مذكرات كلب (1)
مذكرات كلب
عكاب يحيى
هذه الرواية
هل يكتب كلب مذكراته؟؟..
قد يبدو عجيباً، مُستغرباً، أن يُقدم كلب على تسجيل مذكراته، وإصدارها في رواية واقعية.. فما اعتاد البشر، كثيراً، على هذا النوع من العمل الأدبي، الذي يدخل عالم التخيّل، يداخل الحقائق، بالرمزية.. ويفتح فضاءات، قابلة للتصور، والنقاش.
ولئن عرف تاريخنا، والأدب العالمي فنوناً من الأعمال، على لسان حيوانات مختلفة.. إن فكرة (تَجَرُّؤ) كلب على مغامرة – غير محسوبة تماماً - بكتابة أهم ما مرّ معه: ذكرياته، آلامه، أحلامه وأمانيه، مشاعره، وعيه، ثقافته، غرامه، علاقته ببني البشر، ميوله الثورية.. وبعبارة أدق: التمردية التي كسّرها واقع قاس، تختلّ فيه موازين القوى.. وأمور عديدة مما عاشه ذلك الكلب: الطيب، الوفي، الصادق.. الطموح، المحبّ.. الناقد، الواعي..
هي فكرة فيها بعض الجدّة.. وقدر كبير من المشروعية..
* قيل –زمان- إن القمع، والخوف.. الاستبداد، الدكتاتورية.. المصادرة.. الخوف من إبداء الرأي.. دفعت كتّاباً وأدباءً –تلك العصور- على التحايل، والالتفاف.. فاستغلّوا الحيوانات ليتحدثوا باسمها.. والحيوانات: بهائم، في شرعنا، قوانيننا، لا تَعْقل، ولا تعي.. ولذلك لا تحاسب إن هي عبّرت عمّا يجول داخلها، أو فضفضت.
كان ذلك سبيلاً إلى النقد، والتعبير، والتنفيس..
لكنني تساءلت، والقمع والاستبداد والمنع والمصادرة.. والدرك، والشرطة، والمحاكم، والعقوبات.. إلخ، ما يزال يغطي سماءنا العربية، على العموم (باستثناءات قليلة، ومحسوبة على الأغلب).. ما الذي يمنع من دخول العالم الذاتي للحيوانات؟
ترى، ونحن (المتفوقين، المتعالين، المتعجرفين، الأنانيين)، هل نعرف ما يفكر به ذلك الحيوان الذي يعيش بيننا، وداخلنا؟.. هل فكّرنا، مرة، إن كان يحسّ، ويعي، ويتمنى، ويرغب.. يحب، وربما يفكر بطريقته، ولمَ لا؟..
هل خطر لنا، والدنيا، خاصة عند المترفين والأغنياء، مليئة بالكلاب، والقطط وغيرها، بأن لهؤلاء عالمهم، وربما لغتهم، طريقتهم في العيش، والتعامل، والتقويم، والنقد؟.. وأنهم غير ما نعتقده عنهم؟..
* ترى ماذا لو كان كلب، أو قطّ، وهو يعيش فينا، يدخل أسرارنا، وخصوصياتنا، يعي، ويفكر.. ويقوّم؟ ماذا سيقول عنا؟ عن تكالبنا (للمناسبة التعبير مشتقّ من الكلاب) على الحياة، والمال، والمظاهر، والأكل، والملبس، والاستهلاك الذي لا حدّ له؟
كيف سيكون حكمه على: نفاقنا، كذبنا، غشّنا لبعضنا، اقتتالنا، حتى الموت، في سبيل منافع خاصة؟ ولو كان سياسياً، أو مثقفاً، أو أديباً.. وشرع يدوّن سجلاً لنا، ماذا سيقول فيه؟..
كيف سيصف مجازرنا، حروبنا، إباداتنا للجنس البشري، ولملايين الحيوانات، والنباتات، ومظاهر الحياة في الأرض؟
- أي تقويم سيكون لأفكارنا، نظرياتنا، أحزابنا، قبل الحكم وأثناءه وبعده، مبادئنا، شعاراتنا، دواخلنا.. وماذا سيكتب عن علاقات القوي بالضعيف؟ الغني بالفقير؟ ومن أين جاء الغني بثروته، وكيف جمعها؟..
علاقات الدول بعضها ببعضها، هيمنة الأكبر على الأصغر، المتطور على المتخلف.. النهب، الاستغلال، الاستلاب.. القمع، المنع، مصادرة الحريات الديمقراطية، وحقوق المواطن البسيطة وتحويله إلى عبد، رقم، برغي.. وسيلة، جسر عبور للأنا والملكية الفردية الأنانية؟..
* ولو أراد الدخول إلى (غرف نومنا) والحديث عن علاقاتنا (مدى الصدق والزيف فيها) المرأة في مجتمعاتنا: حقوقها، كيانها، مساحة شخصيتها، حريتها.. الذكورة والأنوثة، التفوق، والمساواة.. العقل والعضلات (مرة أخرى: القوة هي العمل الحاسم)..؟
* أشياء كثيرة لا تعدّ ولا تحصى ستشكّل فضيحتنا المجلّجلة.. ستعرّي أجسادنا لتظهر كما هي فعلاً، دون ثياب وأصباغ، وأقنعة (لنعود كما كنا قبل ملايين السنين حين عاش البشر عراة.. ثم اكتشفوا بدايات الثياب كحلّ واقعي لاتقاء برد الشتاء، وحرّ الصيف، وقبل أن تتحوّل إلى هدف بذاتها ولذاتها)..
* وحتى لا أتّهم بالتشاؤم، أو السوداوية.. أو التعميم.. فإني أعرف أن هذه الظواهر الطاغية لا تشكّل الحياة، فهناك ملايين، ملايين البشر من طينة أخرى، ما زال الصدق، والكرم، والوفاء، والعطاء والحب ديدنها..
ملايين الملايين التي تحلم، وتعمل من أجل مجتمع أفضل.. مجتمع: الحرية، والعدل، والتحرر، والمساواة، والتكافؤ، والقانون السائد على الجميع دون فرق أو تمييز بين غني وفقير، قوي وضعيف، ذكر أو أنثى.. بعيداً عن العرق واللون والجنس، والديانة، والمذهب، والطائفة، والإقليم، والجهة، والقبيلة، والعشيرة، والحارة، والعائلة..
ويدفع العديد من هؤلاء الثمن الباهظ: شهداء، دماء، وتضحيات، ومرارات، وعذابات، وحرمانات، وسجوناً، ومعتقلات، وتعذيباً، وعرقاً، وكدّاً، وجهوداً لم تتوقف، ولن تتوقّف..
فكّرت، وقررت المغامرة: دخولاً إلى عالم كلب، من آلاف الكلاب المقيمة في بيوتنا، تخيلت هذا الكائن الحيّ، وهو في أخريات حياته، يسجّل مذكراته، بل يكتب وصيته قبل النهاية القريبة.. كيف سيفكّر، ويقوّم، ما هي قناعاته فينا؟ عالمه الداخلي؟ أحاسيسه؟ وجهات نظره؟ آراؤه؟ أمنياته؟..
وكان مستحيلاً على –كلب مثقف- ألا يتعرض للإنسان.. ذلك مستحيل.. لأنه لصيق به، وما هو أكثر.. إنه حياته، ومصيره..
