نديم العروضيين المجلس الثاني لمحمد جمال صقر

تفريغ أنوار محمد ومرادعة ندى الشربيني

بسم الله سبحانه وتعالى وبحمده، وصلاة على رسوله وسلاما، ورضوانا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم!

كيف حالكم؟ كيف أمسيتم؟

الحمد لله!

بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب!

روي عن ابن عباسٍ أنه سئل بما نِلتَ العلم؟ فقال: بلسان سؤول وعقل عقول.

ما اللسان السؤول؟

الكثير السؤال.

ما العقل العقول؟

الكثير العقل.

والعقل الضبط، والعقل في الأصل الربط ومنه العِقال الرباط، فإنما سمي الذهن عقلا من حيث يعقِل الإنسان عن عمل القبيح. وابن عباس كما تعرفون، تَرجُمان القرآن، عالم الأمة، بحر لا ساحل له. وكذلك قيل في الحكمة: العلم كنز مفتاحه السؤال، ويُمكِنكم أن تُضيفوا إلى تلك الحكم السابقة، أن العلوم تُقاس بمقدار الأسئلة التي تُثيرها، لا بمقدار الأجوبة التي تُجيبها، لماذا؟ لأنها إذا قدمت أجوبة الأسئلة التي تثيرها اكتفى الناس منها وقالوا انتهى، عرفنا ما عندها وانتهت، عرفنا ما عنده عالمًا جامدًا على مستواه، ذهبت إليه فتعلمت ما عنده ثم تركته، فأما الذي يطور نفسه دائما فلا غنى بك عنه؛ كلما تعلمت شيئا وجدت غيره، عرفت شيئا وغابت عنك أشياء:

"فَقُلْ لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْعِلْم فَلْسَفَةً عَرَفْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ"!

فعندئذٍ تقول هذا رجل لا غنى بي عنه؛ لهذا -يا جماعة!- حاولت أن أدخل إلى علم العروض بسؤال أسئلة أجتهد أن أجيبها أجوبة لكم أن تقبلوها وأن تَأبَوها، وكأنني أعبر عما قدمت لكم من أن علم العروض لا تنقضي عجائبه، يُدلي فيه كل واحد بدلوه من غير أن يغلق الباب.

أسئلة التقديم

أسأل نيابة عنكم ثلاثة وعشرين سؤالاً أقدم بها لعلم العروض، وأمهد لكلامي فيه، وأفرش فرشة كما يقولون في بعض الأحيان -يقولون فرشة، يفرش العلماء بين يدي المسائل فرشة عامة- فرشتُ هذه الفرشة بأسئلة لكي أتذكر ذلك المعنى الذي قدمت به.

هذه هي الأسئلة:

1)  ما الشعر؟

2)  ما العروض؟

3)  ما الشاعر، وما العروضي؟

4)  ما رتبة العروض عند كل من الشاعر والعروضي؟

5)  ما القصيدة؟

6)  ما البيت إذن؟

وكلما ذكرت "إذن" دللتُ على أن هذا السؤال مرتب على ما قبله.

7)  بم تترابط أبيات القصيدة الواحدة؟

8)  ما التفعيلة إذن؟

9)  ما طول البيت إذن؟

10)                    ما انقسام البيت؟

11)                    ما الصدر، والعجز، والعروض، والضرب، والحشو؟

12)                    ما البحر؟

13)                    كيف نثبت بالكتابة نسبة البيت إلى بحره؟

14)                    ما القافية؟

15)                    ما أجزاؤها إذن؟

16)                    ما أنواعها؟

17)                    لماذا استقلت عند أهلنا الأولين بعلم وهي من علم العروض؟

18)                    ما أساس تخريج القصيدة في علم العروض؟

19)                    كيف نخرج القصيدة في علم العروض؟

20)                    كيف مكننا الخليل من تخريج القصيدة في علم العروض؟

21)                    لماذا نحتاج إلى وصف البيت تفاعيل وقافية؟

22)                    كيف يستبيح الشاعر أن يُغيّرَ من البيت؟

23)                    ما هذا التغيير؟

وإنها أسئلة لو وجدت أجوبة!

سمعت ابنة تقول لصاحبتها: لو سمحت، و"لو" هذه أداة امتناع، أتتوقع منها إذن ألا تسمح؟ لا، ولكن جرت العادة في كلام العامة أن يستعملوا "لو" استعمال "إذا"، بذلك جرت عادة العامة ونحن منهم -في بعض الأحيان ها!- حينما نجري مجراهم على استعمال "لو" استعمال "إذا"، وإلا لوجب أن تقول لها: إذا سمحت؛ فإذا شرط المتوقع، و"إنْ" شرط المشكوك في وقوعه، و"لو" شرط غير المتوقع، فإذا ما قلت له: لو سمحت كنت قد توقعت ألا يسمح! هل تريده ألا يسمح؟ تريده أن يسمح؛ فقل له إذن: إذا سمحت، ولا نكاد نسمع "إذا سمحت" هذه هذه الأيام، لا نكاد نسمعها!

وإنها لأسئلة لو وجدت أجوبة، أنا هنا أستعمل "لو" على أصلها؛ إغراءً لكم بإِباء الأجوبة، وتجهيز أجوبة غيرها!

يجوز -ها- يجوز أن نجيب تلك الأسئلة بما يأتي:

ما الشعر؟

أسئلة كالأسئلة الوجودية يضع فيها الناس الكتب الكبيرة، فكيف تختصرها هذا الاختصار يا أستاذ؟ تهزأ بنا؟ لا أنا لا حيلة،  أنا لا غنى بي عن أن أسأل هذا السؤال في حضرة علم العروض -والعروض كما اتفقنا دم الشعر الدافق- لا غنى بي عن أن أسأل هذا السؤال، ولا أدعي أن هذا الجواب قد أغلق الباب لا، أكتفي في إجابة هذا السؤال بهذه العبارة: "الشعر نمط من الكلام الفني، أهم أسس بنائه العروض". والكلام منه فني ومنه علمي ولا ثالث لهما إلا أن يخلط العلم بالفن أو الفن بالعلم، نعم؛ لا ثالث لهما إلا إذا خلطت العلمية بشيء من الفن أو الفنية بشيء من العلم.

تمام؟ ما هذا الكلام الفني؟ وما ذاك الكلام العلمي؟

كلاهما يسعى إلى الحقيقة على طريقته، فأما الكلام العلمي فيسعى على طريقة علمية توصلًا إلى ضوابط، و أما الكلام  الفني فيسعى على طريقة إشراقية كإشراق الوصول عند الصوفية إلى كشف مباشر بلا تسويغ ولا مقدمات ولا نتائج، يقول لك الفنان: أحس أن هذا الشخص كذاب! على أي أساس؟ لا أساس غير الإحساس! ويقول لك العالم: ألا ترى يوم قال كذا وفعل كذا؟  أهذا صادق؟ يبني هذا على مقدمات مرتبة، ويبني ذاك هو على إحساس مباشر، وربما أصاب دون الأول -سبحان الله!- ربما أصاب الفنانون وأخطأ العلماء.

هذا إذن نمط من الكلام نمط، نوع من الكلام الفني، أهم أسس بنائه العروض، يعني يكفينا في هذا المقام أن نقول هذا الكلام، وكأنني أقول لكم: انتبهوا، أخرجوا من الشعر كل كلام فني لم يشتمل في أصل بنيانه على العروض، كالذي يسمى الآن قصيدة النثر، كأنني أقول لكم: أخرجواه، واجعلوه من النثر الفني ! ولا ريب في أننا سنخرج المنظومات العلمية كألفية ابن مالك، لأنها ليست من الكلام الفني.

قصيدة النثر إذن كلام فني، لكنه غير مشتمل على العروض، ألفية ابن مالك كلام علمي، لكنه مشتمل على العروض، وهكذا وهكذا...؛ فربما وجدت الكلام فنيا خاليًا من العروض، وربما وجدته علميا مشتملًا على العروض؛ فاعتمد على هذا في التمييز!

مسألة التتمييز بين الأنواع صعبة، حتى إن بعض الشباب عندكم يدرسها في الدكتوراة، وأنا أعانيها في موقعي الإلكتروني (www.mogasaqr.com)، فأنا مضطر فيه إلى تصنيف الأنواع، فحينًا أحار في النوع أين أضعه؟ في القصة؟ في الخاطرة؟ في كذا؟ في كذا؟ في كذا؟ ولا سيما هذه الأيام بعدما تداخلت الفنون.

