نتنياهو وأوباما... وانعطاف أمريكي نحو التطبيع

نتنياهو وأوباما... وانعطاف أمريكي نحو التطبيع

د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين

[email protected]

كانت لفظة "التطبيع" هي كلمة السر التي تمخضت عنها جولة أوباما الأخيرة في المنطقة، حيث دعا في مؤتمر صحافي من القدس الدولَ العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، مؤكداً على قوة "إسرائيل" التي "لن تزول أبدا" حسب تقديره، ومجددا الحديث عن حل الدولتين ومتحدثا عن "دولة يهودية"  (العربية نت 21/3/2013).

وفي هذا السياق، تم إخراج مشهد الاعتذار "الإسرائيلي" لتركيا –راعية المصالح الأمريكية في المنطقة- من أجل أن تعود العلاقة بين الطرفين إلى سياقها التطبيعي العلني التي دخلت في حالة من التوتر بعد اعتداء الجيش اليهودي على سفينة الإغاثة مرمرة، مع العلم أن العلاقات الأمنية والاقتصادية لم تنقطع، بل هنالك معطيات عند المتابعين تشير إلى تضاعف النشاط الاقتصادي بين الطرفين.

كانت تلك "الصلحة" العشائرية بين أردوغان ونتنياهو هامة على المستوى الإقليمي، خصوصا في ظل الثورات، حيث أن النظام التركي يمثل قدوة "الإسلاميين" الذين هيمنوا على المشهد السياسي في أنظمة ما بعد الثورات في مصر وتونس، ومن هنا تزامنت جولة أوباما في المنطقة مع زيارة وفد أمني يهودي للقاهرة، لتعزيز التنسيق والتعاون ضمن مسيرة التطبيع التي جددها مرسي في رسالته الشهيرة "لصديقه" بيرز.

وهذا التحريك الأمريكي لمسار التطبيع في ظل تعطل مسارات الحل السلمي يمثل نوعا من الانعطاف في التوجه الأمريكي، الذي ظل –فيما مضى- يربط التطبيع الكامل للدول العربية مع استكمال مسارات الحل السياسي، ما يستوجب وقفة في هذه المقالة، تكشف ذلك الانعطاف الأمريكي.

1. خلفية المسيرة التطبيعية

بعد ظهور حزب الليكود ومن ثم فوزه في "الانتخابات الإسرائيلية" عام 1977، طرأ تطور على المشهد "الإسرائيلي"، إذ كان حزب العمل يقبل مبدأ السماح بالحكم الإداري في الضفة الغربية للعرب، بينما رفض حزب الليكود أي معنى من معاني إنقاص السيادة الإسرائيلية على كل فلسطين، وعلت نبرة التطلعات اليهودية للتوسع بناء على نظرات توراتية للوصول إلى كيان ما بين النيل والفرات. صحيح أن إسرائيل لا تخرج عن أمريكا، ولكنها تتصرف كالطفل المدلل الذي يتمرد على مربيه في دلاله، ولذلك فإن تلك النظرة التوسعية وما رافقها من نبرة ليكودية متمردة صعّبت على أمريكا تنفيذَ مخططات السلام في حينه، ونشأت حالة من التجاذبات بين أمريكا "وإسرائيل".

وفي تلك الأجواء أرادت أمريكا لجم "إسرائيل" وتحجيمها، ومن ثم نجحت في جرها للسلام جرّا. وفي العام 1977 تتوجت التحركات الدبلوماسية النشطة نحو السلام، عندما كسر السادات الحاجز النفسي لرفض التطبيع، ودخل المسجد الأقصى وهو تحت الاحتلال، ثم خطب في "الكنيست الإسرائيلي"، مما مثل بداية التنفيذ الفعلي لمشروع التسوية على الأرض، والانطلاقة الأولى لمشاريع التطبيع.

ولكن الجامعة العربية رفضت مسيرة السادات في حينها لأنها كانت منفردة لا رفضا للمبدأ، وظل موقف الجامعة العربية على حاله، حتى تمكنت أمريكا من إعلان نظام عالمي جديد بعد حرب الخليج الأولى، وتمكنت مع مطلع عقد التسعينات من عقد المؤتمر الدولي للسلام، وقبلت به "إسرائيل" من أجل أن تقطف ثمار التطبيع والاعتراف بينما ظلت تتحدث تحت سقف "الحكم الذاتي تحت سلطتها". وتوجهت "إسرائيل" لمؤتمر مدريد بينما كانت عيونها تتجه إلى أسواق العرب وآبار نفط العرب، وكانت رؤيتها تمتد نحو التطبيع الاقتصادي.

