولى سيكارة، وفي الثانية سبحة يعابثها: أنت تعلم يا بني أننا لم نأت بك من الشارع اعتباطاً، وإنما نتيجة اعتراف أصحابك في التنظيم، ويجب أن تعلم بأن كل شيء أصبح واضحاً لدينا، والأسرار مكشوفة، فلا فائدة من الإنكار، ولا مجال لإخفاء شيء.
استجمع محمود ما تبقى لديه من شجاعة، وقال:
- أتسمح لي بكلمات قليلة!؟.
- تكلم.
- أنا إنسان أعيش في وطني، مخلصاً له، من خلال التزامي بإسلامي، لاعتقادي بأنه الخير لي وللناس، ولذلك أدعو إلى الله بالحسنى، وأرى أن هذا من حقي كمواطن، ومن واجبي كمسلم... ومع هذا، فقد اخترت دربي بنفسي، وأنا مستعد للحوار مع أي شخص أو جهة حول ما أراه، كما أني مستعد لتحمل نتائج اختياري.
قال أبو مغير، وهو يبتسم بمكر: والتنظيم!؟ ألا تحدثنا عنه!؟.
- لا علاقة لي بأي تنظيم.
- لا فائدة من إنكار شيء ثابت.
- في حال ثبوته بالأدلة المنطقية، فأنا مستعد لدفع الثمن.
- والجماعات الإسلامية، ماذا تعرف عنها!.
- أسماءها فقط.
- والتنظيمات المسلحة!؟.
- لا أعرف عنها شيئاً.
- بل تعرف.
قطع الرائد أليف الحوار، وقال ببرود محتدم:
- لا بأس، خذ هذه الأوراق والقلم، واكتب كل ما تعرفه من معلومات، إن كنت حريصاً على كرامتك وسلامتك وهندامك، فنحن نحب أن نعاملك معاملة شباب، معاملة راقية مهذبة . وعندنا من الأساليب ما يكفي لانتزاع ما لديك من معلومات، بطرق تعرفها أو سمعت بها.
- سيدي، لعلها وشاية مغرض.
- إنه اعتراف يا(أفندي)، لدينا أطنان من التقارير تأتينا يومياً نمسح بها أحذيتنا قبل أن نقرأها. أنتم الذين تدلون على بعضكم البعض، ثم صاح: إبراهيم.
- نعم يا سيدي.
- خذه..
وجلس في الزنزانة وحيداً يفكر: ما ذا أكتب!؟ من الذي اعترف علي!؟ ماذا يعرفون عني!؟ كيف أخرج من هذه الورطة!؟ ولكني لن أعترف بشيء، ولن أذكر اسم أحد من إخواني، حتى لو مزقوني إرباً.
وأمسك الورقة والقلم وكتب:
اسمي محمود نعيم ، نشأت في ببيئة محافظة، لقنتني حب الدين، وحضور دروس العلماء، عرفت بالتدين، ولم أنتسب إلى تنظيم من التنظيمات.
بعد ربع ساعة من تسليم التقرير، فتح الباب السجان \"شيخو\" وقال:
- تعال يا حيوان.
وأوثق يديه من الخلف، وضرب على عينيه قناعاً جلدياً أسود، ودفع به إلى قبو التحقيق، وهناك رفع القناع، فرأى شيخو وإبراهيم وأبا قدور، يقفون على شكل مثلث، وكل شيء في وجوههم يؤذن بشر لا يطاق. وخلف المنضدة جلس أبو مغير يقرأ التقرير، ثم قال وهو يبتسم: إيه يا محمود، أهذا كل ما عندك !؟.
- لو كان عندي شيء آخر لقلته.
مزق أبو مغير التقرير باستهتار، وراح يعبث بأوراق أمامه.. وصاح شيخو بغضب: اخلع.
- ماذا!؟.
- ملابسك يا حيوان.
- لماذا!؟.
وانهالت عليه الصفعات واللكمات والرفسات من كل جهة، وفي كل مكان.