ما العروض هذا الذي جعلته يا أخي أساسا في الشعر؟ ما هذا العروض؟

كلمة "عَرُوض" في متن لغتنا من العين والراء والضاد، ينبغي أن تكون صيغة مبالغة في "عَارِض": عَرَض؛ فهو عارِض وعَروض، ما معنى عَرَض؟ أهو "عَرَضَ" بمعنى "ظهر"، أم "عَرَضَ" بمعنى "اعترض" و"توقف" في طريق الناس؟  أنا أرجح أنها بهذا المعنى الثاني في تسمية علم العروض، وفي تسمية الشيء في طبيعته بالمعنى الأول. يا جماعة، نحن عندنا "العروض" و"علم العروض"، وبينهما فرق. عندنا "النحو" و"علم النحو"، "الصرف" و"علم الصرف"، "الموسيقى و"علم الموسيقى"، لدينا "الطعام" و"علم الطعام"، لدينا "الحياة" و"علم الحياة"، هكذا خلق الله الدنيا، للأشياء وجود طبيعي في الحياة، ثم ينشأ لها علم يحاول أن يصل إلى حقيقتها، ليضع فيها ضوابط؛ فعندنا فرق بين الشيء في وجوده الطبيعي والعلم الذي يريد أن يكشف حقيقته و يضع له ضوابط. فـ"العروض" الكائن الطبيعي هو الذي نجده في الشعر، أما "علم العروض" فهو الذي نجده في كتب العروضيين، في كتب العلم ككتاب "الكافي" للتبريزي -ها!- وجوهرة العروض من جواهر "العقد الفريد" لابن عبد ربه، وكتابَيِ الأخفش، إلى "ميزان الذهب" للهاشمي، و"موسيقى الشعر" للدكتور شعبان صلاح هذه الأيام، و"كن شاعرا" للدكتور عمر خلوف.

عندنا فرق بين العروض وعلم العروض؛ فأين نجد العروض؟

في كتب الشعر.

وأين نجد علم العروض؟

في كتب علماء العروض.

هذا فرق، يعني مثلا أين نجد النحو؟

في الكلام، في القرآن الكريم، في الشعر، في النثر، في الأمثال، في الكلام...

أين نجد علم النحو؟

في "كتاب سيبويه"، في "النحو الوافي" لعباس حسن، في "النحو الوظيفي" لفلان؛ فعندنا فرق بين الشيء في وجوده الطبيعي وعلم الشيء، حتى بين الطلاب -يا جماعة، سبحان الله!- لكل منهما طلابه، طلاب العروض هم طلاب الشعر الفنانون أو المتفنّنون، وطلاب علم العروض هم طلاب العلم، العلماء والمتعلمون، سبحان الله! على كل واحد أن يعرف غايته حتى يطلبها.

 وأنا في هذه المحاضرات المفروض أنني طالب لعلم العروض، ومعلم لعلم العروض، لكنني لن أستغني عن الإلمام بالعروض في موطنه الطبيعي؛ لهذا سأعلمكم علم العروض من خلال القصائد الكاملة؛ حتى نستمتع بها ونعرف عضوية العروض في القصيدة؛ سأمزج تعليم علم العروض بتذوق العروض نفسه في الشعر، وأحس أنني لا غنى بي عن هذا.

فما هذا العروض الذي له وجود طبيعي في الشعر وتصور علمي في كتب العلم؟

ما هذا العروض؟

هو تكرار ترتيب مقاطع الأصوات اللغوية، على نحو خاص يدركه السامع ويرتاح له. تكرار، تكرار أي شيء؟ تكرار كتل متكونة فيه؛ ما هذه الكتل؟ "كتل" جمع "كتلة"، وهي هنا مجموعة من المقاطع المحددة، تكرر.

تتكون من: فَـ (مقطع قصير)، عو (مقطع طويل)، لن (مقطع طويل)، م (مقطع قصير)، فا (مقطع طويل)، عي (مقطع طويل)، لن (مقطع طويل).

وهكذا ["فعولن" "فعولن" "فعولن" "فعولن"]، و["مفاعيلن" مفاعيلن"]...

هذا هو العروض؛ فما العروض إذن؟

نمط خاص من الإيقاع.  سمعتم عن الإيقاع؟

نعم.

الإيقاع كلمة ترد عليكم في الجامعة كثيرا في تخصصات مختلفة. هي معروفة في الموسيقى، ولكنها تتردد في كل مكان، حتى هذه الجامعة حين بُنيت بُنيت بإيقاع، ألا ترون كيف بُني المسجد في مكان، ثم بُنيت الكليات حوله من أمام إلى خلف، إلى أن انتهت الجامعة؟ قد بنيت بإيقاع تترامى المباني من عن يمين وشمال، وعندنا شريان للمباني هكذا، بنيت بإيقاع. خلق ربنا سبحانه الخلق بإيقاع فقلده الإنسان، والآن ترون مثلا كيف صنعوا كذا وكذا وكذا؟ حاولوا أن يقلدوا مخلوقات رب العالمين، وقد خلق ربنا الكون كله بإيقاع؛ فالناس من ثم تقلده فيما تفعل، والإنسان أصلاً خِلقة رب العالمين، وفيه نفخته؛ ففيه من نفَس الرحمن، سبحانه!

فالعروض إذن تكرار ترتيب مقاطع الأصوات اللغوية على نحو خاص، تأملوا "على نحو خاص"، ما خصوصيته؟ أنه معين محدد يدركه السامع ويرتاح له، ألا يجوز أن تضع شيئا على غير المعروف؟ يجوز! سئل أحد العلماء: ألا يجوز أن أخترع شيئا غير الموجود؟ فأجأب: يجوز، لكنه لن يدخل في نظام العلم إلا بشرطين:

1)  أن تتواتر على استعماله وفعله مثل ما فعلْتَه أجيالُ الشعراء،

2)  وأن تتواتر على قبوله أجيالُ المتلقين.

لا حرج إذن -يا جماعة!- على الاختراع، من هذا الذي يمنعك من الاختراع؟ من؟ أنت في غرفتك وحدك تفعل ما تشاء، هل عليك من حرج في أن تفعل ما تشاء؟ لا حرج، لا رقيب عليك إلا رب العالمين، وأنت لا ترى خطرًا ولا كفرًا ولا كذا في أن تخترع وزنًا جديدا فتقول كما تشاء، ثم تأتي أصحابك من الصباح تقول: قد اخترعت وزنًا وقلت عليه هاكم، فلا يقبله أحد! هل تراك إذا ما اخترعت اختراعًا يقبله الناس؟ لا، هذه مسألة صعبة! لكن أحيانًا تفعل شيئا يقبله الناس، فينسب إليك، يقال: هو أول من قال كذا، أو أول من قال كذا هو فلان، يقلدونك. من شروط هذا أن يُدركه السامع، إدراك السامع للشيء يحتاج إلى أن يشتمل على إيقاع واضح يُدركه، يُحس بنغم يتحدَّر أمامه، يُدركه، ويرتاح، وينجذب انجذاب الحديد إلى المغناطيس، ينجذب، ولابد كذلك أن يرتاح، لأنه إذا ارتاح قَبِل، وإذا قبِل شجع الشاعر على أن يفعل هذا أكثر من مرة، فثبت، ورسخ، وأجبر العلماء على أن يضيفوه إلى كتبهم. راجِعوا كتب الأوائل -وسيأتيكم المعرض، فاشتروا ما يسمى "الأوائل"، وفيه أول من أول من قال كذا فلان...- وليست من العلم أصلا، لكنها معرفة، من طريقة كتب المعارف التي تفيد في برنامج "من سيربح المليون"، تفيدكم -إن شاء الله!- إذا ما وصلتم إليه، أو "من سيربح البونبون"، ذاك للكبار وهذا للصغار، وكلاهما موجودان؛ فشاركوا فيما تشاؤون! هذا عبث قطعا، وكلام فارغ! لكن كتب "الأوائل" معروفة. ولرسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- عبارات كان الأول فيها قطعا؛ فهو مثلا أول من قال "حَمِيَ الْوَطِيسُ"، نعم، وعندنا سحبان وائل أول من قال "أما بعد"، وفي العصور المتأخرة، في أيامنا التي أدركناها أول من قال "أخجلتم تواضعنا" سعد زغلول، هذا زعيم الثورة المصرية، أول من قال ذلك التعبير -انظروا إلى اللف و الدوران: "أخجلتم تواضعنا"، يا سلامًا!- فانتبه الناس، وقلدوه! وأول من قال "القوتان الأعظم" -وهو خطأ لغوي، صوابه "القوتان العظمَيان"- محمد حسنين هيكل، أشهر الصحفيين العرب، وقد تابعه الناس عليه قليلًا، ثم عرفوا أنه خطأ؛ فتركوه. يشترط في العروض إذن -يا جماعة!- أن يدركه السامع، وأن يرتاح له؛ فإن لم يدركه أو لم يرتح له ذهب كما جاء!

