وزارة الأوقاف والمشيخة على خطا الكنيسة في العصور الوسطى!

وزارة الأوقاف والمشيخة

على خطا الكنيسة في العصور الوسطى!

شريف زايد

تحاول وزارة الأوقاف المصرية في ظل الوزير محمد مختار جمعة الذي عينه الانقلابيون في الحكومة التي شكلوها في 17 يوليو أن تهيمن على المساجد هيمنة تامة، تجعلها أداة صلبة تقف في وجه بل تحارب أي فكر تغييري يعترض على النظام الذي أفرزه الانقلاب، وتجعل من أئمة المساجد وخطبائها جنودا في صف الانقلاب يزينونه ويجمِّلونه للناس، وتمنع كل إمام قد يُشتم منه رائحة الاعتراض على الانقلاب من طرح أفكاره على المصلين ورواد المسجد، وذلك إما بمنعه من الخطابة وتحويله إلى "العمل الإداري" أو حتى بفصله وتوقيفه نهائيًا عن العمل. فقد أصدر الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف الثلاثاء 29/10 مرسومًا بوقف إمام وخطيب مسجد المدبولي بعابدين في وسط القاهرة عن أداء الخطب والدروس وإحالته إلى عمل إداري بأوقاف القاهرة لحين انتهاء التحقيقات معه؛ وهذا "لخروجه على مقتضى واجبه الدعوي والوظيفي وتوزيعه على المصلين كتابا منسوبا إليه يعده دستورا خاصا، بما لا يتفق مع الفكر الإسلامي الصحيح ولا المصلحة العليا للوطن" على حد قوله، أليس هذا مصادرة للفكر وحجرًا على الإبداع الذي يجب أن يُشجع في الأمة، فضلا عن أن يهتم به اهتماما زائدا عند الأئمة والخطباء بدلا من أن يتم توقيفهم؟ ألا يذكرنا ذلك بتصرفات الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى ومحاربتها للعلم ومحاسبتها للناس، لا على معتقداتهم فحسب بل على نتائج قرائحهم وبنات أفكارهم؟!

في حوار مع صحيفة «الشرق الأوسط» قال السيد الوزير إنه يجري «تشكيل لجنة بالوزارة للمساجد الكبرى لمتابعة ما يحدث ببعضها من الخروج عن دورها في الدعوة والتوجه بها إلى العمل السياسي أو الحزبي، وتحويل أي مسؤول عن هذه الأعمال للمساءلة حال ثبوت قيامه بالإساءة لاستخدام المنابر». وقد أنهى وزير الأوقاف إيفاد ثاني إمام بالبرازيل وهو عقيل محمد عقيل أحمد في 23/10، وذلك بعد وصفه «ثورة 30 يونيو» بـ«الانقلاب»، حسبما نقلت عيون الوزارة للوزارة التي تراقب عمل المساجد من خلال التجسس عليها. وكان الشيخ عبد العزيز النجار، مدير إدارة الدعوة بمجمع البحوث الإسلامية، قد قال في اتصالٍ هاتفي مع قناة "أون تي في" في 25/9: "إن وزارة الأوقاف المصرية تعتزم تحريك لجان مراقبة لرصد أداء المنابر في خطب الجمعة، وهذا بالاستعانة بأفراد الأمن الوطني (أمن الدولة سابقًا) الذين يملكون حق الضبطية القضائية." داعيًا عموم المصلين الذين يؤدون الجمعة في مساجد الأوقاف إلى التعاون مع الوزارة إذا وجدوا خطيبا غير مصرح له أو غير أزهري، وأن يخاطبوا الجهات الأمنية أو الوزارة فورا في هذه الحال كي تتخذ الإجراءات اللازمة، واصفا ذلك بأنه "إعادة كل شيء إلى نصابه".

وبمحاولة إعادة كل شيء إلى نصابه تكون الوزارة قد سارت في الطريق المرسوم لها، كونها أداة طيعة في ظل نظام بوليسي يكمم الأفواه، ويطلب من الناس أن يكونوا جواسيس تحت الطلب، ليعود كل شيء إلى نصابه كما في الأيام الخوالي، أيام النظام البائد. ولقد قامت الوزارة أيضًا بإصدار قرار بمنع صلاة الجمعة في الزوايا التي تقل مساحتها عن ثمانين مترا! في سابقة جديدة لم تحدث حتى في عهد مبارك الأشد إجراما.كما قام السيد الوزير بإصدار قرار بأن يكون الخطباء من خرِّيجي الأزهر، والذي على إثره ألغت مديرية أوقاف شمال سيناء التعاقد مع 166 خطيبا بالمكافأة من غير الحاصلين على مؤهل أزهري.