في تناول هذه العلاقة الخصوصية جداً.. لابدّ من مناقشة طرفيها، ومعرفة مدى الإجحاف، وعدم المساواة فيها. وهل ترضى الكلاب –عن طيب خاطر- بما يمارس ضدها؟ أم إنها مضطرّة؟ هل تحسّ بذلك وتحاول التعبير عن رفضها؟ أم إن أفكارنا الثابتة عنها، هي حقائق لا تقبل النقاش؟..
* وكان لابدّ أيضاً من التطرّق إلى الحياة السياسية، والفكرية للإنسان..
صحيح أن ذلك يعتبر تدخلاً بالشؤون الداخلية، الذي قد يؤدي إلى الحروب، والنزاعات، أو الغضب وقطع العلاقات، أو الانزعاج..
ولكن كيف يمكن لكلب / ذي تجربة غنية/ أن يكتب مذكراته دون التعرض لأهم الجوانب في حياته؟.. ونعرف أن الحياة السياسية هي الأساس.. فالسياسة، ومهما قيل عنها، موجودة في كل خلايا الحياة، مارسناها تحزباً، ومباشرةَ.. مهما اعتقدنا أننا بعيدون عنها..؟!!!.
* وكيف لكلب /مثقف، ثوري، مهتم بالسياسة، وبما يجري حوله/ أن يخلع نفسه، ويتجرد.. فلا يقترب من المحظورات والممنوعات؟!!..
* كلبنا، وهو يروي أهم لقطات حياته، حاول ما أمكنه، أن يكون موضوعياً، منصفاً.. فوضع بعض النقاط على حروف ما رأي وعاش، وترك - عامداً- العديد من الأمور المنغصة، منعاً لمزيد منن الإحراج، وفي الوقت نفسه لم يقصر في الإشادة بالإيجابيات، وبفضل أسياده، وعطاءاتهم، وسلوكهم معه..
* ربما ستنصفون /كلبنا/ وأنتم تتطلعون إلى تجربته، وتتعرفون على معاناته، وأحزانه وأفراحه.. قد تعذرون تطرفه، شططه، بعض أحكامه وأفكاره، ونزواته.. و قد تجدون له مبررات كثيرة.. الأهم من ذلك: هل نجح /شفق/، الكلب العجوز، في أن ينقلكم إلى عالم الكلاب خصوصاً، والحيوانات عموماً؟.. هل وفق في مشروع كتابة مذكراته ونشرها؟
ذلك نترك حكمه لكم، وأنتم تدخلون عالم هذا الكلب (المتميز)..
مقدمة
وحيداً يجلس (شفق) في ركن منزو من حديقة صاحبه، ودموع متقطّعة تنهال متتالية.. لا يدري سببها: أهو الألم الذي يجتاحه فيطحن أعضاءه.. أم هو التحسر على عمر مضى كان مفعماً بالأفراح والأتراح.. وبألوان شتى من المغامرات؟.. أم هي حبيبة العمر التي رحلت منذ زمن طويل ولم يعرف لها مصيراً.. أم أولاده الذين بعثروا هنا وهناك: في بيوت وحدائق وأماكن مختلفة لا يعرف عنها شيئاً..؟.. بل لعله نسي أولئك الأولاد بعد أن ضعفت الذاكرة، وتراخى الزمن.. وتكدّست السنوات؟.. (ومن ينسى أولاده!!)..
شفق الكلب الجميل الشجاع الوفي، المخلص الذكي المحبّ.. لم يعد كذلك، فسنواته الخمس عشرة خلّفت فيه قروحاً وجروحاً، وآثاراً كثيرة: ظاهرة وخافية.. النظر ضّعف، والسمع خفّ.. والأهم من ذلك أن حاسة الشمّ التي هي أهم خصائص وأسلحة الكلاب هزلت، ولم تعد كما كانت.. فاختلطت عليه الروائح، حتى لم يعد يقدر على التمييز الدقيق بينها، فكان يبكي، يطرق رأسه.. يدفنه في صدره ليذهب في نوم عميق (الحقيقة أنه ليس نوماً بالمعنى الحرفي، إنما هو نوع من الهروب أو السَرَحان).. فما عساه يفعل غير التظاهر بالنوم، والارتحال بعيداً بعيداً في عمر مضى.. وماذا بقي له سوى انتظار ساعة الرحيل؟.. وقد أهمله أصحابه، وهم يعتبرون أنهم قدّموا له خدمة كبيرة.. (منّة العمر) حين أبقوه عندهم بعد أن هرم (فلم يرموه رمية الكلاب)...
ها هو (شفق) كما أطلقوا عليه، يعاني أمراض الشيخوخة، وقد ظهرت واضحة عليه.. شعره تساقط وخفّ وتناقص في أمكنة شتى.. بعد أن تغير لونه وبهت كالحاً لا صفة له، كأنه شيء آخر مختلف تماماً عن ذلك الشعر الشفقي الرائع الذي كانت تزيّنه غرّة شقراء ذهبية، وبعض خطوط سوداء تتماوج في نسق هندسي أخّاذ.. تلفّ حدقتين جميلتين تشعّان ذكاء وكبرياء، قلادات ناعمة مرصّعة.. وكأنها جواهر غجري.. أما البقع الداكنة فإنها تنبت بلا انتظام أو موعد، وأخرى كلسية تقشّر الجلد وتبعثره، فيعشش فيها الزمن قائلاً: قد كان هنا في سابق الزمن: كلب رشيق أخّاذ.
المفاصل تيبّست، تكوّرت، استعصت متمرّدة، والعضلات ترهّلت، وتقوّس الظهر.. أما الأسنان التي كانت كالحراب، فقد تآكلت أو تهشمّ بعضها، أو سقط.. وما بقي منها لا يصلح إلا للفُتات.. فصار اللحم ذكرى (آه يا زمن اللحم الشهي)..
في صمته المفروض، ولنقل سجنه الانتظاري الطويل.. كثيراً ما راودت شفق ذكريات العمر، فاجتاحته مراراً.. سلسلة طويلة متداخلة من الأحداث والقصص والعلاقات والأفكار والأحلام، يعيش عليها، يعيدها مرة ومرات هي زاده وعزاؤه وسلواه، وما بقي منه وله..
وهل يملك كلب عجوز مرمي سوى ذكرياته؟!.. حيث لا زوجة ولا أولاد.. لا قصور، لا مال.. لاشيء سوى الماضي..
ولم لا يسجل مذكراته وينشرها.. إن لم يكن للكبار، فأقلّه لأولئك الصغار الذين قد يجدون فيها فوائد..!!
فكر مالياً.. فقد جرت العادة أن يقدم المشاهير من رجالات السياسة والفن والأدب إلى كتابة مذكراتهم في أواخر سنوات عمرهم يروون فيها (بطريقتهم) ما قاموا به، وما عاشوه، وخلاصة تجاربهم، ودروسهم، أو للتعريف بهم.. أو لأسباب شتى..
أما هو.. فمن يكون!!.. إنه مجرد كلب من آلاف وملايين الكلاب الموزعة في أنحاء العالم، التي لا يتخطى دورها خدمة أصحابها.. فمن سيهتم بالاستماع إلى كلب يحكي حياته ومغامراته؟!.. وكيف سيستقبل البشر (وأصنافهم كثيرة، معظمهم متعالون، متكبرون)، مذكرات كلب هرم؟!!..
