ثالوث الفساد المعيق لتطبيق القوانين
لا شك أن تخصيص يوم عالمي للتذكير بضرورة محاربة الفساد بكل أشكاله عبر أقطار المعمور يدل على وجود إرادة دولية لاستئصال آفة خطيرة تترتب عنها عواقب وخيمة تعاني منها البشرية قاطبة ، ولها تداعيات في منتهى الخطورة على المدى البعيد.
ومعلوم أن لفظة " فساد " التي هي نقيض الصلاح ،تدل على مجموعة من الألفاظ المستقبحة كالتلف ، والعطب ، والخلل ، والانحلال ، والانحراف ، والاضطراب ، والتخريب ، والبطلان ... إلخ ، والفساد يصيب الماديات والمعنويات على حد سواء ، ورب فساد يلحق بما هو معنوي كالقيم والأخلاق والمبادىء ... يكون أشد وأخطر من فساد يصيب ها هو مادي إذ قد يسهل إصلاح المادي ، ويستحيل ذلك بالنسبة لما هو معنوي ، وهو ما عبر عنه الشاعر بقوله :
إن القلوب إذا تنافر ودّها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
علما بأن الزجاجة قد يعاد تصنيعها من جديد مع تعذر جبر كسرها ، ولكن يستحيل ذلك مع القلوب .
ولقد تواضعت البشرية منذ فجر التاريخ على إدانة الفساد مهما كان ، وسنّت من أجل محاصرته ،و محاربته ،ومنعه ضوابط أو قوانين إلا أن الفساد داء عضال لا تسلم منه حتى تلك القوانين التي وضعت لمنعه واستئصاله . وحين يصيب الفساد القوانين، فإن كل ما تضبطه من أمور وأحوال الناس تصير عرضة للضياع .
والفساد الذي يصيب القوانين يكون إما عبارة عن تعطيلها أو عبارة عن سوء توظيفها ، ونريد في هذا المقال أن نركز على ثالوث الفساد الذي يعيق تطبيق القوانين إما بتعطيلها أو بسوء توظيفها .
وأول هذا الثالوث هو السلطة بكل أشكالها حيث يكون ذوو السلطة خارج طائلة القوانين ، لا ينسحب عليهم منها ما ينسحب على عموم الناس، لأن السلطة عند عند بعض أصحابها تعتبر امتيازا يجعلهم فوق القوانين وخارج طائلتها . وإذا شئنا تبسيط التمثيل لهذا النوع من الفساد الذي يعطل القوانين، نستحضر ما يقع أحيانا من بعض ذوي السلطة من مخالفات لقوانين السير غير المسموح بها ،لكنهم لا يحاسبون من طرف من يوكل إليهم مراقبة احترام هذه القوانين، ويكون ذلك محاباة لهم باعتبار سلطتهم . وقد يقع إخلاء سبيلهم على مرى ومسمع شهود عيان ، بل قد يكون من هؤلاء الشهود من يرتكبون نفس المخالفات ، فيطبق عليهم القانون ، ويؤدون ثمن مخالفاتهم فيشعرون حينئذ بغبن كبير لسوء استعمال هذا القانون الذي طالهم، ولم يطل أصحاب السلطة ، وهذه ازدواجية في المكيال كما يقال من شأنها أن تفضي إلى تكريس الاستخفاف والاستهانة بقوانين السير، وتفقدها مصداقيتها لدى الجميع بسبب سوء توظيفها . وما ينطبق على تعطيل قوانين السير بسبب استغلال السلطة، ينطبق أيضا على سائر القوانين الأخرى .
وثاني ثالوث الفساد المعطل للقوانين، هو الرشوة التي تكون مالا أو متاعا أو امتيازا ، والتي تدفع لخرق القوانين بحيث يصير الراشي فوقها وخارج طائلتها ، والذي يمكنّه من ذلك المرتشي بتعطيلها بشكل أوبآخر . وإذا حافظنا على نفس المثال السابق المتعلق بقوانين السير التي يتعمد بعضهم خرقها وعدم احترامها يساعدهم على ذلك من يوكل إليهم تطبيقها بأخذ الرشى منهم ، وينتهي الأمر إلى الاستهانة والاستخفاف بتلك القوانين، والتجاسرعليها بالاتكال الدائم على الرشى، علما بأن ذلك قد تترتب عنه آفات يكون لها ضحايا إما هالكين أو معوقين. وما ينطبق على تعطيل قوانين السير بسبب الرشى ، ينطبق أيضا على كل القوانين الأخرى .
وثالث ثالوث الفساد المعطل للقوانين، هو مساومة الأعراض التي تكون ثمنا للدوس على القوانين ، وهذا النوع من الفساد له طابع أخلاقي، وإن كان النوعان السابقان فيهما أيضا مساسا بالأخلاق إلا أن امتهان الأعراض فيه مساس خطير بالأخلاق . وكمثال على ذلك ،وليس حصرا نشير إلى ارتباط هذا النوع من الفساد بالحصول على شواهد ، وعلى وظائف أو شغل ، ويكون ضحاياه من الجنس اللطيف الذي يضطر من أجل الحصول عليها إلى استباحة الأعراض سواء كان الحصول مستحقا أو غير مستحق، لأنه في نهاية المطاف تكون النتيجة واحدة بحيث تتساوى الضحية المستحقة للشهادة أو الوظيفة أوالشغل في استباحة عرضها مكرهة مع الضحية غير المستحقة لذلك فتستبيح هي الأخرى عرضها مكرهة للحصول على ما لا حق لها فيه . وإذا كانت الضحية الأولى أشد تعرضا للظلم ، فإن الضحية الثانية تكون أكثر منها مسؤولية بحكم انخراطها في هذا النوع من الفساد المعطل للقوانين ظالمة لنفسها ، وظالمة لغيرها ممن هن أحق منها بالشواهد والوظائف أو الشغل كما تنص على ذلك القوانين . وهذا النوع من الفساد الذي يمارس غالبا خفية لشناعته وفظاعته، يستشري كاستشراء الوباء المعدي، لأن إغراء الحصول على الشواهد أو الوظائف أو الشغل، لا يقاوم خصوصا عند الفئات الهشة التي تعاني من الفاقة والعوز مع البطالة ، فتضطر بسبب ذلك إلى الحصول عليها مقابل ابتذال الأعراض ، وإننا لنسمع بين الحين والآخر بأخبار عن هذه الآفة الخطيرة حين يكشف عنها الستار إعلاميا .
وخلاصة القول أن هذا الثالوث من الفساد يهدد بشكل خطير القوانين التي هي ضمان الحياة الكريمة ، و فيها صيانة للحقوق ، ووقاية للمجتمعات من الانهيار المفضي إلى الفوضى العارمة ، وإلى شيوع الظلم الصارخ ... إلى غير ذلك من الشرور ذات العواقب الوخيمة .
فهل ستجعل المجتمعات البشرية من هذا اليوم العالمي لمحاربة الفساد محطة لتوعية مواطنيها عن طريق كل الوسائل المتاحة بخطورة ثالوث الفساد المعطل للقوانين الذي عرضناه في هذا المقال ،علما بأنه توجد أنواع أخرى منه لا يسمح الظرف بالتطرق إليها أم أن ذكرى هذا اليوم ستتكرر كل عام ، وهذا الثالوث الخبيث وغيره جاثم على صدرالقوانين ،يعرقل تطبيقها مسببا بذلك في اختلال موازين الحياة داخل المجتمعات البشرية ؟؟؟
وسوم: العدد 1014