إقامة المواسم أو الولائم أو الوعدات عند الأضرحة وإشكال اختلاف قصد من يرتادونها
دعاني أحدهم لحضور ما يسمى بالوعدة، وهي عادة إقامة وليمة كبرى يحضرها جمع غفير من الناس من قبيل واحد أو من عدة قبائل ، تذبح فيها الذبائح عند ضريح من الأضرحة لميت من أموات المسلمين يعرف أو ينعت بنعت الولي الصالح . ومن أجل إقناعي بالحضور قدم بين يدي دعوته بنفي كل ما يريب في هذه الوليمة من قبيل الوقوع فيما قد يكون مظهرا من مظاهر الشرك بسبب النحر عند الضريح والذي قد يفضي إلى ما يعتبر ذبحا على النصب المحرم شرعا . وأصر الداعي على الحديث عن سلامة النية والقصد وراء إقامتها ، وأن الأمر لا يعدو مجرد إطعام الطعام الذي أمر به ديننا الحنيف .
وبالرغم مما قدم به بين يدي دعوته ليطمئنني ويقنعني بالحضور، فإنه بقي في نفسي شيء لم أستطع إخفاءه عنه ،وهو عبارة عن الأسئلة التالية : لماذا بالضبط هذا الإطعام عند الضريح ؟ ألا يمكن أن يكون الإطعام بعيدا عنه درءا لكل ما قذ يظن به ؟ ألا يخشى أن تختلف النيات والمقاصد خصوصا وأن من يحضرون الوعدة تختلف مستوياتهم المعرفية إن لم نقل أن جل من يفد عليها هم غالبا من العامة الذين يعتقدون في أضرحة الأولياء القداسة ،ويقصدونها للتبرك بل للضراعة والتوسل والسؤال والطلب لتحقيق مطالبهم مما يحتاجونه من رزق أو شغل أو إنجاب أو زواج أو صحة ... أوغير ذلك مما لا يسأل، ولا يقصد فيه سوى الرزاق ذو القوة المتين جل جلاله وتعالى عن الشركاء في ذلك علوا كبيرا؟
واحتار الداعي في الجواب عن أسئلتي المحرجة ،لأنه لم يستطع استبعاد ما قد يصدر عن هؤلاء العوام مما يوقع في المحظور ، ويحول طعام هذه الوعدة أو الوليمة من حل إلى محرم على طاعم يطعمه ، وأحس بحرج كبير ، ولا شك أنه ندم على دعوتي للحضور لأنه لم يتوقع مني أن أباغته بهذه الأسئلة المحرجة ، ولم يجد بدا من الإقرار بأن نيته الشخصية لا تعدو مجرد حضور وليمة إطعام تجتمع عليها العشيرة أو القبيلة لتناول لحوم ذبائح يذكر عليها اسم الله عز وجل، لكنه لم يستطع الجزم بأن نيات غيره كلها كنيته الشخصية .
وبهذه المناسبة ارتأيت أن أناقش موضوع هذه الوعدات أو الولائم التي تقام في طول وعرض وطننا خصوصا في فصل الصيف عندما يتعطل الناس ، و بعد جمع المحاصيل الزراعية ،علما أن في طول وعرض وطننا تنتشر آلاف الأضرحة المنسوبة للأولياء ، والتي تنحر عندها الذبائح ،وتقام فيها الولائم ، وربما لا يوجد قطر في الوطن العربي يضاهي وطننا في عدد هذه الأضرحة حتى أن الوزارة الوصية على الشأن الديني رصدت لها مبلغا ماليا ضخما صار حديث الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع خصوصا في ظل وضعية اقتصادية صعبة إن لم نقل أزمة جعلت البعض يفضل أن يصرف ذلك المبلغ على الأحياء وهم أحوج إليه من الأموات الذين استغنوا عن عرض الدنيا بالرحيل إلى الآخرة .
