بدر الزمان (2)
بدر الزمان
|
|
فاضل السباعي
حكاية أسطورية للصغار والكبار
الفصل الثاني
بدر الزمان في الغابة
11
بدر الزمان، وهو في قعر زنزانته، ويفكر في ما آل إليه، وينتظر ليلة النصف القمرية.
أُلقي ببدر الزمان في قعر زنزانة ضيّقة، كان في زاوية منها كوّة يرنو منها إلى وجه السماء. وفي باب الزنزانة الحديديّ المصفّح، المقفول بسبعة أقفال غلاظ، كانت هناك فتحة تتّسع ليد، يراها تمتد كلّ صباح، مقدّمة إليه رغيفاً واحداً وشيئاً من إدام ليس فيه بيض، وتضع ذلك على رف مما يلي الفتحة، على نحو لا يرى فيه بدر الزمان صاحب اليد ولا تقع عليه هو عين أحد. وفي جانب من الزنزانة مرحاض، وصنبور لا ينزل الماء منه إلا قطرات. وهناك مصطبة، جعل بدر الزمان ينام عليها، ويجلس، مفترشاً بطانية وملتحفاً بأخرى، وهو يعاني من القروح التي تركتها في ظهره الجلدات الخمسون والمئة.
أخذ بدر الزمان يرصد، من الكوّة الصغيرة، طلوع الشمس ومغيبها. وفي الليل، يساهر النجوم، ويعدّ منها ما يستطيع من خلال القضبان الحديدية. ولكنه ما كان ليعدّ الأيام التي تكرّ، فإطلاق سراحه غير مرهون بانقضاء مدة، بل بانقضاء حياة الإمبراطور يانْ - تسون.. ومن يأتي له بخبر الإمبراطور؟ أم تراهم ينسونه في غمرة الفرح الذي يعتري الشعب يوم وفاته؟!
وفكّر بدر الزمان طويلاً بأخيّته بشيرة، التي ما برحت تُلقي في سمعه: نهاية الإمبراطور ستكون.. كن في ألف يقين.. حتى وصل إلى قعر زنزانة!!!
لطالما سألته: ألا تريد أن تتحوّل إلى يمامة؟
ولكن، لماذا يمامة، وليس طيراً جارحاً، عُقاباً، صقراً، يفقأ عين الإمبراطور، أو ينقره في مؤخرة رأسه، في موضع البصلة السيسائية، فيقضي عليه قضاءً مبرماً ويريح من شرّه العباد؟.. وبعدئذ، فلتنتف الحاشية ريشه، أو فليشووه على النار حياً!
ولكنْ، أين هي أُخيّته بشيرة؟
وراضى نفسه، فأخذ يعدّ الأيام، حتى دنت ليلة النصف القمرية، وفي نفسه توجّس من أن تحتجب عنه بشيرة، فلا تظهر له وهو في السجن، مقفولاً عليه بسبعة أقفال غلاظ!
12
ظهور الأخيّة بشيرة لبدر الزمان في زنزانته، وإشارتها عليه بما ينبغي فعله.
لم يعد بدر الزمان يستطيع أن يستقبل طلوع القمر البدر، كما كان يفعل ذلك وهو في فناء كوخه الذي باد، وهبّات الريح تداعب أوراق شُجيرات عباد الشمس.
ولكنه سمع صوتها:
"مياو! مياو!"
هتف، في عتمة زنزانته، مثل مجنون:
"بشيرة ! أخيّتي!"
- هأنذي، يا بدر الزمان!
- كم أنا في حاجة إليك، يا أختاه!
- إني معك على الدوام. كيف حالك؟
- مسلوخ الظهر!!
- أسألك: هل أنت يائس؟
- إني حاقد!
- هل ترغب في إطلاق سراحك؟
- إني أتمنى الموت للإمبراطور!
- كن في ألف يقين..
- وبعدين، يا أخيّتي!!
- .. من أن نهاية الإمبراطور ستكون على يديك!
- ولكني مغلول اليدين، كما ترين!
- لسوف تتحرر!
- وكيف يا أختاه؟!
- بأن تتسلل من بين القضبان!
- معناه أن أتحول إلى.. يمامة!!
- "ألا تريد أن تتحول إلى يمامة يا بدر الزمان؟!!"
- اليوم أريد!
- إن امتنعت عن تناول الطعام، طوال شهر قمري كامل، تضاءل جسمك، وظل يتضاءل، إلى أن تنقلب، في الصباح الذي يلي ليلة النصف القادمة، يمامة، تتسلل من بين هذه القضبان.. وفي تلك اللحظة، أكون أنا في الفضاء يمامة تنتظرك، يا بدر الزمان!!
13
في استجابة بدر الزمان لإشارة الأخيّة، بالامتناع عن الطعام ثلاثين يوماً، وما حلّ به بعد ذلك.
منذ ذلك اليوم، امتنع بدر الزمان عن تناول طعامه. جعل يأخذ، كل يوم، الرغيف والإدام من على الرف، ويُنيحهما جانباً.
في البداية، كان إحساسه بالجوع يتعاظم. ولكنه ما لبث أن ألف هذا الجوع ألفة غريبة، أنسته تباريح الجوع، وآلام الظهر الموجوع، وكل عذابات السنين.
كان بدر الزمان يتسلّى بأن يقرأ، مرة بعد أخرى، ما خطته أيدي المعتقلين الذي مروا في هذه الزنزانة الموحشة: "ذكرى المظلوم فلان الفلاني".. بالأظفار يحفرون على الجدران: "مظلوم أنا، أيها الإمبراطور السعيد يان – تسون"! ولكن من يسمع، من يرى، وهم يدفعون بالسجين إلى الزنزانة، مسقطين عليه الأقفال الغلاظ، دون أن يسمحوا لأنفسهم بأن يلمحوا فيها شيئاً أي شيء؟! تحت الكوّة حفروا: "ما أجملك، أيتها الحرية!". وفي السقف خط سجين طويل القامة: "إيه! كل حال يزول"..