مراراً.. طرد الفكرة، ومراراً عاودته.. وكأن صوتاً داخلياً يأتيه من بعيد ويناديه أن يقدم على خطوة استثنائية. بكل المقاييس، ولم لا، ألسنا في زمن استثنائي؟.. فليكن ما يكون.. وهي محاولة..
طفولة كلب
ما زال (شفق) يذكر جيداً، وكأن ذلك قد حدث أمس، تلك الطفولة الجميلة التي قضاها برعاية أمه (لهب) وصحبة إخوته الأربعة..
كانوا ذكرين وثلاث إناث.. بنفس العمر فما من أحد يعرف من هو الأكبر، إذ ولدوا تباعاً.. بينما لا يذكر أباه، ربما رآه في مكان ما، ربما التقاه صدفة.. وربما كان هو نفسه يوم توقفت أمه في عصر يوم صقيعي عند سور حديقة كبيرة وقد أخذت بإصدار أصوات خاصة أقرب إلى النحيب والتلوع منها إلى النباح، فاستغرب يومها وإخوته، حال أمهم..
- سألوها يوماً: لم تبكين يا أم؟ ومن هو هذا الكلب السجين الذي أثارك؟
لم تردّ الوالدة.. هزت رأسها، وأطرقت، ودمعتين نزلتا حارتين.. ثم سارت بنا إلى مأوانا..
- كانت أمي تخاف علينا نسيم الهواء، وظلمة الليل، وحفيف الأشجار، فلم تك تغمض لها عين. وإذا ما سهت قليلاً لشدة الأعياء.. استيقظت فوراً وكأن أفعى لسعتها فتشمنا، تتفقدنا واحداً بعد الآخر، تتضمنا تحت صدرها.. فتحسسنا أنها امتلكت الدنيا.
لم نكن ندري أننا نجهدها برضاعتنا التي لا تتوقف، نحن خمسة نتسابق إلى ضرعها لامتشاق حلمة منها، ونتقاتل، نتعارك، وكان الأقوى، خاصة نحن الذكور، ينال قسطاً أوفر.. لولا تدخل أمي الدائم وإبعادنا بالقوة - أحياناً كي يأخذ الإخوة حصتهم..
كانت تحرم نفسها وتطعمنا.. فلا تذوق طعاماً قبل أن نشبع، وإن أحست أن الجوع يعضنا لم تكن تهدأ.. كان نباحها ذا رنين خاص.. يصل إلى أقصى الشارع، مما يجبر أصحاب البيت على تلبية طلباتها، فقد عرفوا أن صوتها هذا طلب للأكل وليس سواه، بما يميزه عن أصوات أخرى نعرفها نحن جنس الكلاب.
أيام جميلة مرت علينا ونحن نلهو ونلعب، نتسابق بين الأشجار، نتراكض متزاحمين ومتصادمين، نتنافس على ملاحقة فراشة زاهية.. تضطرنا للقفز دون فائدة، نتعارك بلطف، ونتعاضض.. لم يعرف الحقد طريقه إلينا لم نكن حاسدين، أو طمّاعين.. كنا نكتفي بلقمة تُشبعنا.. كان عالمنا الصغير يتسع كل يوم ونحن نكتشف الجديد، فتأخذنا الفرحة، نضحك ملء قلوبنا (نعم كنا نضحك كثيراً.. فالكلاب تحب المزاح والدعابة).
مازلت أذكر منافساتنا الأولى في القفز والجري واللعب بالماء وداخله.. كنت أعتقد أني أكثر أخوتي سرعة وبهلوانية.. وفي يوم من أيامنا المتواصلة زارتنا هرّة جميلة، وجنسنا لا يحب الهرر، دون أن أعرف الأسباب الحقيقية.. ربما لأن القطط عدوانية، وشرسة، وأنانية، وربما لأنها تتفاخر علينا وتتعالى (وهذا ما عرفته في حوار طويل مع إحداها.. سأنقله لكم لاحقاً).
المهم.. أن تلك القطة الفاتنة التي دخلت حمانا دون استئذان، وكانت أُمنا غائبة، حاولت الاستهزاء بنا، وربما الاعتداء علينا.. وربما أشياء أخرى لم تفصح عنها.. وأحسسنا بالخطر: أن غريباً يقترب منّا، شكل مختلف لم نره من قبل.. فما العمل؟..
لا أكتمكم أن قلت لكم إني خفت حقيقة، وكنت أرتعد داخلياً. لكن لا بدّ من إظهار الشجاعة (أنا الذي كنت مغترّاً وأحسب نفسي شجاعاً وقوياً..)..
ودهشت عندما لمحت كالسهم أخي (لم تكن لنا أسماء حتى هذا الوقت) ينطلق نحو هذا الغريب المقتحم، وكان لابدّ أن أجمع نفسي وأنجده، فنحن معشر الكلاب متضامنون..
وبلحظة واحدة كنا الخمسة أمام خصمنا، أو عدونا، أو هذا الوافد إلينا، نحيط به كالسوار، ونعوي بأصوات طفولية حربية.. وغريمنا ينفخ.. وينفش شعره، وأذناه تنتصبان كالرمح..
لم نكن نعرف ما نريد.. هل نهجم؟ هل نكتفي بالعواء والتطويق.. ويبدو أننا اتفقنا - غريزياً - على الانتظار لنعرف ردة فعل الآخر ونواياه..
انتظرنا وقتاً، بدا لنا فيه أن خصمنا يؤثر الانسحاب، ولكن بشرف، ودون أذى. فأفسحنا له الطريق والفرحة تغمرنا.. ها قد انتصرنا.. وهات يا قُبل، وهات يا عضعضة..
تسابقنا لإبلاغ أمنا بما قمنا به من عمل (جليل)، كنا نتحدث بصوت واحد، نتزاحم، وكل يعرض بطولاته، يبالغ: فأنا قمت بقفزة هائلة، وأختي هي التي طوقته عند ذيله، وكانت الأخرى أشجع حين واجهته قبالة، فتحملت نظراته الشرسة ونفخاته.. ورابعتنا مست ذيله وكادت أن تعضه، وخامسنا كان مختالاً بأنه نجح أكثر منا بهجوماته الجريئة على ميمنته.. هي معركة متكاملة يا أم...
ووسط ذهول ودهشة وقلق أمنا.. رحنا نسرد مغامرتنا العنيفة ونتراقص حولها منتشين.. وبدت لي متناقضة، فمزيج الخوف والزهو جعلاها تتأملنا طويلاً، تاركة لنا فرصة الحديث حتى النهاية.. إلى أن اكتملت قصتنا التي أعدناها مراراً.. راحت تشرح لنا مواصفات زائرنا الغريب، وتدلنا على أشياء ما كنا نعرفها:
* القطط يا أبنائي جنس شرس، لئيم، لا يحب إلا نفسه.. قوته في سرعته، فهو سليل فصيلة النمور.. والنمور حيوانات سريعة الوثب، شرسة جداً، شديدة العدو، أنيابها قوية، ومخالبها حادّة.
* القطط انفصلت عن جدودها وتركت الغابات منذ زمن طويل، فآثرت المدن، وتقربت من الإنسان الذي اقتناها لأنها تفيده في صيد الفئران (عدوها التاريخي الأول)، وفي بعض الشؤون الأخرى كالأفاعي، والجرذان وغيرها.