السيد الوزير يقول في حواره مع صحيفة "الشرق الأوسط": "إننا لن نعترف بأي معاهد لإعداد الدعاة لا تخضع للإشراف الكامل للوزارة من حيث اختيار العمداء والأساتذة والمناهج والكتب الدراسية، لأن الوزارة ترغب في نشر الوسطية والاعتدال وسماحة الإسلام." ومعنى "الوسطية والاعتدال وسماحة الإسلام" في قاموسهم هو تدجين الإسلام ومنع حملة الدعوة والمخلصين في الأمة من الصدع بالحق وبيان الإسلام على حقيقته والدعوة لتحكيم شرع الله في دولة الخلافة التي ستوحد بلاد المسلمين وتنشر رسالة الهدى والنور في ربوع العالم.

إن وزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر يرسما مشهدا عبثيا، ويسيران على خطا الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا في العصور الوسطى بمحاكم تفتيشها وملاحقتها لمن يخالفهم في الرأي، ولكن ليس من أجل سيطرة الدين كما كانت تحاول الكنيسة في تلك الأيام، بل لتثبيت أركان النظام الجمهوري العلماني الحالي في مصر، فقد تحالفا مع الفريق السيسي من أجل تسخير الدين للحفاظ على إمبراطوريته الناشئة عن طريق تخدير مشاعر الناس بخطب مملولة مكررة، وخطاب ديني كهنوتي يفصل الدين عن الحياة ويحصره في الزوايا والمساجد، واستعمال أئمة وخطباء خائفين مرتعشين ينفذون ما يطلب منهم خوفا من الإبعاد وقطع الأرزاق، وربما حتى قطع الأعناق...، وهما يشبهان في تحالفهما هذا تحالف الكنيسة مع الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، حين حرَّفت ووثَّنت النصرانية من أجل الاعتراف بها دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية.

وإن كانت الكنيسة في ذلك الوقت وما بعده أثناء حقبة العصور الوسطى قد أقامت محاكم للتفتيش، لتفتش عما يجول في صدور الناس، كل الناس، إلا أن وزارة الأوقاف اليوم لا يسعها أن تفتش في صدور الجميع، فهي تتكفل بأئمة مساجدها وموظفيها وعمالها، بينما يتكفل أمن الدولة والنظام السياسي بباقي الناس...! ناهيك عن الطغيان السياسي الذي يمارسه شيخ الأزهر، والمفتي السابق، ووزير الأوقاف ورئيس جامعة الأزهر، الذين يشاركون جميعا في لعبة سياسية قذرة تصب في صالح النظام القائم: تبرر جرائمه وتزين أعماله وترفع شأنه، في حين يُمنع أساتذة وطلاب جامعة الأزهر وخطباء وأئمة وزارة الأوقاف من القيام بأي نشاط سياسي أو حزبي، وجميعنا سمعنا بالقرار الذي أصدره رئيس جامعة الأزهر الدكتور أسامه العبد بمنع أي عمل سياسي في الحرم الجامعي، حيث جاء فيه: "منع الطلاب والأساتذة من ممارسة الأنشطة السياسية والحزبية داخل الحرم الجامعي، سواء عبر التظاهرات أو المؤتمرات أو توزيع المنشورات"، وأن من بين شروط سكن الطلاب في المدينة الجامعية بالأزهر هذا العام، عدم المشاركة في مظاهرات سياسية داخل حرم المدينة وأن من يخالف ذلك من الطلاب يعرض نفسه للفصل من المدينة. وهذا يعد أمرًا غير مسبوق في جامعة عريقة كجامعة الأزهر، التي كانت منطلقا لمظاهرات ومؤتمرات وتوزيع منشورات في أيام كانت مفصلية في حياة الأمة كالتصدي للاحتلال الفرنسي، والتصدي لكل أنواع الظلم الذي مارسه الحكام تجاه الشعب في مصر سواء أيام النظام الملكي أو الجمهوري.

وهذا القرار غير مقبول لأنه يحرم الطالب من أبسط حقوقه، وهو حق السكن في المدينة الجامعية، لا لجرم ارتكبه، وإنما لمجرد تعبيره عن رأي سياسي تبناه، ولو نص القرار على سلب هذا الحق من الطالب لو قام بأي عمل تخريبي داخل حرم الجامعة لكان مقبولا.

وهل نهاية المطاف هو ذلك البيان الصادر الاثنين 28/10، والذي طالب كل إمام بأن يرفع قائمة بأسماء جميع الكتب، والمراجع، والكتيبات، والمجلات، والأشرطة الصوتية بمكتبة مسجده إلى مديرية الأوقاف التابع لها؟ أم أن هناك أمورًا أخرى يخفيها علينا النظام، ومشيخته، ووزارة أوقافه، ومفتيه السابق واللاحق، سيخرجونها لنا في مقبل الأيام؟!

((وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)) [النحل: 116]