وبدر الزمان يرى أنه، هو نفسه، يزول، يتحول جسده من حال إلى حال: إنه ليصغر، يوماً بعد يوم! الذراعان تقصران، والسّاقان تضمران، وهو متكوم في زاوية من المصطبة، بعيداً عن كل عين!
تدانت ليلة النصف القمرية. حلّت ليلة النصف القمرية. انقضت ليلة النصف القمرية.
ومع بزوغ الفجر الجديد، وجد بدر الزمان نفسه وقد استحال إلى طير ذي جناحين مخمليين وقائمتين بمخالب صغيرة!
خفق بالجناحين، فاصطفقا، وارتفعت قائمتاه عن المصطبة. حاول أن يرنّق في فضاء الزنزانة الضيّق، فما أسرع ما استجاب له الجناحان!
وكما تخرج دودة الحرير من شرنقتها فراشة تطير، تسنّى لبدر الزمان أن يتسلل من بين القضبان بيسر، فيخرج من زنزانته طير يمام!
ما إن ملأ رئتيه من نسمات الحرية، حتى كان أول ما تبادر إلى خاطره: كيف يمكنه أن ينهي حياة الإمبراطور يان - تسون، وما هو الآن إلا طير يمام؟!
لم يكد بدر الزمان يحلّق، مبتعداً بنفسه عن السجن الذي غادره إلى الأبد، حتى لمح يمامة تنطلق من قمة شجرة سرو عتيقة هناك، متجهة نحوه، ثم ترنّق حوله، وتطير وإياه جنباً إلى جنب.
- عمت صباحاً، يا بدر الزمان!
- عمت صباحاً، أيتها الصديقة الصدوق، التي ليس أوفى منها بين الإنس والجن والطير!
- أخجلت تواضعي، يا طيب. كيف حالك، اليوم؟
- ما أنا إلا طير يمام، وديع، كما ترين!
- لم أخبرك، بعد، بأنك ستظل كذلك مدى العمر!
- أحسن! ليس في انسلاخي عن البشر ما آسف عليه، ما دام يحكم بلادي الإمبراطور يان-تسون! ولكنك طالما بشّرتني، يا أخيتي، بأن نهاية الإمبراطور ستكون على يديّ وبالأحرى: على قائمتيّ! فلم يعد لي، منذ اليوم، يدان ولا رجلان!!
- أذكر هذا ولا أنساه. وأتنبأ لك، أيضاً، بأن تستطيع أن تقدّم لشعبك خدمة جليلة. ولكن عليك بالصبر مدة قبل أن يؤون الأوان لتحقيق هذه النبوءة. والآن، فلنحلّق عالياً، يا بدر الزمان، بعيداً عن المدى المجدي لرصاص الإمبراطور، وإلا أمسينا الليلة وجبته المشتهاة! ولنسرع في طيراننا، فإن أمامنا سفراً طويلاً!
14
طيران بدر الزمان، برفقة أخيّته بشيرة، إلى غابة الصنوبر العظيمة وما ينتظره هنالك من حوادث وأحداث.
حلقت الأخيّة عالياً، وأسرعت في طيرانها.
وبدر الزمان يواكبها، محدّثاً نفسه طوال السفر: آه، ما أجمل الطيران في الفضاء الرحيب: لا حدود، لا قيود، ولا إمبراطوراً يحتقر الناس ويحتكر قوتهم اليومي! ومن عجب أنه، في طيرانه الطويل، لم يحسّ بالتعب، وهو الذي دخل حديثاً في عالم الطير والطيران!
وصلت به بشيرة إلى غابة عظيمة. ما إن حلقا فوقها، حتى ترامت إلى أسماعهما زقزقات وأغاريد!
- أين نحن، يا أخيّتي؟
- فوق غابة الصنوبر العظيمة، عند أهلك الجدد، يا طيب!
حطّت بشيرة، وبدر الزمان يتبعها، على فرع في دوحة صنوبرية. أدار بدر الزمان عينيه فيما حوله: يا لها من طبيعة خلابة! أي شجر باسق فينان! أية خضرة ناضرة هذه التي تكسو الأرض ببساط سندسي! أزاهير ملونات فاتنات! جداول تجري في كل مكان. طيور، وطيور، ومعظمها من فصيلة اليمام، هذه التي بات ينتمي إليها بجنسه!
أخذ اليمام يتوافد، رفوفاً رفوفاً، من أنحاء الغابة، للترحيب بمقدم بدر الزمان، حتى لقد ظن نفسه، لحظة وجيزة، "إمبراطوراً" لليمام! ولكنه سرعان ما طرد من ذهنه هذا اللقب، الذي يرتكب حامله على وجه الأرض أبشع المظالم!
استرعت انتباه بدر الزمان، وهو بجوار أخيّته على هذا الفرع من الدوحة الصنوبرية، يمامة، صبية، تقف على غصن مقابل.
راح يتأملها بعينين يماميتين، وقد تفجّرت في صدره، فجأة، كوامن الحب الذي قمعه جور إمبراطور أرضي. لله ما أجملها: لون كستنائي وهّاج! والعينان لوزيتان مشروطتان. والجيد، الأتلع؟ إن جيدها مخرّم ومرقّش، سبحان من صوّر، لكأنه قرص عسل، تشكيلاً وتلويناً، ومذاقاً كما يخيل إليه! والجناحان، المخمليان، محفوفان بزرقة فيروزية رائقة. والصدر مبطّن بزغب أبيض ناصع البياض! والذيل، إذ استدارت، العريض الملّون، ولا ذيل طاووس! وأما ساقاها. عفواً، قائمتاها....
قطعت عليه خواطره أخيّته بشيرة:
"هم م م .... أين وصلنا، يا طيب؟!"
- ماذا هنالك، يا أخيّة؟
- هل أعجبتك؟!
شاء بدر الزمان أن يمكر:
"من، من تقصدين؟"
- الحلوة، التي أراك تلتهمها بنظراتك؟
تساءل مستسلماً:
"أهي.. عزباء، يا أخيتي؟ أليست مرتبطة بحب رجل آخر، أقصد بحب ذكر يمام؟"
- هل ترغب، حقاً، في أن تستكمل بها نصف دينك يا بدر الزمان؟
- ليتها تقبل بي زوجاً، محباً، وفياً إلى الأبد!
