سلاحان تفوَّق فيهما الأسدُ على الثورة

محمد عبد الرازق

بعد مضي ثلاث سنوات و نيف على عمر الثورة في سورية، حريٌّ بالقائمين عليها أن يُجروا مراجعة شاملة لمسيرتها؛ للوقوف على محطات النجاح، و الإخفاق فيها.

 و نرى أنّ من بين الأمور التي يستدعي الأمر الوقوف عندها، من لدُن مَنْ سيتصدّى لهذه المهمة هذان الأمران اللذان نرى أنّ الأسد قد أظهر براعة في استعمالهما في مواجهة الثورة الشعبية عليه، ألا و هما سلاحا ( الإعلام، و التنظيمات المسلحة ).

أولاً: الإعلام.

 ما فتئ نظام الأسد في الأيام الأولى للثورة من تكرار الأسطوانة المشروخة في مواجهة الثورة الشعبية التي فاجأته بمقدار ما فاجأت جماعات المعارضة، تلك الأسطوانة المتمثلة بنعت الثوار بالعصابات المسلحة، و المندسين، و بقايا عصابة الإخوان المسلمين، و التكفيريين، و الظلاميين، و مغتصبي الفتيات، و قطاع الطرق، و مهربي المخدرات.

 و ذلك كلّه كان موجهًا إلى الداخل السوري، و قد لاحظ هو، و من معه من الأصدقاء الروس، و الإيرانيين، و اللبنانيين، و شراذم دعاة القومية المحنطين ضآلة فرص النجاح في هذه السياسة الإعلامية التي كانت ـ كما أسلفت ـ تستهدف شرائح المجتمع السوري الذين قابلوا كثيرًا من مادتها بالامتعاض، و السخرية.

 الأمر الذي دعاهم إلى مراجعة شاملة لها؛ و بناء على جملة من التوصيات التي خرج بها عددٌ من المستشارين الروس، و الإيرانيين على وجه الخصوص، قام النظام بتوجيه خطابه الإعلامي إلى الشعوب الغربية من أجل التسويق لرؤيته حول ما يحصل في سورية، بأنه لا يعدو إرهابًا تقوم به مجاميع من التنظيمات التكفيرية و الإرهابية، و قد عزز توجهه هذا الظهور الإعلامي المتكرر لقادة تنظيم القاعدة الذين وصلوا إلى سورية من أجل إلحاق الهزيمة بالغرب، و أمريكا في أرض الشام ( أرض الرباط، و الجهاد )، و مشاهد قطع رؤوس رعاياهم بطريقة همجية، و قروسطية.

 و قد تولّى التسويق لهذه السياسة الإعلامية عددٌ من القنوات الإعلامية: الروسية ( روسيا اليوم )، الإيرانية ( العالم )، اللبنانية ( المنار، و الجديد )، الغربية ( البي بي سي )، هذا فضلاً على شركات العلاقات العامة التي يتواصل معها عددٌ كبير من أتباعه الذين انتدبهم للتواصل معها في أوربا، و أمريكا، تحت غطاء دبلوماسي، أو اجتماعي ( أعضاء النادي الاجتماعي في بريطانيا).

 و قد استطاع بناء على ذلك الابطاء من الاندفاعة الغربية، و الأمريكية تجاه تأييد مطالب الثوار، و تجلى ذلك في ميادين عدة، منها: حرف مسار مؤتمر جنيف ( 2 ) عن مناقشة تطبيق النقاط الست، و الشروع في تطبيقها، إلى أولوية محاربة الإرهاب، و لم يمضِ كثيرٌ من الوقت حتى رأينا طلائع التحالف الدولي تتجه نحو محاربة ظاهر الإرهاب في سورية، بدلاً من القضاء على أساسه المتمثل في الظلم و القهر الذي أوقعه الأسد على السوريين.

