صفقة القرن بين المصالحة الفلسطينية والتهدئة
بداية، نكرر حديثًا سابقًا أنّه لا توجد صفقة بالمعنى الحرفي للكلمة، فالصفقة تعني وجود أطرافٍ فيها يتفقون بعد مساومات أو مفاوضات، تطول أو تقصر، على تفصيلاتها، أمّا ما يجري فمختلف. موافقة الأطراف على الصفقة غير ضرورية، والمطلوب فحسب عدم اتخاذ إجراءات عملية لوقفها أو إعاقتها، فليس ثمّة اتفاق للتوقيع عليه أو للتفاوض على بنوده، ثمّة أمر واقع تجري محاولة فرضه وحمل الأطراف، تحديدًا الفلسطينيين، على قبوله والتعايش معه، ضمن اعترافٍ عربي واقعي بقبول دور إسرائيلي في أزمات المنطقة، لحماية أنظمتها مقابل التطبيع معها، في الوقت الذي يجري إنهاء القضايا المتفرعة عن القضية الفلسطينية، والتي شكّلت عائقًا في السابق أمام الوصول إلى اتفاقات نهائية.
في هذا السياق، يمكن فهم اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة موحدة لدولة العدو، وتفسيره، ومحاولاتها إنهاء خدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وإعادة تعريفها اللاجئ الفلسطيني، بحيث يقتصر على من ولد قبل عام 1948، والاعتراف بشرعية الاستيطان اليهودي في المناطق المحتلة. كما ينبغي فهم أبعاد تزامن إعلان قانون القومية اليهودي مع صفقة القرن، والذي لم يكتفِ بتكريس نظام التمييز العنصري والأبارتايد الصهيوني واعتبار الاستيطان قيمة قومية يهودية عليا، وإنّما أعاد التمسّك بالرواية التوراتية التي تنكر أي حق للفلسطينيين في أي بقعة من أرض فلسطين.
يلاحظ هنا أنّ المشروع الأميركي يتجاهل كليًا الأوضاع في الضفة الغربية، ولا يتحدّث عنها،
فهو يعتبر أنّ ملف القدس أُقفل، كما ملف الاستيطان الذي يحوّل التجمعات السكانية الفلسطينية في المدن الكبرى ومحيطها إلى كانتونات معزولة يجري قضمها تباعًا، وإلحاق ما يتبقّى منها ضمن مشروع اتحاد كونفيدرالي مع الأردن، أعلن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أنّ مستشار الرئيس الأميركي، جاريد كوشنير، اقترحه عليه، فأدخل عباس عليه تعديلًا بأن تكون الكونفيدرالية ثلاثية، إذ أضاف إليها "إسرائيل"!
على الرغم من أن ما سبق يؤكد أنّ ساحة مواجهة صفقة القرن الأولى والرئيسة هي الضفة الغربية المحتلة، حيث يكاد المشروع الصهيوني المدعوم أميركيًا يكتمل، فإنّنا، وخارج بعض التصريحات الإعلامية، لا نكاد نلمس أي جهد حقيقي لمواجهتها، في حين ينصبّ الجدل السياسي الدائر على موضوع المصالحة بين حركتَي فتح وحماس، والتهدئة بين قطاع غزة والعدو، وأيهما ينبغي أن يسبق الآخر، ومن الجهة المفوّضة بالتوصل إلى اتفاق، وصولًا إلى اتهام محاولات التهدئة بأنّها تصبّ في خانة التواطؤ مع صفقة القرن، نتيجة لتركيز الولايات المتحدة على ضرورة إيجاد حل إنساني واقتصادي لقطاع غزة، وتجاهلها الأوضاع في الضفة الغربية، وهو في حقيقته جهد يستهدف إبعاد قطاع غزة مؤقتًا عن تمرير الحل في الضفة.
