الوحش الكاسر الذي حاول اغتصاب تلميذة ما هو إلا نموذج لآلاف من أمثاله من المنحرفين الذين يعيثون في المجتمع فسادا بكل أشكاله

خيّل إلي وأنا أشاهد فيدو الوحش الكاسر الذي أراد اغتصاب تلميذة بائسة تعكس هيئتها بؤسها ، وبؤس وسطها الأسروي في واضحة النهار وأمام الأنظار في مكان عمومي أنني أشاهد شريطا من الأشرطة التي تقدمها القناة الخاصة بعالم الحيوان حين يفترس القوي الضعيف بوحشية لا رحمة فيها ، ولا يبالي المفترس منها بالضحية وهي تئن بين مخالبه وأنيابه . وكثيرا ما أشعر بغبن كبير وأنا أتابع افتراس الحيوانات الكاسرة للحيوانات الضعيفة ، وأتمنى لو كنت قريبا بسلاح لأخلص الضحايا منها شفقة عليها من لحظات عصيبة تمر بها . ولم أتوقع يوما أن يبلغ شعوري بالغبن ما بلغه ساعة شاهدت فيديو الآدمي الكاسر وهو يفترس فتاة  بائسة ،وهي تستغيث ولا مغيث ، وتتوسل إليه توسل المقهورة ، وتذكره بأخته عسى أن يستحضر صورتها ساعة فعله الشنيع، لكنه لم يرحم توسلها بل ذهب في اعتدائه عليها أقصى ما يستطيع حتى لطف الله عز وجل بها، فانصرف عنها مذموما مخذولا فاقدا إنسانيته ، ورجولته ، وكل ما  يمكن أن يوصف به الآدمي مما يميزه عن الحيوانات . ولقد كان مصوره وموثق فعله الشنيع في منتهى  الخسة وهو يشاركه في وحشيته  بالتصوير والتوثيق ، ويتلذذ بالضحية وهي تستغيث وتستجير فلا يغيث ولا يجير  . وكم  كنت أكره الذين يصورون افتراس الحيوانات الضارية للغزلان والبقر الوحشي ، وهم يرتزقون على حساب حياتها ، وأقول في نفسي لماذا لا يطلقون رصاصة  واحدة في الهواء تخلص الضحية ، وتطرد من يفترسها . ولقد كرهت أشد الكراهية الوغد الذي كان يصور فعل صاحبه الشنيع ، ولم يستحضر صورة شقيقته هو الآخر ليرق قلبه للضحية ، ويتدخل ليفكها من تحت وغد مثله .

هذه النازلة قيل عنها الكثير ، وأثرت بالغ الأثر في قلوب أمة بأكملها ، وأحدثت ألما كبيرا في القلوب الرحيمة ، والحقيقة أن هذا الوحش الكاسر ما هو في الحقيقة إلا نموذج لآلاف أمثاله ممن لم يلتحقوا بالمدارس أصلا أو فشلوا في دراستهم في ظل منظومة خربة لا توفر لهم تعلما ولا تربية ، وإن كانت لا تتحمل وحدها فشلهم بل تتحمل أسرهم أيضا قسطها  الوافر من هذا الفشل ، وفي ظل انسداد الآفاق ، وتفشي البطالة ، واستفحال الفقر والفاقة  المذقعين ، وفي ظل شيوع السلوكات المنحرفة تعاطيا للمسكرات والمخدرات والمهلوسات ، وتواصلا بخطاب البذاءة وقلة الأدب  ، وتحرشا ، واعتراضا للسابلة ، وسطوا على ما في أيديها، وإشهارا للأسلحة البيضاء بكل الأحجام بما فيها السيوف التي عادت من جديد بعد العهود الغابرة ...إلى غير ذلك مما طرأ على مجتمعنا من مظاهر وراءها آلاف من أمثال الوحش الكاسر الجياع جنسيا، وسكرا، وتخديرا، وهلوسة... إنها عصابات إجرامية  تشن حربا ضارية  لا هوادة فيها على المجتمع  برمته . ولقد طفح كيلهم في أغلب مدن البلاد ، وصار شغل الصحافة الورقية والرقمية الشاغل  هو تناقل أخبار جرائمهم حتى صار تتبعها هواية كثير من الناس، يتناقلون أخبارها كأنها بطولات وليس آفات . ولقد صارت هذه الأخبار تعلم الشباب الطائش ما لم يكن يعلم من جرم واعتداء ، وتصف له كيفيات وأدوات الاعتداء، الشيء الذي جعل الجرائم تبلغ مدى غير مسبوق من الشناعة  التي لا عهد لنا بها .

