العراق الجديد.. دولة أشباح الفساد
(تعددت الجهات الرقابية في العراق والفساد نفسه)
الفساد الحكومي سرطان ينهش خلايا الدولة العراقية، وقد إستفحل بشكل كبير واستوطن وتجذر وبات من الصعب استئصاله إلا بثورة شعبية تطيح بالفاسدين في السلطات التشريعية الثلاث وذيلها السلطة الرابعة (الإعلام)، الذي انحصر دوره كأولئك الجوالين الذين يلمعون أحذية الناس لقاء مبلغ بسيط. وعلى الرغم من تعدد الجهات الرقابية في العراق من مفتيشين عاميين، ولجنة النزاهة، والرقابة المالية، والقضاء العراقي، وأضيف لها مؤخرا المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، لكن المصيبة أن جميع هذه الهيئات مشاركة بشكل أو آخر في عملية الفساد.
ان الذي يحمي الفاسد لا يقل عنه فسادا، والذي يتستر على الفاسد لا يقل فسادا عنه، والذي يرى الفاسد ولا يعلن عنه اسمه لا يقل فسادا عنه، وهذا ما تجده مع الأسف في جميع الجهات الرقابية التي تتعامل مع الفاسدين كأشباح، الكل يتحدث عن الفساد ومكافحته، والكل يندد بالفساد، والكل يعرف أسماء الفاسدين، ما عدا الشعب العراقي! هل الفاسدون يسرقون ثروات الشعب أم ثروات الحكومة؟ وهل ما في الخزينة ملك للشعب ام للمسؤولين؟ اليس من المفروض أن يتعرف الشعب على الأشباح التي تسرق ثرواته؟ على سبيل المثال في هذا الشهر أصدرت هيئة النزاهة حكما قضائيا ضد أمين العاصمة السابق، دون أن تذكر إسمه، وهذا يعني إن من حقك ان تظن أي من أمناء العاصمة هو المقصود. لكن طالما هو مجرم وصدر عليه الحكم فلماذا لا يعلن إسم الشبح للشعب؟
كأن النزاهة تريد من المواطن اي يستخدم الزايرجة أو الطيرة أو الضرب بالرمل لمعرفة هذا اللص والذي تبين عبر تسريب لمصدر مجهول بأنه (عبعبوب) صاحب الصخرة التي تشبه صخرة سيزيف في الإسطورة المعروفة.
عودتنا هذه الهيئة الفاسدة عن إصدار أرقام مهولة عن ملفات الفاسدين من وزراء ونواب وقادة كبار في الجيش وغيرهم دون أن تجرأ في الإعلان عن إسم واحد منهم فقط. الشعب يعرف بوجود الآلاف من ملفات الفاسدين، ولكن من هم؟ لا يعرف ذلك غير الفاسدين أنفسهم! أما الشعب فإنه يتعامل مع أشباح من الفاسدين وليس بشر.
في لقاء تلفازي للإعلامي اللامع أحمد مله طلال مع عضو لجنة النزاهة (كاظم الصيادي)، ذكر الأخير بأن" عضو مجلس نواب سابق، عرف عنه محاربة الفساد، صادروا منه في عمان (120) مليون دولار، وقبلها ايضا نفس الشيء (عدة سرقات)، سرقها من الحشد الشعبي أو غيرها"، لكن من هو هذا النائب الفاسد؟ لا أحد من الشعب يعرفه، ولم يذكر إسمه بالطبع الصيادي، ولن يذكره، انه شبح.
