لا خطوط حمراء تمنع الإعلام من انتقاد ما يستوجب النقد

الفرق بين مجتمع ديقمراطي بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومجتمع شمولي أو مجتمع يدعي الديمقراطية هو مقص يسلط على الإعلام لمنعه من إيصال الحقائق إلى الرأي العام  . والمقص المسلط على الإعلام قد يكون تلك الأداة العادية المعروفة بقص  بعض ما لا يراد نشره ، وقد يكون أداة في غاية الخطورة تهدد الإعلام بالويل والثبور وعواقب الأمور .

ومن المفروض أن تكون الخطوط الحمراء بالنسبة للإعلام هي أخلاق المهنة لا غير بحيث لا يوجد ما يمنعه من انتقاد ما يستوجب النقد ، علما بأن النقد كما يعرفه أصحاب الأدب ،وقد استقوا دلالته من المجال المالي حيث كان الصيرافي قديما ينقد القطع النقدية عن طريق اختبار رنينها حين يلقيها على الأرض ليميز الصحيح منها من الزائف، فلا تلتبس عليه  قطعة ذهبية خالصة أو قطعة  فضية صافية بالمشوبة بنحاس أو غيره . وانتقل النقد إلى مجال الكلام ، فصار نقاده ينقدونه لمعرفة  الصحيح البليغ الفصيح من  الباطل والبهرج ثم اتسعت دائرة النقد لتشمل كل مجالات الحياة للتمييز بين ما يصح وما لا يصح وبين الصواب والخطأ وبين السوي والمنحرف أو المعوج .

 ويضطلع الإعلام بكل أشكاله بمهمة نقد الحياة سياستها واقتصادها واجتماعها وثقافتها .وغرض الإعلام من نقد هذه الجوانب من الحياة هو تصحيح مساراتها لتتحقق منها المصلحة العامة والفائدة التي تعود على المجتمع بالنفع ، وتقيه من الخسارة .

ومعلوم أن الأصل في النقد هو البناء وليس الهدم . ومع أن الفرق  واضح وشاسع بين النقد والقذف ، فإن البعض يخلط بينهما خصوصا إذا كان النقد يكشف عن آفة أو عيب في فعل من ينتقد وليس فيه كشخص . فشتان بين انتقاد فعل شخص وبين المساس بشخصه  . فإذا انتقد كاذب على سبيل المثال لا الحصر، فالمقصود بنقده أو انتقاده هو سلوك الكذب وليس شخص الكاذب في حد ذاته مجردا عن فعل الكذب. وما قيل عن سلوك الكذب ينطبق على كل سلوك مخالف لما يتعارف عليه المجتمع أو ما يرفضه دين أو قانون أو منظومة أخلاقية .

ولا يمكن أن يوجد شخص فوق النقد مهما كان إلا إذا كان نبيا مرسلا قد عصمه الله عز وجل من الخطأ ،لأن كل ابن آدم خطّاء . ومن يرفض النقد حكمه حكم من يدعي العصمة التي خص الله عز وجل به صفوة خلقه من أنبيائه ورسله الكرام صلواته وسلامه عليه أجمعين . والنقد في حد ذاته نصح ، وأفضل النصح أن يهدى العيب لصاحبه ، ولا توجد هدية أغلى من إهداء المعيب عيبه ليتداركه قبل أن يجلب له المعرة ،وربما  جر عليه ما لا تحمد عقباه في عاجله وآجله . والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. والكيس من يستقبل النقد بصدر رحب علما بأن الطبيعة البشرية غالبا ما تجعل الصدر يضيق عند سماح النقد ، ولا ترى فيه نصحا وإهداء عيب بل تراه تجريحا واعتداء واستنقاصا من الشأن والقدر.

ولا يمكن أن يلتبس النقد بالتجريح أو الاعتداء أو القذف أو ما شابه ذلك، لأن الغرض من النقد هو التصحيح بينما يكون غرض التجريح العدوان .