ما الشاعر وما العروضي؟

السؤال بـ"ما" كما ترون، لم نَقُل من الشاعر؟ والسؤال بها في مثل هذا المقام إنما يكون عن الحقيقة، ما حقيقة الشاعر؟ أنا لا أسألك: من الشاعر، لتقول: المتنبي، كما كان أبو العلاء يقول؛ كان أبو العلاء المعري إذا ما قال: قال الشاعر، يقصد المتنبي فقط؛ فكأن لا شاعر عنده إلا المتنبي، وحُق له! وسبحان الله، لقد أشار المتنبي إلى نفسه في أحد أبياته بـ"ما"، اسمعوا هذا البيت الجميل:

"يَقُولُونَ لِي مَا أَنْتَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَمَا تَبْتَغِي مَا أَبْتَغِي جَلَّ أَنْ يُسْمَى"؛

الله على البيت، جبار! ها؟ أعيدوا البيت، يقولون لي ما أنت في كل بلدة أدخلها، وما تبتغي، ماذا تريد؟ فيجيب في البيت نفسه: ما أبتغي جل أن يسمى،  الله!  بيت مدهش، افتتن به البردُّوني الشاعر اليمني، فأقام عليه قصيدته "وردة من دم المنتبي"؛ فاقرؤوها بديعة مدهشة، مطلعها:

"مِنْ تَلَظِّي لُمُوعِهِ كَادَ يَعْمَى كَادَ مِنْ شُهْرَةِ اسْمِهِ لَا يُسَمَّى

جَاءَ مِنْ نَفْسِهِ إِلَيْهَا وَحِيدًا...

هذا البردوني هنا يقلد المتنبي، ويقول عنه -هو أعمى أصلا-:

"مِنْ تَلَظِّي لُمُوعِهِ كَادَ يَعْمَى كَادَ مِنْ شُهْرَةِ اسْمِهِ لَا يُسَمَّى

وقد صدق؛ فهذا المعري إذا قال: قال الشاعر فقد أراد؟

المتنبي فقط!

فإذن ما الشاعر؟ وما العروضي؟

الشاعر هو الفنان في هذا السياق، في هذه الحضرة التي نحن فيها الآن الشاعر هو الفنان مبدع الشعر، أما العروضي فهو عالم العروض، فعندنا شخص مشتغل بالعروض هو الشاعر، وشخص مشتغل بعلم العروض هو العالم، هذا عالم وذاك فنان، وقد حدثتكم عن نمطين للكلام الفني والعلمي، فالشاعر يسلك مسلك الكلام الفني، ولا يعبأ بمنهج البحث وترتيب المقدمات توصلا إلى النتائج، لا يعبأ بهذا، وإذا عَبَأَ سخروا منه! وما أكثر ما قرأت من الشعر، ما يعلق عليه النقاد أنه شعر قضاة، إذا دخل في المقدمات والأحكام فليس بشعر، بل أحكام قضائية! أنشد الراعي النميري عبد الملك قوله في مطله لاميته:

"أولي أمر الله إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله في أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا"؛

فقال: ما هذا بشعر؛ هذا شرح الإسلام وتفسير آية!

"والشعر من نفس الرحمن مقتبس" -أو كما قال العقاد- فالشاعر مبدع الشعر الفنان، الذي لا يجري  على الكلام المنطقي المرتب من مقدمات إلى نتائج؛ هذا كلام قضاة، أحكام قضائية، لا، بل ينكشف له الأمر عن إحساس؛ فيعبر عنه بالموسيقى والوصف، وما تيسر له من أساليب. أما صاحبنا الآخر فعروضي - يسمونه العروضي، ويسمون المشتغل بعلم النحو نحويا، والمشتغل بالصرف صرفيا، هكذا كانوا يقولون- ناقد عروض.

 

ما رتبة العروض عند كل من الشاعر والعروضي؟ ما منزلته في الحركة؟ متى يأتي؟ متى يظهر؟

هو لدى الشاعر أول، ولدى العروضي آخر. أتخيل أن الشاعر ربما سمع أصواتًا كهذي الأصوات التي أضرب عليها بليلى سيدة العصي:

ددن دن ددن دن ددن دن ددن دن ددن دن ددن دن ددن دن ددن دن

ربما ربما سمع شخصا يضرب هذا الضرب، فأعجبه؛ فعزفه بالكلام، قال قصيدة، فهنا تأملوا، متى ظهر العروض؟ متى ظهرت الدندنة؟ أولا أم آخرا؟ ظهرت له أولا، سمع طرقات، سمع صوت سيارات، سمع كلاما من أحد، سمع أي شيء. أذكر أن أعظم ملحني القصائد في العصر الحديث، مصري مشهور بأنه أعظم من لحن القصائد من؟

عبد الوهاب؟

لا، لا، شخص غير عبد الوهاب- لحن قصيدة و ترك الشريط في البيت، وذهب فجلس على مقهى -قرأت هذا عنه- فسمع النادل -يسمونه الجرسون- ينادي أو يجيب بنغمة معينة، فنبَّهَتْه على وضع كان ينبغي أن يضع عليه اللحن، فذهب سريعا فهاتف زوجه ألا تعطي الشريط إلى من سيطلبه، سأعدله، ورجع فعدله؛ رأيتم! فياجماعة، أحيانا يسمع الشاعر طرقات، أصواتا، أحيانا يقرأ قصيدة، يحدث له ما يحدث، فيُخطِر له هذا الدندنةَ التي يميل إليها، ويخرجها في شعره؛ "فالعروض عند الشاعر أول"، عرفنا هذا بالعلم وبالتجربة. ذهب "بشار" مرة إلى أحد الأمراء مادحا فلم يعطه شيئا؛ فانتحى جانبا يدندن في نفسه: ددن دن ددن دن دن...؛ فخافه الأمير، ورده، وأعطاه! عرف أنه سينظم قصيدة أخرى، ولن تكون هذه المرة إلا في الهجاء، لأنه إذا لم ينفع المدح نفع الهجاء -إن شاء الله!- وبشار هذا كما تعرفونه، شيطان شيطان من الشياطين، فرده وأعطاه: اللهم اكفنا شره! كيف عرف؟ من سماع دندنته، ولم يكن قال شيئاً بعد غير الدندنة (ددن دن ددن دن دن...)، مصيبة -أدرك نفسك!- تعال، تعال، خذ ما تشاء!

"لكنه عند العروضي آخِر"؛ لماذا؟

لأن العروضي لا يبدأ عمله حتى ينتهي الشاعر من عمله، فإذا ما انتهى الشاعر من عمله تسلم العروضي القصيدة؛ كيف يتسلمها؟ يتسلمها نصا لغويا، يتسلمها نصًّا لا دندنةً، نصا كاملا، كامل الأهلية، فيتلقى مثلا معلقة امرئ القيس "قفا نبك من"، ويجتهد فيها حتى يصل في النهاية إلى أنها من بحر الطويل. أما امرؤ القيس نفسه فبدأ بالدندنة، جاشت في صدره الدندنة، ثم خرجت من خلال المعلقة، وأما "الباقلاني" مثلا فبالعكس، تلقى المعلقة، وقرأها، وجعل يضبط لغتها ويحاول أن يلحنها، حتى وصل في النهاية إلى دندنتها. هكذا تسير الأمور.

سألتني أمس طالبة: ألا يجوز أن يكون الشاعر هو العروضي، والعروضي هو الشاعر؟

أنجح مَن بحث في علم العروض ودرَّسه، الشعراء، حتى الخليل نفسه شاعر، لكنه شاعر وسط، لم يكن منقطعا للشعر. نعم؛ يا سالمة؟

يقال إنه لم يكن يحسن الشعر!

كان شاعرا له شعر جميل، لكنه قليل ومنحسر، يكون منه البيت والبيتان وكذا، هو مثلا صاحب البيت الذي لم يقل مثلَه غيرُه:

"اِعمَلْ بِعِلْمِي فَإِنْ قَصَّرْتُ فِي عَمَلِي يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلَا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي"!

وهو الذي دخل عليه ابنه وهو يقطع الشعر، فرجع إلى أمه صارخا: جُنَّ أبي! فقال بيتين من أروع ما يكون، ماذا قال؟

لكن جهلت مقالتي فعذلتني...

هي هذه ما أولها؟

"لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا أَقُولُ عَذَرْتَنِي أَوْ كُنْتُ أَجْهَلُ مَا تَقُولُ عَذَلْتُكَا

لَكِنْ جَهِلْتَ مَقَالَتِي فَعَذَلْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ جَاهِلٌ فَعَذَرْتُكَا"!