وبقدر ما تبدو أنيسة. ودودة، جميلة.. فإنها تخفي تحت شعرها الناعم ذاتية مفرطة، إذ تعشق مصلحتها، ويستحيل أن يكون لها صديق دائم، صاحبها الأساس من يقدم لها المأكل والمأوى، ولا فرق عندها أن تنتقل من بيت لآخر أما نحن يا صغاري فمن جنس آخر.. جنس جُبل على الإيثار، والوفاء، والصداقة.. التي ندفع حياتنا ثمناً لها.
- يمكننا، يا أولادي، مصاحبة القطط في حالات قليلة، وإذا ما ألزمتنا إقامتنا على ذلك، فيما لو ضمّنا مكان واحد، أو في أوضاع استثنائية لقطط محبة، ودود (إنسانية).. لكن احذروا القطط، واحسبوا دوماً الغدر والتلاعب بكم وغشكم بمعسول الكلام والتصرفات.. ولا أقصد أن تكونوا عدوانيين، أو أن تطاردوا القطط حيثما شاهدتموها بغية إيذائها.. ولكن تحصّنوا بالتعقل والحصافة والتحسب..
* كان درس أمي غنياً. والحق أني لم أكُ مقتنعاً تماماً بما تقول، لأني لم أجرب بعد، ولكن لم أك أملك إلا تصديقها، فهي أمنا، الأصدق والأوفى، ومعلمنا الأول..
- وبدءاً من هذا اليوم.. كان على أمي أن تنتقل معنا إلى مرحلة جديدة.. فلم تعد عاطفية كما كانت، وأخذت ترفض إرضاعنا وقتما نريد.. فسمعنا منها ما يفيد أننا كبرنا قليلاً وأنه علينا تعلم الاعتماد على أنفسنا، فالحياة أمامنا، وهي لا ترحم الاتكاليين والضعفاء..
- ماذا سنتعلم.. وأي مدرسة هذه التي ستعلمنا؟؟..
يقول البشر: إننا نحمل غرائزنا فينا، وإننا نتصرف بوحي منها.. ربما كان بعض هذا القول صحيحاً، لكن ليس كله، فهو غير مطلق.. ذلك أنني أعرف أن أموراً كثيرة تعلمناها بالتجربة، وبالمزيد من التدريب والتعود، وبالتشجيع والعقاب في أحايين عدة.. وعادات ومعارف كثيرة كنا نفكر فيها.. نعم هذا صحيح.. فلنا عقل، وإن كان صغيراً، لكنه مرن.. ولنقل إنه قنوع لا يتشعب، لأن طموحاتنا محدودة، وطلباتنا قليلة، وليست لدينا مصالح نتقاتل عليها، أو ملكيات وقصور وسيارات وألبسة.. ورغبات ومصالح وأطماع..
نعم تكفيننا وجبات مشبعة نحمد الخالق بعدها، وقد نخبئ عظمة في مكان ما لنتسلى بها، أو لنوهم أنفسنا أننا نأكل عندما يداهمنا الجوع ولا نجد ما نقتاته.. وربما هي جزء من تراثنا الذي حافظنا عليه..
لم نحلم بالملكيات، والبنايات، والألبسة، والأزياء.. شَعْرُنا جميل يكفينا، ولولا أن الإنسان يريد التجمل بنا أو التباهي، فيلبس بعضنا أشياء مزركشة.. لما عرفنا الأقمشة..
أما الصراع، والحروب، والدماء.. فنحن لا نعرفها.. إننا نقاتل الذين يعتدون على البشر، ربما يحدث أن نتعارك على كلبة حين يريد كل منا عرض قوته وجماله وفحولته.. وربما اندفعنا - بعض المرات - إذا ما تحدانا كلب آخر، أو تحرشت بنا قطة، أو فرض علينا القتال..
أشياء كثيرة لا وجود لها في حياتنا.. وهي نعمة عقلنا، فنحن قنوعون.. ونحمد الله أنه لم يهبنا عقلاً (كبيراً). فـ "قلة العقل نعمة أحياناً"..
المهم أننا دخلنا مرحلة جديدة، منظمة.. صار علينا فيها التقليل من الحليب وتناول قطع من اللحم (آه أيها اللحم كم أنت شهي.. وكم كنت سبباً لحروب ومعارك).
وانتقلت أمي إلى ما هو أصعب، فلم تعد تلقي لنا بقطع اللحم كيفما نشاء، بل صار علينا البحث عنها في أطراف الحديقة باستخدام حاسة الشمّ ووسائلنا الخاصة، وكان من يجد قطعة قبل الآخر يكافأ بالتهامها، وان قصّر أو تقاعس كانت تنهره، وتعاقبه - أحياناً- بحرمانه من وجبة ما، وربما ضربه.. كان علينا أن ننشط ونبذل جهداً للحصول على طعامنا، وأن نتعلم الحراسة ليلاً بالإنصات الجيد لكل ما نسمع، وتنمية حاسة الشمّ وتطويرها للتمييز بين كافة الروائح، الصديق منها والغريب، أو العدو.. كان تدريباً صعباً، لكنه ممتع ومفيد..
- أذكر، وأنا في نوبات حراساتي الأولى، والخوف من المسؤولية والمجهول يسكناني ( المجهول يخيف لأنك لا تعرفه والمسؤولية ثقيلة تستوجب العمل والإخلاص والتيقظ..).. كيف كانت ترتعد فرائصي لسقوط ورقة من شجرة، فأهبّ مستنفراً كل حواسي، متقدماً ومتراجعاً.. ثم أضحك في سريرتي عندما أكتشف وهمي، وأني كنت جباناً رعديداً، يخشى حفيف الأوراق، وصوت الرياح، ومواء هرة، أو دبيب نملة، أو نعيق بومة..
وشيئاً فشيئاً صرت أعتاد عملي، فيتعمق وعيي بالأشياء، وأدرك مفيدها من مضرّها، فأداعب الأوراق، أرقص مع الفراشات، وأهتّز طرباً لصوت العصافير وتناغمها وهي تتغازل وتتناجى، أو تتخاطب فيما بينها.. وكان صوت الشحرور الذي يزورنا باستمرار، أجملها.. كم تمنيت لو يطيل المكوث عندنا.. لو يغني لنا ليلاً ونحن في تيقظ دائم.. لكن الطيور ترقد مع غروب الشمس.. أما نحن فليلنا يواصل نهارنا، وغالباً ما يكون هو الأشقى علينا، لأنه يدعونا للسهر ومراقبة كل شيء.. ألسنا كلاباً.. والكلاب وجدت للحراسة (هكذا يقول البشر.. ولهذا السبب يضعوننا - بشكل رئيس- في بيوتهم، أو حدائقهم أو أماكن عملهم.. وأعتقد أنهم لولا حاجتهم الماسة إلينا لما اهتموا بنا، ودفعوا مبالغ طائلة لشرائنا أو إطعامنا أو علاجنا..)..
ومرت الأيام.. نكتسب كل يوم خبرات جديدة.. حتى صرنا شبه كلاب.. فلم نعد تلك الجِراء الصغيرة العفوية، فقد فهمنا الكثير من حياتنا وواجباتنا.. أما الحقوق فليس لها وجود في قاموسنا.. (الكلاب لا حقوق لهم).