وأحد المسؤولين سَجَلَ عقارات بإسم شرطي بـ (1.3) مليار دولار، وإن قائد الشرطة الإتحادية عليه (14) أمر إلقاء قبض، ومع هذا استقبله رئيس الوزراء عبد المهدي بحفاوة كبيرة كقائد وطني! وفي لقاء سابق مع النائبة عالية نصيف قالت ـ وأظنها زلة لسان ـ بأن الباخرة البنمية التي شحنت بآلاف الأطنان من النفظ العراقي دون موافقات رسمية قد أطلق القاضي سراحها بعد إن اتصل به (مسؤول معمم كبير) هاتفيا. فمن هو هذا الشبح المعمم؟ لماذا أنتم تعرفوه والشعب لا يعرفه؟ الا يدعونا هذا نظن بأن جميع النواب والمسؤولين المعممين والمراجع الشيعية كلهم متهمين؟ لماذا لا تكشفوا عن هذه الأشباح التي دمرت العراق؟
وفي لقاء تلفازي مع الاعلامي الرفيع د. زيد عبد الوهاب حول ما ورد في تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2018 بشأن تبوأ العراق المرتبة (180) في الفساد العالمي، عَبَرَ ضيفه ( جاسم محمد جعفر) عضو ائتلاف دولة القانون، ان ما ورد في التقرير لا يمثل الحقيقة فهو " مبالغ فيه بشكل كبير جدا، وكأن واقع العراق كله فساد، الواقع ليس هكذا. ان العراق ليس الوحيد المبتلى فهناك دول كثيرة فيها اناس وعوائل متنفذة كدول الخليج"، مضيفا بحماقة" ان تقارير منظمة الشفافية مبالغ فيها مائة بالمائة، ربما 10% قد يكون صحيحا، و90% شائعة وغير صحيحة، فهناك تضخيم اعلامي على الفساد وهدر المال العام في العراق".
في النصف الأول من البرنامج هرب هذا الأمعي ( جاسم محمد جعفر) من البرنامج، لأنه كان وزيرا (للرياضة) ونائبا لدورتين، بمعنى انه حلقة من حلقات الفساد، ولأن دولة القانون تضم أكبر اللصوص وسراق المال العام، فعن ماذا يدافع؟ ان الحقيقة مدرعة لا يخترقها سهام الفاسدين، لذا وجد في الهروب أفضل طريقة من المأزق، وهذا ديدن الجبناء واللصوص.
يبدو ان هذا الأمعي لا يعرف ان منظمة الشفافية التي مقرها برلين ليست مؤسسة إعلامية كما يظن بل هي منظمة غير حكومية وغير ربحية، يعتمد تقريرها على مسوحات واستطلاعات تقوم بها مؤسسات مستقلة وجامعات كجامعة كولومبيا، وخبراء قانونيين من داخل الدول وخارجها. وهي تعمل في حوالي (100) دولة، وتسلط الضوء على الفساد في القطاع العام، وتقدم تقريرا سنويا عن نسبة الفساد في الدول ذات العلاقة، وترتيب الدول حسب نسبة الفساد عند الموظفين الحكوميين والسياسيين. وتُعرِف المنظمة الفساد بأنه "إساءة استغلال السلطة المؤتمنة من أجل المصلحة والمنفعة الشخصية"، وسلم الفساد يتألف من (10) درجات أقلها واحد، وهي تمثل حالة العراق.
الحقيقة أن ملفات الفساد لا حصر لها، وهي أكثر مما أعلن عنه بحوالي (13000) ملفا، لكن توجد ملفات ذات أهمية كبيرة، كلفت العراق المليارات من الدولارات منها، ملف التراخيص النفطية، وهو من أكبر ملفات الفساد ولا أحد يجرأ على فتحه لأن الفاسد هو صهر السيستاني المدعو (حسين الشهرستاني). وملف المنافذ البرية والبحرية والجوية، أي ادخال البضائع بصورة غير رسمية عبر المنافد الحدودية والتي يخسر فيها العراق (8) مليار دولار سنويا، حسب تصريح النائبة ماجدة التميمي. وملف صفقات الأسلحة للداخلية والدفاع، وملف عقارات الدولة والقصور الرئاسية، وملف مزاد العملة، وملف المخدرات، وملف سرقات نفط الكيارة من قبل الحشد الشعبي، وملف سرقات نفط الآبار المشتركة مع دول الجوار وغيرها.