ويروى له في الزهد، وكان من أهله. والبيتان من أروع ما يكون، كلام رائع، وهكذا كان الخليل يقول البيت والبيتين والأبيات، لأنه غير منقطع لشيء واحد، كان الخليل مشغولا بسبعين شيئا في وقت واحد! قلت للسائلة إذن: يجوز؛ ففلان كذا وكذا وكذا، والمعري له مقدمة في علم العروض، وهو أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، ولابن عبد ربه في العقد الفريد فصل في العروض، وهو شاعر مهم، وهكذا، وهكذا. بل هذا الرجل الذي أحلتكم على كتابه الذي رفعته له على موقعي "عمر خلوف"، شاعر، وشعبان صلاح، صاحب "موسيقى الشعر العربي"، شاعر، وهلال الحجري صاحب "العروض المغنى"، شاعر... أحسن من بحث في علم العروض و درَّسَه، الشعراءُ.

لكن عندنا هنا مشكلة أنه إذا تذكر الشاعر في أثناء نظمه لقصيدته علم العروض وتقيد بقيوده، عطَّل نفسه، وقيد حركته؛ فأضاع على نفسه فوائد كثيرة! هل كان البدوي الفصيح قبل نشأة النحو يعرف النحو؟ لم يكن يعرفه. هل كان رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- وهو أفصح العرب على الإطلاق، يعرف ما وضعه فيما بعد أبو الأسود الدؤلي و تلاميذه عيسى بن عمر وغيره وصولا إلى الخليل فسيبويه فمن بعده  إلى الآن؟ لا، لم يكن يعرفه، وقد أوتي جوامع الكلم! لقد جنى على الشعراء علمُ العروض، كما قال نصا الدكتور "شكري عياد" في كتابه "موسيقى الشعر العربي"! وهو إنما يجني على الشعراء إذا جعلوه هُولَتَهم، كأنه رعب أمامهم! لي صديق شاعر يَنْظِمُ دائما ويعرض عليّ فأساعده على الحرية، ألا يتقيّد، لكنه لا يريد أن يُلام. يا أخي، افعل ما تشاء، ولكنه لا يريد أن يُلام، لا يريد لأحد أن يأخذ عليه شيئا، مهما كان! يا أخي، لا، ما هكذا تجري الأمور، لا، انطلق، وافعل ما تشاء!

ما القصيدة بناء على هذا؟

القصيدة -يا جماعة- بُنيان الشاعر! أحب دائما أن أتكلم عما أسميه "البنيان"، يتصف بالبنيانية كل شيء متقن، خلق الله الخلق بنيانا متكاملا، أعجب لمن يصلون الإنسان بالنجوم، هذا طبيعته كذا، وهذا طبيعته كذا، يعجبني هذا، ولا أتقيد لا بحظوظ اليوم التي في الجريدة [باب "حظك اليوم"]، لا هذا كلام فارغ، لا أقصده، بل أقصد اتفاق طبائع المخلوقات كلها؛ هذا طبيعته كذا، أرتاح لسماع هذا الكلام، لأنه يساعدني يشهد لوحدة الخالق، خلق الخلق بإيقاع واحد، والخالق واحد؛ ففي الناس مثل ما في الأرض، مثل ما في النجوم، والعلاقات مثل العلاقات مثل العلاقات، فكل ما خلقه الله سبحانه فيه طبيعة البنيان.

ما البنيان؟

"مركب ذو عناصر، لكل عنصر استقلاله في نفسه وعلاقته بغيره"، هذا هو البنيان، وليكن من أي شيء، من اللغة، من الماء، من أي شيء، من الأرض، من السماء، ليكن ما يكون! وقد علمنا سيدنا الخليل أشياء أريد أن تكتبوها أو أن تفكروا فيها معي.

عندنا في العالم كله مثلا، نوع من الكلام يسمى الشعر، فلنتخيل أننا جمعنا شعر العالم ماذا نسميه؟ لنتخيل أننا جمعنا ما حدث في العالم من هذا النمط الفني ماذا نسميه؟ أهو شعر العالم أم شعر العرب؟ لا، فيه العربي و الإنجليزي والفرنسي والصيني وكذا وكذا؛ هذا شعر العالم. وفي داخل شعر العالم شعر العرب، وشعر الإنجليز، شعر الفرنسيين، وشعر كذا... وفي داخل شعر العرب شعر فلان من الشعراء، وشعر فلان، وشعر فلان، شعر المتنبي، شعر أبي تمام، شعر كذا. وفي داخل شعر الشاعر المعين قصائد، هذه قصيدة وثانية وثالثة، لأبي مسلم البهلاني مئتان وخمسون قصيدة، لفلان ألف قصيدة، لفلان قصائد أكثر، وهناك ناس لا يعرفون مقدار شعرهم من كثرته، كالسيد الحميري مثلا، وكان بشار كثير الشعر كذلك، ولابن عربي الصوفي الشهير شعر كثير، وديوانه كبير... وهكذا. ومن داخل القصيدة عندنا الأبيات، ومن داخل البيت الواحد عندنا الأشطر، شطران، ومن داخل الشطر، ماذا عندنا؟

الكلمات.

لا، الكلمات هذه في اللغة، بل التفعيلات. ومن داخل التفعيلات؟ سنعرف، لكن خطر لي أن أقول هذا الآن فقلته. من داخل التفعيلات أجزاؤها التي تسمى الأسباب والأوتاد والفواصل، فللتفعيلة نفسها في الداخل أجزاء، منها ما يسمى السبب، ومنها ما يسمى الوتد، ومنها ما يسمى الفاصلة، وهي مصطلحات مأخوذة من أسماء مكونات البيت العربي (الخيمة)؛ فقد بنى الخليل بنى مصطلحات مكونات بيت الشِّعر على أسماء مكونات بيت الشَّعر. أعرف أنكم تحركون العين (شَعَر، شَعَر)، وهونطق عربي "في جناتٍ ونَهَر" "نَهَر"، لكنكم تعممون هذا تقولون: بَحَر نَهَر صَقَر بالمرة، معي؟ ها؟

هل تحت هذا شيء؟

تحت جزء التفعيلة، من تحت لدينا الحرف الواحد الذي ربما كان متحركا وربما كان ساكنا. هل تحت الحرف شيء؟ الحرف المتحرك أصلا صوتان، إذا قلت: كَتَبَ، كَ متحرك، وتَ متحرك، وبَ متحرك، هذه الـ"كَـ" هذه تتكون من الكـاف والفتحة مثلا، تستطيع أن تنزل إلى هذا. هل تحت هذا شيء؟ هل تحت الصوت شيء؟

تحته الذبذبات، بكل صوت ذبذبة، ولو أدرك الخليل بن أحمد هذا العبقري زماننا لاستطاع أن ينزل إلى آخر المدى! ما الذي فعله مخترع الذرة؟ ما الذي فعله أحمد زويل؟ ما الذي فعله مصطفى السيد بتقنية النانو؟ ما الذي يفعله هؤلاء الناس؟ استطاعوا أن يكتشفوا أجزاء أجزاء أجزاء أجزاء الأجزاء، حتى يمكنوا العسكريين من التدمير! وأكثر الأبحاث يبدأ قطعا عند العسكريين، بل الأبحاث كلها تبدأ عند العسكريين لغايات عسكرية! ما الذي فعله العسكريون وساعدهم عليه هؤلاء العلماء؟ تجزيء الأجزاء حتى يستطيعوا أن يدمروا الأرض إذا ما شاءوا، ما شاء الله -أغراض نبيلة.

كيف نرسم ذلك بدوائر متداخلة؟

ندير دائرة كبرى نسميها شعر العالم -ها، فعلتم؟ رتبوا أنفسكم على تسع دوائر!- وماذا نرسم داخلها؟  دائرة شعر العرب. وماذا نرسم داخلها؟ دائرة شعر الشاعر المعين -ها!- فدائرة القصيدة المعينة -ها!- فدائرة البيت-ها!- فدائرة الشِّطر. أنا أحب أن تنطقوها الشِّطر كما تقولون النّصف، هل تقولون النَّصف؟ تقولون النِّصف، فلماذا تقولون هنا النِّصف، وتقولون هنا الشَّطر، وفي العربية الشَّطْر والشِّطْر والنَّصْف والنِّصْف والقَسْم والقِسْم، أيهما تقولون، القَسْم أم القِسْم؟

القِسم.

فلماذا لا تقولون الشِّطر، كما تقولون القِسم والنِّصف، وهي هي! في داخل دائرة البيت دائرة الشطر، التي في داخلها دائرة التفعيلة، التي في داخلها دائرة جزء التفعيلة، التي في داخلها دائرة الحرف، وقد وقف الخليل هنا، ولو حضرنا وعاش في زماننا لجعل في داخل دائرة الحرف دائرة الذبذبة، فكانت الدائرة العاشرة، لكنه مات سنة خمس وسبعين ومائة!