- كنت أحس أن أمي حزينة، تلوح برأسها عنّا كلما حدقنا فيها أو اقتربنا منها.. لم نعرف الأسباب، وكان يجب فهم سرّ هذا الخوف..
كنت (مدللاً) عندها، أو هكذا تصورت، فتوددت منها، ألاعبها، أقفز فوقها، أعضّ بطرف أنيابي رأسها، وهي صامتة رانية..
- أمي.. ماذا يحزنك؟..
- لا شيء يا جروي العزيز.
- كلا، إنك تخفين شيئاً ما.. نحن نعرفك.. نحسّ بوضعك.
- لا شيء يا بني.. إنه التعب.. رتابة الحياة..
- أوه.. هل أنت مريضة..؟..
- كلا ..
- أين زوجك.. نحن لم نشاهده؟..
- زوجي..! آه .. على زوجي، وعلى حياتنا نحن الكلاب..
- صارحيني أمي.. ما بك؟..
- كان أبوكم كلباً جميلاً، قوياً، يبز الكلاب أقرانه بهاء، ونشاطاً، وذكاء، لكنهم أخذوه مني.. وما رأيته من يومها إلا مرة واحدة، وصدفة..
- نعم.. نعم.. ما زلت أتذكر سور تلك الحديقة، وحزنك.. وقد بكيت.. نعم رأيناك تبكين ولم نعرف السبب.
- دعني يا ولدي من الماضي.. حتى لا تزيد آلامي.. يكفي ما أنا فيه..
- لن أتركك إلا بعد أن تخبريني بالتفصيل عن أبي..
- ماذا أقول لك: كنا عاشقين، ولا كل الكلاب، وراجت حكايتنا: ثنائي لا يفترقان.. كنت أغار عليه من نسمة الهواء، أخشى أن تخطفه كلبات الجوار، فهو وسيم، وقوي، وحنون.. وطالما طمأنني بأنه لن يعشق سواي.. فأنا رفيقة دربه، وبيننا عشرة عمر.. وكنت في عزّ صباي..
- أنت أجمل من رأيت من كلاب يا أم.
- لا تبالغ. ربما كان ذلك أيام زمان.
- كلا، فما زلت يافعة، عيناك تبرقان، وقوامك ممشوق، وشعرك الأدهمي ناعم جميل..
- المهم أخذوه مني وأنا حامل بكم..
- لماذا؟ ماذا صنع؟ هل ارتكب خطأ ما؟..
- كلا.. كلا.. لم يفعل شيئاً.. سوى أن مالكنا لا يتحمل وجود كلبين في حديقته، خاصة بعد معرفته أني حامل، فباع أباكم بسعر مرتفع.. وكان ما كان..
- هكذا إذاً يا أم.. لماذا لا تهربين وتبحثين عنه؟..
- ليس من طبعنا –نحن الكلاب- الغدر بمن يملكنا، فنحن لا نعضّ اليد التي تطعمنا. وعلى فرض أني هربت وبحثت عن أبيك ووجدته.. فماذا سأفعل عند ذاك؟ إنهم لن يسمحوا لي بالبقاء معه، كما أنهم لن يسمحوا له بمرافقتي.. وقد أعتبر خارجة عن قوانينهم فأعاقب شرّ عقاب.. ولذلك نتألم بصمت، ونبكي بطريقتنا..
- إنها لحكاية محزنة حقاً يا أم.
- قد تعودنا، وتبلدنا، لأنها حال الجميع، أو معظم أبناء جنسنا.. هذا قدرنا.. وعليكم إعداد أنفسكم لحالات مشابهة.. نحن أسرى.. عبيد، أو شبه رقيق.. ليس من حقنا العيش كما نريد في عائلة نختارها، وليس مسموحاً لنا الاحتفاظ بأولادنا، أو البقاء معهم.. إننا ملك غيرنا، يتصرف بنا كيفما يشاء، وإذا كان حظكم جيداً عشتم عند سيّد طيب، كريم، عطوف.. وإن لم يكن كذلك فما عليكم سوى الصبر والتحمل والتألم بصمت.. وتقديم المزيد من الطاعة..
- أليس البشر نوعية واحدة.. فكلهم يتشابهون شكلاً..
- أواه يا ولدي الطيب.. مازلت صغيراً لتعرف..
- علميني يا أمي.. فتّحي لي عقلي الصغير ليكبر..
- البشر يا جروي الجميل أنواع وأنواع.. فلا تغرّك سحنتهم أو ألبستهم.. فيهم الطيب، الكريم، الصادق، المؤمن، القنوع، الرحيم الذي يشفق ويعاملنا كأصدقاء..
وفيهم الشرير، الخبيث، العدواني، الحسود، النهم، البخيل، اللص، المتجبر، المتكبر.. وأنواع كثيرة يا ولدي..
- لماذا هم هكذا؟..
- لقد وضع الله عقلاً في رأس كل واحد، وترك له حرية الاختيار والتمييز بين الخير والشر.. ربما ظروف ونشأة كل واحد: في أسرته، ومحيطه هي السبب.. ربما أشياء أخرى لا أعرفها، أو لا أفهمها تجعلهم قساة، غلاظ القلوب، مجرمين، سفاكي دماء، يقتل بعضهم بعضاً..
- يقتل بعضهم بعضاً.. لماذا، أمن أجل اللحم؟..
- ليتهم فعلوا ذلك من أجل اللحم فقط لهانت المشكلة، ولما عرفوا تلك الحروب الطاحنة.. الأسباب عديدة، ربما الطمع.. لأنه لو اكتفى كل واحد بما يحتاجه من طعام ولباس لما اعتدى على غيره.. وربما حب الملكية والتملّك.. الذي يعرف - في أيامنا- باللهاث لجمع الأموال وتكديس الثروات دون شبع، أو حدود..
- ولماذا لا يكتفون؟..
- البعض يبدو انه لا يشبع.. فكلما كبرت ثروته زاد جشعه، وتطلع إلى الآخرين لنهبهم،، أو الاعتداء عليهم.. حين تصبح القوة هي القانون..
- نحن معشر الكلاب نلجأ إلى القوة، والكلب القوي يطرد الضعيف، وقد لا يسمح له بالأكل..
- الأمور مختلفة يا جروي، نحن نقاتل ونقاتل بعض الوقت على أمور صغيرة، مؤقتة: أكلة، كلبة، منطقة.. ومن النادر أن يتقل أحدنا الآخر.. أما البشر.. أوه... قتلوا الملايين.. عشرات الملايين، بل مئات الملايين في حروبهم، وما زالوا يقتتلون، وما زال القوي يسيطر على الضعيف، ويعمل على سحقه واستعباده والغني يستغل الفقير، والرحمة تنقص في القلوب، والجشع يغطي مجتمعات كثيرة.. فماذا أقول لك، وأعدّد؟!!..
- كلهم هكذا؟...
- كلا يا جروي.. لو كان جميعهم هكذا لانتهت البشرية..