 أما في الطرف المقابل عند قوى المعارضة، و الثورة فإن الأمر أشبه ما يكون بطفل لم يتعدّى مرحلة ( المناغاة و البأبأة ) في تعلّم النطق؛ فجلّ المحطات الفضائية المناصرة لها، أو المحسوبة عليها يقوم على أمرها هواة إعلاميون، بعيدون عن عالم الاحتراف و المهنية، سُرعان ما يهجرون العمل فيها بعد أن يدركوا خطأهم في البحث عن فُرص العمل فيها، فيتجهون إلى مجالات أخرى غيرها تدرّ عليهم نفعًا ماديًا أوفر.

 و بالطبع لا ننسى واقع هذه المحطات الإعلامية؛ فعدد منها غير مُرخص لها بالعمل حتى في البلدان التي تبث منها على غرار ما كان مع قناتي ( وصال، و شدا الحرية )؛ الأمر الذي أدى إلى إغلاقهما، أو هي جهد شخصي لا يأمن العاملون فيها من الطرد، و الإبعاد بسبب خلافاتهم مع أصحابها ( الغد، سورية الشعب، السوري الحر )، و بعضها الآخر ما زال في طور البث التجريبي بعد ثلاث سنوات و نصف من عمر الثورة ( دير الزور، و حلب اليوم، و 18 آذار ).

 عجبًا يرى المتابع لهذه الثورة من أمر إعلامها؛ أين الفضائيات التي تخاطب السوريين بعمومهم، و تشرح لهم أهداف ثورتهم، و ما يحيط بها من عقبات و عراقيل، و بالطبع لن ننسى الجهد الذي تقوم به قناة ( أورينت ) في هذا الباب، و هي جهد فردي يقوم بأعبائه رجل الأعمال ( غسان عبود )، فهل عقمت الثورة أن تَلِدَ غيرها، أو هل عجز الائتلاف أن يسعى للترخيص لقناة تتبع له مباشرة، تكون هي المعبر عن سياسته، و رؤيته في مجريات الأحداث كل ساعة و يوم، و لاسيما أن في شخصياته من كان له سابقة إعلامية، كالأستاذ أحمد رمضان، مسؤول وكالة أنباء قدس برس في لندن .

 ثانيًا: التنظيمات المسلحة.

 منذُ أن سعى النظام إلى أَسْلَحَة الحراك الشعبي ضده، سعى للزج بعناصر غير محلية إلى جانب هذا الحراك؛ و بذلك يتخذ منهم ذريعة لتدخل التنظيمات المسلحة الطائفية إلى جانبه، سواء من دول الجوار ( لبنان، و العراق، و جنوب تركيا )، أو حتى من أقاصي بلاد العرب ( اليمن )، لا بل حتى من شرق آسيا ( أفغانستان، و كمبوديا، و الهند )، هذا فضلاً على المرتزقة من أوربا الشرقية ( كرواتيا، و صربيا )، و دول منظومة الاتحاد السوفييتي الأخرى ( أوكرانيا، بلاروسيا، روسيا )، و بالطبع في مقدمة ذلك كلّه النصير الاستراتيجي ( إيران ) بكلّ مرتكزاتها، و مسمّيات أذرعها المسخرة ضد الشيطان الأكبر، و ربيبته ( إسرائيل ).

 و هذا ما دلّل عليه الواقع المشاهد في سورية على مدى ثلاث سنوات، و ما صرح به قادة إيران، و ملاليها، و ما أعلنه قادة تلك التنظيمات الطائفية في لبنان، و العراق من تدخل موارب في أول الأمر، ثم بشكل صريح و سافر لاحقًا.

 و كان آخره ما جاء على لسان المرجع الشيعي العراقي جلال الدين الصغير: (( إن التقدم الحاصل لقوات الأسد على الأرض السورية يرجع إلى القوات الشيعية وليس إلى قوات النظام ، إن الشيعة من العراق ولبنان يحررون، و رجال الأسد يبيعون ما يتم تحريره )).

 إنّ الأسد يعرف رجاله كما يعرفهم هذا المرجع، فهم بحسب قوله: ( بعيدون جدًا عن عالم التدين، و المرجعية، و الإسلام، و الشيعة. فكل ما يهمهم هو الفساد، و ترك الدين، و الفاحشة ( ماخدين راحتهم تمامًا ).

