خيارات تركيا أمام الكردستاني

صلاح حميدة

[email protected]

تتكثّف الضغوطات على الحكومة التركية منذ مجزرة أسطول الحرية وحتى اليوم، وتتنوع هذه الضغوطات ما بين خارجية وداخلية، أما الخارجية فتأتي من الولايات المتحدة وأوروبا والدولة العبرية وغيرها، أمّا داخلياً فقد نشطت القوى العنصرية و الأتاتوركية إضافةً إلى الماسونيين والمتصهينين والمعادين لعودة تركيا  لهويتها الحضارية ومحيطها العربي والإسلامي. وتم تحريك القضاء لإجهاض مشاريع الحكومة في الإصلاح، بأن أمر بالإفراج عن قيادات وأعضاء منظمة ( أرجينكون) الماسونية الدّموية، إضافةً لعودة تفعيل التفجيرات الغامضة التي تستهدف مدنيين وعسكريين وعوائلهم.

أهم الملفات التي تم تحريكها لإطباق حلقات التآمر على الحكومة التركية ودفعها للعودة للغرق في تفاصيل المشاكل والفتن الداخلية، هو ملف حزب العمال الكردستاني الذي لم تكن هجماته على القوات التركية في الإسكندرون وعلى الحدود العراقية بريئة أو مصادفة كما يرى غالبية السّاسة والمحللين الأتراك - ومن غير الأتراك كذلك - أو تزامناً مع ما يعرف بموسم هجمات الربيع بعد ذوبان الثلوج، فالتّغاضي المقصود عن دخول مقاتلي الحزب من الأراضي العراقية، وإصرار مسؤولي الإستخبارات الأمريكية على أنّ من رصدتهم الطائرات بلا طيار الإسرائيلية والأقمار التّجسسية الأمريكية هم من المهربين ولا خطر منهم، يثير هواجس وشكوك كثيرة عن دوافع تطمين الجنود في الموقع عن حقيقة وهدف هؤلاء المتسللين، ويثير تساؤلات أخرى عن تشابه هذه الحادثة مع حوادث مماثلة في العامين السابقين وفي نفس الفترة تحديداً، والتي كان مثلث المخابرات الأمريكية والبعض في قيادة الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني تتواطؤ لذبح جنود موقع ما على الحدود في لحظة سياسية حرجة للحكومة التركية ورغبةً في منعها من إجراء إصلاحات معيّنة، وبالتالي وضعها في حالة عاصفة من العواطف الجيّاشة والرّغبة الجامحة بالإنتقام من كل ما هو كردي.

الملف الكردي في المنطقة وخاصة في تركيا والعراق يأخذ حيّزاً كبيراً من الاهتمام الاعلامي والسياسي والدبلوماسي إقليمياً وعالمياً، وبرزت المشكلة الكردية بشكل خاص بعد انهيار الخلافة العثمانية وظهور عهد القوميات والعرقيات، ومن المعروف أنّ الأصابع الإسرائيلية عبثت منذ وقت مبكر في شمال العراق أملاً بتفتيته، وهو ما عبّر عنه صراحة وزير إسرائيلي في محاضرة قبل حوالي الشهرين، واعتبر أنّ تفتيت العراق مصلحة إستراتيحية للدولة العبرية، وتغنّى بالعلاقات الوثيقة بين الموساد الاسرائيلي والقادة الأكراد في شمال العراق والّذين أصبح كيانهم قاعدة عمليات للموساد ضد كل من إيران وتركيا وسوريا وقوى المقاومة العراقية وعلماء العراق.

خلال صراع الأكراد مع الدّولة العراقية تمّ منحهم إمتيازات وحقوق ثقافية وسياسية  حسدهم عليها إخوانهم في سوريا وإيران وتركيا، ولكن شهيّة أكراد العراق زادت لدرجة المطالبة بالانقسام والانفصال عن العراق وعملوا على تهجير العرب والتركمان إلى وسط العراق، ويعملون على توسيع الرقعة الجغرافية لما يطلق عليه إقليم كردستان العراق، مستغلين ومحتمين  بالاحتلال الأمريكي للعراق.

