محنة تلميذ سوري في الرّيف الإنجليزي
منطق الاعتداء المشهود في المقطع يتجاوز نطاق مدرسة في الريف الإنجليزي؛ وإن ظلّ اسمها مرتبطاً بحادثة تنكيل وحشية مصوّرة لن تختفي من ذاكرة العالم الشبكي. فاعتداءات كهذه لا تنشأ من فراغ، وإنما جراء خطابات التشويه والتحريض المتأججة في أنحاء أوروبا.
فرّ الصبيّ جمال من القصف الوحشي في سورية إلى الريف الإنجليزي الهادئ، ثم جاء موعد ابن الخامسة عشرة مع المطاردة والتنكيل في ملاعب مدرسته الإنجليزية. هذا ما شاهده العالم في مقطع صادم يُوحي بشيوع تجاوزات مشينة في مدرسة واقعة في ألمونديري الكائنة في مقاطعة هدرزفيلد، وربما في مدارس أخرى أيضاً.
جاء التوثيق المصوّر بكاميرا الهاتف؛ ليلفت الأنظار إلى سلوك التنمّر ضد تلميذ جاء قبل سنتين من حمص، وانتشر المقطع بعد أسابيع من وقوع الحادثة التي جرت يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، ليثير أسئلة مُحقّة عن كيفية تصرّف إدارة المدرسة وعموم الأهالي والسلطات المحلية مع ما جرى، وأين كانوا جميعاً من هذه التجاوزات خلال أسابيع سبقت انتشار المقطع، وكيف تصرفوا مع حوادث محتملة سبقتها لم تكن مصوّرة.
مع ذلك؛ لم يكن الاعتداء والتنكيل والتهديد أسوأ ما في هذا المقطع المؤلم، وإنما حقيقة أنّ رفاق المدرسة تركوا زميلهم الضحية وحيداً يتلقّى سيْل الضربات والشتائم والتهديدات بالإغراق، وتصرّفوا مع كل هذا الأذى والترويع كأنه أمر اعتيادي يألفونه، أو لعلّهم انحازوا إلى المعتدي صاحب السطوة في المشهد.
يرسم المقطع الذي تحقق فيه الشرطة مخاوف عن احتمال استشراء ثقافة عامة من الاعتداءات الشبيهة في البيئة المحلية، خاصة وأنّ ذراع جمال بدت في المقطع مجبّرة بسبب كسر فيها، وكذلك ما جاء عن مضايقات استهدفت شقيقته الصغرى أيضاً؛ بما قد يشير إلى أنّ هذه التجاوزات العنيفة صارت سلوكاً مألوفاً مشبّعاً بالعنصرية.
لم يُبالِغْ بعض المعلِّقين الذين رأوا في اعتداء المدرسة تعبيراً عن ثقافة كراهية وعنف تستشري في بعض الأوساط الناشئة، وهي قد تكون عابرةً للأجيال في بعض بلدان أوروبا أيضاً. فمنذ موجة تدفُّق اللاجئين في سنة 2015 وما بعدها؛ اقتُرِفت آلاف الاعتداءات الموثّقة في تقارير دورية ضد مساكن اللاجئين وتجمّعاتهم وبحقّ أفراد منهم، أوقع بعضها ضحايا وإصابات.وترصد تقارير أخرى هجمات حارقة وأعمال تشويه واعتداءات مادية ولفظية متكررة طاردت مسلمات في الطرقات، واستهدفت مساجد ومراكز إسلامية ومرافق متعددة تشمل مقابر للمسلمين أيضاً.
إنها ليست أول الحكاية، فهذه الاعتداءات لا تنشأ من فراغ، وإنما من تراكمات تغترف من القوالب النمطية والأحكام المسبَقة وتشحنها خطابات التشويه والتحريض المتأججة في أنحاء أوروبا، والتي تجد هامشاً واسعاً في المداولات السياسية والإعلامية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وينخرط فيها "أكاديميو التأجيج" الذين يمنحون الغطاء التنظيريّ الذي يُشرعِن الحالة ويُذكيها.
ربما رأى التلاميذ في زميلهم اللاجئ من سورية ذلك "الآخر" البغيض، الذي لا يستحق امتيازات يحظَوْن بها، فجعلوه هدفاً للاعتداء والإساءة والحطّ من كرامته، وتم الاستقواء عليه بطريقة بشعة شاهدها العالم في المقطع. وفي حيٍّ أوروبيٍّ آخر سيظهر أحدهم ليعتدي بالضرب أو الشتائم على فتاة لمجرّد أنّ غطاء شعرها لم يَرُق له، أو قد يُهاجِم مسجداً بزجاجة حارقة لأنه يرى فيه تهديداً، أو قد يحطِّم شواهد القبور؛ لأنّ المسلمين الراقدين تحتها لا ينبغي أن يحظَوا بالكرامة في "بلاده" أحياءً وأمواتاً.