الخيّرون، الطيّبون، الرحماء، القانعون، الكرماء.. كثر، يملؤون الساحات والشوارع،، المعامل والمزارع والحقول والحوانيت.. والأرصفة.. تراهم في كل مكان، بعضهم مؤمن بما قسم له، يكدّ نهاره وبعض ليله ليطعم أطفاله، ويبني أسرة صالحة عمادها: الصدق والخُلق الكريم... وبعضهم يحاول اللحاق بعلية القوم ليصير من أغنيائهم.. قسم يستخدم وسائل شريفة، وعديدون يلجأون إلى طرق ملتوية، خاصة تلك الفئات التي ضعفت ضمائرها، فيكذبون ويسرقون ويرتشون.. وقد يقتلون إن احتاج الأمر إلى ذلك..
- يقتلون؟
- نعم يقتلون... وما هو أشد من القتل..
- أي شيء أشد من القتل؟...
- يقولون : الفتنة..
- و ما هي الفتنة. يا أم؟....
- الفتنة أن تزرع الخلاف والشقاق بين الناس، أن تؤلّبهم على بعضهم ليشاحنوا،، ويتشاجروا، ويتناحروا، بدل أن يتعاونوا ويتفقوا ويتكتّلوا...
- هل هذا ما يجعلكِ حزينة؟..
- كلا يا جروي العزيز... فقد ألفنا هذه الحياة التي لا دخل لنا فيها، وتعودنا التعايش معها، فنتفرج ونحن نتألم،، دون أن يكون بالإمكان فعل شيء.. لأننا صنف آخر، لا يسمحون لنا بالتدخل في عالمهم وشؤونهم..
- ما الذي يحزنكِ إذاً؟...
- بصراحة.. أنتم..
- نحن!َ! وماذا فعلنا؟...
- لم تفعلوا شيئاً، وإنما مصيركم هو الذي يحزنني..
- مصيرنا؟. .
- نعم يا ولدي. قد كبرتم،، وممنوع أن تبقوا معي، وسيأتي يوم غير بعيد يأخذونكم فيه إلى عالم جديد، بعيداً عني وقد لا أراكم بعدها..
-لماذا يبعدوننا عنك.. فماذا فعلنا لهم.. وأنت تخدمينهم، ومستعدة للموت في سبيلهم.؟..
- حكايتنا طويلة يا كلبي الصغير.. هي مهنتنا.. وهو قدرنا.
- كيف ذلك يا أمي الحنون؟!!.
- لا أدري يا ولدي متى حدث ذلك.. ربما من آلاف السنين حين عقدنا صداقة أبدية مع بني البشر.. انتقلنا بعدها من حياة البراري والغابات إلى مرافقة الإنسان حيث حلّ أو ارتحل..
- الصداقة تبادل بين طرفين، وليست استغلالاً من طرف لآخر.. فلماذا نحن الذين كان علينا أن نتبع البشر، وأن تكون مهمتنا حمايته والإخلاص له دون أن نأخذ مقابلاً مماثلاً؟..
- القصة طويلة، معقدة.. لقد التزمنا بميثاق صار أبديّاً.. فقدم إلينا الإنسان المأكل والمأوى.. والعلاج (أحياناً)... فاقتنع بذلك أجدادنا فربونا عليه، وما عدنا نعرف مهمة غيرها، وصار يصعب أن نعود مرة أخرى إلى حياة البراري وتوحشها ومصاعبها..
- جميع الكلاب تحوّلت؟..
- فيما أعرف معظمها، حيث ما زالت أنواع قليلة منها (كالكلب الإفريقي)، ترفض الترويض، فتعيش منفردة، مستقلة على شكل مجموعات... إلى جانب الكلاب الشاردة الضّالة...
- الكلاب الشاردة والضّالة؟!..
- نعم يا جروي.. وهي الكلاب التي لا مأوى لها، والتي تعيش في الحواري والأحياء، أو قرب المدن والحواضر والقرى، تلتقط رزقها من مخلفات الإنسان، أو مما تجد.
- ولماذا ليسوا منا؟..
- أيضاً الأسباب كثيرة..
- وما هي؟..
- هناك أنواع من الكلاب لا يرغب الإنسان باقتنائها لنوعها أو ضعفها أو شكلها..
- (شفق) مقاطعاً: هل هناك أنواع من الكلاب أيضاً؟..
- أوه.. عشرات الأنواع..
- من أين جاءت؟..
- لا أدري بالضبط فنحن الأصل فصيلة واحدة، لكن بيننا خلافات واضحة في الشكل والقوة والحجم والمهنة.. والبشر يتحدثون عن تفوّق بعضنا في الذكاء، والقدرة على الاستيعاب..
ربما جاءت الاختلافات من تعدد البيئات التي عشنا فيها، والتي أجبرتنا على التكيّف معها.. لأن من يعيش في الصحراء ليس كمن يحيا في الثلوج أو الجبال.. وربما التزاوج من أنواع أخرى مشابهة لنا: كالذئاب.. ثم جاء دور الإنسان في تحسين الأنواع، وإحداث اختلاط بينها لتهجين نوع جديد يعتبره أقوى، وأكثر ملائمة مع ظروفه واحتياجاته، من حيث: الحجم والقوة.. فهناك اليوم كلاب غاية في الصغر 0لقد قزّموها لدرجة عجيبة).. وبعضها بحجم القطط الصغيرة، وقسم يشتهر بشعره الطويل المسترسل، وأخرى بالشراسة وقوة الفك والأنياب، أو سرعة الجري، أو القفز والهجوم أو في الشم الأدقّ..
- هذا كثير ومتعب. فما هي الأسباب؟..
- دورنا معشر الكلاب ارتبط دوماً بتطور حياة البشر، وتنوع احتياجاتهم وأمزجتهم، ومصالحهم، وأعمالهم.
قبل مئات، وعشرات السنين، كانت الحاجة إلينا ماسّة، فعلية، وليست للترفيه أو التسلية.. فاستخدمنا لحماية قطعان الماشية من الذئاب والوحوش المفترسة، ومثلها المزارع والبيوت.. ولم يك بمقدور الإنسان أن يتخلى عنا، بل كثيراً ما تولينا حراسة قطعانه الكبيرة وحدنا، وفي غيابه أحياناً.. واستشهد الكثير منّا في معارك طاحنة مع الذئاب، والضباع، والفهود، والأسود، بل ومع أبناء جنسنا (في حالات عديدة).. ومع بني البشر المعتدين.
كان الحِمل أكبر من طاقة أنواع كثيرة منّا، فالضبع حيوان شرس قوي، يصعب على كلب (عادي) مواجهته.. فاضطرت الكلاب للتجمّع، وإن لم تفلح كانت تضحّي بأنفسها.. لكن تذمر الإنسان تزايد لضعف بعضنا، واحتياجه لاقتناء أعداد كبيرة.. فراح يبحث عن أنواع أقوى وأشرس.. وإن لم يجد.. توجّه نحو توليد (تهجين) أنواع جديدة.. وقد نجح في ذلك مع مرور الأعوام.. وهناك اليوم كلاب يتفوّق أحدها على مجموعة كلاب من أنواع أخرى كما بإمكانها تمزيق أي وحش..
هذه العوامل أدّت إلى وجود تمايزات فئوية بيننا.. فأهملت الكلاب (الشعبية) التي زاحمتها كلاب قوية، مدربة.. فتشتت تلك وهامت على وجوهها.. إلا من بعض المناطق الفقيرة والنائية التي لا يقدر أصحابها على اقتناء كلب قوي، والتكفّل بطعامه وشؤونه (أكل الكلاب على قدر أفعالها)..