وخلع ملابسه من فوق، فصاح شيخو: البنطال.
- سيدي.
- ولا كلمة.. حيوان.
ومع الشتائم خلع البنطال... أحس بإهانة كبيرة. قال شيخو:
- يا سلام! سهرتنا اليوم عامرة... في الأرض يا ابن الكلب.
جلس على الأرض مذعوراً مترقباً... لقد سمع الكثير عن وسائل التعذيب وقسوة الجلادين. لكن الوضع الآن مختلف.. إنه وحده في المحرقة... شُدَّ القناع على عينيه فلم يعد يرى شيئاً، ووضعت قدماه في الفلق الذي أمسك بطرفيه إبراهيم وأبو قدور، وشدّا الحبل كأقسى ما يكون.
وصاح شيخو: هذا واحد ضعيف.
أحس بأنه مقبل على تجربة مجهولة، وهمس في نفسه: لك الحمد يا رب. مادمت قد كتبت علي المحنة، فألهمني الصبر، إنك تعلم أنه يشرفني الامتحان في سبيلك.
وبعد عشر عصي، صاح شيخو: وهذا واحد وسط. وعد عشراً، ثم صرخ: وهذا واحد قوي.
ما هذا!؟ إنه سيخ من نار، يا إلهي.
وتوالى الضرب شديداً سريعاً قاسياً، وصاح بصوت هامس: أحد... أحد...
واشتعل شيخو جنوناً، واشتد الضرب، فلم يعد أحد يعد، مائة!؟ مائتان؟ ثلاثمائة؟ ومن يهمه العدد!؟ إنها معركة، ولابد من منتصر ومنهزم فيها.
وصرخ أبو مغير: حطموه، واحذروا أن يموت.
وتحول الهمس صراخاً: يا الله. يا رب. أحد. أحد. وانقلب الصراخ إلى توسل أعمى: بريء... والله العظيم بريء... يا رب... يا سيدي... أبوس أيديكم... أبوس أرجلكم.
ومع الضرب كان يسمع:
- اعترف.
- اعترف يا ابن الكلب.
- بريء يا ابن (الفاعلة)!؟.
- يا مجرم.
- نهايتك هنا.
- أنتم تحت أقدامنا.
مضى ما يقرب من نصف الساعة، ولم يتوقف التعذيب، والجسم ما عاد يحتمل، والاعتراف مصيبة ، والله لن يتخلى عنه، ولكن إلى متى سيظل ثابتاً!؟.
وقال أبو مغير: كفى.
أحس بأنه خرج من جهنم... تنفس الصعداء... راح يلملم جراحه، وصاحوا به: قم واركض.
- لا أستطيع الوقوف.
- قم يا (قوّاد).
وتحت سيل من الرفسات والشتائم وقف يتمايل كالسكران.
- اقفز.
بدأ يقفز.
- اركض.
- لا أرى شيئاً، ارفعوا القناع عن عيني.
وبالضرب والرفس والشتائم، اقتنع بأن لا جدوى من التلكؤ، فراح يجري كالأعمى، يدور حول القبو، يرتطم بالكرسي طوراً، وبالجدار حيناً، وبالمنضدة ثالثة، ويعرقله أحدهم مرة رابعة، وسيل من الرفسات والشتائم والضحكات يطارده.
- اعترف يا حيوان.
- اعترف يا ابن الكلب.
- ستعترف اليوم أو غداً.
- يا مجرم... تريد عمل انقلاب، وسروالك مليء بالــ..(كذا)…
وصاح متوسلاً:
- إكراماً لله.
- أأنت تعرف الله يا مجرم.
- إكراماً لمحمد.
- ليأت وليخلصك.
- إكراماً للوطن.
- طظ في الوطن. أتبيعنا وطنيات!؟.
-إكراماً للسيد الرئيس.
-سنعمل ونترك في أم الرئيس ..
- اعترف.
- اعترف.
- اعترف.
وراحوا يشتمون كل ما يعتبرونه مقدساً لديه: الله، محمد، الأم، الأخت، الدين... ربما كانوا لا يعنون ما يقولون.. لكنه الواجب..