كان الناس يوازنون بينه وبين ابن المقفع الذي مات سنة مئتين على ما أظن -تعاصرا حقبة من الزمن، ولمع نجمهما، وانتشر صيتهما، وانبهر بهما الناس- ويزعمون أنهما اجتمعا ليلة، وأن ابن المقفع سئل بعدها عن الخليل، فقال: "رَأَيْتُ رَجُلًا عَقْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِهِ"، وأن الخليل سئل عن ابن المقفع، فقال: "رَأَيْتُ رَجُلًا عِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَقْلِهِ"! تخيلوا! معكم مثلا وعاء، حقيبة، حقيبة كتب، ها، هذه الحقيبة، أما الخليل فحمل فيها أقل من سعتها، وأما ابن المُقفع فحمل فيها أكثر من سعتها، فما الذي حدث؟ تمزقت حقيبة ابن المُقفع وبقيت حقيبة الخليل تتسع للمزيد فالمزيد، حتى إنه مات وهو يفكر في اختراع الآلة الحاسبة، رأيتم! مات الخليل وهو يفكر في اختراع الآلة الحاسبة! أما ابن المقفع فقُتل على الزندقة! أما ابن المقفع الذي فاض تحصيله عن طاقته فقُتل على الزندقة -هكذا قالوا، أنا أروي كلاما قيل، ولا أحكم على الناس- وأما أبو عبد الرحمن الخليل فعاش ومات في خص من أخصاص البصرة، وترك الناس يأكلون بعلمه الأموال! لي في موقعي الإلكتروني مقال أسأل فيه أين ذهبت كتب الخليل؟ أين ذهبت كتبه في علم العروض وعلم النحو وعلم الصرف وعلم الموسيقى وعلم الرياضيات وعلم الفقه وعلم الحديث وعلم التاريخ، أنوِّع وأتخيل أنه ضرب بأسهمه في سبعين علما -ها!- فينجذب الناس، ينجذبون: سيدلنا على كتب الخليل، وفجأة أجيب: لم تكن له كتب أصلا، إذن ما جواب السؤال؟

لم تكن للخليل كتب، لم يكن مشغولا بالكتب أصلا، كان مشغولا بالتفكير، يظل طوال الوقت يفكر، حتى إذا ما حضره تلامذته نقل إليهم تفكيره، وبسطه لهم، وعلمهم! ما الذي حدث؟ مات الخليل، فاجتمعت طائفة من تلامذته، وقال بعضهم لبعض: هلم نُحي علم الخليل! أما سيبويه فأحيا بـ"الكتاب" علمه بالأصوات والصرف والنحو، وأما الليث فأحيا بالـ"العين" علمه بمتن اللغة، وأما إبراهيم الموصلي فأحيا علمه بالإيقاع،  وأما الأخفش فأحيا بكتابي "العروض" و"القافية" علمه بالعروض، وأما كذا، وأما كذا... حتى إنه لما جاء زمان الجاحظ -وقد أدرك ستة عشر عاما من حياة الخليل، ثم مات عام 255 الهجري- قال عن نفسه بلسانه -قرأت له هذا في رسائله-: "كنت في أوليتي أُؤلفُ الكتب وأنسُبُها إلى الخليل"! اعتراف -ها؟- والاعتراف سيد الأدلة، "كنت في أوليتي أُؤلفُ الكتب، وأنسُبُها إلى الخليل"، تنفيقا له وترويجا؛ على أي أساس؟ على أساس أنه لم تكن للخليل كتب أصلا، لم يعثر له الناس على كتب، فالرجل -ما شاء الله!- فرصة جاءت إلى عنده، فرصة، فكان يؤلف وينسب إلى الخليل الذي لم يكن معنيا بالكتابة أصلا، ويتعجب الناس: هذا الجبل لا كتب له؟ فيؤلف الجاحظ و يقول: كتاب الخليل في كذا! وما زلنا إلى الآن نعثر على كتب منسوبة إلى الخليل. جاءتنا طالبة في الماجستير من جهة دكتورة من خريجات نزوى، فقالت: درست كتاب الخليل في الحروف! وللخليل كتاب في الحروف! ما شاء الله! له كتاب في الحروف! لا تعجبوا؛ إنها إرادة الله! ربما وجدنا في المستقبل من يدعي أكثر من هذا، ربما وجدنا من يقول: هذا كتاب الخليل في الجغرافيا والسياسة والاقتصاد... وغيرها.

ما القصيدة إذن؟

مفردة الشعر، وبنيان الشعر، بنيان عروضي لغوي، مترابط الوحدات، ولابد من هذا الترابط، لابد فيه من أن يتكون من عناصر مختلفة، لكل واحد استقلاله في نفسه وعلاقته؟

بغيره.

وإلا لم يكن بنيانا، والقصيدة بنيان. كل ما ذكرت لكم في هذه الترتيبات، أكثر ما ذكرت لكم في هذه الدوائر بنيانات: شعر العالم بنيان، شعر العرب بنيان، شعر المتنبي، قصيدة المتنبي بنيان، البيت بنيان، مع تفاوت النسب، بنيانات نسبية. البيت الذي يُنتزع من قصيدته ليُنْشَدَ وحده بنياني قطعا. لي سلسلة الآن على الفيسبوك و تويتر و موقعي أسميها "شوارد" هذا اسمها، عبارة عن أبيات مفردة، أنتزعها من قصائدها، كيف تنتزع البيت من قصيدته وهو عنصر فيها؟ أنا أحس بأنه مكتمل في نفسه، وهو قطعا مكتمل في نفسه متصل بغيره في قصيدته، فأنا أستفيد من اكتماله في نفسه لأرويه وحده؛ وعندئذ يبدو بنيانا. أمس نشرت قول عروة ابن أُذينة:

"مَنَعَتْ تَحِيَّتَهَا فَقُلْتُ لِصَاحِبِي مَا كَانَ أَكْثَرَهَا لَنَا وَأَقَلَّهَا"!

بيت مكتملٌ في نفسه تستطيع أن توظفه. أريد بهذه السلسلة أن أمكن المعبرين من التعبير.

مترابط الوحدات، هذا البنيان العروضي اللغوي مترابط الوحدات، وحدة جانبه العروضي البيت، ووحدة جانبه اللغوي الجملة، وبين الجانبين العروضي واللغوي تآلف، هذا كلام قديم، وقد طورناه كثيرًا. لي على موقعي مقال شديد التطور اسمه "نظرية النصية العروضية" من شاء فليقرأه؛ ففيه كلام أكثر تطورًا من هذا.

هذه القصيدة بنيان، وحدته البيت، فما البيت إذن؟

البيت اللَّبِنة التي بتكرارها يكون بنيان القصيدة، يعني القصيدة بنيان ذو عناصر، فيها العروضي، وفيها اللغوي، وبينهما تآلف، لبِنتها البيت، وانتبهوا! حرص الخليل على وضع مصطلحات من حياة البدوي، البيت بيت الشِّعر كبيت الشَّعر، والسبب الحَبْل كسبب الخيمة، والوتد كالوتد، والفاصلة كالفاصلة، والعروض -كلمة "عروض" نفسها- لعمود معترض في الخيمة، كل هذا كله كله مصطلحات من حياة العربية. وهكذا العلوم -يا جماعة!- إذا نشأت في أهلها أخذت من مصطلحاتهم؛ لهذا تترجمون العلوم مثلا عن الأوروبيين والأمريكان والروس والصينيين، تترجمونها وتفاجؤون بمصطلحات من حياتهم، لأنهم أصحاب علومهم، فتجتهدون أن تعربوها، حرصا على العربية لكن تنجحون وتخفقون، ولا مشكلة عندي في هذا؛ فهي مصطلحاتهم وضعوها من حياتهم، يمكنني أن أحافظ عليها كما هي -لا مشكلة- مصطلحات خرجت من حياة مخترع العلم، أحيانا يسمي الشيء باسم نفسه -ها!- "مرسيدس" اسم ابنة صاحب الشركة! نعم؛ وكذا هذا المرض -عفاكم الله!- سماه مخترعه باسم نفسه، وكذا... تُغيرون هذا تعريبًا؟ لا، نغير اسم السيارة المرسيدس، نسميها زنوبة مثلا، كما يفعل بعض المصريين! للمصريين براعات في تسمية السيارات، أما أنتم -معشر الخليجيين- فبارعون في تسمية النقالات (الجوالات)، كنتم تسمون بعض الهواتف شارون -كان منبعجا مثل "شارون"، لعنه الله!- فقلدناكم، كنا نقلدكم وما زلنا! والمصريون بارعون في تسمية السيارات، يقولون: هذه خنزيرة، هذه تمساحة، هذه زلمكة، هذه بُدرة، هذه كذا...، ولا سيما سيارات المرسيدس، المصريون مفتونون بسيارات المرسيدس، هذه شبح، كانت لي سيارة شبح -شبح، سبحان الله!- هكذا يرونها، ويحسون بها إحساسًا خاصًّا، فيسمونها، وتروج لديهم بهذا الاسم! فالرجل حر -يا أخي!- اخترع العلم، واستعمل فيه مصطلحات من حياته. أنا حر، أنا سأسمي هذه الفكرة باسم ابني، أنا حر، أنا الذي اخترعتها. فالبيت -يا جماعة!- الوحدة التي بتكرارها كان بنيان القصيدة، هذا البنيان، هذه البنيانية لا تتحقق إلا بالترابط.