كانت الصبية قد أدركت، بحسّها الأنثوي، أيّ حديث، أيّ هديل، متبادل بين الجنّية وذكر اليمام، الفحل، القادم تواً إلى الغابة... فأغضت طرفها حياء!
- هل تقبلين به زوجاً، يا... "بدور"؟!
وعلى حين احمرّت مقلتا اليمامة من خجل، فإن بدر الزمان، الطيّب، أسرع يلكز. بجناحه، أخيّته بشيرة، ثم أخذ يصفّق بجناحيه كليهما، ويدور حول نفسه، مردّداً بصوت لا تسمعه إلا أخيّته:
"بدور! بدور! واسمها، أيضاً، بدور! ما أحلى هذا! يا للمصادفة السعيدة! (وأضاف) ما أيسر الزواج في عالم الطيور! لو كنا على الأرض، لأجابتني : أمهلني حتى أسأل أمي!!"
15
ليلة من ألف ليلة وليلة، في غابة الصنوبر العظيمة سويعة الأصيل!
وبشيرة، التي أخذت على عاتقها أن تقود أخاها إلى غابة الصنوبر العظيمة، لم تدّخر وسعاً في اختصار إجراءات الخطبة.
لقد حدّثت، أولاً، بدور على انفراد، ثم مضت إلى أمها وأبيها في طلب يدها، رسمياً. لا يُبد الأبوان، المتنوّران، ممانعة، ما دامت صبيتهما، الواعية، قد عبّرت عن الرضا بصمتها وباحمرار مقلتيها خجلاً.
والواقع أن شخصية الخطيب، قد استحقّت إعجاب أفراد الأسرة، لما يتمتع به من الشباب والفحولة والرزانة! ولكن ما حظي به من الإعجاب الباهر، ظهر بعد أن تناقل يمام الغابة تفصيلات ما لحق بهذا الوافد الجديد إلى الغابة، الجريء المناضل، من العذاب على أيدي زبانية الإمبراطور يان - تسون، عدو اليمام الرهيب!
مساعي بشيرة، الحميدة، كان لها فعل السحر.
مساءً، وقبل أن تختبئ شمس الأصيل في الأفق الغربي، كان في الغابة فرح يغمر القلوب، ويفيض، حتى ليبلغ عنان السماء: إنه زفاف بدور إلى بدر الزمان!
العصافير زقزقت، والبلابل تصادحت، فردّت العنادل مزغردة. على حين كانت أفواج لا حصر لها، من اليمام، تهدل: كوكو ككوكو...
من نشوتها رقصت الطيور جميعاً، في حلقات، على إيقاع أغاريد الشحارير المنتظم. والطواويس توسّطت الحلقات، ناشرة، في رقصها، أذيالها الزاهية الألوان. بينما كانت جوارح الطير، من صقور وعقبان، تحلّق في الفضاء، جاعلة من نفسها مظلّة حماية للغابة! وعلى الأرض السندسية، بين جذوع الأشجار الباسقة، كانت تشارك في الاحتفال سباع الغاب ووحوشها الكاسرة، من أُسود ونمور وضباع وبنات آوى، حتى السلاحف والأفاعي خرجت من جحورها، راقصة أو متفرجة، راكضة أو متضاحكة.
إنها ليلة ندّت من ليالي ألف ليلة وليلة، لم يعد بدر الزمان معها ليشك في أنّ القدر قد ابتسم له، بل ضحك ضحكاً عريضاً، منذ غادر عالم البشر الأرضي إلى عالم الطير الرحيب.
وهناك، على أحد أفُنان دوحة صنوبر، كان ينتظر العروسين السعيدين، عشّ زوجية، مجهّز بأعواد قشّ ناعمة كالحرير، ومظلل بأوراق شجر عصية على اليباس، تقي من حرٍّ وقرّ ومطر!
16
"وآه، لو كنت رأيت إلى بدر الزمان الإنسان، وهو يتلقّى صفعات السياط، في ساحة ضيعته، ثم في وسط العاصمة الإمبراطورية!"
طابت أيام بدر الزمان في الغابة. ومصدر سعادته زوجته الحبيبة بدور، التي بادلته حباً بحب وشغفت به إعجاباً وافتخاراً، بمقدار ما أسعدته المودّات الصافيات التي أغدقها عليه وعليها اليمام وكل أنواع الطيور.
عاش بدر الزمان سعيداً، في غابة الصنوبر العظيمة، تلك التي كانت قد فتحت صدرها لطيور اليمام وأنزلتها في ربوعها مكرّمة معزّزة.
سعيداً عاش بدر الزمان. أجل.. ولكن أمراً ما كان ينغّص عليه سعادته وهناءته: إنها ذكريات الماضي! ذكريات عن النفس، وذكريات عن الشعب الذي كان ينتمي إليه... ذكريات، تبيّن له أنها دائمة الحضور في نفسه، لا تفارق خاطره في نهار ولا في ليل!
وكان لا بد من أن تلاحظ بدور سهوم زوجها وانشغال باله. وقد سألته. فطفق بدر الزمان، وهو في تلك اللحظة في مدخل العشّ، يتحدّث عن يان - تسون الظالم، وما يعانيه مواطنوه، أولئك الذين تلفحهم شمس إمبراطوريته المحرقة. ظلم، وقهر، واستعباد. حتى قوت الشعب اليومي، بيض الدجاج، لم ينج من استغلاله: يشتريه من منتجيه بالسعر الزهيد، ويبيعه للشعب بالسعر الفاحش، ولا يتردد في الادعاء بأنّ ذلك هو التعميم النافع للشعب!
- .... وآه، لو كنت رأيت، يا بدور الحبيبة، إلى بدر الزمان الإنسان، وهو يتلقّى صفعات السياط، في ساحة ضيعته، ثم في وسط العاصمة الإمبراطورية! وآه ثم آه، لو رأيت إلى ظهري، المجلود المسلوخ، وأنا في تلك الزنزانة الضيّقة، إذن لذرفت عليّ غزير الدموع!
