ميج وميراج 3
ميج وميراج
د. خالد الأحمد
3
لعل أعظم ما يشد السائح العربي في باريس سهولة المواصلات الداخلية ، حتى أن استخدام (مترو) الأنفاق أفضل من السيارة الخاصة بكثير ، وأوفر في الوقت والجهد ، وكلما جلس شحاتة عبد العظيم في ( مترو) الأنفاق يتذكر اختناقات السير في القاهرة عامة ، وقرب القصر العيني خاصة ، الذي يستغرق عبوره ساعة كاملة لبضع كيلومترات ... ، وعلى الرغم من تعلّق المصريِّ بتراب وطنه، فقد ألف (شحاتة عبد العظيم) باريز وأحبها، ومن شدة تعلقه بها كان يحلم لو تُنقَلُ شوارِعُها وأنفاقُها إلى القاهرة، وكان يتلذذ بمترو الأنفاق في أحلام اليقظة يعبُر شارعَ القصر العيني في ثلاث دقائق فقط، وأكثر من مرة انقطع شريط أحلامه عندما يشدّ انتباهَهُ بشكلٍ قسري رجلٌ وامرأةٌ على بُعدِ قدمٍ واحد منه،يتعاشران في هدوء ، فيعود إلى اليقظة ويقول لنفسه:
- عندما نأخذ المترو لن نأخذ معه هؤلاء وأمثالهم .
وصل إلى حدائق برج إيفل الغناء، وترجّل ماشياً على ممرّاتها النظيفة بين مروجها الخضراء حيث تناثر الصِّبيةُ فوقَها كفراشات الربيع الملوّنة، تتطاير من زهرة إلى زهرة، وفي الثانية بعد الظهر كان في كازينو إيفل يتناول طعام الغداء بدعوة من (آرام نوير)، كانت باريز تمتد أمام ناظريه إلى ما لا نهاية، تتطاول أشجارها حتى تكاد أن تغطي بعضَ عماراتها، وقد تقاسم اللونُ الأخضرُ مع الأبيض مساحةً كبيرة من الأرض يتوسطها نهرُ السين الغزير، تطفو على سطحه قطارات النقل المائي وقوارب النـزهة، وتمرّ نسمات باردة تشحن الذهن وتفتح النفس على الحياة ونعيمها والتمتّع بخيراتها العاجلة قبل فواتها.
بالغ (آرام نوير) في إعداد وجبة الطعام، فتنافست فيها الأصناف الأوربية مع العربية، بينما تصدّرت الأطعمةُ التركية الأماكنَ الأساسية في المائدة، وتناثر الصنوبر والجوز واللوز المحمّر بالسّمن ذي الرائحة الزكية فتفتّحت كلُّ دوافع الحياة والشَّهْوة عند (شحاتة عبد العظيم)، أما (آرام) فكان يُكرّر الترحاب بضيفه العزيز ويكرر الاعتذارَ المرّة بعد المرة، فإنه لم يُحضِر شيئاً من واجبك يا سعادة الجنرال، وكان ينتبه إلى الانفعالات الموجبة في قسمات وجهه، المعبّرة عن رضاه وعن شعوره بالسعادة، وقد هيأ له صديقُه الجديد كلَّ متطلباتها في نظره وقيمه، وهي الماءُ والخُضرة والـ...
- إنها مائدة رائعة يا عزيزي (آرام) !
- لم يحضر شيء من واجبكم سيدي الجنرال.
- إن مشاعر المكان يا عزيزي (آرام) تحثّني أن أستأذن منك بشرب بعض الكؤوس.
- آه.. معذرةً وألف معذرة يا سيدي الجنرال.
ثم صفّق بكفيه فحضر الجرسون.
- هات مشروبات للجنرال.
فاتّجه الجرسون نحوَ (شحاتة عبد العظيم)، وانحنى حتى كادت أن تصل هامته إلى الأرض، ثم قال:
- ماذا أمر سيدي الجنرال ؟
- زجاجة ويسكي واحدة وقطع ثلج.
- حاضر سيدي الجنرال.
- هات اثنتين لي أيضاً . قال (آرام).
- حاضر مسيو.
- هل تستطيع أن تشرب اثنتين يا (آرام) ؟ . قال (مدكور).
- الثالثة احتياطي عام لك ولي.
واندفعا ضاحِكَين والطعام يتطاير من فميهما، فيسرع (آرام) إلى مناديل الورق يمسح بها أكمامَ الجنرال.
- بصحة سيدي الجنرال . ويرفع (آرام) الكأس.
- لم أُصبِحْ جنرالاً بعد.
- أنت عندي جنرال.
- كان ذلك ممكناً لو أنهم تركوني في القوات المسلّحة.