تقوم هذه السلوكيات النمطية على نزعة الاستبعاد والإقصاء، التي ترى في مكوِّن مجتمعي معيِّن تهديداً ماحقاً أو استثناءً عن الجميع لا يصحّ التسامح معه، وعندها لن يبدو غطاء الشعر قطعة قماش كغيرها وحسب، ولن تظهر المئذنة البديعة مثل أبراج دور العبادة الأخرى، ولن يعدّ الأموات كغيرهم من البشر تحت التراب الذي عاشوا فوقه.
من الجيّد أنّ الشرطة البريطانية فتحت تحقيقاً في حادثة المدرسة بمقتضى الأنظمة المتبعة؛ لكنّ معالجة اعتداءات الكراهية تقتضي إرادةً جماعية تفحص ملابساتها بعمق بما لا يغفل عن منطق الاستثناء الذي لا يجعل القيم والمبادئ تسري على الناس جميعاً بالكيفية ذاتها، وهو ما يؤدي إلى مجتمع لا تتكافأ فيه الفرص ولا تتساوى فيه كرامة البشر.
إنّ تنزيل منطقٍ استثنائيٍّ انتقائيٍّ على بعض البشر أو على ما يُنسَب إليهم ثقافيّاً ودينيّاً؛ يفتح الباب على مصراعيه لإثارة الأحقاد والضغائن وشقّ صفوف المجتمعات، وخوض المزايدات التصعيدية بالتشويه والأذى المعنوي بحق هؤلاء، وربما نزع الصفة الإنسانية عنهم؛ لخدمة نزعات بدائية أو أهداف انتهازية. ومن عادة هذا التسخين أن يستدرج أفراداً متعصبين لاقتراف اعتداءات وتجاوزات، وقد تجري تحت تأثيرها خطواتٌ عمليةٌ ملموسة تشمل سنّ قوانين التضييق والمنع والتفرقة، أو فرض إجراءات وتدابير غير مسبوقة تنتقص من مكتسبات فئة مجتمعية دون غيرها، وهو اتجاه يعبِّر عن ثقافة حظر تضع مسلمي أوروبا في مرمى الاستهداف.
من الصعب العثور على بواعث طمأنة في المشهد المجتمعي الأوروبي عندما يتفاقم منطق الإقصاء والاستبعاد، ويتزايد تسخين المجتمعات وشحنها. وتبدو واقعة المدرسة الإنجليزية حدَثاً رمزيّاً يشبه سلوك بعض السياسيين الانتهازيين في بلدان أوروبية. فإن كانت الرسالة الضمنية التي يبعث بها أولئك التلاميذ لرفيقهم السوري هي أنّ "مكانك ليس هنا"؛ فإنها تلتقي مع تصريحات وشعارات يطلقها قادة أحزاب صاعدة من اسكندنافيا إلى إيطاليا، ومن غرب القارة إلى شرقها، في مواجهة اللاجئين، وربما ضد عموم من يوصَفون بالأجانب والمهاجرين، مع تكثيف التعبئة العمياء ضد المسلمين منهم بصفة خاصة.
يمكن إعادة مشاهدة واقعة المدرسة مع تغيير الأدوار على مسرح الحدث، بأن يكون الضحية هم الوافدون أو اللاجئون أو المسلمون، ويستفرد بهم سياسيون شعبويون يحترفون شنّ الهجمات المسددة بعناية ضد مكوِّنات مجتمعية منتقاة مع كل موسم انتخابي يحظون فيه بالمتابعات الإعلامية والشبكية وبمزيد من الأصوات، بينما يقف قادة الأحزاب الأخرى وشخصيات المجتمع والمشهد الثقافي موقف المتفرج أو الناقد الخجول، إن لم يحاول بعضهم الانخراط في التسخين والتصعيد كلٌّ على طريقته لاقتطاع حصته من الأصوات والمكاسب الانتهازية.
إنّ الاستجابة الرشيدة لمشهد المدرسة الصادم، بكل ما فيه من أذى وتنكيل واعتداءات جسدية ولفظية، لا ينبغي أن تكتفي بنقد التلاميذ وحدهم، فبعضهم يجرِّبون على طريقتهم ما يتراكم من تعبيرات متشنجة يصدرها "الراشدون" في مواقع التواصل الاجتماعي، أو يستدعون ما يعبِّر عنه سياسيون يختطفون الأضواء، بينما يرفعون شعارات تحتقر بشراً "لا مكان لهم بيننا". إنها لحظة مواتية للإقرار بأنّ منطق الاعتداء المشهود في المقطع يتجاوز نطاق مدرسة في الريف الإنجليزي؛ وإن ظلّ اسمها مرتبطاً بحادثة تنكيل وحشية مصوّرة لن تختفي من ذاكرة العالم الشبكي.
وسوم: العدد 801