كيف إذن تترابط أبيات القصيدة؟

باشتمال كل منها على الخصائص نفسها. باشتمال كل بيت منها على الخصائص الوزنية والقافوية نفسها، أي العروضية، كلمة "العروضية" تشمل الوزن والقافية، أي أن يكون كل بيت كصاحبه في القصيدة نفسها من حيث الوزن ومن حيث القافية.

من الطرائف -اسمعوا، اسمعوا هالسمعة!- من الطرائف أنه وفد على عبد الله بن سالم (أحد الولاة)، رؤبة بن العجاج الراجز الأكبر، فقال له عبد الله: مُتْ أَبَا الْجَحَّافِ إِذَا شِئْتَ! -وكان رؤبة يكنى أبا الجحاف- قال: كَيْفَ؟ قال: رَأَيْتُ الْيَوْمَ ابْنَكَ عُقْبَةَ يُنْشِدُ شِعْرًا لَهُ أَعْجَبَنِي -كأنه يقول له ممازحا: اذهب فانتحر، أو افعل بنفسك ما تشاء، لم أعد أحتاج إليك؛ فقد سمعت ابنك، وسيغنيني عنك!- فقال له رؤبة: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِشِعْرِهِ قِرَانٌ! يقول له: ليس هنالك، مستحيل أن يُغنِيك عني؛ لأنني أنا أُحسِن المؤالفة بين أبيات القصيدة الواحدة، ولا يحسن مثل إحساني، فما زال يجمع في القصيدة أشتاتا يُنْكِرُ بعضها بعضا. أرأيتم! فلا بد أن يحرص الشاعر على ترابط الأبيات، يعني إذا جئتني بأبيات من الوزن نفسه ينكر بعضها بعضا قلت لك: هذه أشتات، لا قصيدة واحدة، لابد في القصيدة الواحدة أن تترابط أبياتها داخليا و خارجيا، أما ترابطها الداخلي ففكري، وأما ترابطها الخارجي فعروضي؛ لابد أن تترابط داخليا وخارجيا.

 من المُلَح التي حكاها الجوزي في "أخبار الحمقى والمُغفلين" -أعز الله أسماعكم!- عن أحد محفظي القرآن، أنه جلس يحفِّظ تلميذه، ها، قل: "يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤَيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ" -في سورة يوسف- "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا"، "وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا"، فقيل له: إنك تُدخل القرآن بعضه في بعض! قال: ولِمَ يُدخل أبوه أُجْرَةَ شهرٍ في شهر؟  "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا" من "سورة يوسف" الثانية عشرة في ترتيب المصحف الشريف، و"وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا" من "سورة الطارق" السادسة والثمانين؛ كيف تترابطان! كذلك أبيات القصيدة الواحدة، لا بد أن تترابط.

من الطرف التي كنت أقرأها قديما -وأنا أحب التدريس بالطرف- أن بدويا فاجأ زوجه ومعها شاب -والبدو ذوو أريحية، لا مشكلة لديهم أن يزورهم الشاب فيجلسوه مع الأهل مادامت الأمور طيبة، والأخلاق مأمونة- فجلسوا جميعا، فكتب الشاب شيئا على الأرض، فكتبت زوجُ البدوي شيئا كذلك على الأرض، فقال له البدوي: ماذا كتبت؟ فقال: كتبت "ماذا طبختم اليوم"؟ وقال لها: وماذا كتبت أنت؟ قالت: كتبت "وأنا". ما هذا الكلام؟  "ماذا طبخت اليوم"، "وأنا"! كلام لا يتناسق، فكفأ عليه صحفة، ثم استدعى فتى من الحي قارئا، وقال له: اقرأ، فإذا بالشاب قد كتب: "أحبك"، وإذا زوجه قد كتبت: "وأنا"، فقتلهما البدوي! وهذا جزاء الكلام غير المستقيم! مسكينة هذه الجاهلة، لو كانت قالت مثلا: "طبخت كذا"، لنجت من القتل، ولكن ربما كان البدوي الألمعي قد سأل كلا منهما وحده؛ فهذا إذن جزاء الكلام غير المستقيم!

لا يجوز أن تأتي لي ببيت من الشرق وبيت من الغرب، لتقول هذه قصيدة! ما شاء الله، قصيدة ينكر بعضها بعضا! لهذا قال قال الدمنهوري في حاشيته على الكافي يفسر قولهم: "القصيدة كلام موزون مقفى" - تأملوا ما قال، تأملوا الكلام الجميل- "أَبْيَاتٌ مِنْ بَحْرٍ وَاحِدٍ، مُتَسَاوِيَةٌ فِي عَدَدِ الْأَجْزَاءِ، وَفِي جَوَازِ مَا يَجُوزُ فِيهَا، وَلُزُومِ مَا يَلْزَمُ، وَامْتِنَاعِ مَا يَمْتَنِعُ". لابد، وإلا كانت أشتاتا مجتمعة قهرًا، لا تستقيم قصيدة، أبيات من بحر واحد، لو كانت من أكثر من بحر لم تكن قصيدة.

هذا في الشعر العمودي الذي ضبطه الخليل، تغير هذا فيما بعد، ولن أدَرّسَ لكم إلا الشعر العمودي، وهل في الشعر العربي شعر غير العمودي؟ نعم؛ مر الشعر العربي بتاريخ طويل من الجاهلية إلى الآن، حتى هذا الشعر الذي تجدونه في المعلقات لم يصل إلى هذا المستوى إلا بعد مئات السنين، نحن عندنا شعر من نمط شعر المعلقات مما قبل الإسلام بخمسمائة سنة، فمتى بدأ، وكيف؟ بدأ مما قبل الإسلام بمئات من السنين، ربما بلغت ألفي سنة، هكذا تسير الأمور، لكن قطعا يتسارع الإيقاع، الإيقاع الذي كان في الجاهلية بطيئا صار الآن سريعًا، كانوا يسافرون الشهور الطويلة، فصاروا يسافرون الساعات القصيرة، كانوا يأتون إلى الحج من المغرب الأقصى في ستة أشهر، فصاروا يأتون في ست ساعات، كذلك إيقاع التطوّر، وسأحاول معكم في المحاضرات أن أطلعكم على تخيّلٍ للشعر في أول نشأته، وقد فعلت هذا في المحاضرة السابقة، حاولت أن أقدم لكم تصوّرا عن المراحل. وصل إلى شعر المعلقات الذي ضبطه الخليل -اشتهر باسم الشعر العمودي، وفي هذه التسمية نظر، لكنه اشتهر بها، ولا مُشَاحة في الاصطلاح، أي لن نختلف في الاصطلاحات وإن كانت خطأ! هذا الولد اسمه مثلا "عبد العاطي" كما سمى بعض المصريين، وهذه التسمية خطأ أصلا، هي في نفسها خطأ، صوابها أن يسموه "عبد المعطي" مثلا، فالتسمية خطأ، هل يجوز أن تناديه فتقول: يا عبد المعطي؟ لن يجيب، اسمه عبد العاطي، لكنك غير مرتاح لهذا الخطأ، فتقول له من باب التصحيح: يا عبد المعطي، فلا يجيبك، لا يعرف أنك تناديه! وكذلك من أسماء المصريين عبد النبي، يناديه بعض المحافظين: يا عبد رب النبي، من باب التصحيح، فلا يجيب، اسمي عبد النبي، لا عبد رب النبي، خطأ، نعم، لكن ماذا أفعل؟ هذا الاسم مصطلح على الإنسان، هذا مصطلح عليه لابد أن يُنادَى به، وإن كان خطأ!

هذا النوع الأول، أو هذا النوع الذي ضبطه الخليل في كتاب لم يؤلفه -أَلَّفَه من ألَّفُهم!- يسمى الشعر العمودي. ثم نشأ في عصر الأمويين ما يسمى الشعر المشطَّر، وقد خطب منه الوليد بن يزيد الخليفة الذي خلف أسبوعا ثم قتل، الخليفة الشاعر، هذا الذي حكم أسبوعًا، ثم قتل، قالوا: خطب الجمعة بالشعر، تخيلوا، خطب الجمعة بالشعر، الخطبة كلها من أولها الى آخرها شعر، من هذا النمط الذي يسمى المزدوِج، وهو من صور الشعر المشطَّر:

"اَلْحَمْدُ لِلهِ وَلِيِّ الْحَمْدِ أَحْمَدُهُ فِي يُسْرِنَا وَالْجَهْدِ

هُوَ الَّذِي فِي الْكَرْبِ أَسْتَعِينُ وَهْوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ قَرِينُ"!