ومع منتصف التسعينات وانطلاق مشروع السلطة، وجدت "إسرائيل" فرصة للاندفاع نحو التطبيع والاختراق الاقتصادي، ووضع شيمعون بيرز مفهوم "الشرق الأوسط الجديد" ضمن رؤيته –التي سطرها في كتابه الذي حمل عنوان المفهوم ذاته وصدر في العام 1994- والتي تستهدف إدماج "إسرائيل" في المنطقة، حيث دعا فيه إلى تأطير دول المنطقة ضمن سوق شرق أوسطية مشتركة، وإلى تشكيل "جامعة الشرق الأوسط" كإطار سياسي بديل عن الجامعة العربية.

2. النظرة لمسيرة التطبيع بين أمريكا وأوروبا

كانت تلك الرؤية اليهودية "الانتشارية" لبيرز (وهو المعروف بعراقة علاقته ببريطانيا) في توافق مع نظرة بريطانيا لأن تكون "إسرائيل" شريكاً فاعلاً لها في المنطقة، عبر اندماجها كمكون طبيعي لا كشائبة فيها. وفي سياق تلك الرؤية التطبيعية تتابع عقد المؤتمرات الاقتصادية التطبيعية بدفع أوروبي، حيث تم عقد "المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في الدار البيضاء عام 1994، الذي دعا فيه بيرز العرب –بكل وقاحة- ليجرّبوا قيادة "إسرائيل" للمنطقة. ثم انعقد المؤتمر الاقتصادي في الأردن عام 1995، ثم في مصر عام 1996، ولاحقا في قطر عام 1997، وكانت تلك المؤتمرات تصب في دمج "إسرائيل" في المنطقة، مع إغرائها بالاختراق الاقتصادي بدل التوسع واحتلال الأرض.  وتزامنت مع تلك المؤتمرات انطلاق مرحلة تطبيع ثقافي جديدة، تضمنت تغيير المناهج المدرسية من أجل زرع "ثقافة السلام" في فلسطين والأردن.

تتابعت النشاطات التطبيعية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي وتسارعت في بعض المحطات بالاندفاع اليهودي والتحفيز الأوروبي، بينما ظلّت أمريكا تركّز في حل قضية الشرق الأوسط على مبدأ تلازم المسارات، وحرصت على أن يسبق المسار السوري (وتابعه اللبناني) مسار التسوية مع الفلسطينيين أو أن يتزامن معه، ولذلك ربطت أمريكا مسيرة التطبيع باستكمال مسارات الحل السلمي.

وحصلت تفاهمات بين رابين والنظام السوري، ضمن تعهّد عُرف لاحقا بوديعة رابين، وفي هذا السياق كشف المؤرخ البريطاني باتريك سيل (كاتب السيرة الذاتية للرئيس السوري حافظ الأسد) عن تبادل رسائل بين رابين وحافظ الأسد عبر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك وران كريستوفر، أكدت التزام انسحاب "إسرائيل" إذا تحققت  طلباتها بالأمن والتطبيع.

وبعد مقتل رابين، لم تُجدِ التعهدات التي حصل عليها دينيس روس مسئول الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية من بيرز حول تجديد وديعة رابين، إذ تلبدت الأجواء بالغيوم وارتكب بيرز مجزرة قانا في لبنان. ثم ذبلت "وديعة رابين" مع قدوم نتنياهو لرئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفشلت محاولات كلينتون لترويض نتنياهو –العنيد المتعجرف- خلال النصف الثاني من عقد التسعينات، حيث لم يعترف بوديعة رابين، بل صار يتحدث عن قدرته على قهر إدارة الرئيس كلينتون (يديعوت أحرونوت في 8/3/1998).

3. تطبيع مشروط بتلازم مسارات الحل السلمي

صارت سياسة أمريكا تصبّ في تعطيل استكمال مسار أوسلو، وعرقلة التطبيع المكمل لذلك المسار، حتى تنضج المسارات الأخرى، إلا أن قطار التطبيع لم يتوقف بدفع أوروبي وتحفّز "إسرائيلي". ونشطت الحكومة الأردنية نحو المشاريع الاستثمارية المشتركة مع اليهود، وفتحت قطر مكتبا تجاريا "إسرائيليا" في الدوحة في العام 1998، وقامت موريتانيا بإقامة العلاقات الدبلوماسـية الكاملة مع "إسرائيل".