فشل جهد المصالحة الفلسطينية السابق، وتعثرت جولاتها على مدى أعوام طوال، وفي الظنّ أنّ سبب ذلك الخلاف حول البرامج السياسية لطرفَي المصالحة، لكنّ العام المنصرم كان حافلًا بالمتغيّرات، فكلما خطونا خطوة باتجاه المصالحة ابتعدنا خطوتين. أيّدت "حماس" موقف الرئيس عباس من بيان الرباعية العربية (مصر، الأردن، الإمارات، السعودية)، ومحاولته فرض مصالحة بين عباس ومحمد دحلان، وسمحت لمندوبي حركة فتح من غزة بحضور المؤتمر السابع لحركة فتح في رام الله، وأعطت الفصائل كلها، بما فيها المقيمة في دمشق، في لقاء بيروت شرعية فلسطينية للرئيس عباس، على أساس إعادة بناء منظمة التحرير وتفعيل الإطار القيادي الموحد.
بدت احتمالات المصالحة أرحب وأقوى من أي وقت مضى، إذ ثمّة موقف مناهض لصفقة القرن، ورافض لها لدى مجمل الفصائل الفلسطينية، بما فيها سلطتا غزة ورام الله، في ضوء التطورات السياسية أخيرا، والتي تشمل الموقفين، الأميركي والإسرائيلي، وتعثّر حل الدولتين، والحاجة إلى مشروع وطني فلسطيني جامع وجديد، واعتراف الأطراف المختلفة بانتهاء صلاحية اتفاق أوسلو، وبضرورة وقف التنسيق الأمني مع العدو، الأمر الذي جعل من إمكانية الاتفاق على برنامج سياسي لمواجهة متطلبات المرحلة الحالية أكبر من أي وقت مضى.
حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، وسارت التكتيكات المتبعة باتجاه يخالف الاستراتيجية الواجب السير على هداها. ظنّ بعضهم أنّ ثمّة رياحا إقليمية مواتية للتخلص من الإسلام السياسي في المنطقة، وأنّ بالإمكان قبوله طرفًا في معادلتها، لكنّ هذه الرياح انحسرت، عندما وصلت إلى حدود فلسطين، وبدلًا منها سعى النظام المصري إلى عقد مصالحة بين حماس وتيار دحلان، وتحسّنت علاقات حماس بالنظام المصري الذي قام على فترات متقطعة بتعويض النقص في الوقود والإمدادات التي أوقفتها رام الله، ما أثار هواجس رام الله، وعادت الشكوك المتبادلة بعد التفاؤل الموقت، فتشدّدت السلطة في عقوباتها ضدّ القطاع، وأعادت "حماس" تشكيل لجنتها لإدارة غزة، وعُقد مجلس وطني من لونٍ واحدٍ، باعد الشقة وزاد في الخلاف، بعد أكثر من ربع قرن على تجميد جلساته.
وتعثرت محاولات المصالحة أمام شعارات التمكين وسيطرة السلطة على السلاح، وقضايا إجرائية مثل رواتب الموظفين، ولاحقًا احتل ملف التهدئة أولويةً على ملف المصالحة لدى جهات دولية وإقليمية وإسرائيلية، وانعكس ذلك على الوضع الفلسطيني. ولعلّ سياسة العقوبات، واستمرار الحصار المفروض على القطاع، والخوف من انفجار الأوضاع فيه، ساهمت في محاولة الوصول إلى اتفاق للتهدئة ما بين حركة حماس وفصائل غزة والعدو. كما عزّز هذا الاتجاه الوضع الذي أحدثته مسيرات العودة والطائرات الورقية على خط الحدود، وحالة الإرباك التي سادت الحكومة الإسرائيلية في مواجهتها، حين انقسمت بين قسم يدعمه موقف الجيش والأجهزة الأمنية بتجنّب التصعيد والدعوة إلى تخفيف إجراءات الحصار والعقوبات، بما فيها عقوبات السلطة الفلسطينية، خوفًا من دفع الأمور باتجاه انفجارٍ كبير وحربٍ على الجبهة الجنوبية، وقسم آخر يدفع باتجاه شنّ حرب ضدّ القطاع. هنا اختلفت قواعد الاشتباك، وأصبح القصف أو القنص يقابَل بالمثل، في حين ارتبطت المسيرات والبالونات الحارقة بالسعي إلى إنهاء الحصار والعقوبات.