وقد بلغ المشطر أوجه في الأندلس في شعر الموشحات، فالشعر الموشح نمط من المشطر. ثم تطور الشعر فظهر شعر المقطَّعات، وفيه تشتمل القصيدة على قطع من الأبيات لكل قطعة قافيتها، ثم ظهر الشعر المُرْسَل الذي لكل بيت من القصيدة فيه قافيته، أي ليست له قافية، ثم ظهر الشعر الحر. هي أنواع من الشعر، أشهرها تلك الثلاثة العمودي، والمشطر (الموشح)، والحُرّ. أما الشعر العمودي فقد ضبطه الخليل بن أحمد، وأما الشعر المشطر الذي بلغ أوجه في الموشحات فقد ضبطه ابن سناء بكتابه "دار الطراز في عمل الموشحات"، وهو له بمنزلة الخليل بن أحمد للعمودي، وابن سناء الملك شاعر وكان وزيرا. تأملوا تجدوا هؤلاء المخترعين أو المـجترئين، من الشعراء. حدثتكم عن الخليل –رحمه الله، ورضي عنه، وألحقنا به على خير!- والآن أحدثكم عن ابن سناء الملك واضع كتاب "دار الطراز"، سماه باسم الدار التي تصنع كسوة الكعبة، وكانت تصنع بمصر في مكان يسمى "دار الطراز"، فسمى كتابه في تقعيد الموشحات باسم هذا المكان، لأن الموشحة تخرج مزخرفة كزخرفة كسوة الكعبة، سبحان الله! شاعر فنان. ثم حتى ظهر الشعر الحر فقعَّدَتْه...، من؟

نازك.

نازك الملائكة بكتابها "قضايا الشعر المعاصر". و نازك شاعرة، أرأيتم؟ لا يجترئ على مثل هذا غير الشعراء! ولكن هل من وقت لتدريس أنواع الشعر العربي كلها؟ لا، ولكن ما لا يدرك كله يدرك بعضه، و ما أهم أبعاض ما هنا؟ أصلها، الشعر العمودي، ولا تأس على هذا، ولا تحزن، فقد تنقلت روح العمودي إلى الموشح ثم إلى الحر -وإن تغيرت قليلا!- الروح روح العروض، هي هي، ستجد روح الطويل في بعض شعر السيّاب الحر، ستجد روح كذا في كذا، الروح كما هي، تجد الروح كأنها تتلبس الأجسام.

ذكرنا في ترابط أبيات القصيدة الواحدة، مصطلح "التفعيلة"، فما هذه التفعيلة؟

وتسمى التفعيل والإفعيل والركن والجزء، كل هذه أسماء شيء واحد، لكن لم يشتهر في زماننا غير مصطلح "التفعيلة"، والمصطلحات كالنّاس يعني أرزاق، ماذا نفعل؟ أرزاق، فما هذه التفعيلة؟

وفي الخصائص التي ينبغي أن تتفق بين أبيات القصيدة الواحدة، ذكرت الطول؛ إذ ينبغي أن تتفق بينها الأطوال، فما طول البيت؟

هو عدد التفاعيل، عدد التفاعيل الذي يزيد فيطول البيت، وينقص فيقصر؛ فمثلا هذا البيت مسدس التفاعيل:

مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن

وهذا مربع التفاعيل:

مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن

أيهما أطول؟

المسدس.

وعندنا مثلَّث ومثنَّى، بل وصلنا إلى الموحَّد (البيت ذي التفعيلة الواحدة)، كما في قول سَلْمٍ الخاسر:

مُوسَى الْمَطَرْ

غَيْثٌ بَكَرْ

ثُمَّ انْهَمَرْ

قصيدة قديمة تجريبية عجيبة، كل بيت منها تفعيلة واحدة! كيف تقاس أطوال الأبيات إذن؟

بأعداد التفعيلات.

فهذه القصائد كلها من بحر الرجز، من كذا، أو كذا، لكن هذا البيت في هذه القصيدة أطول من البيت في هذه القصيدة، كيف؟ هذا من كذا وهذا من كذا! على أي أساس حدد الخليل أصول الأعداد هذه؟ على أي أساس حدد أن هذا كذا وأن هذا كذا؟

للخليل -يا جماعة!- نظرية عبقرية جدا، اسمها "الدوائر"، "نظرية الدوائر" في زمانه ذلك البعيد معجزة علمية، استطاع بها أن يُصنِّف بحور الشعر على مجموعات، كل مجموعة أسرة بين أعضائها مشابه. كيف لهذا الرجل في ذلك الزمان وتلك البيئة أن يفكر في هذا؟ هذا تفكير معاصر جدا، حتى إن الشكليين الروس يصفون الشعر بأنه مستدير، و النثر بأنه مستقيم، كأنهم تعلموا عن الخليل حينما وضع الشعر في دوائر، وهكذا سنرسمها لكم هذه الأسر في آخر الملف في آخر الفصل، لتروا كيف يدور البيت حول نفسه وتدور الأبيات الأخرى، وهكذا في هذه الدائرة، سبحان الله!

وبعدما وضع نظريته هذه في الدوائر -التي سنقف لها وقوفا طويلا حتى نفهمها تماما، أجبرته فكرته العبقرية على أن يرى أن البيت من بحر كذا إنما هو على هذا النحو، فنقده الناس، قالوا: تكلفت وورطتنا في ورطة تحقيقية كبيرة؛ لماذا ألزمت نفسك هذا؟ صحيح تورط الخليل، وألزمنا ما لم يكن يلزمنا، لكن في سبيل نظرية عبقرية، اكتشاف مذهل تَهُون بجواره أعباء تبعاته التي ورطنا فيها، طبعا، استطاع أن ينظم الأمر هذا التنظيم؛ فقيّدك بقيود نظامه من بعد أن كنت حرًّا من القيود! كنت سعيدًا بانطلاقتك هذه، وهي في غير العلم مقبولة ومرغوبة، أما في العلم فالانضباط هو المطلوب، وقد استطاع هذا الرجل الفذ أن يضبط لك الأمور هذا الانضباط، فكيف تضيعه من يدك! إن أخانا الفاضل الدكتور عمر خلوف الذي رفعت لكم كتابه "كن شاعرا"، ضيّع على نفسه الاستفادة من دوائر الخليل، كأنه أنكرها -وإن لم يصرح؛ فهو قطعا يكبر الخليل ويثني عليه وكذا، ولولا هذا ما رفعت كتابه على موقعي!- أضاع من يده الاستفادة من نظرية الخليل العبقرية "الدوائر"، وقال كلاما لا يخضع لها، وليس من الحكمة أن تضيع من يديك الاستفادة من مثل هذا الاكتشاف المذهل، هذه النظرية العبقرية! من هذه الدوائر، أخرج الخليل الشطر من البيت، ليكرره مرة أخرى، فيدل الناس على طول البيت. وقد لم يضع في الدائرة غير نصف البيت فقط! لماذا؟ هذا السؤال الآتي.

 

ما انقسام البيت؟

هو انشطاره إلى أشطره، التي لم تتجاوز في العمودي اثنين، ولم يحدها في الموشح حد، وقد خلا من هذا الانشطار الحر. ما هذا الكلام، يا أستاذ؟ شطر الشيء نصفه وقسمه على قسمين، و قد انتبهنا أنا وأنتم إلى الشعر العربي، والبيت فيه من القصيدة شطران؛ فما هذا؟ و لماذا؟ هذا طور متقدم، سبقه طور لم يكن البيت فيه منقسما. في الزمان القديم نشأ البيت غير منقسم، وقد دلّنا على هذا أحد الباحثين في شعر أكثر القبائل بقاء على البداوة. عندكم في المكتبة كتاب، فاكتبوا اسمه، وراجعوه، اسمه "الغناء والشعر عند الشعوب البدائية"، لبورا (ك. موريس)، الكتاب مترجم عن لغة عن لغة إلى العربية، وبمثل هذا الترجمات المركبة ترجمة عن ترجمة عن ترجمة، تضيع أمور كثيرة، لكن على أية حال قرأت هذا الكتاب، واستفدت منه، ما اسم الكتاب؟

الغناء والشعر عند الشعوب البدائية.