ما حصل عليه أكراد العراق بفضل تسامح الدّولة العراقية قبل تدميرها، وفعل  تدميرها على يد الأمريكان فيما بعد  فتح شهية أكراد تركيا وأكراد إيران لمحاولة استنساخ التجربة العراقية، فأكراد العراق يعيشون في شبه دولة مستقلة، ويلمس المتابع للشأن الكردي أنّ أزمة تركيا مع الدولة العبرية  عزّزت لدى أكراد تركيا الرّغبة  بمحاولة استثمار هذه الأزمة ليقتنصوا ما اقتنصه أكراد العراق، فالتصعيد النّوعي والجغرافي الواسع في ظل تواطؤ عدة أطراف إقليمية ومحلية يعزز هذا الشّعور والذي بات يشكّل شبه قناعة لدى صنّاع القرار في تركيا.

من الواضح أنّ النّخبة السياسية التركية لا ترغب بتصعيد عسكري كبير يستنزفها عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وانتخابياً واقتصادياً كذلك، فحزب العدالة له جمهوره في المناطق الكردية وهو صاحب إصلاحات كبيرة في هذا الصدد، بل من يمنعه من تحقيق خططه بالتنمية الاقتصادية وإشاعة الحريات الثقافية والسياسية هناك - كما أعلن أردوجان - هو محاربي حزب العمال الكردستاني الذين في غالبيتهم  من الأكراد الإيرانيين كما تقول العديد من التقارير، وفي هذا السّياق برز موقف أردوجان الرّافض بالمطلق لإعادة فرض حالة الطّوارىء في المناطق الكردية، وهو موقف متّزن لرجل دولة لا يريد الإنزالق  لقرارات مرتجلة في ظل حالة من الغضب.

ولكن ما هي خيارات تركيا المستقبلية تجاه ما يبدو أنّه جنوح حزب العمال الكردستاني لتأدية هجمات وظيفية ورفضه اليد الممدودة من حزب العدالة والتنمية التركي؟.

تتمسّك النّخب التي تحكم تركيا حالياً بسياسة الانفتاح على الأكراد بالتنمية الاقتصادية ومنحهم حقوقهم الثقافية والسياسية، وأن تبقي على الفصل بين من يقاتلونها وبين من هم مواطنون لا يجوز أخذهم بجريرة غيرهم، و لا بد من أن يخطوا الساسة الأتراك خطوات إيجابية أخرى باتجاه إنهاء هذا الملف وحسمه نهائياً في المرحلة المقبلة.

صداع حزب العمال الكردستاني كان يأتي لتركيا من العراق وسوريا قديماً، ولكن بعد تسوية الأمر مع سوريا وتحسن علاقاتها مع تركيا لدرجة تحالفية وتكاملية، بات واضحاً أن ملجأ الانفصاليين الأكراد الذين يهاجمون تركيا هو إقليم كردستان العراق، وقد أطلق رئيس الإقليم تصريحات يستنكر هجمات الأكراد على أهداف إيرانية وتركية، ولكن هل هذا يكفي؟.

من المعروف أنّ إقليم كردستان العراق أغرق بالشركات والاستثمارات التركية، وتمكن الأتراك بمفاصل الحياة الاقتصادية في شمال العراق - بشكل خاص - وفي بقية مناطق العراق بشكل عام، والرئيس العراقي -  كردي - أعلن في لقاء صحفي مؤخراً أنّ حياة إقليم كردستان العراق بيد تركيا وإيران وسوريا، وأنّه لا إمكانية لاستقلال الإقليم عن العراق، وأنّ أي خطوة استقلالية للإقليم ستكون القاضية.

تصريحات الطّالباني  تعطي إشارات لا لبس فيها  لصانع القرار التركي، فهل آن أوان ( فرك أذن ) القاعدة الخلفية لحزب العمّال الكردستاني؟ وهل الأولويات الاقتصادية مقدّمة على الأولويات الإستراتيجية والمصيرية لتركيا كدولة محورية متماسكة في المنطقة؟ وهل هذا هو وقت إرسال إشارة لأكراد العراق من قبل تركيا وإيران وسوريا بأنّ السماح لحزب العمال باتخاذ مناطقهم قاعدة لمهاجمة الأراضي التركية والإيرانية وربّما قريباً السورية له أثمان لا يمكن لهم تحمّلها؟ وهل الأكراد يريدون حقوقاً ثقافية  وأخرى تتعلق بالمواطنة أم لهم طموحات إنفصالية على حساب أربع دول إقليمية كبيرة؟.