- ولماذا لا تعود إليها ؟
- ذاك شأنهم في القاهرة.
بعد أن شرب ( العقيد شحاتة) الكأس الرابعة، بدأت نظراتُهُ تبحثُ في زوايا الكازينو، حيث تجلسُ بعضُ الفاتنات وقد عَرَضْنَ أَكداساً من اللحم الأبيض لَفَّهُ معطفٌ قصيرٌ من فرو النمور، وتدلّى عقدٌ من الذهب فوق صدر عارٍ أحاطت به قطيفةٌ سوداء رُصِّعَتْ بقطع الماس تعكس الأضواءَ إلى الألوان المتعددة في وَجْهٍ عَلَتْهُ غابةٌ صغيرةٌ من الشَّعر الذي صُفِّفَ عالياً مثل (نفرتيتي ) فصار كسنام البُخْت، كانت إحداهُنَّ تُداعِبُ سيجارةَ الكنت بأصابع طالتْ أظافرُها الحمراء، وتسرق النظرات إلى الجنرال.
- إنها لَجَمِيلةٌ حقاً !
- مَن ؟
- التي تنظر إليك، إنّ شكلَكَ يُنبِئُ بأنك جنرال فعلاً.
انتفشَ رِيشُ (شحاتة عبد العظيم) وزاف دماغُه، فقال:
- وما قيمةُ هذه النظرات ؟
- يبدو أن حُبَّكَ للطائرات لم يترُكْ في قلبك زاويةً لَهُنّ.
- لكنَّ هذه أقوى من (الميج).
- إذاً هي (ميراج).
وساد الضَّحِكُ والشراب.
- هل أنت عازبٌ يا عزيزي (آرام) ؟
- أحياناً.
ضحك (شحاتة عبد العظيم)، وقال:
- لم أفهم.
- وأنت يا سيدي الجنرال ؟
- أنا عندي زوجةٌ في القاهرة.
- يعني أنت عازب أحياناً أيضاً ؟
- ما هو سِرُّك يا عزيزي (آرام) ؟
- المال .. المال وتجارة السلاح التي تُوَفِّر الملايين، وبها أشتري أيَّ شيء، حتى ذلك اللحمَ الأبيض، وما صاحبتُ أحداً إلاَّ وشاركْتُهُ في لَذَّاتي، فَاللَذَّةُ تَقْوَى كُلَّما كانت أكثرَ شُمولاً ودواماً، كما يقول الفيلسوف (بنتام).
انضمَّتْ فاتنةٌ أُخرى إلى الأولى، ثم صَحِبَتْها إلى مائدتِهما.
- هل تسمحا لنا بالجلوس ؟
- على الرَّحْب والسَّعة.
- أنا (سُوزي) وزميلتي (سوزا).
- وأنا (آرام) وزميلي (شحاتة).
- غريب .. ما هذا التجانُسُ في الأسماء ؟
- لا غرابة .. إن الطيور على أشكالها تقع.
وساد الضحك واندمج (شحاتة) معهم فقال:
- لا تنسَوْا أن هذا مَثَلٌ عَرَبي.
- العربُ أذكياء . قالت (سوزي).
- وهل العجم أغبياء ؟ قال (آرام).
- لا تغار يا عزيزي (آرام).
وانفجر الأربعةُ ضاحكين .
* * *
قبل المغيب ذهب (شحاتة) مع (سوزي)، و(آرام) مع (سوزا) في سيارتين إلى وِجهتين مختلفتين، وفي طريقه إلى شيراتون كان (آرام) معجباً جداً بالنصر العظيم الذي حققه، فبعد قليل تلتقط الكاميرا صوراً عارية لشحاتة وهو في حالة هيجان ثوري، بعد أن أوكل به أذكى يهوديات باريز، إنها (سوزي) التي عَرَفَها في يافا قبل أكثر من عشر سنوات عندما بهره جمالُها، ثم غطَّى ذكاؤها ما عندها من جمال، كما أعجبه تمسكُها بِصِهْيَونِيَّتِها، وتذكَّر كيف قَدَّمها إلى (فيشل) مدير الموساد الذي لامه يومَها على سكوته على هذا الكنـز وعدم إفادة شعب إسرائيل منه، وعندما قال لفيشل:
- إني أُحِبُّها يا سيدي، وسأتزوّجها.
- هل تحبُّها أكثرَ من أرض الميعاد ؟
- لا .
- إذاً يجب أن تُجَنَّدَ في الموساد.
ومن ذلك اليوم أصبحتْ (سوزي) رفيقةَ عمل، بل يداً طويلةً لآرام يُمسك بها صَيدَهُ الثمين، وَتَحَوَّلَتِ الحبيـبةُ إلى أداة.