استرسل بدر الزمان في حديثه، وهو ساهم النظر إلى الأفق البعيد. فلما حانت منه التفاتة إلى زوجته، التي كانت معتصمة بالصمت، رأى الدموع تترقرق في عينيها اللوزيتين الدعجاوين!
ولكم تأثّر لما رأى، وأحسّ حزناً وأسفاً! اقترب من بدور، فقبّلها من منقارها بحنان، ثم أخذ يمسح دمعاتها برأسه المخملي. وبعدئذ قام يرقص لها، مصفّقاً بجناحيه، هازّاً رأسه، ودائراً حول نفسه، حتى استطاع أن يدخل السرور إلى نفسها ويُسرّي عنها. فراقت العينان، وصفت النفس.. وعاد الزوجان ضاحكين.
على أن إلحاح الذكريات على خاطر بدر الزمان، حمله على أن يحدّث زوجته عن مأساة اليمام في الوطن الأم، وكيف أنه هجر البيوت وأشجار المدن، ناجياً بنفسه إلى الغابات البعيدة ولولا أن وحوش الغابات وطيورها الجارحة، كانت على درجة من العطف والشهامة فاقت كل ما في قلب الإمبراطور يان - تسون، فرحّبت بمشاركتها الحياة في غاباتها، وأظلتها بحمايتها وأمّنتها من خوف، إذن لكان جنس اليمام، اليوم، منقرضاً!
ومع أن بدور الطيّبة، كانت تجهل مأساة بني جنسها، ذلك أنها قد نشأت بين أسراب الغابة، وترعرعت في ظل الوحوش والجوارح المتعاطفة، فلم تدرك عهد المجازر الذي استباح فيه الإمبراطور الحرمات من أجل وجبات طعام مشتهاة، لا ولا أدركت أيام الهجرة التي رحل فيها اليمام عن المدن والقرى... إلا أنها اشتعلت حماسة ضد هذا الـ "يان – تسون" الظالم، الذي لا قلب إنسان له، ولا قلب طير أو وحش، وودّت لو أنها تستطيع أن تحجّ، مرة واحدة على الأقل، إلى مسقط رأس والديها، أو إلى حيث ألهبت السياط ظهر زوجها الحبيب، فتستروح عبير تلك الربوع الصابرة الصامدة.
وهكذا وجدت بدور نفسها، يوماً، وهي تقترح على زوجها أن يقوما معاً برحلة خاطفة إلى ضيعته الأثيرة.
سألها:
"ورصاص الإمبراطور، يا حبيبتي؟!"
- نتفاداه، بأن نحلّق في سفرنا عالياً جداً.
- وساعة نحطّ على وجه البسيطة؟
- نجعل وصولنا إلى الضيعة، ليلاً.
- يا لك، يا بدور، من طير شجاع، مع ما أعرفه من أن سفر الليل على الطير عسير. ما أسعدني بك زوجة باسلة!
- ولسوف أهدي أهل ضيعتك، إكراماً لابنهم البار بدر الزمان، بيضة، أضعها في شباك أقرب البيوت إلى حيث كان كوخك، الذي سواه مع الأرض رجال الإمبراطور الغلاظ، يا حبيبي!
17
بيضة تضعها بدور على حافة شباك، في كوخ تعيس هدية.. للذكرى!
قبل سفرهما، قام الزوجان، المناضلان، بتوديع الأهل والجيران والأصدقاء. بعض هؤلاء هنؤوهما على هذه الرحلة الجريئة، وعدُّوها عنوان وفاء للوطن الأم، وتمنّوا لو يفعلون هم ذلك في المستقبل القريب.
وما كتمت طيور أخرى مخاوفها:
"إن جوع يان - تسون، الشره، إلى لحم اليمام، يجعل رجاله المسلّحين في تمام اليقظة، حتى إن كانوا في دورياتهم الليلية!"
غادر بدر الزمان وبدور، غابة الصنوبر العظيمة، ساعة المغيب، متوجهين نحو الضيعة الحبيبة. كانت الشمس في الأفق لا تفتأ تتناقص، وكأنها تغوص في بحر. ذكر ذلك بدر الزمان بتلك اللحظات التي كان يفترش فيها العشب بجوار شجيرات عبّاد الشمس، في ليالي النصف القمرية، مترقّباً طلوع البدر من وراء الأكمة.. يا للأيام الراحلة!
جعل بدر الزمان يستهدي، في ظلام الليل، حاسّة الاتّجاه التي اكتسبها منذ أصبح طيراً! كانت رحلة ممتعة، مع طولها وما تخللها من المشقة والعناء. استنشقا، في طيرانهما، رائحة صنوبر، فعرفا أنهما يحلّقان فوق غابات يمام أخرى. واستشعرا أحياناً رطوبة وهما يجتازان أنهاراً.
في الهزيع الأخير من الليل، حطّا على فنن شجرة عتيقة، في طرف من الضيعة.
"هنا كان لي، في حين من الدّهر، كوخ وقنّ ودجاجات، يا حبيبتي! كنت أعمل في صمت وأكدّ بسعادة، قبل أن ينتهي فجأة كل شيء إلى الأبد! وهناك، في الساحة، قلت، في تلك الليلة، للسامرين: ألا ليت الإمبراطور يكفّ عن قهرنا ومصّ دمائنا!.. لست نادماً على كلمتي، يا بدور، بل إني أتمنى لو يعلن مثلها كل مواطن يعيش على هذه الأرض، كل كاره لحكم يان - تسون، لأرى كيف يمكن لسياطه أن تلهب ظهور الناس كلهم، ولسجونه أن تتّسع لاعتقال كل فرد من أفراد الشعب بملايينه!!
تأثرت بدور، وسالت دموعها على وجنتيها. ولم تذرف عينا بدر الزمان دمعة. كان حقده على الإمبراطور أقوى. آه، لو أنّ الدموع تنقلب إلى رصاص، رصاص صامت صائب قاتل محرق، إذن لتمنى أن ينقلب هو نفسه، هو كله، إلى دمع عين!