بمقدور تركيا إرسال هذه الرّسالة بمشاركة إيران وسوريا وأطراف عراقية بإغلاق الحدود لمدة يوم أو يومين أو ربما أسبوع مع إقليم كردستان العراق، وبإمكان تركيا الإستعاضة عن الممر البري مع شمال العراق بالممرات السورية والأردنية عبر وسط العراق، وبالإمكان استحداث أنابيب نفطية تنقل النفط لجيهان التركي عبر سوريا كذلك، وتركيا على أبواب مرحلة ستكون فيها ممراً لشرايين الغاز والنّفط الآسيوي والرّوسي إلى أوروبا، وبالتالي بإمكانها عزل شمال العراق نهائياً عن العالم الخارجي، فهل هذا وقت إرسال هذه الرسالة؟.

من الواضح أنّ الجيش التركي جيش ثقيل وبطيء الحركة وسيّء وقديم التسليح، فمن الطبيعي أنّ يذبح الجنود الأتراك في ربيع وصيف كل سنة بهذه الطّريقة، فجيش يقوم على التجنيد الإجباري البعيد عن الإحتراف، يقاتل مجنّدوه -الفاقدي الخبرة القتالية - مقاتلين متمرّسين يعيشون في الجبال في حرب عصابات لن ينتصر عليهم مطلقاً، فمن ينظر للجنود الأتراك وهم يحملون البنادق الثقيلة الطويلة و خوذهم القديمة وعتادهم الثقيل على ظهورهم يصل إلى قناعة بسهولة اقتناصهم  في حرب عصابات جبلية بسيطة، بل صورة الموقع الذي زاره أردوجان وبساطة التحصينات فيه تعبّر عن استهتار بحياة الجنود، فكيف بموقع متقدّم ومستهدف بهجمات تشن في هذا الوقت من كل  سنة، وفيه هذه التحصينات التي لا يستطيع الجندي القتال فيها بحريّة تعطيه أفضلية قتالية، فلا خنادق ولا خرسانة مسلحة ولا تحصينات و لا غرف  تحت أرضية محصّنة للجنود، فهل هذا موقع ليقاتل فيه الجنود أم ليقتلوا؟.

من الواضح أنّ الجيش التركي بحاجة لتحديث كامل وشامل يجري تغييرات إستراتيجية فيه، فهو بحاجة للإنتقال من جيش قائم على الخدمة الإجبارية إلى جيش  متطوعين محترفين، إلى جانب عمليات تدريب واسعة وتهيئة لقوات خفيفة سهلة التنقل عبر سلاح كبير جداً من الطّائرات المروحية والمدرعات الخفيفة والسريعة الحركة تحمل هذه القوات الخاصة المدربة على القتال الجبلي وبحرب عصابات خاطفة، تنتظر وتكمن للقادمين لمهاجمتها لا أن تجلس  تنتظرهم ليقتلوها، قوات مجهزة بتسليح حديث وأجهزة رؤية ليليلة وقنّاصة، وهذه القوات بهذا التدريب والتّجهيز مطلوبة كذلك لتنفيذ السياسات والطّموحات التركية الجديدة التي تقع خارج الحدود الدّولية لتركيا التي وصلت حتى حدود روسيا والصين ودول آسيا الوسطى.

أدركت تركيا - حديثاً - أهمية سلاح المخابرات في الحرب وفي السياسة الخارجية، فأولت الموضوع أهمية خاصة بتعيين رئيس جديد للجهاز صاحب رؤية تحديثية عابرة للحدود، فهذا الجهاز قد يشهد عمليات تطوير كبيرة لتنفيذ مهمات خارجية فائقة الدّقة لمهاجمة من يهاجمون تركيا، وهذا قد يكون تحصيل حاصل، وقد نبدؤ بسماع إنجازاته في الأيام القادمة. ولكن العمليات التي جرت في الفترة الأخيرة لحزب العمّال سلطت الضوء على ثغرات كان على جهاز المخابرات التركي إغلاقها، كما أنّ هذه العمليات أثبتت عبثية الاعتماد على المصادر المخابراتية الأمريكية والإسرائيلية التي ظهر تواطؤها مع تلك الهجمات - كما تشير تقارير إعلامية - ولذلك لا سبيل للمخابرات التركية إلا أن تعمل على قاعدة " ما حكّ جلدك غير ظفرك".