المشكلة ان الفساد يبسط نفوذه على كل مفاصل الدولة العراقية بما فيها الهيئات الرقابية والقضاة، فالفاسد أما يبرأه القضاء أو يقضي ويصفي على الجهة التي تستهدفه، وضحايا الفساد بالآلاف من العراقيين الوطنيين الذين كشفوا الحقيقة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر ( الفريق حكيم جاسم) الذي كشف قضية التهريب في ميناء أم قصر في البصرة، من خلال مداهماته على منافذ التهريب في البحر، والذي إتهموه في البداية انه بعثي ومشارك بقمع ما يسمى بالإنتفاضة الشعبانية عام 1990، ولأنه شيعي لم يُتهم بأنه من الدواعش، المهم أعفي القائد الوطني من منصبه في قيادة حرس الحدود، وأتُهم أولا بالفساد من قبل الميليشيات الشيعية، وبعد بضعة أشهر قُتل أمام منزلة من قبل إحدى الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، وقالت المصادر الحكومية مات خلال (حادث سير غامض)! لتموه الحقيقة وتحمي القتلة. قُتل لأنه قال بصراحة" هذه السفن في البحر كلها تتاجر ببضائع ونفط بصورة غير شرعية، الزوارق واللنجات الإيرانية والهندية والسورية كلها موجودة في المياه العراقية بلا إذن ولا فيزا ولا جوازات. الإيراني شريك معي في المياه الأقليمية لكنه يترك المياه الإيرانية ويأتي ليمارس التهريب في المياه الإقليمية العراقية، وتساءل: الى أي مدى مباح العراق؟ وهل وزارة النفط تدري؟ نعم أيها الشهيد إنها تدري، وتدعي إنها لا تدري، الا لعنة الله على الظالمين.
خلال إستجواب الفريق الشهيد لأحد المهربين عن أسماء المسؤولين العراقيين الذين يديرون عمليات التهريب من وراء الستار، أجاب المهرب: إنك تضرني بذلك، لأنهم يضروني، هم أناس أكابر يا سيدي، وأنا فقير، كلهم كبار، اكبر منك، يقتلوني ويقتلونك". (يقصد المسؤولين عن التهريب).
حسنا! من هو الفاسد في العراق؟
الجميع يشجبون الفساد ويدينون الفاسدين ويعتبرونهم أساس نكبات البلد، حتى يخيل لك إنهم عراقيون وطنيون شرفاء، ولم نجد أحد منهم يعترف بفشله وفساده، طالما ان الجميع نزيهون ووطنيون وشرفاء، فمن هم الذين خربوا البلاد وعاثوا فسادا؟
الرئاسات الثلاث تعترف بوجود الفساد ولا تسميه، وكل النواب يعترفون بالفساد ولا يسمون الفاسدين، الوزراء بأجمعهم يعترفون بوجود الفساد ولا يسمون الفاسدين، جميع رؤساء الكتل السياسية تعترف بوجود الفساد ولا يسمون الفاسدون، مرجعية النجف تعترف بالفساد ولا تسمي الفاسدين، بل تحميهم كما في حال الشهرستاني ووكلاء المرجع، هيئة النزاهة والمفتشون العامون والرقابة المالية يعترفون بالفساد ولا يسمون الفاسدين، القضاء يعترف بالفساد ولا يقضي على الفاسدين، بل يصدر قانون (العفو)، انه اشبه بمحايه تمسح كل ما موجود ملف الفساد.
إذن من هو الفاسد في العراق؟
ايها الشعب العراقي، لم يبق فاسد غيرك!
كلمة أخيرة لرئيس الوزراء الذي بشر العراقيين بتأسيس ما يسمى بالمجلس الأعلى لمكافحة الفساد، نقول لك ما أنشده زياد الأعجم:
لله درّك من فتى لو كنت تفعل ما تقول
(العقد الفريد1/207)، واللبيب يفهم الإشارة، مع ان رئيس الوزراء نفسه حلقة مهمة في مسلسل الفساد، وكان الله في عون العراقيين، نقصد العراقيين الذين يرفضوا ان يستفيقوا من سباتهم الطويل.
وسوم: العدد 810