واعترضه إبراهيم، فأوقفه، وقال: دعوه يا جماعة، إنه شاب مثقف، محترم، جامعي، وسيعترف من أجل مصلحته.
- ولكني بريء.
حين فتح فاه، كان إبراهيم قد بصق فيه وقال: ابلعها يا ابن (الفاعلة).
يا إلهي. إن هؤلاء الجهلة الأنذال يتقنون مهنتهم.
بعد ربع ساعة.. قال شيخو: أعيدوه.
* * *
في الزنزانة رقم 3 وقف يصلي صلوات طويلة، ويدعو بقلب جريح وجسد منهك: يا رب، إنه عذاب لا يطاق. علمك بحالي يغني عن سؤالي. ليكن الموت، أو الشلل، أو الجنون.أما هذا التنكيل.. فلا. وراح يدعو دعاء النبي \" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ونفاد حيلتي وهواني على الناس ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو سافل ملكته أمري ؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن يحل عليّ غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك\"
.وبين الحين والآخر. كان يطل عليه سجان من كوة صغيرة، يتوعده ويتهدده.
- اعترف يا نذل.
- لست أبا قدور إن لم أكسر أسنانك وأنزع أظافرك.
- التحقيق لم يبدأ بعد... هذه مداعبة... ترحيب.
- أبشرك بأنك ستعيش مشلولاً..كيف!؟.غداً ترى.
- حبل المشنقة بانتظارك.
- اعترف يا ابن الحلال. أنت إنسان مثقف.
- كل الذين سبقوك اعترفوا. وأنت تمثل بطلاً، وتعمل شريفاً.
- الليلة سأفعل بك ما يدعو للاعتراف. (………).
- لمصلحتك، اعترف، ولا تراوغ.
- يا ابن الكلب.
وقال في نفسه: أين أنا يا إلهي!؟ أمعقول أن يكون هذا الجحيم قطعة من وطني.. لم أكن أتخيل ذلك .. لا…!؟. هل هذه المخلوقات من سلالة آدم!؟ هل في الأرض قذارة كهذه!؟ ماذا صنعت لألقى كل هذا العذاب!؟.. أستغفر الله.
(واستسلم للنوم كالقتيل).
* * *
تلقت أمه أسوأ نبأ في حياتها.. إنه نبأ اعتقاله.. لقد فقدت من قبل بعض الأبناء… إن الموت أرحم… الموت إرادة الله، والسجن فعل الطغاة… الموت ساعة جزع، يتلقاها المؤمن بالرضا، فتهون… أما السجن فعذاب مستمر، وقلق دائم… لا أحد يجهل ، ولا أحد يعلم ، ما الذي يجري في السجون…إلا الله.
جلست ومن حولها أبناؤها الأربعة، وبعض الأقارب، تبكي حيناً، وتتجلد أحياناً… تأتيها الأصوات:
- اصبري… فالله موجود.
- محنة، وتمر..
- سيخرج قريباً إن شاء الله..
الآن تذكرت أبا محمود… لقد مات من أشهر… لقد راح واستراح… أحست بحاجة إلى رجل تسند ظهرها إليه.. يشاركها في حمل المصاب… ولكن.. حتى لو كان أبو محمود حياً إلى جانبها ما الذي يمكن أن يتغير!؟ إنه رجل برته الأيام، وهو صاحب قلب أرق وأرحم من قلب امرأة…
قامت أختها وأعدت الطعام، لكن أحداً لم يقترب منه… قالت لها بتودد:
- يا أم محمود… أنت امرأة مؤمنة بقضاء الله… سلمي أمورك إلى الله…
- لا إله إلا الله..
- تناولي لقيمات، حتى يقبل الأولاد على الطعام..
- لا أستطيع… لا أستطيع… ترى ماذا يفعلون به!؟.
وأجهشت بالبكاء.. وقالت بعدما هدأت:
- أخبروا أهل خطيبته بالأمر.
يتبع..