حرصت أوساط سياسية وإعلامية تركية موالية للغرب والدولة العبرية على دس خبر للإعلام بأنّ قصفاً تركيا لمنفذي الهجمات على الجيش التركي كان بفضل طائرات إسرائيلية بدون طيار، والغريب أنّ محللي صور هذه الطّائرات قالوا أنّ المقاتلين الذين كانوا قادمين لقتل الجنود هم من المهربين عبر الحدود، بينما يعلن الآن أنّ الطّائرات الاسرائيلية صاحبة الفضل  باكتشافهم بعد قتل الجنود الأتراك وقامت بقصفهم، فبأيّ منظار ترى هذه الطّائرات ومن يسيّرها؟! وهل الهدف من دسّ هذا الخبر تذكير الأتراك بأنّ حياة جنودهم معلّقة برضى إسرائيلي؟!.

هذه الحادثة تكشف عن خلل جوهري في الإستراتيجية الدّفاعية التركية،  فالدّولة التركية أصبحت من أكثر الدّول تقدّماً في مجالات صناعية وزراعية وعلمية متعددة، والحاجة تقول أنّه لا بدّ من إطلاق برامج تسليحية محلية تلبّي احتياجات الجيش التركي، بل تقوم بتصدير معدّات عسكرية وبيعها لدول أخرى، فإيران على سبيل المثال وصلت إلى الاكتفاء الذّاتي في الكثير من المجالات التسليحية وهي تحت حصار دولي، وبالتالي فتركيا ذات البنية التحتية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية القويّة بإمكانها تحقيق إنجازات قياسية في هذا المجال لو أرادت ذلك..

يلاحظ أنّ حزب العدالة والتّنمية الحاكم يسعى للتّمهّل في الرّد على هجمات الكردستاني، بل يعمل على التّشاور مع قوى المعارضة الرّئيسية ومؤسسة الجيش والاستخبارات والمؤسسات الاستراتيجية التركية الأخرى للخروج بسياسة دولة تجاه ما يجري، وهذه من إيجابيات دولة المؤسسات التي يتم تعزيز دورها في تركيا في الوقت الرّاهن، و التي تقلل الخسائر وتزيد المكاسب.

" لو كنت مكان أردوجان لذهبت للموقع الذي هاجمه المسلحون بالملابس العسكرية" فالحرب الدّعائية لها أثر  سياسي ومعنوي وانتخابي كبير على الأصدقاء والأعداء في آن، ولو  فعل أردوجان ذلك لكان ألقم المزاودين عليه في المعارضة التركية حجراً في أفواههم ولما وجدوا ما يتهمونه به، من تفريط وتساهل مع أعداء تركيا. والحرب الدّعائية لها أهمية كبيرة في الصّراعات، ومن يتابع الحملة الإعلامية والفنّية الواسعة التي تقودها مؤسسات إعلامية وفنّية تركية لمحاربة ظاهرة التّمرد الإنفصالي الكردستاني، يدرك حجم العزلة التي سيصل لها حزب العمال الكردستاني في أوساط كانت تتعاطف معه في المحيط العربي والاسلامي، وخاصّة مع تزامن هجماته على تركيا مع مجزرة أسطول الحريّة، إضافة إلى تصعيده للهجمات في ظل حكم حزب تركي يسعى لحل المشكلة الكردية نهائياً، بل يعتبر صاحب الكثير من الإنجازات في هذا المجال.

فحزب العمّال الكردستاني أمام خيارات صعبة، فهل يريد عودة القوميين الأتراك وغلاة العلمانيين للحكم في تركيا وإعادة العمل بقانون الطّوارىء وسلب كافّة الحقوق التي اكتسبها الأكراد؟ وهل يريد حل المشكلة مع تركيا العدالة والتّنمية، أم يريد حربها بالنّيابة عن قوى إقليمية ودولية لن تلبث أن تنقلب عليه في حال تغيّر من يحكمون تركيا أو تغيّرت أولويات من يدعمونه؟ وللحزب في قضيّة تسليم رئيسه أوجلان عبرة.

خيارات تركيا العدالة والتّنمية كثيرة وواسعة في مواجهة الكردستاني، ولكن هل يدرك الكردستاني ومن يدعمه مخاطر الإنزلاق للعب الأدوار الوظيفية في ظل وجود إمكانية لحل المشكلة الكردية المستعصية منذ عشرات السّنوات؟.