وبذلك، انتقل الوضع إلى مرحلةٍ جديدة تتجاوز إطار المصالحة، بل ووضع عراقيل أمامها، فقد اعتبرت السلطة أنّ توقيع أي اتفاق للتهدئة، بغضّ النظر عن الحاجة إليه أو تفصيلات بنوده، يشكّل مساسًا بشرعيتها، وكي تقوم هي بالتوقيع، يجب أن يجري تمكينها وبشروطها في قطاع غزة، وتناست أنّ الاتفاق الحالي هو استمرار لما كان قد اتُفق عليه بعد حرب عام 2014، وأنّها وقتها لم تكن تسيطر على قطاع غزة، لكنّها ساهمت ورعت الاتفاق. ويثير ذلك سؤالًا عن موقف السلطة هذا، وهل حقًا سببه التخوّف من دولة فلسطينية في غزة؟ أم أنّ له علاقة بهواجس العلاقة مع النظام المصري، وسعيه، مع حلفائه في الخليج، إلى فرض دور سياسي لمحمد دحلان، قد تكون قاعدته في غزة. أو أنّ ثمّة مراهنة باقية على دور مستقبلي منشود ضمن سياق "أوسلو" السابق، على ما في هذا التحليل من مجانبةٍ للصواب، وعدم رؤية الأمور على حقيقتها.
نجحت سياسة المسيرات الكبرى والبالونات الحارقة، ووضع قواعد جديدة للاشتباك، في إيصال
الأمور إلى حافّة الهاوية، فإمّا انفجار كبير لا يريده العدو في هذه المرحلة، ولا القوى الإقليمية، ولا حتى الولايات المتحدة التي تعمل على تمرير مشروعها، أو الوصول إلى حالة هدوء تتيح تخفيف الحصار وإنهاء العقوبات. لذا، يُلاحظ أنّ معبر رفح الذي بقي مغلقًا أعوامًا، بحجة أنّ فتحه يتطلب موافقة السلطة وإسرائيل، وحضور مراقبين دوليين، قد فُتح على فترات. وأنّ بعض الإمدادات تدفقت على غزة من مصر بعد أن دُمرت، في مرحلة سابقة، الأنفاق التي تصل بين الطرفين. ومؤكّد أنّ هذا تم بضوء أخضر، وباتفاق أميركي إسرائيلي مصري، وأنّ الهدف منه منع الأمور من الوصول إلى حافة الانفجار.
إذا كانت المصالحة متعثرة، فهل يُؤمل في أن تصل غزة إلى حالة من التهدئة؟ لا يبدو أنّ الأمور ستسير بهذا الاتجاه أيضًا. في المرحلة الحالية، لن تنعم غزة بمصالحة، ويرجع ذلك إلى عدم إدراك ضرورة التوصّل إلى مشروع وطني فلسطيني مقاوم للاحتلال وللدولة القومية اليهودية، ومتحرّر من جميع القيود والالتزامات في مشروع أوسلو، إذ لا يزال بعضهم يعتقد أنّ في وسعه المناورة والمراوحة في المكان، متعلقًا بأوهام مرحلة أوسلو وحلّ الدولتين. لكنّ غزة أيضًا لن تنعم بالتهدئة التي يحلم بها أبناؤها، كما أنّها لن تكون مكانًا لدولة فلسطينية مزعومة، فالعدو لن يقبل بمثل هذه الدولة على أي نقطة من أرض فلسطين.
المطلوب من غزة أن تبقى فيها الأمور على حافة الانفجار، من دون أن تصل إليه. قد تُفتح بعض المعابر، وقد يتم تسهيل إجراءات السفر لتشجيع الهجرة، وتخفيف بعض قيود الحصار الذي سيوكل إلى النظام المصري إحكام قبضته عليه. مطلوبٌ من غزة أن تبقى هادئةً، حتى تُبتلع الضفة، حيث تدور المعركة الحقيقية لنهب الأرض والاستيلاء عليها، وتمرير صفقة القرن، فيما السلطة هناك تنشغل عن ذلك كله بمعارك وهمية حول شرعية زائفة.
ليست مشكلتنا في قوة عدونا، فهو أضعف بكثير من أي مرحلةٍ مضت، مصيبتنا هي في قيادتنا التي فقدت البصر والبصيرة، وامتهنت السير في اتجاهات خاطئة.
وسوم: العدد 790