واختارت بدور شبّاكاً في كوخ من هذه الأكواخ التعيسة، ووضعت على حافته بيضتها.. هدية، للذكرى!
وعاد الزوجان المناضلان، في الهزيع الأخير من الليل، إلى غابتهما، بأمان.
18
في ما شاع بين اليمام من سفر إلى القرى والمدن ومن وضعه بيوضه في الشبابيك وما يجري على البيوض هناك، من تحوّل مدهش!
في الصباح، وقبل إخلادهما إلى الراحة، حدّث الزوجان، البدران، الأهل والجيران والأصدقاء، بما شاهدا من روعة مغيب الشمس في الأعالي، وما استروحا من عبير الصنوبر لدى تحليقهما فوق الغابات الأخرى.. ثم أفاضا في وصف تسللهما إلى فضاء الضيعة في غفلة من عيون الإمبراطور، ووقوفهما على أغصان تلك الشجرة العتيقة، قرب الموضع الذي كان فيه كوخ بدر الزمان وقنّه... وكيف أن بدور اختارت شبّاكاً في كوخ، لتضع هديتها!
أجج الحديث عن الوطن الأم عواطف الحنين في صدور جيل اليمام، الذي كان قد هاجر بنفسه نحو الغابات! وضع بيضة على حافة شبّاك كوخ، شبّاك منزل! آه، ما أحبّ هذا إلى النّفس! يا للذكريات البعيدة العزيزة!
لقد أوشكت صور البيوت، المدن، القرى، تندثر في ذاكرة الجيل الأول، المهاجر، على حين أنها صور مفتقدة في ذاكرة الجيل الذي اكتحلت عيناه بنور الغابات الصنوبرية.. ألا شكراً للوحوش الكاسرة والطيور الجارحة، على كريم استضافتها! ولكن اليمام، الوديع، بات يحنُّ إلى أن يبتني لنفسه أعشاشاً في أشجار يلفحها دفء الجدران!
منذ ذلك اليوم، انتشرت، في غابة الصنوبر العظيمة، ظاهرة تستلفت النظر: أن يتأهّب زوجان من اليمام، في هذه الدوحة أو تلك، استعداداً للحجّ إلى موطنهما الأصلي، متأسيين في ذلك بالزوجين الوفيين الجريئين. وهناك، تقدّم اليمامة هديتها، واضعة إياها على حافة شبّاك! وفي الصباح، يعود الزوجان سالمين.
على أن هؤلاء الحجاج، الذين بدأت أعدادهم في التزايد، أخذوا يعودون بقصة، تكررت روايتها، بدت أغرب من الخيال: البيوض، التي تضعها اليمائم في شبابيك البيوت، تنقلب.. بين أيدي الناس.. إلى قنابل يدوية!
في البداية، استغرب الناس، هناك، أن يقعوا على بيوض يمام في شبابيك بيوتهم! اليمام! لقد بات أسطورة، اليمام الذي هاجر، على بكرة أبيه، إلى الغابات البعيدة! وذلك -كما يعلمون جيداً- ما أرَّق الإمبراطور، الجائع إلى لحم اليمام الوديع، وجعله يشكو أمره إلى مجلس العدالة الإمبراطورية!
أجل، استغرب الناس أن يقعوا على بيوض اليمام! فلما تناولوها، وقلّبوها بأيديهم، راعهم أنّ تغيّراً عجيباً يطرأ عليها: تتحزّز البيضة طولاً وعرضاً، وينبثق شيء ما من أحد طرفيها!!
أبناؤهم، ممن سبق أن أدّوا خدمة العلم في جيوش الإمبراطور، أفادوا ببساطة متناهية أنها قنابل يدوية! ذلك هو الصاعق، إن انتزع بطرف الإصبع، انجذب الفتيل، فانفجرت القنبلة شظايا! إنها قنابل يدوية، هذه! ولكنها قنابل صغيرة جداً. ورشيقة جداً، وناصعة البياض!!
ولم يكن استغراب اليمام، في غابته البعيدة، بأقل منه عند الناس.
ولئن عمد الناس إلى إخفاء البيض - القنابل، في حرز حريز، بعيداً عن عيون الإمبراطور، فقد شجّعت حقيقة تحوّل البيوض إلى قنابل، التي شاعت بين اليمام في غابة الصنوبر العظيمة، على مواصلة الرحلات الليلة، والإكثار منها، ووضع مزيد من البيض في شبابيك بيوت الناس!
أطرف ما هنالك، أن بدر الزمان، ساعة أبلغه الجيران نبأ التحوّل الخطير، وهو في شرفة بيته يتشمّس، هرع إلى الداخل، ليوسع زوجته بدور قُبلاً، وهو يهتف بفرح طاغ:
"تحقّق الحلم العظيم! تحقّق الحلم العظيم!"
ثم ارتدّ إلى الشرفة وأخذ يرقص، على مرأى من أصحابه، وذلك بأن ينشر جناحيه على طولهما، ويصفّق بهما بصوت عال، ثم يرقّص رأسه الصغير، بمدّه إلى أسفل ورفعه إلى أعلى، وبعدئذ يدور على نفسه دورات لا عد لها.. وهو في ذلك يهدل:
"جاء يوم النصر! جاء يوم النصر! جاء يوم الانتصار!!"
19
"وكيف لا تصطادون لي منها يمامات، أنتفها بيدي، وأشويها على نار لينة، أيها الكسالى المتقاعسون؟!"
والإمبراطور؟!
ماذا عن الإمبراطور يان - تسون، المغرم بلحم اليمام المشوي؟
لمّا نقلوا إليه أنّ اليمام يظهر في الأجواء ليلاً، صرخ:
"وكيف لا تصطادون لي منها يمامات أنتفها بيدي، وأشويها على نار لينة، وآكلها، مستعيداً صحتي الغالية، أيها الكسالى المتقاعسون؟!"
فلما جاءته الأخبار بأنّ انفجارات ما، بات يُسمع دويُّها في البراري النائية من أنحاء إمبراطوريته، أُصيب بالذهول.
