في قاعة الامتحان: عن التعليم في وطني –الغش-
مع الصمت المخيم على المكان، كان صوت شابة في عمر الزهور، يبتك الأسماع، في لحن قولها صهل فرنسية مكهربة، كأنها على عجلة من أمرها، مشهد يتكرر كل حين، فتلك الشِرًة عادةُ في الناس راسخة، عن طموح لا حدود له، يرى العالم بعين الرضا ويتناسى الواقع المرير، شموع المدرسين تحترق على عتبة جيل مسلوب الإرادة، منكفئ على حاضره جاهل معدم العقل ولى الدبر عن ماضيه، ولا يرى في المستقبل إلا شهادة يتسلمها آخر الزمان، وما زال صوت المُدَرِسة حديثة العهد بالتدريس، يجلجل كأنه ناقوس علق بكنيسة مهجورة، يلوك ألوانا من التعابير الفرنسية المعتقة، بجانبها شاب قد أسلم العنان والأزمة كلها للسانها، فكان يبدو للوهلة الأولى مسلوب الإرادة كأنه بعضها، لا يحرك ساكنا، ولا تكاد تشعر بوجوده، إلا من خلال حوار عقيم، وخلف هذا الصمت قلوب يعتصرها الأسف والأسى على حاضرنا الموبوء الذي غدت رائحته تزكم الأنوف، فقد عهدنا في كل امتحان محنة وبلاء، سواء تلك التي يتلظى بها المدرسون "الحراس الجدد" أو الإدارة ممثلة النظام العام.
واستقام هذا الفضاء المفعم بالجفاء، جو الامتحان، أصواتا لا تكاد تميز محتواها للطلاب جعلوا الغش غاية لا وسيلة، فقد كان الواحد منهم يتربع على عرش الألمعية حينا من الدهر – أمام رفاقه – بعد نجاحه في العملية الخاصة"الغش" التي لا يتجرأ عليها إلا ذوو القلوب التي سمت في علياء الجرأة واللامبالاة، التي استوى عندها النجاح والفشل سواء بسواء.
ما كان لهذه الإطلالة على امتحاناتنا المغضوب عليها أن تحيد بي عن الطلاب فهم الركيزة والأساس، هم شعلة الأمل الذي خالطه غبش وعتمة في الآن ذاته، وتناهى إلى سمعي: من يحمل اللواء؟ ومن يبني وطنا هدمته الأنانيات المستعلية؟
حتى غدا النهب والسلب والغش حقوقا تطلب، وغايات تدرك، أما الفضيلة والصدق وما كرم من الأخلاق فهي إلى الانقراض، تتوارى من القوم.. فهي الغرم لا الغنم، وهي مجلبة للمذلة و الاستهجان، قد اندك عنقها تحت طبقات الثرى، وراودتني نسمات الهواء البارد تلاعب وجوها كالحة، وقد أضناها من الرسائل التي ثقلت في السماوات والأرض، رسالة التعليم !؟
سفه وسفسطة يا من كاد أن يكون رسولا !
وتلفتُ إلى الزمان وقد مضى أغلبه، والتوى حبله برقاب القوم فأرداهم في حمأة من الضيق والشدة، لأجد مناهج التعليم قد أفرغت من كل محتوى، لا يعيد لها الروح إلا مدرس خبر الدنيا وعرف الناس، تمثَل التربيةَ حق التمثل وأحسن وفادتها ليَكُونَ الطلع نضيدا، والغرس يانعا، يوتي أكله كل حين بإذن ربه.
يعلم أساطنة البغي أن مفتاح الأمم في تعليمها لذلك لا يرعوي المتجاهل منهم أن يدعو إلى لهجة عامية، أو يكتب ،وهو المتعلم في جحور المحتلين المتمدرس في حِجرهم، مقالات ودعاوى مغرضة الغاية منها أن التعليم مثقل كاهل الوطن فأحرى بنا التوجه إلى خوصصته.. فكر الحداثة المفترى عليها..
حداثة تقر بحق التعلم في الغرب وفي الشرق، وقد كان لها الفضل في تعلم صاحبنا الحداثي بزعمه، وسرعان ما تناسى ذلك ليطالب بتعليم تتبناه شركات لا ترى للقيم فضلا، إنما محض خبل وتحجر في الفكر، لأن كل تعليم لا بد أن يفرخ دراهم ودنانير..
عُباد المادة ولا شيء غير المادة.
إن حاجة أمتنا لتعليم رائد مبداه حرية في التعلم ضرورة ملحة، ومقصد وغاية، تتجند كل الوسائل المادية والفكرية لتخدمه، بعيدا عن التفكير السطحي، وإعمالا للعقول الراسخة الصادقة المحبة الخير للبشرية جمعاء، هذا التعليم يمكن أن يتلمس طريقه لدى الأمم التي تحترم وجودها، وترقب بعين الحذر ماضيها تحميه، تعيش حاضرها وتستشرف لمستقبلها، تبدأ أولا من طريق لغتها الأم بعيدا عن فكر انحطاطي مهزوم تابع وذيل يرقب عورة محتليه ليتتبعها شبرا بشبر، بإرادة مستلبة وعقل فارغ من كل عرف أو قانون.
وقلت وأنا المرتقب لهزيمة حضارية في أجيال أفرغت من محتواها، فهي تطوف الشوارع بعقول فارغة يصفر فيه الهواء، إلا ما رحم ربك وقليل ماهم:
ولقد تنادى الناس أننــــــــي *** ليوم الكريهة ليث لا أحجمِ
وليت الأيام الخوالي تدعنني *** وتهتك مشارب القوم المُثلَم
فإذا اشتد عليهم شديد يومهم *** وتهادت للنوائب كل مرغمِ
فدونك ،لا أبا لك، إني لــــــها *** أنادي البدور فلا أســــــأم
و لا أرتضي من القوم كل مذمة*** وإني لست عندهم بمتهم
وسوم: العدد 817