توقّف قليلا واختبر أفكارك
دعونا نترك أفكارنا الملتصقة بأذهاننا منذ زمن، فربّما صدأت، أو تعفّنت فلم تعد صالحة للحياة السّويّة القويمة. لكن مهلًا فلا بدّ أن أترك لكم الخيار أوّلًا لتتركوها طوعًا وقناعة، أو تحتفظوا بها إن صمدت في اختبار الصّلاحيّة والنّفع.
عزيزي القارئ ربّما بيئتك التي نشأت فيها، واعتدت على نمط حياتها وتفكيرها ليست بالمثاليّة بل ليست بالمستقيمة ولا السّليمة، لكن أهذا مبرّر لك لتظلّ على ما أنت عليه دون تفكّر، ولا تعقّل...دون اختبار صحة ما ورثته منها، وقياسه ووزنه وفق معايير من أوجدك على هذه الحياة، وأنزل لك دستورها؟
يمرّ علينا في الحياة من يفعل من الخطأ ما يفعل، ويتهاون بما لا يصحّ التّهاون به، وإن حاولنا نصحه، أو تذكيره بأحكام الله سارع بتبريره: "هذه بيئتي، هكذا تربّيت".
وهنا يكون ممّن شملتهم هذه الآية:
"وإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ".
في كثير من الأحيان لا تورّث العائلة الأمراض المزمنة فحسب بل والأفكار والعادات السّيئة، والمفلح الذّكيّ من يحاول الوقاية من أسباب الأولى ورفض الثّانية، وعدم التّسليم بها، ومحاولة تقويم اعوجاجها.
إذن دعنا نتّفق أنّ تعوّدك على الشّيء لا يختم بالضّرورة على جوازه وإباحته...كما لا يمكن عبورك بجواز سفر منته الصّلاحية لا يمكنك التّقدّم في حياتك، وأنت تعيش في جلباب أبيك وقبيلتك دونما إمعان عقلك.
خدعوك حين قالوا أنّ الحياة دار شقاء وضنك كلّما اشتكيت من سوء حالك، أو أزمة ألّمت بك، ونسوا أن يقولوا لك أنّ الدّنيا محطّات، وأنّ مع كلّ عسر يسرا، أو أن يقولوا مثلا أنّ نفسك قويّة لدرجة قدرتها على إحداث المرض وقدرتها على الشّفاء منه.
أويعقل أن يخلقك اللّه الرّحيم ليعذّبك؟
خدعوك حين قالوا لا إنسان كامل، نعم لا إنسان كامل، لكن حين تتشبّث بها لمواراة عيوبك، والتّستّر على عجزك الذي مردّه قلّة حيلتك، ومكوثك في منطقة راحتك تصبح كلمة حقّ يراد بها أو يستخدمها باطل.
خدعوك حين قالوا لك ظنّا منهم أنّهم يطمئنوك في تعسّر ولادة أحلامك: لا شيء كامل، كلّنا لديه ما ينقصه، في حين كان عليهم أن يقولوا: اعمل بلا يأس وستصل حتما إلى ما تريد، لا بدّ لثمار سعيك وصبرك أن تنضج، فلكلّ مجتهد نصيب.
غاب عنهم أنّ طبيعة النّفس البشريّة لا تأنس بالحديث عن النّواقص، وأنّ التّركيز على أيّ شيء يجذبه لعقلك الباطن، وللعقل الباطن قدرة تحقّق أيّ شيء يصبو إليه.
فهم مغلوط للمفردات واستعمالها وأثرها في النّفس.
غاب عنهم أنّ الحياة أشبه ما تكون باختبار، وبقدر فهمك لها تحدّد مكانتك وإنجازك، فإمّا أن تكون عبئا على الحياة، وإمّا أن تكون إضافة جميلة لها.
وما الحياة إلّا رحلة بقدر امتلاكنا خريطة السّير فيها يكون استمتاعنا بها وبهذه الآيات الكريمة مفتاح هذه الخريطة:
"فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا".
"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ"
خدعوك أيضا حين نصحوك بالرّضا بنصيبك وأنت بيدك أن تسعى لتغييره، فالرّضا يكون فيما ليس لك به اختيار كأن يخلقك اللّه طويلا أو قصيرا، أسمر البشرة أو أبيض، مبصرا أو كفيفا، فيما سوى ذلك القبيل ارض بما يمنحك الله بعد قطعك أشواطا من السّعي، لا بعد أن تمتهن التّراخي والكسل.
إنّ كثيرا ممّا تظنّه نقصا في حياتك مردّه التصاقك بقوقعة أفكارك، وقلّة رؤاك...كيف يمكنني أن أطمئن ذلك الفقير الذي أنجب عشرة أطفال وهو كان بالكاد يستطيع الإنفاق، وهم اثنان بأن أقول له: كلّنا هناك ما ينقصه وأكثر ما كان ينقصه وسائل تنظيم الحمل؟
كيف أربّت على كتف تلك المرأة التي صال الهمّ بملامحها وجال بعد إنجابها ستّة من الأبناء وزوجها يعنّفها منذ بداية الزّواج بكلمة كلّنا لديه ما ينقصه، في حين ما كان ينقصها هو وعيها، وتقديرها لذاتها.
كيف أهدّئ بذات العبارة من روع من فتكت به الأمراض من أكله المال الحرام وحقوق العباد؟
وأنسى قوله تعالى: "كلوا من طيّبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي"
أو شابّ نام حتّى منتصف النّهار وشكا أن قُدّر عليه رزقه، ونسي أنّ الله يبارك في البكور...فما ينقصه ما فعله آخر بنفس عمره من طرق أبواب كثيرة للسّعي، بهمّة ونشاط، وتعلّم وتنمية للذّات، فليس الصّيّاد الماهر من يرمي شبكته خارج الماء إن لم يصطد من المحاولة الأولى، وما الحياة إلا اقتناص للفرص.
أقلقوك حين قالوا كلّما حصلت على شيء جميل: لكلّ شيء تملكه ضريبة، وكلّ لحظة سعادة سيأتي سريعا ما يعكّرها، دون أن يستشعروا وقع هذه الكلمة على مسامع الأمل حتّى بتّ لا تستمتع بأوقات سعادتك وتحقيق إنجازاتك، ونسوا أنّك دفعت مسبقا ثمن كلّ ما وصلت إليه بجدّك واجتهادك، وربّما جنيت عوض الله لك دفعة واحدة عن كلّ ما كابدته في السّابق، فلم الخوف إذن؟
لن أغطّي شمس الحقيقة بغربال الخداع، فجلّ ما نعانيه في حياتنا مرجعه جهلنا في مرحلة ما، وفي اللّحظة التي نتحرّر بها من ذاك الجهل تتغيّر حياتنا بل ويمكن أن تنقلب لجنّة لا يمكننا تخيّلها، فما ينقصنا حقيقة هو الوعي والغوص في أعماق المعرفة.
لكن حتّى في رحلة اكتشاف الوعي في داخلنا بعد جولات من أخطائنا نخرج بدروس وخبرة وحكمة في الحياة تؤول بامتلاكنا مفاتيح السّعادة، وخريطة دروبها.
فسارع باستغلال عقارب وقتك؛ لتلدغ كلّ مواطن الجهل في عقلك فتستفيق، ولا تَضع حدودا لحلمك، ولا تنس أنّ الله عند حسن ظنّ عبده به، فحسن الظّن عبادة قلبيّة هي من حسن العبادة، وكلّ متوقّع آت.
وسوم: العدد 1079