لقد شاء نفرٌ، من أولئك الذين تملّكوا هذه البيوض العجيبة، تجريبها: أهي قنبلة يدوية، حقاً، هذه الصغيرة جداً، الرشيقة جداً، الناصعة البياض؟!
والأخبار تتوارد إلى الإمبراطور:
"تلك انفجارات.. تحدثها قنابل.. أصلها... البيوض التي يضعها اليمام، المتسلل إلى سماء المدن والقرى!!"
- فاقتلوا اليمام حيثما وجدتموه! لا أريد، منذ اليوم، أن تحلّق يمامة واحدة في سماء إمبراطوريتي، أو أعلم أنّ اليمامات تضع بيوضها في أي مكان على ظهر الأرض!!
في اجتماع الخميس، وبعد أن مضى الإمبراطور يان - تسون محمولاً على محفّته في اتجاه مجلس العدالة الإمبراطورية، راح يخطب في رجالات حكمه:
"أريد أن أعلن أمامكم تنصلي من سابق محبتي للحم اليمام! في الواقع، كان لحماً دنساً، بعد ما ثبت أنّ اليمام خائن وعميل لأعدائي! إن اليمائم، القذرة، تضع بيوضها، خلسة، في شبابيك البيوت، فإذا هي قنابل!! أفي أيدي الناس قنابل؟! قبل لحظة، أصدرت أوامري بمراقبة شبابيك الإمبراطورية، ليل نهار، وملاحظة أبوابها، وجميع مداخلها، ومخارجها. أمرت بتفتيش البيوت بحثاً عن البيوض، ومطاردة اليمام في كل سماء.
فكلما شُوهدت يمامة، منذ اليوم، أمطرها جنودي، ببنادقهم الرشاشة، سبع رصاصات قاتلات! ومن أجل تنظيم هذه الأمور، فلتتداولوا، الآن، في إحداث هيئة رسمية تسمونها وزارة الشؤون اليمامية!"
صفّق المداهنون لهذا الكلام طويلاً!
ومن يومئذ، أخذ رجال الإمبراطور يداهمون البيوت، في وضح النهار وفي المساء، وسويعات الفجر، بحثاً عن بيوض اليمام المحرّمة. والمواطنون يحرصون على إخفائها... ولكن بالضرب والتعذيب، كان يضطرّ ضعاف الأجسام إلى الإقرار بالمخابئ التي حفروا وطمروها فيها.
وأعجب ما تناقله الناس:أنّ هذه القنابل، ما إن تُستخرج من مخابئها، وتلمسها أيدي رجال الإمبراطور، حتى تعود ... بيض يمام!!!
20
ويقدّر لبدر الزمان، المسكين، أن يشاهد بأمّ عينه الصدر الجميل، المبطّن بالزغب الأبيض، يتثقّب، وينشوي!
عرف اليمام، في غابة الصنوبر العظيمة، ما حل بشعب الإمبراطورية من جديد القمع والتنكيل... فما زاده ذلك إلا حرصاً على الإكثار من الزيارات الليلية، ووضع المزيد من البيوض: في الشبابيك، وعلى الأبواب، وأمام البيوت، وفوق سطوح المنازل!
البدران، يعملان بهمة منقطعة النظير. فبعد فاتحة العمل في الضيعة، أخذا يحجّان إلى المدن الأخرى، وإلى العاصمة.
ولكن إضافة هامة حقّقاها في نضالهما العظيم: لقد قاما بزيارات لغابات الصنوبر الأخرى، وأطلعا اليمام فيها على ما يحلّ بشعب الإمبراطورية من عذاب، وبيّنا ما يمكن لشعب اليمام، الذي هجَّره يان - تسون من دياره، أن يفعله الآن، وبشّرا اليمام بأنّ أيام الإمبراطور باتت معدودة.. فهبّ يمام الغابات، كلّ الغابات، مناصراً: يزور الناس تحت جنح الظلام، مقدّماً لهم أغلى الهدايا في أحلك الظروف!
ولكن اليمام، غادياً وعائداً، كان يمطر بالرصاص... فتسَّاقط أجساد منه إلى الأرض، مثقّبة وعارية، وأما الريش فتذروه الرياح!
ومع هذا التقتيل كله، كانت القنابل اليمامية تتكاثر باطّراد. فالإمبراطور جنّد وسائل الإعلام لحرب اليمام. كانت حرباً حقيقية، ضروساً، يصحو فيها الإمبراطور من نومه، في منتصف الليالي، صارخاً:
"يمامة! يمامة هناك ! أمطروها بسبع رصاصات، بسبعين... اصرعوها في الحال!!"
ثم يعود إلى الاستلقاء في سريره، فلا يغمض له جفن.
بدر الزمان، في إثارته المشاعر وتجييشه النفوس في كل مكان، يغمغم بينه وبين نفسه، متخوّفاً: حسن! الفرصة أمست مواتية لكم، أيها الناس! قد توافر في أيديكم السلاح، وأنتم مجمعون على كراهية الإمبراطور، فماذا تنتظرون؟!.. صارفاً بأسنانه من غيظ!
في الغابات، على أفنان الشجر، أصبح مألوفاً أن يتقبّل اليمام، بعضه من بعض، التعازي في مصرع أب أو أم، زوج أو زوجة، ابن أو بنت.. ويكون بين المعزّين، دائماً، جوارح وكواسر!!
ما وقع للبدرين، أنهما، لدى مغادرتهما العاصمة فجر يوم، وبينا هما يشرعان في التحليق عالياً جنباً إلى جنب، أمطرهما العدو بوابل من رصاص!
أخطؤوا بدر الزمان. ولكنّ المسكين شاهد، بأم عينه، بدوره الحبيبة تتخلّف عنه، ثم تهوي من عل: الصدر الجميل، المبطّن بالزغب الأبيض، تثقّب، وانشوى الجسد، وهو في الجو، في لمح البصر.. والريش تناثر، وحملته الريح في كل مكان!
21
في ما ألمّ ببدر الزمان من أوجاع، وما قالته له الأخيّة من أن بيضة من نوع غريب تتكوّن في أحشائه.
وقف بدر الزمان في شرفة بيته، يستقبل المعزّين.