كما أنّ النمو في عدد هذه الكلاب أدى إلى طرد عدد كبير منها.. إضافة إلى تلك الكلاب التي يرميها البشر، لعمرها أو مللهم منها، أو لأسباب مختلفة.. فتشرّدت أعداد كبيرة وعرفت بالكلاب الضالة الشاردة.. (أو هكذا يسمونها).. التي صارت للأسف، هدفاً للقتل من قبل مجموعات بشرية متخصصة، غالباً ما تدفع لها الدول أجورها لاصطياد تلك الكلاب والتخلص منها.. بحجة الخوف من نقلها للأمراض، خاصة مرض الكَلَب، أو لأنها (تزعج) الناس بأصواتها ومنظرها!!!
وتخصصت أنواع منّا بالقنص.. فيما عرف بكلاب الصيد التي احترفت هذه المهنة خصوصاً عندما كانت وسائل الإنسان في القتل (بدائية) بعد، ولم تك البنادق والرشاشات قد اكتشفت بعد، ثم السيارات ووسائل النقل الحديثة.. التي ألغت، أو كادت دور هذا النوع. إلا قِلّةً محدودة.. ما زالت مبعثرة في الأرياف، أو لدى عدد من الهواة والمغرمين..
ولأن حياة البشر تطورت كثيراً، ومعها وسائلهم الفتّاكة.. ضعف الاهتمام ببعض الأنواع، فتحولت معظم الكلاب إلى نمط جديد كرعاية القطعان وتجميعها، وبالأساس من كل ذلك: حماية الإنسان من أخيه الإنسان، والعديد من المهام المتجددة التي تستخدم حاسة الشم عندنا، أو للمتعة والتسلية والمؤانسة..
- كيف ذلك يا أمي؟..
- معظم المواشي تربّى اليوم في حظائر مبنية ومجهزة بأحدث الوسائل، أو في مناطق مسيّجة، ولم تعد الوحوش - التي قتل معظمها، أو هربت بعيداً، قادرة على الاقتراب، أو تشكيل خطر مهدد.. فألغي أو قلّص دور الكلاب، وصار يكتفي بعدد محدود منها مدرّب جيداً، لحراستها من اللصوص، أو رعيها وتجميعها وتوجيهها..
وفيما عدا بعض مناطق الصحراء التي ما زالت توجد فيها قبائل من البدو الرحل، أو المناطق النائية.. نقص وجود الكلاب فيها.. بل إن سكان المناطق الثلجية (الأسكيمو) الذين كانوا يستخدمون عدداً وافراً استغنوا عن تلك الزحافات التي تجرها الكلاب، واستبدلوا بها آلات متطورة.
- أي أننا الآن نحمي الإنسان من أخيه؟..
- نعم- نعم.. معظم الكلاب تستخدم اليوم للعمل في حراسة الإنسان وممتلكاته من البشر الآخرين، خوفاً من السرقة أو الاعتداء.. إلى جانب مجالات (حديثة) لبعض الأنواع، كتلك التي تعمل في كشف المجرمين، أو الجثث، أو اللصوص، أو في النكبات كالزلازل والفيضانات والكوارث، فيما يعرف بالكلاب البوليسية المدربة، والتي توسعت مهامها إلى اكتشاف المخدرات والمهربات الممنوعة..
- ما هي المخدرات؟..
- المخدّرات سموم قاتلة للبشر، ابتدعها الإنسان للتخدير، ثم استخدمها الأشرار في تجارة مربحة.. دون أي حسّ بالمسؤولية عما تلحقه من أذى، خاصة أنواعها المتطورة التي تحوّل الإنسان إلى عبد مدمن لها، فتتلف أنسجة دماغه، وقد تودي به..
- وكيف يكتشفها الكلب ويعجز البشر عن ذلك؟..
- امتاز الكلب -منذ القدم- بحاسّة شم نفاذة، قوية جداً، تمكنه من تتبع أثر صاحبها حتى وإن كان غير مرئي.. وهكذا قدرت الكلاب على معرفة المجرمين بتتبع آثارهم، أو أي شيء يتركونه في مسرح جريمتهم، ومثلهم اللصوص وغيرهم. وبعد التدريب على أنواع المخدرات ومعرفة روائحها، يقدر الكلب على معرفة وجودها داخل حقيبة، أو أي مكان مخفي.. والآن يدربونه على الاكتشاف تحت الأنقاض، أو ضمن ستائر كثيفة، وذلك بتنمية حاسة الشم عنده.
اليوم يا جروي تستخدم الكلاب في مجالات عديدة لفائدة الإنسان، بما فيها عمليات المراقبة على شواطئ البحر، والإسهام في إنقاذ الغرقى، أو في مساعدة العميان وإرشادهم، وفي شؤون عديدة لا يحصى فيها فضل الكلاب على البشر..
- وما هي قصة كلاب التسلية والمتعة..؟..
- مجتمعات البشر تطورت كثيراً في العقود الأخيرة، وهناك فئات واسعة أتخمت بالمال والرفاه، فتحولت إلى مجتمعات مادية بحتة..
- ماذا تقصدين بمجتمعات مادية؟..
- عندما كان معظم البشر يعملون بالزراعة، وفي صناعات محدودة، أو الرعي والتجارة، كانوا أكثر تعاوناً وألفة ومحبة.. ثم غرَّتهم المطامع التي دفعت معظمهم إلى البحث عن الثروة والمنافع الخاصة.. وبعد انقسامهم إلى طبقات غنية ومتوسطة وفقيرة، ومحاولة الأغنياء التحكم بالفقراء، بل وبمصير العالم، وانتشار الروح الفردية، والجشع، وحب المال.. تقلص التعاون بينهم، وضعف الحب والتضامن، وأصبحت العلاقات المادية بديلا لتعاونهم، فقد صار الغني يسخر ما يملك ليس لمساعدة الفقراء المحتاجين من بني جنسه، بل للتحكم فيه، والسيطرة عليهم..فانتشرت، وطغت مفاهيم جديدة، حولت الإنسان، خاصة في الغرب، الذي يقولون عنه إنه متطور جدا، وإنه تقدم في الصناعة والعلوم والأبحاث وغيرها، إلى ما يشبه الآلة، فتفككت الأسر وعلاقاتها، ونمت الفردية والمصالح الخاصة.. ولم يعد من صديق للكثير سوى المادة وعشقها..
إن الكثير من المرفهين -يا جروي- يحبون امتلاك كل شيء، ما يحتاجونه وما هو للمظاهر، وصارت الكلاب والقطط (على الخصوص)، عند أغلبيتهم، نوعاً من المظاهر للدلالة على مكانة أصحابها، ومقياساً لمكانة البعض، وصارت المكانة بعدد ما يملك من كلاب وقطط (وحيوانات أخرى) شرط أن تكون من أنواع راقية..
- أنواع راقية؟..
-نعم، حتى الطبقية دخلت جنسنا، وبعض الحيوانات.. فأصبح لبعضنا مكانة خاصة تبزّ إخوانه، ثم تدخّل الإنسان لإيجاد أنواع جديدة من الكلاب والقطط، أكثر جمالاً، وصغراً، أو غرائبية..