وظلت الأنظمة العربية ذات العلاقة العريقة مع بريطانيا تدفع نحو تسريع مسار التطبيع مع الاحتلال اليهودي، وفتحت قناة الجزيرة فضاءها لقادة "إسرائيل" يخاطبون الأمة، ودخل مشايخ قطر على خط قضية فلسطين من خلال الاتصالات السرية مع قادة "إسرائيل" (صحيفة "الاتحاد" الإماراتية في 1/8/2001).

ثم حاولت أمريكا إعادة ضبط مسيرة التطبيع وربطها بالحل الشامل –حسب رؤيتها- من خلال إعلان مبادرة السلام العربية التي أعدّها توماس فريدمان (الإعلامي الأمريكي البارز)، وتبنتها السعودية، ومن ثم تبنتها القمة العربية في آذار 2002، وهي التي عرضت التطبيع الكامل مع الاحتلال في مقابل الانسحاب إلى حدود 1967 ومن ضمنه الجولان ضمن عملية سلام "شاملة" وعلى مبدأ الأرض مقابل السلام (حسب مبدأ تلازم المسارات). ثم تمخّض عن مؤتمر القمة العربية في الجزائر في آذار 2005، تشكيل لجنة لتفعيل المبادرة العربية للسلام (التطبيعية)، وأكدت القمة على مسألة الانسحاب من الجولان وتلازم مسارات الحل (حسب الرؤية الأمريكية).

ثم انعقد مؤتمر أنابوليس في 27/11/2007 وحضرت الأنظمة العربية، ومن ضمنهم سوريا (الممانعة!)، تلك الحفلة التطبيعية الرسمية بتبرير ربط التسوية بالانسحاب من الجولان، وهو -مرة أخرى- تأكيد لتلازم مسارات الحل السياسي مع التطبيع الكامل.

وهكذا ظل مسار التطبيع مرتبطا في الرؤية الأمريكية بمبدأ تلازم مسارات الحل السلمي بما يشمل سوريا ولبنان.

4. الانعطاف الأمريكي نحو التطبيع بعد أن تاهت خيوط المسارات

إن هذه المراجعة السريعة لتطوّر مسيرة التطبيع تكشف عن انعطاف واضح في النظرة الأمريكية عندما دعا أوباما الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، مع أن مسارات الحل السلمي متعطلة تماما بل مشلولة.

وهذه الانعطافة تشير إلى أن أمريكا تدرك أن "التعنت الإسرائيلي" وتخلي نتنياهو –العنيد- عن "وديعة رابين" منذ رئاسته الأولى قبل عقد ونصف، ليسا الدافع لهذا الانعطاف، وأن ثمة متغيرات تفرض على أمريكا إعادة النظر نحو ربيبتها "إسرائيل" قبل أن تخلعها رياح التغيير التي تعصف بمصالح أمريكا، على وقع ثورة الشام على وجه الخصوص.

ولا شك أن أمريكا باتت تدرك أن سوريا لم تعد سوريا الممانعة الكاذبة" والمنبطحة فعلا نحو السلام، بل هي مرشحة لأن تكون نقطة انقلاب في التاريخ تقفز فوق مسارات الحل السياسي كلها وفوق مسيرة التطبيع، وهو مضمون ما صرّح به أوباما خلال مؤتمره الصحفي في عمان معربا عن "قلقه  العميق من احتمال أن تصبح سوريا ملجأ للتطرف" (سكاي نيوز في 22/3/2013)، ويبدو أن ذلك القلق الأمريكي هو خلف تأكيد أوباما عن أن "إسرائيل" "لن تزول أبدا"، إذ يحاول أن يهرب للأمام، ويقفز عن حقيقة تهديد ثورة الشام لوجود "إسرائيل" من خلال تأكيد قوة طفله المدلل (العنيد).

إن الأمة الحية تدرك أن التطبيع مع الاحتلال اليهودي لن يدخل إلى عقولها وقلوبها مهما حاول الحكام ومهما ضلل الإعلام، وهو مشروع باطل فاشل، سواء ربطته أمريكا بتلازم مسارات الحل، أم انعطفت عن تلك المسارات محاولة ترسيخ الواقع الجديد فيما بعد الثورات بما يلبي مصالحها. وستظل ثورة الشام مرشحة لأن تقلب تاريخ المنطقة وتبدل جغرافيتها رغم أنف أمريكا.

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير فلسطين.