والمشتغلون بالإعلام يقدرون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وهي ممارسة الإصلاح عن طريق النقد البناء الذي يبني ولا يهدم ويصحح المعوج  ليستقيم . وإذا ما خطت لهم خطوط حمراء لمنعهم من أداء واجبهم على الوجه الأكمل ، وانصاعوا لها، فإنهم يقصرون في أداء واجبهم أمام خالقهم وأمام ضمائرهم وأمام الخلق الذي يتابع ما يقدمونه له من مواد إعلامية  ويثق فيهم الثقة العمياء.

وإذا كان الناس في مجتمعنا المسلم يقصدون خطباء الجمعة كل أسبوع لسماع نقد ما يكون في المجتمع من آفات تبعده عن سواء السبيل ، فإنهم يقصدون الإعلاميين كل يوم لسماع نقدهم لما فسد في المجتمع . وقد يكون تأثير الإعلاميين في الناس أكبر من تأثير الخطباء والدعاة . وقد يحذر بعض الخطباء الخطوط الحمراء التي قد تخط لهم لمنعهم من انتقاد ما فسد في حين لا يخشاها الإعلاميون وهم أكثر الفئات التي تقدم ضحايا  ولا تبالي من أجل إيصال الحقائق إلى الناس التي يراد حجبها عنهم .

وقد يساوم الإعلاميون لحجب الحقائق عندما يتعلق الأمر بذوي السلطة إلا أن الثابتون منهم على نهج إيصال تلك الحقائق لا يلتفتون إلى مساومة ،ولا يخشون تهديدا بل يقومون بواجبهم لا يخافون في ذلك لومة لائم ولا لؤم لئيم  ولا كيد كائد.

ويلعب الإعلام في الدول الديمقراطية دورا مهما في تخليق الحياة العامة حين يستوي عنده في النقد  من له سلطة بمن لا سلطة له ، الشيء الذي يكسب الإعلام مصداقية كما يكسبه ثقة الرأي العام الذي قد يتحرك لتصحيح كل انحراف يستهدف الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة والحقوق على ضوء ما يقدمه الإعلام الملتزم بالكشف عن الحقائق  . ومقابل ما يحظى به الإعلام من احترام وتقدير في المجتمعات الديمقراطية ،نجده يعاني في المجتمعات التي تعاني من الشمولية أو في المجتمعات التي تدعي الديمقراطية  الكاذبة والشكلية والتي يكذبها الواقع المعيش. ويتعامل ذوو السلطة مع الإعلام في هذه المجتمعات إما بالإغراء والمساومة أو بالتهديد والوعيد ، ووضع الخطوط الحمراء التي تخفي خلفها عيوبهم وأخطاءهم ، ويجتهدون في التضييق عليه بسن القوانين التي تهدف إلى إضفاء النعوت القدحية على النقد البناء الذي يمارسه ، وتسميته بمسميات تجعله في خانة  الإدانة أمام قضائهم ووفق ما يضعونه  من قوانين تقيد حريته ، وتعرقل مهامه.

وعلى قدر اتساع صدر ذوي السلطة لسماع نقد الإعلام أفعالهم وتصرفاتهم ومواقفهم، تكون مصداقيتهم  لدى الرأي العام ، وعلى قدر ضيق صدورهم من ذلك، يفقدون تلك المصداقية ، وينتقل النقد من انتقاد  أفعالهم إلى انتقاد سلوكهم وشخصياتهم التي تبدو غريبة وغير سوية لرفضها النصح وقبول ما يهدى إليها من عيوبها .

وأخيرا نقول لن يبلغ الإعلام عندنا  مستوى المسؤولية المنوطة بها ما لم يتجاوز عقدة الخوف والحيطة من الخطوط الحمراء التي يخطها له ذوو السلطة لحجب أخطائهم وتجاوزاتهم.

وسوم: العدد 810