- يعني أن الحاجة إلينا كحرّاس يقومون بعمل مفيد صارت قليلة، وبتنا حيوانات زينة؟..
- ليس عند الجميع يا ولدي.
نسيت أن أقول لك إن تطورات البشر، وتعقيدات حياتهم أوجدت الملايين منهم الذين يعيشون وحيدين لا يؤانسهم أحد في حياتهم، خاصة بعد أن يتقدموا في العمر. وهناك ملايين الأزواج التي يرتحل أبناؤها عنها، فيتركونهم وحيدين، إضافة إلى الملايين التي تعاني الضيق والوحدة وسأم الحياة، تعيش منفردة، وحيدة.. وسط علاقات مادية جارفة، صقيعية، باردة..
هؤلاء جميعاً يحتاجون إلى رفيق.. صديق.. مؤنس.. معين من غير البشر.. فيتجهون إلينا نحن الحيوانات: كلاباً أو قططاً، لنصبح جزءاً رئيساً من حياتهم.. والكثير منهم يفضلنا على أقرب الناس إليهم، فنعيش سعداء، مرفهين.. لأن الحيوان، خاصة نحن معشر الكلاب، أصدقاء أوفياء دون مطالب، أو شكايات، أو مشاجرات، أو معاتبات ومناقرات ودسّ ونميمة ومنغصات.. إننا نتعامل بصمت، ولا نستطيع، إن تألمنا، أو حزنّا التعبير بأكثر من أصوات باهتة، ودموع قليلة، ولبعض الوقت فقط.
- هذا النوع كثير؟..
- نعم، وبحدود معلوماتي.. هناك ملايين الكلاب والقطط التي تعيش في بيوت البشر تؤانس وحدتهم، وتشكّل صديقهم، أو رفيقهم الوحيد.. إلى درجة قيام جمعيات ومنظمات عديدة للدفاع عن حقوقنا، والرفق بنا، وحماية أرواحنا، ورعاية شيخوختنا.
وأكثر من ذلك يا جروي.. ففي بعض البلدان صارت لنا مستشفيات ومطاعم ونواد خاصة.. لقد أصبح البعض مرفّها.. ولعله ينسى أصله قطاً أو كلباً..
- هل نحن الذين اخترنا هذه الصداقة؟..
- لا أعتقد يا صغيري.. ربما أحبنا الإنسان لوفائنا وإخلاصنا، وبالأساس لحاجته إلينا.. فتطورت علاقته بنا عبر القرون إلى أن صرنا جزءاً من حياة الكثير، وقدمنا له خدمات لا تحصى.. لكننا كنا دوما التابعين. فهو السيد والمالك، وصاحب الحق.. ونحن قانعون بذلك..
- هل يتسلّون بنا؟..
- ليس كذلك تماماً. الكثير يحبنا بصدق؛ ويرتبط معنا بعلاقات طيبة.. بل يصبح العديد من الكلاب الأكثر قرباً وصداقة لبني البشر، مما يجعل من الصعب عليهم مفارقتنا، حتى وإن مرضنا، أو بلغنا من العمر عتيا.
وأعرف قصصاً كثيرة عن أناس طيبين جداً، عشقوا صداقة الكلاب، واستغنوا بها عن البشر.
- لكننا أكثر وفاء وصدقاً وإخلاصاً منهم، لأننا نقدم لهم كل شيء مقابل لقمة العيش، وبعض الحنان.
- نعم، ذلك صحيح يا ولدي. هكذا جبلنا على حب البشر كعنصر وحيد نفضّله على أزواجنا وأولادنا، الذين غالبا ما نحرم منهم فلا يبقى لنا سوى مالكنا، وولي نعمتنا.
وأعرف عشرات القصص عن تضحيات الكلاب بأرواحهم في سبيل بني البشر، وهناك روايات سمعتها، وأخرى كتبتها الصحف ونقلتها وكالات الأنباء عن كلاب ظلوا معلقين بأصحابهم حتى الموت.. وعندما كان الصديق يرحل عنهم.. كانوا يربضون على قبره حتى الموت..
وآخرين ألقوا أنفسهم في النار، أو الأمواج العاتية لإنقاذ إنسان.. فما خرجوا منها بمعظمهم.. وهذا ما يجعل صفات: الأمانة والصداقة والوفاء لصيقة بنا، لا يجارينا فيها أحد.
- هي خصال حميدة، جيدة ولا شك، لكن ماذا نستفيد منها؟..
-إن الكريم يا ولدي لا يعطي ليأخذ.. إنه قد يجود بأغلى ما لديه لإيمانه بما يمنحه.. ونحن هكذا..
- لماذا لا نعود إلى البراري ونعيش أحراراً مستقلين؟ ونكون هناك أسراً ومجتمعات خاصة بنا؟..
- صار ذلك مستحيلا يا جروي المندفع...
- لماذا؟..
- عقبات كثيرة تحول دون ذلك.. لقد سيطر الإنسان على كل شيء، ومكّنته وسائله التي اخترعها من بسط نفوذه على جميع الأمكنة.. بما فيها الغابات (التي أتلفت مساحات شاسعة منها في تجارته ومشاريعه وبنائه وزراعته) والصحاري.. وإن لم تكفه الأرض، على اتساعها، تطلّع إلى الفضاء لغزوه..
ومن جهة أخرى، فقد اعتدنا، منذ آلاف السنين، هذه الحياة السهلة.. مقابل خدماتنا..
- حياتنا اتّكالية، كسلى، خمولة.. ترتبط كلياً بالإنسان وما يقدمه لنا.. وإن امتنع فقد نموت جوعاً، أو نزداد خنوعاً..
- ما تقوله فينا جانب من الصواب، حيث تعرضت آلاف الكلاب للموت، والسجن، والعقوبات المتنوعة حيث كانت لا تنصاع تماما لإرادة السيد، أو تخطيء في تصرف ما، أو تسهو وتقصر.. وبعض البشر تفننوا في اختراع وسائل التعذيب التي نزلت بنا وبهم.. هذا صحيح..
ومن جهة أخرى، نحن لسنا اتكاليين.. إننا نقدم الكثير من الخدمات، ونفني حياتنا في أعمال شتى لصالحه.. مقابل ما يقدمه لنا من طعام ورعاية..
إنه قدرنا، يا ولدي، الذي لم يعد لنا منه مهرب.. وعلينا التكيّف، وتحسين أوضاعنا بالمزيد من الصدق والوفاء.. فما من خيار آخر..
- يبدو أنه ما من خيار آخر..
- الآن وقد تعرفت على الكثير مما تودّه، بل ما هو أكبر مما يتحمله عقلك الصغير، لابد أن تجهز نفسك وإخوتك ليوم قريب تغادرون فيه مكانكم هذا..
- ولماذا نغادر؟ لماذا لا نبقى معك؟..
- يصعب أن يتحمل بيت واحد ستة كلاب.. عدا أن إخوة ما لكم قد يجيئون لاحقاً.. ولابد لصاحب البيت أن يتخلص منكم..
- يتخلص منا.. كيف؟ هل يرمينا رمية الكلاب، كما يقولون؟..
- لا.... يا ولدي.. ربما أعطاكم لأصدقائه.. وربما باعكم في سوق الكلاب..
- سوق الكلاب.. وهل للكلاب سوق؟..
- أوه.. سوق كبير.. جميل..
يتبع