دين الفنان جميل راتب
عام 1928 استطاع العالم الاسكتلندي الكسندر فلمنج أن يشتق من العفن أول مضاد حيوي وهو البنسلين. لكن أحدا لم يستطع إلي يومنا أن يشتق شيئا مفيدا من العفن الثقافي المخيم على رؤوس من تساءلوا: الفنان جميل راتب مسلم أم مسيحي؟ عفن عقلي لا يشتق منه شيئ مفيد إلا لو كان" مضاد وطني" يحقن به الفكر لتجزئة وتقسيم الوطن والفن والعلم والبشر والموهبة حسب الديانة. ومن المدهش أن يكون السؤال حينما يغادر فنان كبير عالمنا هو: أمسلم هو أم مسيحي؟ بدلا من أن يكون: هل أفاد الوطن بفنه؟ هل كان مخلصا لعمله؟ هل أجاد فيه؟ هل أسعد الناس بما قدمه؟ أما الديانة فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب الجميع عليها وليس نحن البشر الزائلين، خاصة إن كان ذلك القسم من البشر منافق وكذاب وناهب ثروات ورشوة ومحمل بكل الذنوب الأخلاقية الأخرى. أولئك حين يذهبون بأطفالهم لتطعيمهم بمصل الجدري لا يسألون عن ديانة إدوارد جينر المسيحي الذي اخترع المصل، لأن المسألة هنا تتعلق بمصلحتهم المباشرة، وهم أيضا لا ينبسون بحرف عن ديانة جوناس سولك اليهودي مخترع لقاح شلل الأطفال الذي يطعمون به أطفالهم، لأن كل ما يعنيهم ألا يصاب اولادهم بالشلل. وهم حينما يرقدون لتغيير صمام في القلب لا يشيرون بحرف إلي أن من اخترع أول صمام صناعي للقلب ليس مسلما، وعندما يمرض شيوخ فتاوى العفن العقلي الذي يدعون للعلاج ببول البعير، فإنهم يهرلون إلي مستشفيات الغرب لتلقي العلاج فيها دون أي غمغمة عن ديانة الأطباء أو أصحاب المستشفى أومخترعي الأدوية. المهم المصلحة. ويستمتع أنطاع العفن العقلي بكل انجازات المسيحيين من محمول وتلفزيون ولامبة وسيارة وحاسب آلي وكاميرا سينما ويعيشون على كل ذلك، بل وحتى على فكر الآخرين في الفلسفة والعلوم السياسية وغيرها من دون أن يقولوا شيئا، لكن حينما يموت فنان مصري مبدع تظهرالنطاعة ويسألون : جميل راتب مسلم ولا مسيحي؟! وإذا كانت الديانة هي التي ستحدد موقفنا من الفن والفنانين عامة لأصبح علينا ألا نضحك مع قفشات ماري منيب اللذيذة لأنها ليست مسلمة ولا تنتسب لقبيلة بني حمدان، وألا نستمتع بقصص يوسف الشاروني، وروايات جورجي زيدان، وأفلام نجيب الريحاني، ويوسف شاهين، وعبقرية سناء جميل، وهلم جرا. وعلينا ألا نقرأ تولستوي وديكنز وكافكا وشكسبير وجابريل جارثيا ماركيز وغيرهم! باختصار يصبح علينا أن نلقى جانبا بالحديث الشريف " الدين المعاملة"، أي أن ما يهمنى من الآخرين هو نفعهم وإفادتهم البشرية. لكن البعض يجلس يسبح في بحور الانترنت، ويقلب القنوات الفضائية، ويجري جراحة مياه بيضاء وزرقاء، وينعم بكل ما يجيء من الغرب المسيحي، ورغم كل ذلك يظهر لنا عفنه العقلي المتأصل متسائلا: هل يجوز الترحم على جميل راتب أم لا ؟ كأنما بلغ غاية الدقة في اتباع تعاليم الاسلام ولم يبق إلا السؤال عن جواز الترحم من عدمه! وقد شهد تاريخنا وقائع كثيرة مخجلة من هذا النوع، منها أن الأديب الكبير نجيب محفوظ لم يحصل على منحة دراسية إلي فرنسا لدراسة الفلسفة في حينه لأن القائمين على الأمر حينذاك شكوا بسبب اسمه " نجيب محفوظ " ما إن كان مسلما أم مسيحيا؟! وحين دعت جامعة الملك فؤاد ( جامعة القاهرة) الأديب الكبير جورجي زيدان ذات يوم لالقاء محاضرات عن تاريخ الاسلام بصفته اخصائيا في ذلك المجال، عادت الجامعة فسحبت الدعوة حين تذكرت أنه مسيحي! رحم الله الفنان الجميل جميل راتب، الذى امتاز ببسمة تنطوي على سخرية أرستقراطية لطيفة، تنطوي على المحبة، رحمه بقدر ما أسعد الناس بالعديد من أدواره في السينما والتلفزيون. وقد كشف ذلك الفنان الجميل عن جوهره الانساني حين سألته مذيعة في لقاء تلفزيوني عمن يود أن يتقدم إليهم بالشكر فلم يشكر مسئولا أو وزيرا، لكنه تقدم بالشكر إلي سائق أتوبيس أوقف الأتوبيس وهبط ليصافحه، وعاملة نظافة في مطار القاهرة أصرت أن تضايفه بزجاجة كوكاكولا، وسائق تاكسي، ولم يسأل أحد من أولئك عن ديانة جميل راتب، لأن الفنان بالنسبة إليهم هو الفن الذي قدمه. وقد استقر من زمن في ضمير الشعب المصري أن"الدين لله والوطن للجميع"، وحتى جيل الستينيات لم نكن نعرف ذلك العفن العقلي الذي ينتشر الآن كالفطر ويغطى النفوس. تبقى عبارة الكاتب الروسي العظيم فيودور دوستيوفسكي ملهمة ومشعة:" الذين يتوقون للتعرف إلي إله حي عليهم أن يبحثوا عنه في المحبة البشرية"، أما العفن العقلي والثقافي والروحي فلن تغسله إلا أمطار التنوير والفن والعدالة والعلم.
وسوم: العدد 792