 لقد جاءت هذه التنظيمات الطائفية إلى سورية، منضوية تحت إمرة قادتها و بصرامة شديدة، بعيدة عن التناجش، و التدابر، ليس لديها مسعى غير منع سقوط الأسد مهما كلّف الأمر من تضحيات جسام.

 و قد عملوا من أجل ذلك ضمن منظومة فريق واحد، و متماسك، و بإشراف مُخططين استراتيجيين، ذوي خبرة، و احتراف عاليين؛ و بذلك نستطيع القول: إنّ تلك التنظيمات التي استقدمها الأسد إلى سورية بذكاء، و دهاء قد نجحت في الغرض الذي قدمت من أجله؛ الأمر الذي جعل النظام يستعيد زمام المبادرة بعد أن فقد توازنه في عام ( 2012م ).

 و لكن لننظرْ إلى الطرف المقابل لنرَ ما كان من أمر الجماعات و الأفراد الذين جاؤوا لمناصرته أيضًا. لقد فرح السوريون، و هللوا لهم في أول مقدمهم؛ لما كان منهم من شدة البأس، و لما كانوا يعلنونه من وضوح الغاية المتمثلة في نصرة إخوانهم المضطهدين في بلاد الشام فحسب.

 ثمّ لم تنقضِ برهة من الوقت حتى أخذوا يفصحون عن مسعاهم للتمكين لمشروعهم العالمي ( العابر للحدود ) على حساب المشروع المحلي لأبناء البلد، و لو أدّى ذلك إلى الصدام به، و قتالهم، و اتهامهم بالردة و الكفر، و سلبهم غنائمهم، و إعادة تحرير المحرر من البلاد بفضل تضحيات أبناء الثورة الأوائل من عناصر الجيش الحر، و كتائبه و ألويته.

 لقد أخذوا يستدعون خصومهم العالميين القُدامى إلى بلاد الشام؛ للبدء بجولة أخرى من جولات النزال التي بدؤوها في بلاد خرسان، ثم في بلاد السِّند، و الهند، و الصومال، و البوسنة، و اليمن، و العراق.

 لقد أدخلوا المشروع السوري الوطني الجامع في متاهات ( التطييف ) تناغمًا مع المشروع الإيراني الطائفي، و نقلوه من إطاره المحلي إلى الإطار العالمي تناغمًا مع المشروع الأمريكي الغربي الداعي إلى ضرب الإرهاب حيثما اقتضى الأمر؛ فالأرض كلها ساحة للنزال بين الفريقين ( زمانًا، و مكانًا ).

 و بذلك أفقدوا الثورة السورية أجمل ما كانت ترفعه من شعارات تحمل مضامين المحلية، و الخصوصية السورية: ( واحد، واحد، الشعب السوري واحد )، ( بالروح بالدم نفديك سورية )، ( لا أمريكا، و لا إيران، بدنا نحرر هالإنسان )، ( سورية حرة حرة، و الأسد يطلع برّا )، ( بلا ماهر، و بلا شاليش بدنا نعيش )، ( و يلعن روحك يا أنيسة على هالخلفة الخسيسة )، و حمّلوا السوريين ما لا يطيقون، و ما لم يكن في حسبانهم، و ما ليس في مشروعهم.

 لقد أعطوا للنظام ما كان يسعى إليه من تدويل الأزمة، و أوجدوا للغرب ما يكفي من الذرائع كي يطيل الأزمة خدمة للجارة المدللة التي جلست تنظر مسرورة إلى دمار سورية ( بلدًا، و مقدرات ).

 لقد أصبحت سورية صندوق بريد توزع فيه الرسائل على كل من يريد أن يجعل منها ساحة لتنفيذ مآربه، و مشاريعه؛ فههنا أرضٌ، و شعبٌ، فلِمَ يبقيان دونما والٍ ، أو خليفة، أو أمير؟.