جاء اليمام، وطيور الغابة ووحوشها. وأقبل، أيضاً، يمام من الغابات الأخرى. حاز بدر الزمان، بنضاله، زعامة شعبية بين يمام الغابات كلها، مثلما كان قد حاز نظيراً لها بين سكان الإمبراطورية. وليس يهمه من الزعامة إلا سقوط يان - تسون الظالم، ليحلّ محله حاكم يمثل الشعب، فيتمتّع الناس جميعاً، في ظل قيادته الحكيمة، بالحرية والكرامة، ويعود لليمام الوديع الأمان والعيش قريباً من الجدران.
تمنّى بدر الزمان لو أنّ وابل الرصاص كان أصابه هو بدلاً من الحبيبة بدور، أو لو أنهما سقطا شهيدين معاً. أما وأنه ظلّ على قيد الحياة، فليتابع مسيرة النضال ولكن أوجاعاً ما، ألمّت به، بعد انصراف المعزّين. كانت أوجاعاً في الأحشاء، شديدة، اضطرّ معها إلى ملازمة عشّه وحيداً.
في اليوم التالي، تحامل على نفسه، وخرج إلى الشرفة، ليرصد طلوع القمر البدر.. وأخذ يناجي:
"آه، يا حبيبتي! لم يمهلنا القدر أن نحيا معاً إلا شهراً ناقصاً، سبعة وعشرين يوماً، كانت فيها راية الحب ترفرف على باب عشنا وتخفق في داخل القلب".
وظهرت له أخيّته بشيرة، يمامة كرة أخرى.
- عمت مساءً، يا طيّب.
- عمت مساءً، يا أخيّة.
- حزيناً أراك.
- وكيف لا أكون حزيناً، وحزيناً جداً، وقد فقدت بدور، التي كان زواجي منها على يديك أنت، يا أخيتي الحبيبة. آه، ما كان أطيبها! سقطت شهيدة في سماء العاصمة، أمام عيني هاتين، وهي تؤدي لشعبي عوناً مقدساً. إني أحس، الآن، وجعاً في أحشائي لا يحتمل. أنت تأتينني دائماً في الساعات العصيبة، يا أختاه. انظري إلى هذا الانتفاخ في بطني!
عاينته بشيرة بطناً لظهر. نظرت في عينه ومنقاره. جسّت نبضه.. وأخيراً تبسّمت:
"مبروك، يا بدر الزمان!"
رغم أحزانه وأوجاعه، حمل نفسه على الابتسام:
"لعلك تريدين أن تقولي إني.. حامل!!"
- هذا هو ما أردت أن أبشّرك به، يا طيّب! ألم تسمع ب "بيضة الديك"؟
- ومن منا لم يسمع بهذه الخرافة؟ تحدّثت بها وأصدقائي كثيراً، يوم كنت صغيراً بين البشر!
- إن بيضة تتكوّن، في أحشائك، يا طيّب، أنت من كنت بشراً فتحولت إلى طير يمام! وإنها لبيضة من نوع غريب، كما تحسستها بيدي، لم تعرف اليمام لها مثيلاً!
- أهي .. محزّزة؟
- وكبيرة!
- في حجم بيضة دجاج، طاووس، نعامة، يا أخيتي؟
- إنها.. أشبه بصاروخ!
- صاروخ! صاروخ!! هل سمعتك تلفظين كلمة: صاروخ، يا بشيرة؟!
- في بطنك يتكوّن، الآن، صاروخ، يا بدر الزمان!!
- ينفجر، يقتل يبيد؟!
- أجل، إن أحكمت التسديد!
- أحكمه! ومتى تكون الولادة، أو الانطلاق، أو "الطلق"، يا أخيتي؟
- غداً.
- غداً! غداً!! حددي لي "ساعة الصفر" من فضلك؟
- ستكون في الضحى، عند الساعة العاشرة، أو بعيد ذلك بدقائق.
غمغم بدر الزمان بينه وبين نفسه: في هذه الساعة، من يوم غد الخميس، يكون موكب الإمبراطور في طريقه من القصر العامر إلى مجلس العدالة الإمبراطورية. كم بشّرتني أخيتي بأن نهاية يان - تسون ستكون على يدي، وأنا أشك في ما تقول!
22
وفي أسرع من لمح البصر
استدار بدر الزمان، وهو في الجو، مسدداً إلى حيث الطاغية يان - تسون
انطلق الموكب من القصر العام.
في المقدمة، سيارات مكدّسة بالجنود. وبعدها قارعو الطبول ونافخو الزمور. ثم العربات التي تجرّها الخيول المطهّمة.
ويخرج الإمبراطور العظيم، متربّعاً فوق محفّته، المذهّبة، التي حملها أربعة رجال أشداء.
لم يعد يان - تسون السمين المترهّل. هل أضنته حرب اليمام الصغير؟
الناس، المحتجزون على جوانب الطرقات، يصفّقون للإمبراطور العابر في فتور. وهو لا يلوّح لهم بيده. كان مشدود البصر إلى السماء، وكأنه يبحث في أرجائها عن ضالة. هل بقي، في عينيه الكليلتين، نور؟
وبدر الزمان الذي غادر غابته في الصباح الباكر، كان يتابع سفره. يحسّ، وهو في طيرانه السريع.، أن البيضة، أن الصاروخ، يوشك أن.. ينطلق!
في فضاء العاصمة، المقفر من جميع أنواع الطيور، لاحت، عن بعد، يمامة مقبلة. من عجب، أنّ أحداً لم يلمحها، إلا الإمبراطور.. الذي أطلق صرخة، عالية جداً، وهو يشير نحوها بكلتا يديه:
"يمامة! يمامة عابرة، هناك! أمطروها بسبع رصاصات، سبعين، سبعمئة.. أصرعوها حالاً!"
بدر الزمان، القادم من بعيد، كان يعرف كم هي صعبة مهمته ودقيقة، و.. انتحارية. وفي أسرع من لمح البصر، استدار، متخذاً بعناية الوضع المحكم، ومسدداً إلى حيث الطاغية يان - تسون.