رحل هذا الرجل إلى الإسكيمو في الشمال، وإلى أمريكا الجنوبية، وإلى وسط إفريقيا، أبرز ما أذكره عمن رحل إليهم هؤلاء الثلاثة، رحل إلى الإسكيمو هناك في شمال آسيا، و رحل إلى الهَوْسَا في وسط إفريقيا، و رحل إلى أمريكا الجنوبية، وانتهى إلى جوامع تجمع الشعر البدائي، من هذه الجوامع أن البيت من القصيدة كان في الزمان الأول قطعة واحدة نفسا واحدا لا ينقسم، ثم انقسم على قسمين، ونجح نجاحا باهرا انقسامه على قسمين، وإلى الآن تجد الشاعر يقول القصيدة والبيت بعد البيت بعد البيت منها شطران فشطران فشطران، إلى الآن، معنى هذا أن هذا الطور نجح كثيرا. لكن ما زال عندنا من ينظم القصيدة على نصف بيت، يسمونه المشطور، لكن هذا أقل، ثم بعد هذا تطور الأمر في شعر الموشحات، فصرت تجد القصيدة من أبيات معدودة تكاد لا تتجاوز الخمسة، والبيت منها كثير الأقسام في الداخل، فزادت الأقسام، اسمعوا من موشحة الأعمى التُّطِيلي الفاخرة:

"ضاحكٌ عن جُمانْ    

سافرٌ عن بَدرِ

ضَاقَ عنهُ الزمانْ              

وَحَواهُ صَدْري"،

"آهْ ممَّا أجِدْ            

شَفَّني ما أجِدُ

قامَ بي وقعَدْ          

باطشٌ متَّئِدُ

كلما قلتُ قَدْ          

قالَ لي أينَ قَدُ

وَانثنىَ خُوطَ بانْ              

 ذا مَهّزٍ نَضِرِ

عابَثَتْهُ  يَدَانْ           

للصَّبا والمَطَرِ"!

كل هذه الأشطار العشرة الصغيرة بيت واحد، قبلها أربعة أشطار توج بها موشحته التُّطيلي سيد الوَشَّاحِين، وكان يمكنه ألا يفعل؛ فقد زادت أشطار البيت إذن في هذا الطور الرفيع من الشعر المشطَّر. وفي خمسينيات القرن الميلادي العشرين ثار الشعراء على هذا كله، انطلاقا من تأسيهم بتطور الموسيقى، فالشعر والموسيقى كما علَّمتُكم أخوان، وقد نبهتكم على أنهما افترقا، فذهبت الموسيقى في طريقها حتى وصلت إلى نظام السمفونية، وذهب الشعر في طريقه وعينه على الموسيقى، يطمح إلى أن يتطور كما تطورت، حتى جاء شُعراء الحُرّ على خُطا العجم! هناك في ألمانيا وروسيا -ولاسيما في روسيا- أعظم الموسيقيين ديستوفسكي، بيتهوفن، موزار...إلخ، يقدمون القطعة الموسيقية تتحدر على ساعتين وهي واحدة، تبدأ بدءا واحدا وتنتهي نهاية واحدة، وبينهما تضطرب وترتفع وتنخفض، وتسرع وتبطئ، فأراد الشاعر أن يخرج قصيدة كهذه السمفونية. هذه أصل فلسفة الشعر الحر؛ فخذوا عني هذا الفهم -يا جماعة!- لن تجدوه في مكان آخر، أصل فلسفة الشعر الحر أن تخرج القصيدة كالسيمفونية، طويلة لا تتفصّل في الداخل بأبيات، بل تستطيل وهي بيت واحد! نعم؛ ولكن لم ينجح شعراء الحر العرب في الوصول إلى هذا، حتى جاء "محمود درويش"، فقدم القصيدة الكتاب الكامل، جاء محمود درويش في الستينيات، فسعى سعي الخمسينيين مُدَّة، ولكنه في التسعينيات استطاع أن يصل إلى ما لم يصلوا إليه!

 "محمود درويش" من الجيل الثالث من شعراء الحر، فالجيل الأول جيل السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهما، والجيل الثاني مثلا أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنة وغيرهما، والجيل الثالث جيل محمود درويش ومحمد عفيفي مطر وغيرهما. كان محمود درويش دائم القراءة والاستماع والتجريب، كان مثقفا كبيرا، طور قصيدته لتخرج في كتاب كتاب كبير مستقل، الكتاب كله قصيدة واحدة، لم يسبقه غيره إلى هذه الغاية، ثم جاء الشعراء على أثره. زارني الشاعر المصري الشاب شريف شافعي، أكثر من مرة، وكان زميل أخي الصغير، شاعرًا موهوبًا مجتهدًا جدًّا، ظل يسعى على آثار الرواد، حتى وجدته سعيدا بوصوله أخيرا إلى هذه القصيدة الكتاب؛ فكأن سعي الشعراء إنما هو إلى هذه الغاية!

اتفقنا على أن البيت العمودي ينشطر على شطرين -وقد اتفقنا على أنني لن أدرس إلا العمودي- وهذا البيت من العمودي تفعيلات: "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن"، مثلا، ومن تمام شأنها مصطلحات ينبغي أن تعرفوها.

ما الصَّدْر والعَجُز والعَروض والضَّرْب والَحْشو؟

الصدر شطر البيت الأول، والعجُز شطره الثاني -وكأنهما وجها جسم الإنسان- والعروض آخر تفعيلة من الصدر، والضرب آخر تفعيلة من العجُز الشطر الثاني، فعلى أي أساس سمى هذه الأسماء؟

ربما أخذت بكلام من يقول: الأسماء لا تعلل، يقولون: الأسماء لا تعلل، يقصدون المصطلحات على الأشياء، لا، بل تعلل، تعلل، سميته يحي ليحيا، فمات، ولا حول لا قوة إلا بالله! سميت الصدر تشبيها له بالصدر، والعجز تشبيها له بالعجز، سميت هذه التفعيلة العروض تشبيها لها بالعمود المعترض في الخيمة، لأنها تأتي في المنتصف حقا، آخر تفاعيل النصف الأول، تعترض هكذا وهي مهمة، لكن الطريف أنها سميت العروض فالتبست باسم العلم، تعترض طريق البيت هكذا، وبمعنى آخر من معنى الاعتراض يعني سُمّي العروض عروضا كما قال الخليل، ربما لم أقل هذا تجاوزت من غير أن أُوفّي المسألة.

قال الخليل فيما روى عنه الليث في "العين": "الْعَرُوضُ عَرُوضُ الشِّعْرِ، لِأَنَّ الشِّعْرَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ"، ما هذا؟ هذا نص كتاب "العين"، وليس من تأليف الخليل، لأن الخليل لم يكن يؤلف كما اتفقنا، بل من تأليف تلميذه الذي أخذه عنه، علَّمه نظام العمل: افعل كذا وكذا وكذا، وأهم ما علمه إياه منهج التَّقْلِيب الذي يستوعب به كل ما يمكن أن يكون، فأحيا بعده بكتاب "العين" ما تعلمه منه، روايا عنه هذه العبارة الموجزة: "الْعَرُوضُ عَرُوضُ الشِّعْرِ، لِأَنَّ الشِّعْرَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ"، لم يقل أكثر منها في مادة "ع، ر، ض"، وتركنا نفكر ما هذه العبارة؟ ألأن الشعر يُعرض عليه سمي العَروض؛ فهو العَروض أي المعروض عليه، من باب "فَعول بمعنى مَفعول"، اسم المفعول الشاذ، مثل حَصور بمعنى محصور -وهو قليل محدود- أم هو العَروض أي المعترِض، من باب "فَعَل فهو فَاعِل والمبالغة فَعُول"، عَرَض لي -أي اعترضني- فهو عارِض، والمبالغة عَروض، مثل  عَبَس فهو عَبُوس، وهو كثير معروف؟

أنا -أيها الشاعر- في الطريق، فاعترضني هذا العلم، ولم يوافق لي على أن أكمل سيري حتى يصفيني بمصفاته -هذا هو- فعروض الشعر إذن المعترض طريق الشعر حتى يتصفى بمصفاته فيخرج نقيًّا من الكدر والكسر إلى بقية الطريق، وفي هذا قال سيدنا حسان بن ثابت -شاعر رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-:

"تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلَهُ إِنَّ الْغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرَ مِضْمَارُ

يَمِيزُ مُكْفَأَهُ عَنْهُ وَيَعْزِلُهُ كَمَا تَمِيزُ خَبِيثَ الْفِضَّةِ النَّارُ"!

سمعتم؟ ماذا قال؟ لقد أكد لنا معنى المصفاة، كأنه مصفاة حقا، تصفي لنا الشعر من الكدر والكسر والفساد.

ما زال عندنا وقت؟ ذكرونا لأن الشُّعَب تتفاوت.

بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!

اذهبوا إلى رحمة الله!

وسوم: العدد 1092