ولا شك أن الوعدات أو المواسم كما تسمى أيضا تختلط فيها العادة بالعبادة، وهي من الموروث عن أزمنة ساد فيها الاعتقاد الطرقي أو التدين الصوفي الذي يقدس الأولياء أحياء وأمواتا لما يعتقد فيهم من كرامات وبركات . أما العادة في ظاهرة الوعدة فلا شك أنها تتعلق بحدث جمع المحاصيل الزراعية صيفا ، و يترتب عن ذلك دخول العبادة معها على الخط لدى البعض ، وهي إظهار الشكر على العطاء إلا أن هذا الشكر ربما ظل طريقه ، وانحرف عن قصده ،فيشكر من لا يستحق الشكر ، ومن لا يعطي ولا يطعم من المخلوقات أو تشرك هذه المخلوقات في الشكر مع المعطي والمطعم سبحانه وتعالى عن الشركاء . ومن الصعب على من يعتقد بكرامات أصحاب الأضرحة ويقدسهم ألا يقع في شيء من إشراكهم في شكر الله عز وجل. وقد يقدم بعضهم الذبائح على الأضرحة في بداية المواسم الفلاحية قبل عملية الحرث أو بعدها مباشرة ثم ينذرون نذورا بأخرى بعد جمع المحاصيل ،وكأنهم يعقدون صفقات مع أصحاب الأضرحة .
وقد يعترض البعض على وجهة النظر هذه مع أن أصحاب الوعدات من العوام لا يتحرجون من ربط المواسم الفلاحية الجيدة بأصحاب الأضرحة وإن كانوا يشكرون الله عز وجل على ذلك ويحمدونه إلا أنهم يعتقدون بدور بركات وكرامات أصحاب الأضرحة ، ولا يرون في ذلك بأسا بل يعتبرونه من صميم التدين الذي تخالطه أيضا مظاهر اللهو واللعب من فروسية وطرب واختلاط ، وقد لا يخلو الأمر أيضا مما يثير الشكوك لدى بعض الحاضرين من تصرفات وسلوكات مشبوهة و مثيرة للريبة يغتنم أصحابها فرصة تلك التجمعات لإطلاق العنان لأهوائهم وشهواتهم الممنوعة والمحرمة ، وخرافاتهم وشعوذتهم.
ومع أن هذه التجمعات يتلى فيها كتاب الله عز وجل ، وتنشد فيها الأمداح النبوية ،وتقدم فيها الأدعية ، فإنها لا تخلو مما يشوب هذه المظاهر التعبدية مما يرقى بالفعل إلى مظاهر شركية لدى البعض خصوصا العوام ، في غياب التوجيه الديني اللازم ،علما بأن الجهات المسؤولة عن التوعية الدينية من علماء ودعاة وخطباء ووعاظ غالبا ما تغيب عن هذه الوعدات وتقاطعها ، الشيء الذي يخلف فراغا في التوعية الدينية التي تصون العوام من الوقوع في الشركيات سواء عن قصد لدى البعض أو عن غير قصد لدى البعض الآخر .
وقد بدأ بعض الدعاة في السنوات الأخيرة يقتحمون على أصحاب الوعدات تجمعاتهم السنوية لتقديم الوعظ والنصح لمن يحضرونها ليتجنبوهم كل ما من شأنه أن يحولها إلى ما لا يرضي الله عز وجل . وإذا كان بعضهم ينجح في توجيه تلك التجمعات وتصحيح نيات من يحضرونها لتكون مجرد لقاءات لشكر الله عز وجل وإطعام الطعام ، فإن البعض الآخر يخفق في ذلك حيث تغلب العادة ولا يجدي معها وعظ أو نصح أو تذكير بل قد يستثقل العوام الوعظ ، ويرونه مشوشا على ما اعتادوا عليه من طقوس وعادات موروثة .
وقد يقتحم أيضا على أصحاب الوعدات تجمعاتهم بعض الذين تخونهم الحكمة في النصح بسبب تشدد في توجهاتهم العقدية تحت ذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فينشأ عن ذلك صراع يؤدي أحيانا إلى فوضى وصدام ، وتكون نتيجة تدخل هؤلاء عكسية حيث يزداد العوام إصرارا على التشبث بمظاهر الشرك في وعداتهم بسبب سوء تصرف المتشددين الذين يفتقرون إلى أساليب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة المطلوبة شرعا .
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أنه من مسؤولية الوزارة الوصية على الشأن الديني من خلال مجلسها العلمي الأعلى ومجالسها العلمية المحلية ،وهي المسؤولة عن حماية الدين وحراسة العقيدة أن تأخذ بزمام المبادرة إذا كان لا بد من هذه الوعدات لصيانة الدين من كل انحراف قد يحصل خلال هذه التجمعات ويكون وراءه الجهل بالدين . ولا يمكن أن تبقى الوعدات خارج المراقبة الدينية وخارج الضوابط الشرعية . أما سكوت الوزارة الوصية على المظاهر الشركية في هذه الوعدات ، فإنه سيعتبر لا محالة تشجيعا لها ، الشيء الذي يعد إخلالا بواجبها .
وسوم: العدد 783