ولحظة انطلق الصاروخ في اتّجاه العرش المحمول، وانفجر، محدثاً دويّاً هائلاً، وممزّقاً الإمبراطور، وكثيراً من أفراد حاشيته وفي مقدّمتهم المطبّلون والمزمّرون.. في هذه اللحظة عينها، كانت سبع رصاصات، سبعون، قد استقرّت في صدر طير اليمام.. وسبعمئة رصاصة، سبعة آلاف، قد ارتشقت حوله.
الجسد الصغير، تثقّب، تطاير مزقاً.. انشوت المزق، احترقت كلها.. واحترق الريش كله، حتى لم تبق ريشة واحدة تذروها الرياح.
الخاتمة
تمثال لبدر الزمان.. وتمثال آخر
23
فمن كان مغرّراً به، من أتباع الإمبراطور الظالم، تم العفو عنه بعد التوبة النصوح، ومن كان ضالعاً، نال جزاءه في محاكمة عادلة.
لم تدمع على الإمبراطور عين.
حقيقة ما وقع أنّ الشعب، الذي وحّده طغيان الإمبراطور، قام قومة الرجل الواحد. هبَّ شبّانه يهاجمون أتباع الإمبراطور الظالمين، يمطرونهم بوابل من تلك القنابل، الصغيرة جداً والرشيقة جداً والناصعة البياض، التي كثر ما جنوه منها، من الشبابيك، وعلى الأبواب، وفوق السطوح، وما يجمعه الأولاد في تسلقهم الأشجار القريبة من الجدران، أو يعثرون عليه في الطرقات، وفي كل مكان.
إلا أن أولئك الأتباع، بدوا، أمام الثورة، أضعف من أن يقاوموا، أو يدافعوا، أو يصمدوا. لقد انهاروا، دفعة واحدة، مستسلمين، مبدين رغبتهم في الانضمام إلى الشعب ليناضلوا في صفوفه، مكفّرين عن ذنوبهم: ما تقدّم منها وما تأخّر!
ولكن.. يناضلون ضد من؟
كان كل شيء قد انتهى.
والشعب الطيّب، الذي وثّق الليل الحالك عرى المحبة بين أبنائه، نظر، بعين العدل، في أمر رجال الإمبراطور السابق، حاشيته، عيونه، أصابعه، مخالبه، ألسنته: فمن كان منهم مغرراً به تمّ العفو عنه بعد التوبة النصوح، ومن كان ضالعاً في الظلم والفساد نال جزاءه في محاكمة عادلة.
وانتخب الشعب، من بين أبنائه البررة، حاكماً كفئاً، يحسّ بالآلام، يقضي بالعدل، يحبّ، يرحم، يعفو، يفكّر، يتدبّر.
ومع ذلك، ظلّت عين الشعب ساهرة، لا تنام.
24
وأقيم لبدر الزمان، في ضيعته، تمثال نُصِبَ حيث عبّر عن تمنّيه، وحيث جُلِدَ..
وبدر الزمان؟
في الفرح القومي الذي عمّ البلاد، لم ينس الناس ذلك الشاب الطيب، مربّي الدجاج الفقير، الذي كان قد أعلن، مساء يوم، أمام أهل ضيعته، تمنيه ذاك: "ألا ليت إمبراطورنا يكفّ عن قهرنا ومصّ دمائنا!" فألهبت السياط ظهره، وألقي به في قعر سجن.
سأل أهل ضيعته:
"وأين بدر الزمان؟"
أجاب السجّانون، الذين لم يعودوا سجّانين في ظل العهد الجديد، وتحوّلوا إلى طيبين:
"فتحنا باب الزنزانة، يوماً، فما وجدناه! ووجدنا مداسه وأسماله، وخبزاً يابساً، وإداماً قد تسرّب إليه الفساد!"
وأقيم لبدر الزمان تمثال، نصب في ساحة ضيعته، حيث عبّر عن تمنّيه، وحيث جلد.
25
... وتمثال آخر في العاصمة لطير اليمام، ذاك الذي أطلق صاروخه المحكم وفي جواره تمثال لليمامة الزوجة.
واليمام؟
هل ينسى الناس دور اليمام، الذي أطار صواب يان - تسون، بما دأب عليه من تزويد الشعب بتلك القنابل؟ اليمام الوديع، الذي استطاب الإمبراطور الزائل شيَّ لحمه على نار فحم لينة، جاعلاً منه وجبته الشهية التي طالما اعتقد أنها تطيل عمره؟
لقد عاد اليمام المهاجر إلى مواطنه الأولى، ليبني أعشاشه حيث يحلو له، آمناً أن يهدل، وقت يشاء، هديله الحنون الخالد: كوكو ككوكو..... وقد كفّ بيضه عن أن ينقلب إلى قنابل، بل راح يفرّخ صغاراً تترعرع في ظل شعب يعرف حرمة اليمام، ويمدّ إليه يداً... تحتفن الحبَّ والحُبّ.
ولطير اليمام ذاك، الذي أطلق صاروخه المحكم، ثم انمحى كل أثر له حتى الريش، أقاموا تمثالاً مكبّراً عشرات المرات، وتمثالاً مثله ليمام أنثى عدُّوها زوجته، ونصبوا التمثالين في الساحة الكبرى من العاصمة، حيث كان المواطنون يُجْلَدُون، وحيث تمّ القضاء على يان - تسون، الذي كان، في حين ما، إمبراطوراً.
واليوم، تحطّ طيور اليمام، بأمان، على هذين التمثالين، متنقلة بين الرأس والأجنحة والذيل، وهي تعرف أنهما يرمزان، أكثر ما يرمزان، إلى زعيمي اليمام الراحلين: "بدر الزمان"، وزوجته "بدور".
وأما من يمرّ بهما من الناس، فإنه لا يخطر في بالهم أنهم قد كرّموا مواطنهم، مربّي الدجاج الجريء، مرتين: مرة حين نصبوا تمثالاً له في ضيعته، والأخرى حين أقاموا هذا التمثال.
وأنّى لهم أن يعلموا؟
النهايـــــة