مَرَّتْ أَسابيعُ غيرُ قليلة، وبعض الشحنات تَصِلُ إلى الثوّار الجزائريين، وبعضها يقع في يد السلطات الفرنسية، وكأنها تدري بخطّ سيره زماناً ومكاناً، حتى انكشف أمر (آرام نوير)، مهرِّب السلاح للثورة الجزائرية، فَغَضِبَتِ السلطات الفرنسية ، وَوَجَّهَتْ له إنذاراً لِمُغادَرَةِ البلاد خلال ثمانٍ وأربعين ساعة فقط.
لم يرتبك (آرام)، بل فرح لأن المرحلة الثالثة من مهمته قد اقتربت، وإنْ لَبِسَ ثَوبَ القلق والحيرة عندما أخبر صديقَه (شحاتة) بذلك، الذي حَضَرَ على الفور.
- أرجو ألا تكون قَلِقاً يا عزيزي (آرام) .
- كيف لا أقلق، وأنا أبحث عن مأوى، ظَنَنتُ أنني في بلد الحرية باريز، حيث يُحتَرَمُ الإنسانُ، وَتُصانُ حُقوقُه.
- لا داعي للقلق، لقد أبرقْتُ إلى القاهرة قبل ساعة، وسوف يأتيني الجوابُ حالاً.
- لكن كيف أعيش في ظِلِّ حُكمٍ عسكري ؟
- أنتَ مُناضِلٌ تَقَدُّمي يا عزيزي، وبلدنا لكلِّ التقدميين، هل نَسِيتَ أنك طُرِدتَ من باريز لأنك تُساعِدُ الثورةَ الجزائرية ؟
- لكن هل يستطيع مثلي أن يَعِيشَ في القاهرة ؟
- القاهرة الآن من كبريات العواصم العالمية المتقدمة، ولن ينقص عليك شيءٌ سِوَى (سوزي)، سَتَبقَى لي.
* * *
قبل ثمان وأربعين ساعة وَافَقَ (آرام) على مَضَض، وفي يوم 22 نوفمبر 1954م وصل مطارَ القاهرة؛ لِيَجِدَ مُوَظَّفاً من وزارة الدفاع يستقبله بالمطار وَيُرَحِّبُ به ضيفاً على وزارة الدفاع، ثم رافَقَهُ حتى فندق شيراتون الذي ارتفع عالياً على ضفة النيل الغربية وسط حدائق غَنَّاء تُحيط به الساحات والشوارع العريضة.
- ما أجملَ القاهرة، إنها تُضَاهي باريز فعلاً . قال (آرام).
- هذه مِصرُ، أُمُّ الدنيا، حَضارةُ سبعة آلاف سنة، تُرَحِّبُ بكم يا سيدي .. ثم اسمحْ لي بالانصراف لتأخُذَ قسطاً من الراحة.
* * *
بعد أنْ أغلق بابَ شقته جيداً، أَسرَعَ إلى حقائبه يبحث فيها عن قطع جهاز اللاسلكي، فجمعها وركَّب الجهاز، ثم ضَحِكَ عندما تَذَكَّر كَيفَ حَمَلَ مُوَظَّفُ الجمارك أمتعته، ولم يسمح لأحدٍ أن يفتَحَها، وهو يقول لنفسه:
- ها قد وصلتَ القاهرةَ يا (باروخ)، وغداً تلزمك شقةٌ في أرقى أحياء مصر.
عندما عاد إليه مُوَظَّفُ وزارة الدفاع طَلَبَ منه (آرام) البحثَ عن فيللا في مكان من أرقى أحياء القاهرة، فعثر عليها في (هيلو بوليس)، حيث بقايا الإقطاع، والبرجوازيون أصبحوا قِلَّةً أمام الفراعنة الجُدُد، رجال الثورة والحزب الواحد والمخابرات، الذين انهال عليهم الثراءُ بشكلٍ مُفاجِئٍ من أموال الشعب وأقواته ، وصاروا يتسابقون إلى امتلاك الفلل وسيارات المرسيدس السوداء .
كانت الفيللا واسِعَةً جداً، تحوي أربع حجرات، وصالةً كبيرة للاحتفالات، وحديقة غناء يجلس على بابها رجل صعيدي يقوم بالحراسة، وتدخل إليها خادِمَةٌ تنظِّفُها مَرَّةً كُلَّ يوم، أَغدقَ عليهما (آرام) الهبات والعطايا، فَأَحَبَّاهُ من أعماقِ قلبيهما، وَتفانيا في خدمته والسَّهَر على راحته ، كعادة الشعب المصري الطيب.