ويشترك أمثال الوحش الكاسر في مسار شبه موحد حيث  يحرم الواحد منهم من ولوج مؤسسة تربوية  أصلا ، أو يلتحق بها ، وتكون ظروف الالتحاق بها  في منتهى القسوة  بالبوادي النائية أو بالأحياء الهامشية التي تعاني ساكنتها الفاقة والفقر المذقعين  ، فينصرف عن الدراسة  وقد تعثر فيها ، ويغادر المؤسسة التربوية الابتدائية أو الإعدادية وهو يتجرع مرارة الفشل ، وقد ركبته عقدة الشعور بالنقص أمام أمثاله ، يغادرها وهو يضمر لها ولمن فيها الحقد الأسود الذي يزداد قتامة في قلبه مع مرور الزمن . ولا ترحمه مراهقته ، وقد تفجرت غريزته الجنسية ، وقل رصيده من التعلم  والوعي بحاله ، ولم يجد من يصاحبه مصاحبة المرشد الناصح  في أشد لحظات العمر صعوبة ، ويحتضنه من سبقه في الفشل والشعور بالإحباط  والضياع ، ويميل إلى رفقة السوء ، فيتلقى دروسه الأولى في الانحراف والعربدة ،وهي أسهل عنده من الدروس التي كان يتلقاها في المؤسسات التربوية ، والتي لم يخرج منها بطائل بل خرج  منها برصيد ضحل من المعلومات المغلوطة  ، وبتمثلات  لا علاقة لها بالواقع والحقيقة . وتستهويه مغامرات من سبقوه في الانحراف ، فيرى فيهم القدوة والإسوة ، ويرى انحرافهم بطولات ،وقد ينتهي به المشوار إلى السجن حيث يستكمل تكوينه الإجرامي حين يحتك بالمحترفين من المجرمين  الضالعين في الإجرام ،وهو غر سهل التأثر بإجرامهم ، وقد يولد في نفسه اعتداؤهم  الجنسي عليه عقدة الانتقام لكرامته المهدورة إذا غادر السجن ، فيجد ضالته في ضحية برئية كالتلميذة البائسة ضحية الوحش الكاسر .

وإذا ما كان المجتمع يريد  فعلا محاربة مثل هذا الفعل الشنيع الذي استهدف تلميذة بائسة  تقاوم الجهل والأمية لتتخلص من واقع البؤس في وسط هش ،فلا يكفيه أن يدين هذا الفعل ، ويستنكره ، ويعبر عن امتعاضه منه ، ويحوقل ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد بل لا بد من التفكير في استئصال شأفة أمثال  هذا الوحش الكاسر وهم كثر ، وفي ازدياد يوما بعد يوم . فعلى الجهات المسؤولة أن تبادر بإيجاد حل لمعضلتهم من خلال مراجعة جادة للمنظومة التربوية الفاشلة ، والمسؤولة مسؤولية مباشرة عن انتشار جيوش من أمثال الوحش الكاسر في البوادي والحواضر على حد سواء، ومعالجة معضلة انسداد الآفاق ، واستفحال البطالة ، ومواجهة ظاهرة انتشار المسكرات والمخدرات والمهلوسات ، ومراجعة أساليب معالجة  الإصلاحيات لمن يحلون بها  من نزلاء ، ومراجعة النصوص القانونية الخاصة بالجنح والإجرام . وإلى جانب هذا لا بد أن تتحمل الأسر التي ينحدر منها أمثال هذا الوحش الكاسر مسؤولية تربيهم ،لأنها إن لم تفعل تكون هي المعتدية على غيرها من الأسرة التي يقع أفرادها ضحايا أبنائها الذين دفعتهم إلى المجتمع دون تربية سوية  . وإلى جانب هذا لا بد للمؤسسات الدينية أن تقوم بدورها في استقطاب هؤلاء ، وإعادة تربيتهم وفق قيم الإسلام المفقودة في أسرهم أو المتهاون في شأنها .

 وعلى المسؤولين على حفظ الأمن أن يراجعوا أساليب ممارسة عملهم ، وأن يمنع  وجودهم و حضورهم المستمر والدائم  في البوادي والحواضر  على حد سواء كل محاولة للاعتداء ، شريطة أن تعطى لهم الصلاحيات التي تمكنهم من ممارسة مهامهم دون انتقاد المنتقدين الذين ينعقون بحقوق الإنسان التي لا يمكن المطالبة بها لفائدة المجرمين.

 وأخيرا على المجتمع ألا يتساهل مع عربدة  واعتداء هؤلاء الجانحين في الأماكن العامة ، وأن يهب الجميع لنجدة الضحايا ساعة وقوع الاعتداء عليهم بشهامة  ، وألا يتقاعس أحد في ذلك لأنها مسؤولية الجميع ، وتركها إنما يشجع المعتدين على العدوان ، و على الإخلال بالأمن العام ، وبالسلم الاجتماعي .

وإذا لم يبادر الجميع لمواجهة هذه الآفة الخطيرة، فليستعد الجميع للعودة  إلى ما يسمى بزمن السيبة ، حيث يتولى كل شخص حماية نفسه من العدوان عليه  خارج سلطة القانون ،وسيصير حينئذ مجتمعنا مجتمع يحكمه قانون الغاب ،ويل للضعيف فيه من القوي .   

وسوم: العدد 766